أضواء
أ. صالح حسين الفردي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 18 .. ص 16
رابط العدد 18 : اضغط هنا
سجلت بداية أربعينيات القرن الماضي عودة لظاهرة الثنائي في الأغنية الحضرمية المعاصرة ثانية -بعد ثنائية الشاعر عبدالله محمد باحسن والفنان الرائد سلطان بن الشيخ علي بن هرهرة- وقد تشكلت هذه الثنائية من الأديب والشاعر الكبير حسين محمد البار والفنان المبدع المجدد محمد جمعة خان؛ إذ كان لهذا الثنائي دور كبير وخلاق في الارتقاء بالذائقة المجتمعية، من خلال القدرات الشعرية العميقة، والنظرة الجمالية الشفيفة، التي تميزت بها التجربة الشعرية للشاعر الراحل الكبير حسين البار، الذي حط رحاله في مدينة المكلا قادمًا من موطن صرخة ميلاده بقرية (القرين) في وادي دوعن ليمن، وتوزعت قدراته العبقرية الإبداعية على مفاصل العمل القانوني (محاميًا) والصحفي والأدبي والشعري والاجتماعي لهذه الشخصية التي تمتعت بالكثير من الصفات الأصيلة القارة في الشخصية الحضرمية، فكان أن شكل ثنائيًا صحفيًا في مجال الصحافة الحضرمية من خلال تواشجه مع المؤرخ والصحفي الراحل الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه، عندما فتح الراحل البار صفحات صحيفته (الرائد) لتبني الكثير من القضايا الفكرية والأدبية والسياسية والفنية، وهو ما يؤكد أن هذا المبدع الراحل كان حاملًا لرؤية شاملة لدور المثقف في النهوض بمجتمعه وفق نظرة شاملة معمقة لمساحات الرقي والتطور، التي يجب أن يصل إليها هذا المجتمع، وتنهض به هذه الشرائح الحاملة للوعي، والناثرة له في كل زوايا المجتمع الحضرمي، وصداه وعمقه الحضاري المهجر.
ثنائية الزمن الجميل:
في هذه الفترة المبكرة، كان اللقاء الذي جمع بين شاعر كبير وصاحب تجربة شعرية متنوعة ومتعددة، وفنان بدأ يتخذ من الفن رسالة نبيلة بعد أن كان قائدًا للفرقة السلطانية، فعمد إلى تشكيل فرقة خاصة به بتخت موسيقى شرقي تقليدي ومن فنانين عازفين هواة، انطلقوا جميعًا في سماء الفن الحضرمي؛ ليجذروا ويؤصلوا لمدرسة عريقة، تتخذ من الموروث الشعبي – بتنوع أهازيجه وإيقاعاته وألعابه وأناشيده الصوفية – مادة لإعادة صياغة التشكيل اللحني وتطويره وتسخيره للنص الشعري الغنائي المكتوب، فكان أن جاءت الكثير من الروائع الغنائية (عامية وفصيحة) لهذا الثنائي مدللة على ثراء وعمق موهبة الشاعر وروح فنان، النازع للتجديد والتنوع في تجربته الغنائية.
لغة المكان في همس الشاعر وصوت الفنان:
كان لخصوصية المكان الذي عاش فيه هذا الثنائي المبدع دور في تلاحم تجربتهما معًا وتماهي؛ إذ إن لقربهما المكاني -لم يفصل بين سكن كل منهما سوى شارع وزقاق ضيّق- في حي سكني (حي السلام) بالمكلا، جمع بين حواريه وأزقته في تلك الفترة الكثير من المبدعين الكبار: (محمد عبدالقادر بامطرف، محمد عبدالقادر بافقيه، سعيد عوض باوزير، صالح عبدالرحمن المفلحي) وغيرهم، مما جعل لهذين العلمين واحدية الكشف عن الجديد في لغة الشعر وروح الموسيقى، ودفع بكليهما إلى مواصلة التحدي لتجاوز نجاح تلو نجاح، فكانا حديث المجالس الأدبية والمنتديات الثقافية والصحافة الفنية والتجمعات الفنية، الأمر الذي أضاف عبئًا معنويًا عليهما؛ ليغزلا تجارب غنائية متعددة، صارت من روائع الغناء الحضرمي، وتجاوزت شهرتها المحلية إلى المهاجر الحضرمية في دول شرق أفريقيا وجنوبها والجزيرة والخليج، وما زال الكثير منها يعاد إنتاجه ولو بصورة لم ترق إلى لحظة الإبداع الثنائية تلك.
