حكايات
مسعود علي الغتنيني
العودة إلى زنجبار!![1]
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 17 .. ص 98
رابط العدد 17 : اضغط هنا
مع تسلل خيوط الفجر الأولى والضباب الكثيف يحتوي القرية وقطرات الندى تبلل كل شيء.. حملته أمه على ظهرها وأركبت أخاه (صالح) الذي يكبره بثلاثة أعوام على ظهر بقرتها اللبون وأخذت تحث الخطى مسرعة بهم باتجاه قصيعر خوفًا أن يستيقظ والدهم فيمنعهم من الرحيل، فلم يعد لهم مقام عنده بعد أن رمى عليها يمين الطلاق بسبب المشاجرة التي حصلت بينهما ليلة البارحة، عندما أبدت له رغبتها في السفر إلى السواحل[2] وطلبت منه اصطحابهم إلى هناك بعد أن أنهكهم الفقر والمرض، ولقد ذكرته كيف كادوا أن يخسروا ابنهم الصغير مبروك، الذي عانى الأمرين عندما كان رضيعًا، فقد أصيب بالمرض وأخذ يذوي كغصن قطع من شجرته ولم يستطيعوا فعل شيء له حتى أتاهم ذلك الشيخ المبارك ذات يوم واستضافوه عندهم -رغم ضيق ذات يدهم- كما يستضيفون عابري السبيل الكثر الذين يمرون في قريتهم التي تقع على طريق القوافل، وعندما رأى الشيخ حالته تلك طلب منهم ذلك الطلب الغريب:
-ربوا كبش عاده إلا ولد[3] وأكلوه من أكلكم وسموه باسم الوليد مبروك وطربوا[4] عليه مبروك.. مبروك واذا قده يستنبي[5] ذبحوه وشلوا[6] كساء مبروك ولفوه فيه وقبروه في المقبرة وقولوا مبروك مات وغيروا اسم مبروك الصغير.
وكيف أنهم نفذوا ذلك الطلب وربوا الكبش وسموه مبروك وأطعموه من طعامهم ثم بعد ثلاثة أشهر أخذ الكبش يستجيب لندائهم إذا نادوه مبروك ثم ذبحوه ولفوه في ملابس صغيرهم ودفنوه، وأشاعوا أن مبروك مات بعد أن غيروا اسم ابنهم من مبروك إلى سالم، وكيف بدأت صحته تعود إليه حتى أصبح في تمام الصحة والعافية، وأخبرته إنها غير مستعدة لخسارته بعد أن استعادته من حافة الموت.
إلا أن والده لم يستجب لتوسلاتها الكثيرة بل استشاط غضبًا من إلحاحها المستمر عليه فرمى عليها يمين الطلاق، فهو لم يرض أن تفرض عليه امرأة رأيها، وهو الرجل المعروف بأنفته وشجاعته، فهو أحد شجعان قبيلته وأحد رجال المشقاص المعدودين الذين ذاع صيتهم في طول البلاد وعرضها، ومن لا يذكر في المشقاص قصته مع صديقه حمود السيد الذي كان ماشيًا في أحد أودية المشقاص هو وناقته العفراء عندما اعترضته مجموعة من البدو وصوبوا عليه بنادقهم وأخذوا منه ناقته وقربة الماء التي عليها فردد السيد:
-اليوم ظلت[7] على بوغالية.
ولم يكن السيد يعلم أن هناك من يكمن تحت إحدى المرابي[8] يرقب المشهد مصوبًا بندقيته على (الهايشين)[9] حتى تكلم وخاطب زعيمهم الذي يحمل القربة:
– رد القربة مكانها ولو رفعتها لثمك باتجيك الرصاصة في حيقك[10] قبل أن تسقط قطرة ماء واحدة فيه.
اندهش زعيم الهايشين ونظر إلى أصحابه وكانوا أربعة رجال أشداء كلهم متسلبين[11] من أعز السلب وسألهم:
– من ذا[12] الرجال ومنين ظهر[13].
رد عليه أحدهم وهو يضع يده على القربة ويدفعه لإرجاعها في مكانها:
– ذا عمرو بن سالم رجّع القربة في محلها قبل ما يلقطنا[14] كما الحب.
أعادوا القربة إلى مكانها وتسللوا منسحبين إلى أحد الشعاب بينما خرج هو حاملًا بندقيته وتوجه إلى صديقه حمود وتصافحا بحرارة فقال حمود قولته الشهيرة:
– ريتها[15] ربت يم كماك[16] يا عمرو!!
ساروا متجاورين حتى وصّل صاحبه مأمنه وعاد قافلًا إلى قريته وصوت صديقه حمود السيد يتردد في أذنيه:
– ريتها ربت يم كماك يا عمرو!!
فهل بعد هذا تفرض عليه امرأة رأيها.
***
سارت بهم والدتهم محاذية للبحر حتى وصلوا إلى قصيعر، وهناك باعت بقرتها لأحد البدو الذين يأتون إلى قصيعر للتزود بالمؤن، وانطلقت بهم إلى ميناء قصيعر.. أخذت تسأل عن السنابيق المتجهة إلى السواحل حتى دلوها على سنبوق باحويرث الذي يتجهز للإبحار، وكان ربانه من أقارب زوجها والذي بادرها:
– وراش انفسش[17] وين عمرو خوي.
– عمرو بايحلقنا[18] بعد يومين معه شغل ضروري يخلصه.
– معا شيء وقت الموسم بايقفل.
– ما عليك منه[19] هو بيدبر[20] نفسه عمرو ما حد[21] يخاف عليه.
– انشهد[22] انش صدقتي ما حد يخاف عليه.
انطلق سنبوق باحويرث من ميناء قصيعر متَّجهًا إلى السواحل وبالتحديد إلى مدينة زنجبار شاقًّا طريقه في انسيابية فقد كانت الريح مؤاتية للإبحار فهناك أيام عدة قبل قفول الموسم.
انتحت بهم والدتهم في أحد جوانب السنبوق قريبًا من كبينة الربان عبود بن سعيد، الذي أولاهم العطف والرعاية اللازمين حتى وصلوا ميناء زنجبار بعد أربعة عشر يومًا في رحلة لم يعكرها شيء سوى بعض الرياح والاضطرابات البحرية التي صادفتهم مما أخر وصولهم قليلًا عن الموعد المعتاد، أخبرهم الربان عبود أنه سوف يصطحبهم عند وصولهم إلى صديق والدهم المقيم في زنجبار مبارك بن سعيد، وبالفعل عند وصولهم الميناء انتظروا الربان عبود حتى أنهى بعض مهامه واطمأن على سير نزول حمول السنبوق من أسماك اللخم والديرك التي شحنها من سقطرى في طريقه إلى زنجبار، وأوكل بقية المهام إلى الصرنجي[23] لمتابعة تنفيذها، وقام باصطحاب سالم ووالدته وأخيه إلى بيت العم مبارك بن سعيد، وكان الوقت بعد الظهر والشمس ترسل أشعتها فتلفح الوجوه المكدودة، وجدوا العم مبارك عائدًا من عمله حاملًا بقايا بضاعته على ظهره وكانت بضع جوانٍ حيث يعمل متجولًا حاله حال بعض أبناء بلدته يبيع التنك والجواني فيتجولون بها في شوارع زنجبار وأزقتها وهم يحملونها على ظهورهم وينادون:
– تنكة جونية.. تنكة جونية.
وتستخدم التنك والجواني بكثرة في زنجبار في حفظ الفحم وعمل البوابير[24] وشحن المنتوجات الزراعية التي تشتهر بها زنجبار، مثل القرنفل والكزاب[25] والفلفل وغيرها من الغلات الزراعية بمختلف أنواعها وأشكالها، بينما بعضهم يعمل في بيع الفحم وشرائه، والبعض الآخر يعمل في صيد الأسماك؛ فقد كانت أسواق زنجبار عامرة فهي مدينة جميلة تمتاز بجوها المعتدل، وباخضرارها الدائم، وبتنوعها البشري، فهناك العرب والزنوج والبريطانيون والفرس والهنود وغالبهم من الطائفة السيخية، وأما العرب فغالبهم من العمانيين والحضارم. فالحضارم يوجدون بكثرة لافتة فيها وأنت تنظر في شوارع زنجبار تخال نفسك في المكلا.
استقبلهم العم مبارك أجمل استقبال، وسألهم عن أحوالهم وأحوال البلاد، وعن صديقه عمرو بن سالم فصارحته أم سالم بكل شيء، وأخبرته كيف تنازعت مع زوجها عمرو، وكيف طلقها، وكيف غادرت البلاد في ظل ذهول من الربان عبود ودهشته الذي يسمع القصة لأول مرة.
– نا عرفه عمرو عصبي لكن قلبه طيب من اليوم ورايح[26] عيالش[27]عيالي وجلسوا في ذه الغرفة أنتي وياهم وأنا بجلس في الغرفة الثانية. وأشار إلى الغرفة الأخرى من البيت والتي اتخذها مخزنًا لأغراضه وبضاعته التي يتجول بها، وكان البيت عبارة عن بيت شعبي، يتكون من غرفتين متلاصقتين، إحداهما بحرية يسكن فيها وهي واسعة نسبيًا وتطل على الشارع العمومي ولها باب مستقل، والأخرى الصغيرة مقابلة لها وتطل على الشارع الخلفي اتخذها مخزنًا، ويفصل بينهما جدار ولها باب صغير للخارج.
حاولت الاعتراض وأنها وابنيها يمكنهم الجلوس في غرفة المخزن غير أنه رفض ذلك.
***
كان سنبوق باحويرث هو آخر سنبوق غادر ميناء قصيعر فقد أغلق الموسم بعده وعلى الراغبين في الذهاب إلى السواحل الانتظار إلى الموسم القادم، وهذا ما حصل مع عمرو بن سالم الذي حاول اللحاق بزوجته وأولاده ولكنه لم يجد أي سنبوق مبحرًا إلى السواحل؛ فقد بدأ هيجان البحر واضطرابه؛ ولم يعد في المرسى أي سنبوق فقد أبحر كل الموسم[28] وعليه انتظار عام كامل إن أراد السفر فعاد قافلًا إلى قريته يكظم غيظه فهل هو من يفعل به كل هذا؟ وهو من هو..!! كان عزاؤه الوحيد أن صديقه مبارك بن سعيد هناك بزنجبار وهو على يقين بأنه سوف يقوم برعاية أولاده أكمل رعاية.
***
جلس سالم وأخوه في زنجبار قرابة خمسة أشهر، يروح عليهم العم مبارك ويجيء، ويحضر لهم ما يحتاجون إليه، حاولت أمهم العمل إلا أن العم مبارك رفض عملها بشدة، وعرض عليها بدلًا من ذلك الزواج..! فأقاموا زواجًا متواضعًا حضره أبناء بلدتهم ممن هم مقيمون في زنجبار، وأقاموا جلسة دان أمام بيتهم، جذبت أصواتها الشجية كثيرًا من سكان الحي من جنسيات وأعراق مختلفة حيث توافدوا عليهم ليشنفوا آذانهم بهذا النغم الغريب الذي يسمعونه لأول مرة.
في تلك المدة بدت على سالم آثار المرض فقد تعود على أكل الطين منذ قدومه إلى زنجبار في خلسة من والدته وأخيه الكبير صالح، فارتفعت حرارته في البداية، وظهر به انتفاخ بسيط في بطنه، وضعوا له كمادات من الماء البارد وسليط السمسم فكان لهما مفعول وقتي في تخفيض الحرارة إلا أن الحرارة بقيت تعاوده، وأخذ انتفاخ بطنه يزداد شيئًا فشيئًا، وانتفخ جسمه كله بعد ذلك بشكل غير طبيعي حتى أصبح لا يستطيع الحركة، عرضه العم مبارك على الطبيب في حيهم فأعطاه بعض الأدوية ولكن لم يظهر عليه أي تحسن فأشار عليهم الطبيب بالذهاب به إلى طبيب آخر في المستشفى الموجود في طرف الجزيرة، كان المستشفى يقع على بعد عشرة كيلو متر تقريبًا عن مكان سكنهم، حمله العم مبارك على ظهره في الصباح الباكر وانطلق به في سهول عدة ومنحدرات وطرق متعرجة حتى وصلوا إلى المستشفى.. عرضه على ذلك الطبيب فصرف له بعض العلاجات وحقنه حقنة بها بعض الأمصال وأخبره أنه يحتاج لمثل هذه الحقنة كل ثلاثة أيام.
كان العم مبارك يحمله على ظهره في كل مرة يذهبون فيها إلى الطبيب دون أي تأفف من بعد المسافة ووعورة الطريق.
استمروا على هذه الحالة لأكثر من شهر كامل ولم يطرأ عليه أي تحسن حتى أخبرهم الطبيب أنه لا يستطيع فعل له شيء أكثر من ذلك، وأعطاهم بعض الأدوية، وطلب منهم عدم الحضور مرة أخرى.
كانت لكلمات الطبيب وقع الصدمة على العم مبارك فعاد مهمومًا لا يدري ما يفعل، أخبر أم سالم بالأمر فأخذت تبكي بحرقة:
– جبتهم[29] هنه خايفه عليهم من المرض لكن المرض ورانحا[30] ورانحا.
– استهدي بالله.. الله يشفيه كما يوم مرضه.
– ني مؤمنه بالله.. لكن أيش نسوي[31] والطبيب يقول ما له علاج.
– بنتخبر[32] على طبيب ثاني أكيد بانحصل طبيب يعالجه.
– تعبنيك[33] معنا وعطلنيك[34] عن شغلك.
– لا تقولي هذا الكلام أولادش هم أولادي ونا ما بقصر وبكرة باروح[35] بسأل له على طبيب.
لم يدرِ العم مبارك ماذا يفعل أراد طمأنتها ولكنه نفسه كان يريد من يطمئنه.
بقي سالم أيامًا على حالته تلك حتى زارهم الشيخ المبارك نفسه الذي زارهم من قبل في قريتهم عندما كان سالم صغيرًا حيث انتقل إلى السواحل حاله حال أبناء بلدته واشتغل في التجارة فكان يشتري ويبيع الملابس ما بين زنجبار ودار السلام وممباسا وقد التقاه العم مبارك صدفة في ميناء زنجبار وكان بينهما صحبة فدعاه للغداء عنده:
– أنت اليوم ضيفي يا سيد حمد.
– نا مستعجل معي ذه البضاعة بابيعها وبرجع لدار السلام.
– كمّل شغلك وتعال إلى بيتي نته قدك تعرفه وجلس عندي اليوم وبكره غبّش[36] لدار السلام.
وتحت إلحاح العم مبارك وافق السيد حمد.
***
عاد مبارك بن سعيد إلى البيت مبكرًا على غير عادته فقابلته زوجته مندهشة:
– عساه خير ويش رجعك من الصبح؟
– إن شاء الله خير.. عندنا ضيف اليوم جهزي لنا الغداء ونا بذبح الكبش السود وباقطّبه[37] لش ودهريه في التنار[38].
– بس الكبش السود بغيناه العيد.
– ربش[39] باييسر كبش العيد.
– من ذا الضيف عاشوفك[40] مهتم به يم[41].
– ذا صاحبي السيد حمد.
-السيد حمد؟
– أيوه.. ذا صاحبي من زمان وهو رجال مبارك ومعروف عندنا في البلاد كلها.. ما بدا سمعتي به؟ أطرقت زوجته هنيهة ثم قالت:
– نعم سمعت به وسوّى فينا معروف ما ينتسي[42]، هو الذي عالج مبروك في المرة الأولى لما مرض.
– مبروك؟!
– قصدي سالم.
بدت علامة الاستبشار تكسو وجه أم سالم وهي تنظر إلى ولدها في حنو وقد أثقله المرض وانتفخ جميع جسمه وأخذت تكلم نفسها:
– لعل الله ساقه له إلى هنه لينقذه مرة ثانية !!
– معا قول شيء.. خلاص قوم أنت ذبح الكبش وني باجهز الطحين على المرهاة[45] وبخبز الخبز وبعلق التنار وبنعمله لامه[46] الخبز مع اللحم.
قام مبارك بن سعيد إلى الكبش فذبحه وقطعه وقامت زوجته فطحنت حبوب الذرة وقرّصتها ووضعت الكل في التنار وظلوا منتظرين قدوم السيد حمد.
***
حضر السيد بعد صلاة الظهر مباشرة فقام إليه مبارك بن سعيد واستقبله أحسن استقبال.. تجاذبوا أطراف الحديث عن البلاد وأحوالها وعن أحوال الحضارم في السواحل وهجرتهم الدائمة وجرهم الحديث إلى مواضيع شتى.
بينما قامت أم سالم إلى التنار وأخرجت اللحم والخبز منه ووضعته في (مسرفة)[47]، ونادت على زوجها فحضر وأخذه منها وقدمه إلى ضيفه، تناول السيد حمد وصديقه مبارك كفايتهم منه وأعادوا الباقي إلى أم سالم، حاول مبارك أن يفاتح صديقه بمرض سالم لكنه استحيا أن يكلمه، وقال في نفسه:
– لا كلمته ذلحين[48] يشوف سالم بيقول نا عزمته من شان ذا.. والله يشهد إني عزمته من معزتي له وسالم ربي يشفيه من عنده.
لكن أنين سالم قطع عليه خاطره ذاك فقد استيقظ لتوه وأخذ يصيح ويئن.
سمع السيد حمد الأنين ينبعث من الغرفة المجاورة التي يجلس فيها سالم وأمه فسأل صديقه مبارك:
– أيش ذا[49].. حد مريض عندكم؟
– نعم يا حمد خوي.. ابننا سالم مريض وقد له مدة ولا خلينا به مكان ولكن ما حد عرف يداويه.
– قوم خلنا نشوفه.
هنا تهللت أسارير مبارك بن سعيد ونادى على زوجته:
– تغطة يا حرمه.. السيد بايشوف[50] الوليد.
لبست أم سالم نقبتها وبرقعها وجلست في إحدى زوايا الغرفة. ودخل مبارك مع السيد حمد.. أخذ السيد يتفحص سالم ثم التفت إلى مبارك وقال:
– تطمن ذا علاجه بسيط.. وبا يقوم بالسلامة بإذن الله.
ثم التفت إلى أم سالم وسألها:
-عاد التنار فيه شيء نار.
– نعم فيه نار حتى بتدهر[51] فيه.
– هاتوا لي حديد وعملوه في النار.. الوليد فيه (شبوره)[52] ويحتاج كي.
أسرعت أم سالم وأحضرت أسياخ حديد عدة وغرفت جمرًا من التنار ووضعته على البابور وشبت عليه مرة أخرى رغم أنها تقذف شررًا من كثرة حرارتها ووضعت الأسياخ وسطها.
