قصة قصيرة
الروائي حسين حسن السقاف
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 17 .. ص 108
رابط العدد 17 : اضغط هنا
لا أدري أهي حكاية أم قصة مكتملة الأركان أم أنها مجرد كوابيس وهذيان، فقد بلغت بي درجة الحرارة يوم أمس اثنتين وأربعين درجة، بات أفراد أسرتي ينقلون الكمادات الباردة على جسدي لتعود كأرغفة الخبز الواردة توًا من المقلاة.
أحمد الله أنها لم تُصبني جراء ذلك حمى شوكية أو أي مضاعفات جراء آفة الكرونا أو أي حمى جهولة أخرى ممن تحالفن وضربن خيامهن في أصقاعنا، وجعلننا يوميًا نفجع بأنباء فقد الأحباب والأصدقاء هنا وهناك، الذين يتساقطون كأوراق الخريف وهم في ريعان شبابهم.
وأحمد الله أيضًا أنني أنقل لكم قصتي هذه قبل أن تُلحد بين تلافيف دماغي، أرجو أن لا تكون هذه آخر العهد بكم أعزتي، فإليكموها:
كنّا أبًا عن جد نقتات من مهنة صيد السمك، وكان لأسرة أبي بيت صغير ولي أيضًا بيت مجاور لبيت أسرة أبي ويشبهه تمامًا، مبنيان من الألواح الخشبية التي يجود لنا بها البحر بين حين وآخر حينما يقذف بها اليم في ساحل قريتنا القابعة في دعةٍ تحت منحدر جبل (المحرات) بساحل مهرة بن حيدان بمحاذاة الحدود الغربية لبلد عُمان.
توفيت والدتي مبكرًا، فتزوج أبي بامرأة أخرى أنجبت له ابنًا. لم يعش والدي بعد ذلك طويلًا فقد ابتلعه البحر وهو يصطاد، فتحملتُ منذ نعومة أظافري أعباء الأسرة.
كان أخي يشبهني ويشبه أبي أيضًا من حيث حب المغامرة غير أن ما يفرقه عنا أنه لا يحسب الحساب اللازم لعواقب مغامراته.
لقد ترك لنا والدنا قاربًا متوسط الحجم عليه ماكينة (ياماها) بقوة ستة أحصنة نغطي به حاجة الأسرة.
* * *
في نهاية الربيع لا يكون البحر جوادًا حتى إننا نحجم عن الخروج للبحر ونلزم منازلنا أو نتسكع على السيف، غير أن أخي يصر على الإبحار.
فهو يضيق ذرعًا بنصيحتي، وكثيرًا ما كان يتهكم بنصحي ويقول:
– وفر على نفسك نصائحك.
حتى إنني إذا ما وجدته قد شرع في عمل جيد أشجعه على ذلك بالسكوت والتجاهل لأنني عند ما أشيد بفعله هذا يعزف عن المضي فيه.
كان يخرج للصيد قرابة ثلاثة أيام متوالية ويعود بخفي حنين. في اليوم الرابع قام بتعبئة برميل الوقود الذي ثبتناه سلفًا بشكل جيد في القارب إذا ما اعتزمنا الذهاب بعيدًا في رحلات صيدنا في (بحار ما بعد الستين) لتزويدنا بما نحتاج من الوقود، ونستفيد أيضًا من ثقل البرميل لإحداث توازنٍ في القارب بحيث يذهب أحدنا في الجانب الآخر للقارب الذي ربطت بجانبه الموازي مرساة حديدية هي أشبه بمرساة أو حذوة قدمي الفارس على جانبي الخيل.
أدركت أن أخي كان يُحضِّر لرحلة صيد في خليج عُمان الذي يكثر فيه الأسماك والذي لا يبعد عنّا كثيرًا. حاولت أن أثنيه عن هذه المغامرة وأن أحذره من مغبتها.
عندما أبحر أخي في الصباح كان الجو صحوًا وكانت الشمس ساطعة، كان الطقس ما زال يحمل بقايا برودة الشتاء الآفلة ويهب علينا البحر بنسمات (العليا) الجنوبية المنعشة، غير أنها ما إن مالت الشمسُ في ذلك اليوم صوب زوالها حتى تداعت في الأفق بشكل سريع سحبٌ ركامية تتحدُ وتتشابك شيئًا فشيئًا لتتضاعف سريعًا قتامتها.
كنت وقتئذ موليًا ظهري المنزل وموجهًا نظري صوب البحر وأنا أنظر إلى هذه السحب وكلي قلق على أخي.
بينما كنت كذلك أتت زوجة أبي تصيح بي قائلة كيف تترك أخاك في مواجهة البحر والسماء العابسة، فما كان مني إلا أن أخذت أحد قوارب الصيادين المتوقفين أربابها عن الصيد والتي يعج بها ساحل قريتنا.
ذهبت إلى منزلي لأودع زوجتي وأطفالي وأخذت معي علبة ماء، واصطحبت سكينًا وبطارية كاشفة حديثة بحيث تصنع رقعة صغيرة من الضوء، ولكن مدى ضوئها يصل إلى أكثر من ميل بحري، كنت قد وضعتهما على جانب خاصرتي.
* * *
قبل نصف شهر قمت بلف ذروة برميل القارب -وهو أعلى ذروة في القارب- بشريط من الصفيحة الفسفورية بُغية أن يهتدي الصيادون وخفر السواحل إلى قاربنا في حال الضياع ليلًا تحسُبًا لرحلات أخي البحرية التي كثيرًا ما يأتي منها متأخرًا، ودرءًا لتكرار مأساة أبي، ولكن أخي عدّ ذلك تشويهًا لقاربنا وهدد بإزالته.