(البار) عاشق لحن و(بن جمعة) متذوّق شعر:
يبدو إن اقتراب الشاعر الراحل الكبير حسين محمد البار من جو الطرب والفن، وعشقه الكبير لأداء العملاق الحضرمي محمد جمعة قد أغراه لتعلّم العزف على آلة الكمان؛ حبًا في الدخول إلى عوالم النغم، وخصوصية (الهنك) للأغنية الحضرمية، وبذلك كان الشاعر البار قادرًا على إدراك التفاصيل الدقيقة ومعرفتها للمجال الفني الذي انغمس فيه عاشقًا مولعًا برقيق النغم، وأنين الكمان، وتوتر العود، وخفقان الإيقاع، وارتعاشات الرق، فجال بخواطره في روابي العشق وفضاءات الهيام، وترك تراثًا شعريًا غنائيًا رقيقًا يغسل عن القلب ما علق به من لواعج الأيام، ويعيد للروح التوّاقة للحب الكثير من صدقها وبوحها وهمسها، الذي تردد صداه في المكان، وأصبح لغة المكان العشقية في همس فني لمبدع كبير، وشوش حياتنا بروائع النغم وجميل القول.
في حين حرص العملاق الغنائي محمد جمعة خان على انتقاء بديع القول وجميل الصور ورقيق التراكيب الشعرية، التي انثالت من شغاف لواعج قلب الشاعر –العاشق- البار الذي أسهم –كثيرًا- في انتقاء العديد من الروائع الغنائية للفنان الكبير محمد جمعة خان، متنقلًا به في بساتين وخمائل الشعرية العربية منذ الجاهلية وحتى العصر الحديث.
من روائع الثنائي البار ومحمد جمعة خان :
إذا أردنا التوقف في هذه العجالة عند النصوص الشعرية الغنائية التي جمعت بين عبقريتي الشاعر البار والفنان مجمد جمعة خان، نجد أن هذه النصوص تقترب من الأربعين عملًا فنيًا بين عامي وفصيح، بين ذاتي وموضوعي ووطني، وهو تنوع –لا شك- يؤكد تبنّي هذا الثنائي لمشروع تطوير كبير، قصرت به الأيام برحيل عملاق الأغنية الحضرمية الفنان محمد جمعة خان في (25 ديسمبر 1963م)، ولم يطل البقاء بعملاق الشعر الغنائي الحضرمي –آنئذ- فرحل بعد أن رثى توأمه الفني بقصيدة في حفل التأبين، الذي أقامته (الندوة الموسيقية الحضرمية) في المكلا يوم الثلاثاء 17 مارس 1964م -كما جاء في كتاب (محمد جمعة خان الأغنية الحضرمية الخالدة) للعزيز عزيز الثعالبي-؛ إذ قال البار فيها:
بيني وبينك يا صداح عاطفة *** ظللت في عمرك الغالي تنميها
نقية كسناء الفجر ملتمعًا *** أو كالحقيقة تعصي من يواريها
حشد من الذكريات الغر عز علي *** يد الحوادث أن تختان غاليها
كم ردد الليل من آهاتنا نفحًا *** سرى من النسمة السكرى يناغيها
كم زفرنا كقلب النجم خافقة *** أرواحنا.. والليالي أربد داجيها
وأنت تسكب في الأرواح صافية *** من راح فنّك .. يجلو الهمّ صافيها
إذا سرى الدّان مخمورا *** على جنان الخلد تأويها
تخال إحقاقنا من فرط نشوتنا *** دنيا مزوّقة .. خضرًا مراعيها
وإن تحدثت الأوتار خلت بنا *** أطياف مسّ .. ضمير الليل يخفيها
هذا الفقد الروحي الذي عاشه الشاعر الكبير حسين محمد البار يوحي بمدى تعلقه بهذا الصوت الغنائي، ومدى إحساسه بقيمته النفسية والروحية له في مشوار عطائه المتعدد والمتنوع والثري، ويبدو أن الغناء والفن بعمومه صار جزءًا مهمًا من مكونات شاعرية وشعرية الشاعر البار، وقد كان رحيله بعد غياب فنانه بعامين أو يقل عنها قليلًا في 25 من مارس 1965م.
ومن هذه الروائع الغنائية العامية : (حبيب طابت لنا، نادت عيوني عيونه، غابت وخلي مساهنا، ويا خامر البنّه) وهي من ألحان عازف الرّق المبدع بكّار سعيد باهيّال، و(وبغية القلب والخاطر إذا نلت المطلوب، ونا وخلي تراضينا ، ويا نوب وين الجنا ، ويا راد يا عوّاد، ويا قمري البان، ويا زهرة في الربيع، وهيضن قلبي خضيرات الوشام، ويا حبيبي رحم، حبيب القلب حبيته، وقمري البان انسي معك طاب)، أما روائع الفصحى فمنها: (حنانيك يا من سكنت الحنايا، وثورة أو يا من على البعد أهواها وتهواني، ومدلهتي، وبعد الوداع أو دمي يوم بعدك أضحى مارقًا)، إلى جانب غيرها من النصوص المغنّاة التي نحت منحى عروبيًا وطنيًا، مثل: (تحيا العروبة يا جمال، وتحية للمناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد)، وبذلك انفتحت هذه التجربة الثنائية الثرية على كل قضايا المجتمع والوطن العربي الكبير، وغدت ترجمة حقيقة لنهضة ثقافية وفنية ومجتمعية شاملة.