انتظر السيد حمد حتى حميت الأسياخ وطلب منهم مسك سالم فلم يجدوا صعوبة في مسكه بسبب انتفاخ جسمه وصعوبة حركته، وباشر بكيه في مواضع عدة من جسمه.. كواه في ظهره مرتين كل واحدة في طرف تحت (الورق)[53]، وكواه مرتين على صدره في الشقين الأيمن والأيسر أسفل الثدي، وكواه أسفل بطنه تحت الصرة.. جميعها بشكل صب وهقف[54]، ثم طلب منهم أن يشربوه (الصَّبِر)[55]، ثم دعاء له بالشفاء وغادرهم.
***
نفذوا ما طلبه منهم السيد حمد فسقوا سالم الصبر كل يوم لمدة ثلاثة أشهر كاملة، وخلال هذه الأيام كان ينزل ديدان من بطنه مختلفة الأشكال والأحجام كلما ذهب للتغوط.. وبدأ جسمه يعود لحالته الطبيعية شيئًا فشيئًا حتى أصبح كالعود الممشوق، فبدأ البشر والأُنس يعود إلى البيت بعد أن كان يكسوه التجهم والقلق لأيام كثيرة عادت لسالم صحته وأخذ يخرج إلى خارج البيت، وبدأ يلعب مع أقرانه، بل أصبح يتفوق عليهم في مسابقات الجري التي يجرونها في الحي.
ارتبط سالم بعلاقة صداقة مع جارهم الصبي الصيني الذي كان في مثل سنه، فكانوا يتنقلون في شوارع الجزيرة وأزقتها تصاحبهم كلاب الصيني الذي يربيها هو وعائلته، فكانوا يذهبون إلى المرسى مع بعض ويصطادون لها الأسماك وهي تتقافز حولهم، أعجب سالم بطبيعة الجزيرة الجميلة، وبحرها الهادئ، ومينائها العامر، وأسواقها الشعبية، فكان يتنقل مع رفيقه الصيني من مكان إلى مكان.
بقيا على هذه الحالة حتى أتى موسم فتوح البحر في نجم الهنعة، فأخذوا يترقبون وصول والدهم فلقد توقعوا وصوله مع وصول الموسم.
***
كان توقعهم في محله فقد كان والدهم في ذلك الوقت مبحرًا مع أول سنبوق من ميناء قصيعر إلى السواحل، أخذت رياح الشتاء تهب من جهة الشمال فتدفع السنبوق بكل تؤدة حتى خرجوا من الميناء، ومع مرور الوقت بدأت الرياح تشتد شيئًا فشيئًا، ثم هاج البحر واضطرب ووجدوا أنفسهم وسط عاصفة قوية أخذ السنبوق يرتفع إلى أعلى ثم يهوي بقوة ومعه يهوي كل شيء على ظهره، خاف العبرية وبخاصة الذين يسافرون لأول مرة فأخذ الربان والبحرية يطمئنونهم ويخبرونهم أن هذه عاصفة عارضة وستزول سريعًا، لكن طمأنتهم لم تخفف هلع الركاب المتزايد؛ فقد كانت الريح تزمجر بشدة، واضطراب السنبوق أخذ في الازدياد.
قام الربان وبعض بحريته في معالجة الشُرُع وقام البعض الآخر بـ(زلخ)[56] الماء الذي بدأ يتسرب إلى السنبوق، وعندما رأى عمرو بن سالم ما هم فيه من مشقة وعنت قام بمساعدتهم وحث بقية العبرية على ذلك، اختلطت الأصوات وارتفعت.. أحدهم ينادي هنا لمساعدته في سحب حبل والآخر ينادي هناك لمساعدته في زلخ الماء وحمل السطول التي يزلخون فيها، والربان قائم بينهم ينادي على هذا ويوجه ذاك وأصبح سطح السنبوق كأنه ميدان معركة وفي خضم ذلك كله انفلتت عجلة حديد مع (شيبنه)[57] من الدقل فأصابت عمرو بن سالم في رجله وأحدثت بها جرحًا غائرًا أخذت رجله تنزف بشدة ربطوها بعمامته ولكن نزيف الدم لم يتوقف، اقترح أحد العبرية وضع (التيتو)[58] على الجرح فوضعوه عليه فأخذ عمرو بن سالم يتلوى من الألم، أعطاه الربان بعض المسكنات التي يحتفظ بها معه لمثل هذه الحالات الطارئة فهدأ الألم نسبيًا لكنه لم يزل.
بعد هنيهة خف اضطراب البحر وعاد الهدوء إلى السنبوق فأخذ يتهادى في دعة وعادت الحركة تدب على سطحه بصورة طبيعية، وتوزع العبرية هنا وهناك في حلق يسترجعون أحداث يومهم ذاك، ومنهم من يلعب الورق ومنهم من يلعب الدومينو ليقضوا ساعات السفر، أما عمرو بن سالم فجلس في مكانه لا يبارحه فقد أثر التيتو على رجله فتورّمت ولم يستطع الحركة، وأخذت حالته تسوء يومًا بعد يوم، بقي على حالته تلك حتى دخولهم زنجبار.
***
كان مبارك بن سعيد في ميناء زنجبار عند قدوم السنبوق الذي يقل صديقه عمرو بن سالم، وقف يتطلع إلى العبرية الذين بدأوا يغادرون السنبوق وراعه خروج صديقه عمرو بن سالم محمولًا على الأكتاف فهرع إليه سريعًا:
– حمد لله على سلامتك وما تشوف شر.
– الله يسلمك.. كيف سالم وأخوه؟
– سالم وخوه بخير، وهم عندي في البيت.
– شلنا[59] قبلهم.
– باشلك لازم الأول نعالجك ما هو زين يشوفوك وأنت على ذه الحالة.
– لازم شوفهم مشتاق لهم.
– باتشوفهم بإذن الله.
– وكيف أم سالم؟
– بخير.
***
نقل مبارك صديقه عمرو إلى المستشفى وتم معالجته هناك واضطروا إلى بتر بعض أصابع رجله، وبقي في المستشفى أيامًا عدة حتى تماثل للشفاء، فتم نقله إلى البيت بعد أن أخبره مبارك بن سعيد بكل شيء عن زواجه من أم سالم، وعن مرض سالم وعلاجه وغيرها من الأحداث التي جرت لهم، بعد ذلك طلق زوجته لكي يعود إليها، وأخبره أنه لم يتزوجها إلا لحمايتها وحماية أولادها.
***
فرح سالم بقدوم والده أيما فرح ولكن فرحته كانت منقوصة فقد عكر صفوها إصابة والده ورجله المربوطة ومراجعته المستمرة للمستشفى، وظل ملازمًا له لا يفارقه، وبعد أن تماثل والده للشفاء أخبرهم أنهم سوف يعودون إلى البلاد مع قدوم موسم العودة.
***
لم يرق الأمر لسالم كونه قد بدأ يحب الجزيرة وأهلها، فطن والده لتغير حاله وحزنه فوعده بالعودة إلى هنا في الموسم القادم.
***
ومع بداية دخول نجم الغفر وفتوح الموسم كانوا جميعًا على متن أحد السنابيق المتجهة إلى قصيعر.. مضت رحلتهم بهدوء وانسيابية لم يعكرها شيء؛ فلقد كانت ريح الكوس مؤاتية، فأخذتهم في غضون عشرة أيام إلى ميناء قصيعر، ومنها اتجهوا إلى قريتهم سيرًا على الأقدام.
***
بقي سالم يحن إلى زنجبار وأخذ يلح على والده في العودة.. أخبره والده أنه عند وعده وأنهم بانتظار الموسم.
***
ومع قدوم الموسم عاد سالم وعائلته فرحًا إلى زنجبار.. وبعد مضي بضعة أيام من وصوله عمل في دكان أحد الحضارم في لف التبغ وبيعه وبيع القاز (الكورسين) على بيوت الحي وغالبها بيوت شعبية وعشش، وكل منهم معه (مسْرَج)[60]، فيملأ لكل واحد منهم بعانة[61]، وكان يعطيه الحضرمي في نهاية كل شهر ثلاثين شلن[62]، وكانت في ذلك الوقت مبلغًا مجزيًا. أما أخوه صالح فقد عمل في بيع الفحم مع حضرمي آخر.
كان أخوه صالح يبدد فلوسه هنا وهناك بينما هو كان يدّخرها حتى جمع مبلغ أربعمائة شلن فاشترى بها قاربًا منيباريًا، وأخذ يذهب به إلى البحر للاصطياد في أوقات فراغه، ولم يكن يبيع ما يصيده وإنما يوزعه على جيرانهم، وبقي في عمله في لف التبغ وبيع القاز.. وفي ذات يوم أخذ أخوه صالح القارب وأوهمه أنه سوف يصطاد به ولكنه لم يعده؛ فقد باعه وصرف فلوسه على مغامراته هو وصديقه.. حزن سالم في البداية لكنه تجاوز الأمر، فقد كان يحب أخاه كثيرًا. مكثوا في السواحل سنوات عدة، اشتغلوا خلالها في مهن وأعمال مختلفة، ثم عادوا إلى بلدهم.
***
مكثوا في قريتهم مدة قصيرة تزوج خلالها أخوه صالح من إحدى بنات القرية، ثم عادوا قافلين إلى السواحل، وعندما كانوا يتهيأون للرحيل وهم على ظهر السنبوق حصل خلاف بين صالح وزوجته فطلقها على إثره وأخرجها من السنبوق وأعادها إلى الشاطئ، ثم أبحر مع أخيه إلى السواحل قاصدين زنجبار، وكانت هذه المرة الأولى التي يسافرون فيها لوحدهم فلم يكن معهم أحد من أهلهم.
في طريقهم إلى زنجبار مروا على ممباسا ونزلوا بها لزيارة ابن عمتهم الذي يعمل هناك مع مجموعة من أبناء قريتهم.
رفض ابن عمتهم مغادرتهم ممباسا وأبقاهم عنده ولم يسمح لهم بالذهاب إلى زنجبار خوفًا عليهم من الضياع وبخاصة أنه لم يكن معهم من يرشدهم وهم في مقتبل الشباب.
بقوا في ممباسا واشتروا لأنفسهم بسطة وعملوا في بيع وشراء الملابس، لكن البلدية لم تتركهم لحالهم ولاحقتهم، وأخذت بسطتهم وأغلقت جميع البساط العشوائية، وقامت بإنشاء سوق شعبي كبير يتكون من دكك عدة وأجرتها لهم، استأجر سالم وأخوه دكة في ذلك السوق الشعبي بشلن ونصف، وظلا يعملان بها.. أصيب أخوه صالح بمرض في صدره فكان يسعل بشدة وكلما سعل نزل دم من جوفه ظل سالم مشتتًا بين عمله ورعاية أخيه حتى أتى موسم العودة إلى (بر عرب)، وكان ابن عمتهم ورفاقه قد عزموا على السفر إلى البلاد بعد أن أمضوا أكثر من ثلاث سنوات في ممباسا، فكان على سالم العودة معهم نظرًا لحالة أخيه الصحية وإصرار ابن عمتهم على سفرهم معه.
ركبوا سنبوق باكريت المتجه إلى قصيعر والذي كان من أوائل السنابيق التي استخدمت المكائن وانطلقوا من ميناء ممباسا صباحًا.. كان سالم يعتصره الألم فهو في شوق إلى زنجبار التي قضى بها صباه والتي لم يتمكن من زيارتها في رحلته هذه.
ظل سنبوق باكريت مبحرًا لليلتين كاملتين حتى إذا وصل قرب (لامو) تعطلت ماكينته فقد انكسر فيها السن تيوب الذي يدير ريشتها، وتدفق الماء بغزارة إلى داخل السنبوق، حاول البحرية السيطرة على الماء لكنهم لم يفلحوا في ذلك.. أمرهم الربان (بنفل)[63] الحمول من السنبوق أخذ البحرية في نفل أغراضهم وأغراض الركاب وبضائعهم، كان أكثر المتضررين ابن عمة سالم الذي كان معه عدد غير قليل من صناديق سليط السمسم، وكل صندوق به تنكتان ومثلها جواني الطعام والبن والتي أراد الاتجار بها في المشقاص فكان مصيرها جميعها أعماق المحيط ولم يبق مع ابن عمته سوى صندوق به فلوسه وفلوس رفاقه وقليل من أغراضهم حاول البحرية رميه لكنه لم يمكنهم من ذلك فقد وقف عليه وحمل سكينه وهدد من يقترب منه بطعنه بها تراجع البحرية بعد أن أمرهم الربان بتركه لحاله.. أصبحوا صاريين[64] وسط المحيط.. بقوا على حالتهم تلك حتى مرت عليهم (غنية)[65] لأصحاب صور العمانيين لها ستة شُرُع فاستغاثوا بها، فرموا إليهم بشيبنة وتكور خلفها ستة من البحرية، وأخذوها فربطوها في دقل السنبوق وصدره وسحبوهم.
واصل بحرية باكريت زلخ الماء من السنبوق بينما استمرت الغنية العمانية في قطرهم لمدة خمسة أيام بلياليها حتى أوصلتهم مقديشو، تركهم العمانيون في ميناء مقديشو، وواصلوا رحلتهم إلى عمان.
بقوا في ميناء مقديشو شهرًا كاملًا لا يغادرونه إلا لشراء حاجياتهم من السوق.. وظلوا ينتظرون سنبوق يقلهم إلى البلاد، حتى أتاهم سنبوق لابن خيرالله من أبناء قصيعر، وحملهم معه، وصلوا ميناء قصيعر بعد أيام عدة.. ومنه اتجهوا إلى قريتهم.
***
ساءت حالة صالح الصحية، وتفاقم مرضه أكثر بسبب عناء السفر ومشقة الرحلة، ولعدم توفر العلاجات اللازمة ولم يمض عليه سوى بضعة أيام حتى فارق الحياة.
لم يستقر الحال بسالم طويلًا في قريتهم فلقد كان بعد أسابيع قليلة على متن لنش بن السلطان مبحرًا إلى الخليج العربي باتجاه دولة الكويت…
[1] ) القصة مستوحاة من أحداث واقعية جرت وقائعها أيام السفر إلى السواحل الإفريقية رواها الخال سعيد بن سليمان الغتنيني، والخال مبارك بن البخيت بن سليمان الغتنيني.
[2] ) السواحل: تطلق على بلدان شرق إفريقيا.
[3] ) عاده إلا ولد: لم يمض على ولادته سوى وقت قصير.
[4] ) طربوا: نادوا.
[5] ) يستنبي: يستجيب للنداء.
[6] ) شلوا: خذوا.
[7] ) ظلت: لفظة تحسر.
[8] ) المرابي: جمع مراباة وهي ما يكمن تحتها المقاتلون.
[9] ) هايشين: جمع هائش وهم قطاع الطرق الذين ينهبون الناس ويتقطعون لهم.
[10] ) حيقك: حلقك.
[11] ) متسلبين: حاملين السلب وهو السلاح.
[12] ) من ذا: من هذا.
[13] ) منين ظهر: من أين برز أو جاء.
[14] ) ما يلقطنا: مأخوذة من لقط الطيور للحب، وهي كناية عن دقة ضربه وإصابته للهدف.
[15] ) ريت: لفظة تمني بمعنى ليت.
[16] ) يم كماك: كثيرًا من أمثالك.
[17] أ وراش انفسك: بمعنى لماذا أنت لوحدك.
[18] ) بايلحقنا: سوف يأتي في إثرنا لاحقًا لنا.
[19] ) ما عليك منه: لا تهتم ولا تشغل نفسك به.
[20] ) بيدبر: من التدبير وهو حسن القيام بالشيء.
[21] ) ما حد: لا أحد.
[22] ) انشهد: لفظة تفيد التأكيد.
[23] ) الصرنجي: نائب الربان.
[24] ) البوابير: جمع بابور وهو موقد يصنع من التنك يطهو عليه الطعام.
[25]) الكزاب: ثمر جوز الهند.
[26] ) من اليوم ورايح: يقصد به من هذا اليوم وما يليه من أيام.
[27] ) عيالش: عيالكِ، أولادكِ.
[28] ) الموسم: يطلق على مدة إبحار السنابيق وهي محددة بوقت معلوم. وهناك موسمين: موسم الذهاب إلى السواحل وموسم العودة منها، ويطلق الموسم أيضًا على مجموع السنابيق التي تبحر إلى السواحل.
[29] ) جبتهم: أتيت بهم.
[30]) ورانحا: وراءنا.
[31] ) أيش نسوي: ماذا نفعل.
[32] ) بنتخبر: سوف نسأل.
[33] ) تعبنيك: أتعبناك.
[34] ) عطلنيك: جعلناك تترك عملك.
[35] ) باروح: سوف أذهب.
[36] ) غبش: اذهب مبكرًا.
[37] ) باقطبه: سوف أقطعه.
[38] ) التنار: التنور الذي يخبز فيه الخبز.
[39] ) ربش: ربكِ.
[40] ) عاشوفك: أراك.
[41] ) يم: كثيرًا.
[42] ) ما ينتسي: لا ينسى.
[43] ) أيش تقولي: ما الذي تقولين.
[44] ) سمّعينا: ارفعي صوتك حتى أسمعك.
[45] ) مرهاة: الرحى التي يطحن عليها حبوب الذرة ونحوها.
[46] ) بعمله لامه: سوف أضعه مع بعض.
[47] ) مسرفة: إناء منبسط يصنع من خوص النخيل.
[48] ) ذلحين: بمعنى الآن.
[49] ) أيش ذا: ما هذا.
[50] ) بايشوف: سوف ينظر ويعاين.
[51] ) بتدهر: تضع فيه شيئًا لإنضاجه.
[52] ) شبورة: مرض يصيب الأطفال يودي إلى ارتفاع الحرارة وآلام في المفاصل.
[53] ) الورق: أسفل الكتف مما يلي المتن.
[54] ) صب وهقف: شكل علامة +.
[55] ) الصبر: عصارة شجر المر.
[56] ) زلخ: لفظة يستعملها أهل البحر بمعنى غرف الماء من السنبوق.
[57] ) شيبنة: لفظة بحرية تطلق على نوع من الحبال السميكة.
[58] ) التيتو: سائل لاذع يوضع على الجروح.
[59] ) شلنا: خذنا.
[60] ) مسرج: قنديل صغير يستخدم للإضاءة.
[61] ) عانة: عملة نقدية من أجزاء الشلن.
[62] ) شلن: عملة نقدية إنجليزية.
[63] ) نفل: لفظة بحرية بمعنى رمي الحمول من السنبوق إلى البحر.
[64] ) صاري: واقف على ظهر البحر غارق بالماء.
[65] ) غنية: نوع من السنابيق.