رغم أن الظلام قد خيم سريعًا بسبب تكدس السحب القاتمة التي غطت الأفق.
فلم يطل اهتدائي إلى قارب أخي فأنا أعرف وجهته وما ساعدني على الاهتداء إلى قاربه هو بقايا الشريط الفسفوري الذي لم يتمكن من إزالتها والتي ما أن سلطت عليه ضوء الكاشف حتى لمعت كبارق عيني القط.
ما إن التحقتُ به حتى ربطت قاربي بقاربه وصعدتُ إليه.
كان البحر هايجًا ويزداد هيجانًا.
توليت قيادة القارب وكنت أدوسُ على الوقود بأعلى ما يمكن للهروب من الدوامة التي بدأت تجرنا إلى مركزها بحيث أصبح قاربانا كقشتين في مهب الريح.
كان تيار الدوامة يزداد عنفًا ونحن نتجه إلى وسطه.
وكان القارب المقطور بمحرك قاربنا يوشك أن يقتلع محرك قاربنا، فما كان مني إلا أن أخذت السكين وقطعت الحبل الذي يربطه ليدور معنا كقشة في فلك هذه الدوامة.
بعد التحرر من القارب المقطور بقاربنا حاولت ثانية الخروج من فلك الدوامة إلا أن الأمطار التي كانت تهطل علينا كانت غزيرة، فعمدتُ إلى إفراغ القارب من هذه المياه المتجمعة خشية أن تغرق قاربنا.
* * *
كان أخي يتشبث بالحبل الذي يربط البرميل بعرض القارب ويحتمي به من ماء البحر والمطر معًا، في حين كنت أنا متشبثًا بالمرساة في الجانب الآخر للقارب.
كان أخي يرمقني بعينين متسللة خصلات شعره المسدلة على وجهه بفعل الماء المالح والعذب معًا. لم أعرف طبيعة هذه النظرات غير أنه ما لبث أن اندفع مترنحًا عليَّ بكليته ليبعد يدي عن العروة التي كانت تتشبث بها يميني فتركتها له وعدت إلى حيث كان هو خلف البرميل.
فسألته
– كيف تشعر؟
وأردفتُ… قريبًا ستتبدد الدوامة، فقد أخبرني أبي بأنها لا تدوم كثيرًا ولكنه لم يُحر جوابًا! واكتفى بهز رأسه ذي الشعر الطويل الذي يحجب ملامحه.
حاولت أن أوصل يدي إليه لأمسه فوجدته ساخنًا
بعد ربع ساعة انتشر بقامته الفارعة على القارب وكان مترنحًا ولكن لم يُطل على ذلك الحال، فقد اختطفه في لمح البصر جسمٌ غريبٌ إلى الدوامة لينتزعه من القارب، كان ذلك في الوقت الذي بدأت الدوامة تخفف من غضبها.
استخدمت بطارية الكاشف لأنظر الى حيث يكون أخي فوجدته عالقًا في شجرة من تلك الأشجار المحاطة بالجذوع والألواح الخشبية التي اصطادتها الدوامة لتجعلها مثلنا تدور في فلكها، ولنبدو كأننا أزرار قمصان ندور وسط غسالة كهربائية.
حللتُ الحبل الذي يربط البرميل بالقارب وربطت في طرفه الآخر حذائي وقذفت بها إليه. كررت ذلك مرات، ولكن لا فائدة فلا حراك لأخي، أصبحت الشجرة بمحاذاة القارب، فقررت أن أُلقي بنفسي في البحر لاستعادته. لكن الدوامة سرعان ما ابتلعته.
كان الحزنُ والقنوط قد بلغا بي مبلغًا عظيمًا على أخي، ثمة أصوات كثيرة يتردد صداها في رأسي الذي يوشك على الانفجار، أصوات زوجة أبي تقول لي:
– أرسلتك لإنقاذ أخيك فإذا بك تقتله. أصوات أهل القرية وهم يرددون خلفي وفي مجالسهم مشيرين بسباباتهم نحوي:
– هذا الذي قتل أخيه
كان علي أن القي بنفسي في الدوامة لإنقاذ أخي لنعيش معًا أو نموت معًا.
ما فائدة الحياة بغير أخي.
لقد مات أبي في البحر، ومات أخي في البحر، وأنا حتمًا سأموت في البحر عاجلًا أم آجلًا.
كانت هناك أصوات أكثر تطالبني بأن ألقي بنفسي في البحر.
كنت أقول لنفسي:
– الصيادون بشر ولكنهم يصبحون أسماكًا في آخر لحظات حياتهم لذلك فهم يقبرون في البحر.
صعدت في مقدمة القارب بعد أن عقدت العزم على أن ألقي بنفسي في الدوامة، كنت أحاول استحضار شيء من القرآن قبل أن ألقي بنفسي لكن لا فائدة، لم يحضرني شيء منه على الإطلاق.
في هذه الأثناء كانت زوجتي قد وضعت كمادة صاقعة من الثلج كبيرة الحجم أشبه حجمًا بالرغيف. وضعَتها على وجهي فانتفضتُ انتفاضة من صعق بالكهرباء ووجدتُ نفسي غارقًا في رشحي. كنت أحملق في من حولي بعينين جاحظتين
– أين أنا الآن؟
كان كل أفراد أسرتي من حولي يمسكون بالكمادات المتعددة ويمسكون بجسمي المرتعش.
قالت زوجتي:
– أنت في بيتك بين أسرتك.
– الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور.