نقاش
د. صادق عمر مكنون
المقدمة:
الدكتور عبدالقادر علي باعيسى أديب، وشاعر، وناقد أدبي، وله كتب وكتابات ومشاركات ثقافية متميزة، وتجمعني به زمالة دراسة وصداقة قديمة ومستمرة.
قدم د. عبدالقادر باعيسى هذا البحث في مؤتمر (التاريخ والمؤرخون الحضارمة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين…). الذي نظمه (مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر)، وقد أوكلت إليَّ إدارة الجلسة التي قدم فيها د. باعيسى ملخص بحثه، وبعد انتهائه من قراءة الملخص، أبديت بعض الملاحظات المنهجية على ملخص البحث. ثم نشر البحث في مجلة (حضرموت الثقافية))[1](، واطلعت عليه بعد مدة من صدوره وقرأته مرات عدة لعلي أجد مسوغات لبعض الأخطاء المنهجية، لكن في النهاية رأيت أنه لا بد من إبداء بعض الملاحظات إتمامًا للفائدة من هذا البحث.
قسمت الملاحظات على جزئين: ملاحظات منهجية عامة، ومع أن د. باعيسى لم يفصح عن المنهج الذي استخدمه في كتابة بحثه، إلا أنه طالب في افتتاحية مجلة (حضرموت الثقافية)، العدد (الخامس عشر) بقراءات للتاريخ وفقًا لتحليلات مناهج الحداثة وما بعد الحداثة، ويبدو أنه بهذا يرد على الملاحظات المنهجية على البحث التي أبديتها وأبداها آخرون([2]). لهذا رأيت أنه يلزم عليَّ أن أستعرض بإيجاز شديد منهج ما بعد الحداثة لمعرفة مدى استخدام د. باعيسى لهذا المنهج. والجزء الثاني ملاحظات على ما جاء في متن البحث من معلومات، وتحليلات، وتعليلات.
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 18 .. ص 25
رابط العدد 18 : اضغط هنا
أولًا: الملاحظات المنهجية:
المتأمل في تاريخ الفكر الغربي منذ بداية عصر النهضة وحتى منتصف القرن العشرين يلاحظ أن هناك مراحل محددة حكمت تطور هذا الفكر، حددها ميشيل فوكوM. Foucault (1926- 1983م)، أحد فلاسفة ما بعد الحداثة بثلاثة عصور: أول هذه العصور “عصر النهضة” الذي استمر من القرن السادس عشر إلى منتصف السابع عشر، وثانيها هو “العصر الكلاسيكي”، وثالثها هو “العصر الحديث”، الذي يبدأ مع مطلع القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين. هذه المراحل الثلاث التي مر بها الفكر الغربي يضمها مصطلح “الحداثة”، وتتسم جميعها بمعالم حددت موقف الإنسان في الغرب من المعرفة والعلم والوجود)[3](.
بدأت ثقافة ما بعد الحداثة من سبعينيات القرن العشرين نتيجة التحول التاريخي الذي شهده الغرب بعد حربين عالميتين مدمرتين، وظهور خطر الفناء النووي، بالتحول إلى شكل جديد من الرأسمالية؛ المتمثل في عالم التكنولوجيا والنزعة الاستهلاكية، وصناعة الثقافة، والذي يتصف أنه عالم سريع التبدد والزوال، بعيد عن التمركز، انتصرت فيه صناعات الخدمات والمال والمعلومات والاتصالات على المصنع التقليدي)[4](. وبوجود المناخ النظري الملائم لها من خلال أعمال رولان بارتR. Barthes (1915- 1980م)، وميشيل فوكو وجيل دولوز G. Deluez (1925- 1995م)، وجاك دريدا (1930- 2004م)، وجاك لاكان J. Lacan (1901- 1981م) وغيرهم)[5](.
ويطلق البعض على ما بعد الحداثة ما بعد البنيوية أو التفكيكية، وهناك اتجاه آخر يطلق عليه ما بعد الكولونيالية للفيلسوف الأمريكي الفلسطيني إدوارد سعيد، والفيلسوف البريطاني الهندي هومي بابا.
ما بعد الحداثة هو أسلوب فكري يشكك في المفهومات التقليدية للحقيقة، والعقل، والهوية، والموضوعية، والتقدم، والسرديات الكبرى)[6]( أو الأسس النهائية للتفسير. وهو يرى العالم بخلاف معايير التنوير والحداثة، بوصفه طارئًا عرضيًا بلا أساس ثابت، متباينًا، غير مستقر)[7](.
تبنت ما بعد الحداثة خطابًا رافضًا الكلي ومكرِّسًا النسبي واليومي مقابل الحتمي التاريخي، متحررًا من الزمن الخطي، وهادمًا التمايزات بين الاجتماعي والثقافي، وداحضًا ومهمِّشًا الحدود الفاصلة بين حقول المعرفة)[8](.
“يرى دعاة ما بعد الحداثة أن العقل والحقيقة ليسا غير وهمين. فالنظريات العلمية هي منظورات تعبر عن مصالح اجتماعية خاصة كما قال فوكو: إن »إرادة المعرفة هي مجرد شكل واحد من أشكال إرادة السلطة«… وتبنى الفيلسوف الفرنسي “جان ليوتار”J. Lyotard (1924- 1998م) هذه الفكرة وذهب إلى أن المعرفة في »الوضع بعد الحداثي” تتخذ شكلًا مجزأ بشكل متزايد، متخلية عن كل دعاوي الحقيقة أو المعقولية«)[9](.
»ويمكننا أن نصف ما بعد الحداثة بأنها حالة من التعددية المفرطة التي تؤدي إلى اختفاء المركز، وتساوي كل الأشياء وسقوطها في قبضة الصيرورة، بحيث لا يبقى شيء متجاوز لقانون الحركة (المادية والتاريخية)، فتصبح كل الأمور نسبية وتغيب المرجعية والمعيارية، بل ويختفي مفهوم الإنسانية المشتركة (باعتباره معيارية أخيرة ونهائية). وتفسد اللغة كأداة للتواصل بين البشر، وينفصل الدال عن المدلول، وتطفو الدوال وتتراقص دون منطق واضح فيما يطلق عليه “رقص الدوال”، وتختفي فكرة الكل تمامًا. ما بعد الحداثة تعبير عن انتقال الفكر الغربي من مرحلة الثنائية الصلبة… إلى مرحلة السيولة حيث يختفي المركز تمامًا«)[10](.
لقد أسس رولان بارت قواعد جديدة للتعامل مع النص الأدبي، محل القواعد التي كان معمولًا بها من قبل في حقل النقد الأدبي. ويرى بارت أن نسبة النص إلى مؤلفه معناه إيقاف النص وحصره وإعطاؤه مدلولًا نهائيًا، إنه إغلاق للكتابة)[11](.
»لقد وجد بارت “أن ميلاد القارئ رهين بإعلان موت المؤلف”، وللقارئ الحرية الكاملة في تأويل النصوص حتى لو جاوز البنية الدلالية الواضحة للنص، لذلك فإن وظيفة القارئ إغلاق النص دون ذات المؤلف، وانفتاحه على موضوعه وفضائه الدلالي«)[12](.
طور التفكيكيون وعلى رأسهم جاك دريدا مبدأ انتفاء قصدية المؤلف إلى فوضى التفسير المتمرد على فضاء التأويل »فقصد المؤلف غير موجود في النص والنص نفسه لا وجود له، وفي وجود ذلك الفراغ الجديد الذي جاء مع موت المؤلف وغياب النص تصبح قراءة القارئ هي الحضور الوحيد، لا يوجد نص مغلق ولا قراءة نهائية، بل توجد نصوص بعدد قراءة النص الواحد، ومن ثم تصبح كل قراءة نصًا جديدًا مبدعًا«)[13](. إن حقيقة ما بعد الحداثة الأكثر بروزًا هي قبولها الكامل للَّحظي المتشظي والمتقطع والفوضوي. ويستند مفهوم التشظي عند فلاسفة ما بعد الحداثة على تصورهم للتاريخ بوصفه مكونًا من لحظات منفصلة غير مترابطة… استنادًا لعدم إيمانهم بفكرة التقدم الخطي للتاريخ)[14](.
يشكك ما بعد الحداثيين في كون التاريخ علم، ويرون أن أفضل نظرة إلى التاريخ من الناحية المعرفية أن تراه شكلًا من أشكال الأدب، ينتج المعرفة بواسطة البنية السردية أو الجمالية)[15](. ويرون أن »النظر إلى التاريخ باعتباره حرفة أدبية اعتراف بأهمية المشروع السردي في حياتنا بقدر ما كان مهمًا في الماضي«)[16](.
ويرى هايدن هوايت Hayden W أحد فلاسفة ما بعد الحداثة، أنه يجب أن يُفهم التاريخ بـ»أنه مثل الرسم أكثر منه محاكاة بإعادة بناء الماضي وهو تقدير جمالي لعالم مضى وليس استعادة لحقيقة ضائعة من المصادر المؤلفة من بيانات مفردة عن حقيقة الماضي«)[17](.
ويعترض المؤرخ البريطاني هرنشو F.Hearnshaw على مثل هذا الطرح. فهو يرى أنه على الرغم من أننا لا يمكننا أن نستخلص من دراسة التاريخ قوانين علمية ثابتة على غرار ما هو كائن في العلوم الطبيعية، فإن هذا لا يجوز تجريد التاريخ من صفة العلم. وهو يرى أن التاريخ ليس علم تجربة واختبار، ولكنه علم نقد وتحقيق)[18](.
ويستخدم دعاة ما بعد الحداثة كلمة سردية (قصة) بدلًا من كلمة “رؤية” أو “نظرية”؛ لأن الرؤية والنظرية إذا كانت مجرد قصة، فهي إذن نسبية ولا تشير إلى ما هو خارجها (تمامًا مثل النظام اللغوي). فكل النظريات قصص، ومن ثم فالحقيقة الدينية بل الإنسانية غير ممكنة، والمعرفة أمر غير وارد ولا يوجد أساس لكتابة تاريخ عام، ولا توجد نظرية للكون، ولا توجد حدود إنسانية شاملة مشتركة. والمعرفة كلها مرتبطة بمواقع محلية مختلفة داخل إطار لغوي وتفسيري خاص، ولا يبقى أمامنا سوى القصص الصغرى التي لا تتجاوز شرعيتها ذاتها)[19](.
»هذه الروح المتمردة على كل ما هو متصل وثابت تقف موقفًا مماثلًا أمام استخدام المنهج في الفلسفة “إن كلمة منهج كلمة رديئة”. فالمنهج ذو قوالب ثابتة تقف عثرةً أمام كل تغيير وصيرورة… حتى تفكيكية دريدا ليست منهجًا وإنما هي ممارسة على النصوص والظواهر«)[20](.
رغم أن إدوارد سعيد يعد من منسوبي فلسفة ما بعد الحداثة، فإنه ينتقد تفكيكية دريدا التشكيكية الفوضوية، ويتبنى التفكيكية المنهجية)[21](. وهو يختلف مع مشيل فوكو في أنه يعتقد »اعتقادًا راسخًا أن كل مؤلف فرد يكسب عمله طابعه الذي يحدد طابع النص ولولا ذلك لأصبحت لدينا مجموعة “جماعية” مجهولة المؤلف من النصوص التي تمثل الاستشراق أو غيره من “التشكيلات” الحافلة بالاستطرادات«)[22](.
وظهر في الغرب تيار مناهض لتيار ما بعد الحداثة، من أهم من يمثل هذا التيار الفيلسوف الألماني يورجين هابر ماس J.Habermas، ومجموعة من النقاد الماركسيين من أمثال البريطاني ديفيد هارفي D.Harvey )[23](.
وهناك مجموعة من المفكرين العرب ينتقدون تحيز المنهج التفكيكي وعدميته، ويؤكدون على الأسس اليهودية للتفكيكية؛ من أهمهم عبدالوهاب المسيري، وأمينة غصن، وأسامة خليل، وسعد البازعي)[24](.
وقد حاول د. عبدالوهاب المسيري في الموسوعة اليهودية إثبات التأثير المتبادل بين العقيدة اليهودية وفلسفة ما بعد الحداثة. وقد أفرد لهذا الموضوع فصلًا خاصًا في (ثلاثين صفحة) في (الجزء الثالث) من (المجلد الخامس) من (الموسوعة اليهودية)، تحت عنوان (اليهودية وأعضاء الجامعات اليهودية وما بعد الحداثة))[25](.
أما البازعي فيرى أن التفكيك يعبر عن إشكالية حضارية، ويؤكد أن التفكيكيين هم أشد مفكري الغرب ونقادهم المعاصرين وعيًا بإشكالاتهم الحضارية، ومن ضمنها تحيزاتهم وأسباب تفكيكهم. ويعرض شهادة الناقد التفكيكي الأمريكي ج هيلز ميلر J.Hillis M.iller الذي يقول: لقد فكرت في السبب الذي يجعل أمريكيا ( بخلفيتي البروتستانية) ينجذب إلى دريدا مثلًا، وأعتقد أنني توصلت إلى الجواب فهناك شبه بين أحد أوجه البروتستانية والتراث اليهودي. والبازعي يرى أن هذا أبلغ الشهادات على تحيزات مناهج الفكر النقدية الغربية)[26](.
ويرى بعضهم أنه يجب علينا »أن نقرأ ما بعد الحداثة في ضوء مبررات ولادتها في أرضها الأم بوصفها انعكاسًا [للظروف والمتغيرات] (الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية) في المجتمعات الغربية، وهو ما يكرس خصوصية الظاهرة بحكم نشأتها في الغرب تحديدًا… ويجب إذًا النظر إلى تلك الثقافة باعتبارها نتيجة طبيعية لما مر به الغرب من تناقضات وانقسامات في الأيديولوجيا الحداثية، ولا سيما علاقة المركز بالهامش وما نشأ عنها من قيم الاستغلال والاستعمار وغياب المساواة«)[27](.
رغم الخصوصية الغربية لتيار ما بعد الحداثة، وبعيدًا عن خلفيته الفلسفية، وبعيدًا عن القراءة التفكيكية الهدمية التي تقرأ النص لتهدمه وتأتي قراءة أخرى لتهدم المهدوم وهكذا إلى ما لا نهاية، وبعيدًا عن هدم الهويات في الفلسفة ما بعد الحداثية في ظل تغول الهويات الغربية الرأسمالية أو غيرها، فإنه يمكن الاستفادة من بعض الأساليب والتقنيات التحليلية لتيار ما بعد الحداثة، وخاصة في مجال تحليل النصوص الأدبية والفن. وعلى سبيل المثال يمكن الاستفادة من مفهوم الهجنة/ التوليد/ في الثقافات والهويات عند كل من إدوارد سعيد وهومي بابا. فالثقافات في نظر سعيد كلها هجينة، وبمقدار هجينتها يكون ثرائها)[28](. يرى كل من سعيد وهومي أن محاولة الدول الاستعمارية فرض هيمنتها على الشعوب المستعمرة في مناحي الحياة كافة ومقاومة هذه الشعوب لهذه الهيمنة أدى إلى كسر الهويات المتصلبة وتفتيتها، وأوجد علاقات تبادل ثقافية بين هذه الشعوب، وهو ما أطلقا عليها مفهوم هجينة)[29](.
ومع تحفظنا على حالة السيولة في مفهوم الهجنة عند إدوارد سعيد وهومي بابا، فإنه يمكن تطبيق مفهوم الهجنة بالمعنى الصحيح للتبادل الثقافي الحر والاختياري، على الأثر الحضرمي في المهجر، ويمكن دراسة عملية التبادل هذه في مناحي الحياة كافة والهوية الهجينة مع شعوب مناطق المهجر)[30](. كما أنه يمكن دراسة الإنتاج العلمي والأدبي لكثير من العلماء والأدباء الحضارمة في أرض الوطن والمهجر وفقًا لمفهوم الهجنة المنضبط، بما في ذلك الإنتاج العلمي للسيد محمد أبو بكر الشلي.
مما سبق وبالقراءة المعمقة للبحث، يتضح لنا أن د. باعيسى أخذ عن فلسفة ما بعد الحداثة عدم الالتزام بمناهج البحث العلمي، وفي الوقت نفسه ناقض أسس التحليل ما بعد الحداثي للأسباب الآتية:
1- حضور مؤلف (المشرع الروي) عند تحليله للنص، رغم أنه حضور مجتزأ وانتقائي، لكنه يتنافى مع أهم مبدأ للتحليل ما بعد الحداثي وهو موت المؤلف.
2- وجود الفكرة المسبقة التي تسيطر على البحث من بدايته إلى نهايته -كما سنبين ذلك لاحقًا- وهذا يتنافى كذلك مع التحليل ما بعد الحداثي. ويرى البعض أن قول رولان بارت بموت المؤلف كان الهدف منه »ألا يتم التعامل مع النص الأدبي بفروض مسبقة عن الكاتب والمؤلف وعدم اتخاذ مواقف نفسية من المؤلف قبل الدخول إلى عالمه. أن الفرضية المسبقة تعني أن القارئ لدية فكرة ما يحاول إثباتها والتحقق منها من خلال تعامله مع النص الأدبي، هي أشبه بالنتيجة التي يحاول أن يستقي مقدماتها من داخل العمل«)[31](.
3- إصدار نتائج وأحكام نهائية؛ بوصفها حقائق توصل إليها الباحث، وهذا يتعارض مع أهم مفهومات ما بعد الحداثة.
ب – منهج البحث العلمي الأكاديمي:
بما أن د. باعيسى لم يلتزم بأسس فلسفة ما بعد الحداثة، فإننا سوف نضع ملاحظاتنا وفقًا لمناهج البحث العلمي الأكاديمي.
1. عنوان البحث:
عنوان البحث يدل على أن د. باعيسى سيقدم دراسة تحليلية لكتاب المشرع الروي، لكن القارئ للبحث يتفاجأ أن الدراسة التحليلية تقتصر على جزئية صغيرة من مادة الكتاب وهي كرامات الأولياء، وعليه فإن عنوان البحث لا يعبر عن متن البحث وهذا خطأ منهجي. كما أن العنوان لا يعبر عن مشكلة البحث. والقراءة المتعمقة للبحث تكتشف أن مشكلة البحث عند الباحث اجتماعية وليست تاريخية أو معرفية. ويمكن أن تحدد في السؤالين الآتيين: كيف حصل آل باعلوي على المكانة الاجتماعية في مجتمع حضرموت؟ وكيف حافظوا عليها؟
ومن خلال السياق العام للبحث يتضح أن الفرضية الوحيدة لحل هذه الإشكالية موجودة مسبقًا عند الباحث، حاول أن يثبتها من خلال كتاب المشرع الروي، كما سنبين ذلك لاحقًا.
2. منهج البحث:
عنوان البحث يدل على أن الباحث استخدم منهج البحث التحليلي لدراسة الكتاب. ولكي نتعرف على مدى استخدام الباحث هذا المنهج، نستعرض بإيجاز مفهوم هذا المنهج عند علماء مناهج البحث العلمي، ومدى استخدام د. باعيسى لهذا المنهج.
3. التحليل عند علماء مناهج البحث العلمي:
أريد بالتحليل عند علماء مناهج البحث العلمي، بحث الفكرة أو الظاهرة بحثًا تأمليًا يستوعب كل الأطراف والشؤون، وعميقًا ينفذ إلى كل الزوايا ليكتشف الخبايا العلمية فيها)[32](.
وعندما نتحدث عن التحليل فهذا يعني الآتي:
أ- حصر جميع جزئيات المادة العلمية المطلوبة للدراسة: السلبيات والإيجابيات، والظاهر منها تلقائيًا أو ما يحتاج منها الإظهار…
ب- تصنيف هذه الجزئيات إلى أصناف حسب طبيعة الدراسة، وهدفها الرئيس أو أهدافها…
ج- ترتيب هذه الأصناف وتنظيمها بحيث يؤدي إلى تحديث اتجاه محدد أو اتجاهات محددة ذات دلالات خاصة. فالترتيب والتنظيم قد يعني بيان غلبة سمة على سمات أخرى (مثلًا الإيجابيات أكثر من السلبيات). فالترتيب هو الذي يقود إلى الخلاصة العامةلمجموعة من الفقرات أو المباحث أو الفصول)[33](.
إن استخدام المنهج التحليلي يقترن في الغالب بالمنهج الوصفي والمنهجين الاستقرائيوالاستنباطي)[34](.
كل من اطلع على كتاب (المشرع الروي) سيجد أن د. باعيسى لم يستقرئ كل جزئيات الكتاب الذي يريد تحليله، بل لم يستقرئ كل ما ورد في الكتاب عن الجزئية التي ركز عليها في تحليله؛ وهي كرامات الأولياء، وهذا خطأ منهجي يؤدي إلى الخلوص إلى نتائج خاطئة.
يقول د. حسن عثمان: »ينبغي أن نلاحظ أن من يقرأ نصًا تاريخيًا ولا يوجه عنايته الأساسية إلى فهم محتوياته، من المؤكد أنه سيفسر بعض نواح منه بناءً على تصوره مما قد لا ينطبق على الواقع التاريخي. فقد يجد عبارات أو كلمات توافق آراءه وتصوره للحوادث، فيستخرج هذه العبارات دون وعي منه، ويجعل منها نصًا خياليًا ومفتعلًا، ويضعه في موضع النص التاريخي الحقيقي الذي لم يتمكن من الوصول إليه«)[35](.
إن تركيز د. باعيسي على جزئيات من الجزئية التي انتقاها من كتاب المشرع الروي، يدل على أن لديه فكرة مسبقة يريد أن يجد لها دليلًا من هذا الكتاب، وهو خطأ منهجي كبير. يقول د. حسن عثمان: »بعض الباحثين في التاريخ يقومون ببحثهم وهم تسيطر عليهم فكرة معينة عن حادث ما أو عن اتجاه خاص في الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الدينية… ويدرسون تحت تأثيرها الأصول التاريخية التي تقع تحت أيديهم، وبذلك ربما يفهمون هذه الأصول فهما خاطئًا أو لا يفهمونها على الإطلاق… وبذلك يتكيف النص التاريخي ويتشكل بحسب الفكرة المسيطرة على ذهن الباحث، وقد يظن الباحث أنه يخضع النص لفكرته الخاصة على حسب الحقيقة التاريخية، ويأخذ الحادث التاريخي اللون والتفسير والمدلول الملائم الذي يريده له عقل الباحث«)[36](.
نجد أن د. باعيسى استخدم كليات عامةً وطبقها على تفصيلات جزئية، كما أنه بنى اجتهاده على جزئية مستقلة عن المعلومات الواردة في الكتاب وعن سياقها المعرفي والتاريخي. و»لكي يستخدم الباحث في التاريخ كليةً عامةً ويطبقها على التفصيلات الجزئية ينبغي أن يكون وطيد المعرفة بالمسألة التاريخية المعينة… كما أن من الخطأ أن يبني الباحث في التاريخ اجتهاده على تفصيل جزئي مستقل بذاته دون أن يدرس كل ظروفه المتعلقة به…«)[37](.
وكما بينا سابقًا إن مشكلة البحث عند د. باعيسى اجتماعية، وهي كما يبدو تستند إلى تصورات واتجاهات عامة. »وهناك ميل طبيعي يجعل اجتهاد الباحث قائمًا على أساس الاتجاهات العامة التي يقبلها العقل، والتي تكون مستمدة من معلومات الإنسان العامة عنالحياة الاجتماعية… وقد يستخدم الباحث في التاريخ اتجاهات علم الاجتماع على غير تثبت منه… وكذلك يوجد اتجاه طبيعي آخر، يدفع الباحث إلى أن يستخلص نتائج معينةً من وقائع مفردة، ربما تكون قليلة الأهمية أو ربما لا تنطبق -على الأقل- على ما يذهب الباحث إلى استخلاصه… وعلى الباحث أن لا يستخلص من النتائج إلا ما تتوفر لديه بشأنها الأدلة والبراهين الكافية«)[38](.
وعليه فإن د. باعيسى خالف في تحليله أسس منهج التحليل العلمي، والتي سوف نبينها في ملاحظاتنا على متن البحث.
ثانيًا: ملاحظات على متن البحث:
يصدمك د. باعيسى من البداية ودون مقدمات بوصفه اليقيني للكتاب أنه »كتاب يقوم على الغيبيات التي تحضر في أذهان المؤمنين بها«)[39](. ويدخل إلى موضوع الكرامات دون مقدمات ليفرض على القارئ من البداية التصورات والانطباعات المسبقة التي لديه عن الكتاب.
إن وصف الكتاب أنه يقوم على الغيبيات بالمعنى السلبي لمجرد ذكره للكرامات، يمكن أن نقول عنه في أحسن الأحوال إنه وصف غير موفق؛ لأن الكتب التي تتناول الموضوعات الدينيّة في تخصصاتها المختلفة بما فيها كتب تراجم علماء الدين، لا تخلو من ذكر الغيب (الله، الملائكة، الجنة، النار، وكل أمور الآخرة، والمعجزات والكرامات… إلخ). ولا يمكن أن نَسِمَ شيئًا ما بوصف معين إلا إذا غلب عليه هذا الوصف. فكتب العقائد يمكن أن نصفها بأنها كتب قائمة على الغيبيات، بمعنى أن غالب مجال بحثها هي قضايا غيبية، أما كتب الفقه والسير والتراجم والتاريخ العام فلا يمكن أن نصفها بذلك الوصف، وإن ذكرت فيها أمور غيبية؛ لأنها ليست غالبةً، فلا يمكن على سبيل المثال أن نصف كتابًا في جغرافيا بأنه كتاب رياضيات؛ لمجرد وجود أرقام إحصائية، وعمليات حسابية وردت فيه.
ينقل د. باعيسى العبارة الآتية: »الكتاب لا يشكل بنية مستقلة بذاتها، وإنما هو جزء من بنية مندمجة في منظومة نسقية زمنية وتراثية سابقة عليه«)[40](. ويبدو أنه يقصد من تلك العبارة المصادر التي أخذ عنها السيد الشلي معلوماته؛ لأنه بنى تحليلاته عن الكتاب خارج المنظومة النسقية الزمنية والتراثية لحضرموت، وحصره في منظومة خاصة بآل باعلوي، ولكن الحقيقة الموضوعية لكل مستقرئ للواقع أن آل باعلوي ليسوا الوحيدين في حضرموت من كتب تراجم لعلمائهم وصلحائهم سواء في عصر الشلي أو قبله أو بعده، فكثير من الأسر الحضرمية كتبت تراجم علمائها وصلحائها، وذكرت فيها كراماتهم، منها على سبيل المثال لا الحصر:
كما أن بعض كتب تراجم آل آبي علوي كتبها علماء من غير آل أبي علوي، على سبيل المثال: للشيخ عبدالرحمن بن علي بن حسان كتاب في تراجم آل باعلوي وآل باعباد، وللفقيه عبدالله بن عبدالرحمن باوزير كتاب سماه (التحفة النورانية))[41](. وألف الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخطيب، الجوهر الشفاف في مناقب السادة الاشراف، وألف العلامة الشيخ محمد عمر بحرق كتاب في مناقب العيدروس، وهؤلاء كلهم فقهاء من كبار علماء حضرموت. وفي العصر الحاضر نجد كثيرًا من الأسر والقبائل الحضرمية تنشر تراجم صلحائها وأعيانها في كتب وموسوعات. فالأمر لا يقتصر على آل باعلوي.
إن كل تحليلات د. باعيسى التي بناها على أساس أن هذا النوع من كتب التراجم لآل باعلوي فقط، كتبت بهدف التسييد وفرض السيطرة، ثبت خطأها أمام ما نشر من كتب التراجم لأسر من غير آل أبي علوي. وكتاب المشرع الروي وكتب التراجم الأخرى في حضرموت تتوافق مع السياق المعرفي للعالم الإسلامي.
وعليه فإن ما ذكره د. باعيسى من أن الكتاب »يقوم على شكل من أشكال إبراز(الأنا) الاجتماعي… إلخ«)[42](. »ونوع من التمركز حول الذات«)[43](. ينطبق على كل الأسر والقبائل التي كتبت تراجم وموسوعات لأعيانها، وليس على آل باعلوي فقط بحسب تحليله، بصرف النظر عن مدى صحة هذا التحليل.
إن القراءة الموضوعية العلمية تفيد أن كتاب (المشرع الروي)، هو كتاب تراجم على نسق كتب التراجم في حضرموت والعالم الإسلامي. الجزء الأول منه يشتمل على موضوعات مختلفة، من التعريف بآل البيت ومكانتهم عند علماء الإسلام، وقضايا تاريخية فيما جرى بين المسلمين بعد وفاة الرسول كما وردت في مصادر أهل السنة والجماعة، وموضوعات في تاريخ حضرموت وخاصةً تاريخ مدينة تريم ومكانتها العلمية. كما تطرق إلى بعض القضايا الفقهية العلمية ومن ضمنها موضوع الكرامات. وقد شملت هذه الموضوعات ثلاثة أرباع الجزء الأول، والربع الأخير منه بدأ بالتراجم، والجزء الثاني خصص أغلبه لتراجم آل أبي علوي.
ومنهجه في كتابة الترجمة يبدأ بذكر مكان الميلاد وتاريخه والوفاة للمترجم له، ثم حياته العلمية من بداية طلبه للعلم بحفظ القرآن الكريم في تريم »استخدم لهم صياغةً واحدةً مسجوعة بقوله: (ولد بتريم وحفظ القرآن العظيم)«)[44](، ثم يذكر تتلمذ المترجم له على يد المشايخ في العلوم المختلفة في اللغة والفقه وعلوم القرآن والحديث والتصوف، ينتقل بعد ذلك إلى ذكر رحلاته الداخلية والخارجية لطلب العلم إلى ساحل حضرموت وعدن وتهامة والحجاز وبعضهم إلى العراق ومصر والهند، ثم ذكر من أخذوا عنه وتتلمذوا على يديه. ثم يتطرق إلى ذِكر آثاره الاجتماعية والعلمية، والوظائف التي تقلدها إذا وجدت خاصةً في مجال القضاء والتعليم، وأحيانًا يتطرق إلى بعض الأحداث التاريخية التي حدثت في عصر المترجم له، وقد يتناول بعض القضايا الفقهية، ويذكر بعد ذلك لبعضهم الكرامات التي حدثت لهم إذا اشتهرت عنهم وهي قليلة، فنسبة ذكر الكرامات إلى غيرها من المعلومات عن حياة المترجم لهم ضئيلة جدًّا. وعدد من ترجم لهم بلغ مائتين وأربعة وثمانين (284) ذكر لمائة وأربعة (104) منهم كرامات بينما لم يذكر أية كرامة لمئة وثمانين (180) منهم)[45](. يقول د. محمد عبدالنور: »لم يكن المؤلف (يقصد الشلي) مكثرًا من إيراد كرامات المترجم له، كما يفعل من سبقوه، فقد ذكر القليل منها، وأشار بالإجمال لغيرها دون ذكرها«)[46](.
ويصف الباحث السعودي د. بندر الهمزاني كتاب المشرع الروي بقوله: »إن الكتاب يعد موسوعةً علميةً تاريخيةً للدارس في تاريخ اليمن من حيث تراجم أهلها، ودراسة حضارية وتاريخية لمدنه ووصفها، وما بها من مدارس ومساجد وأودية وقبور وشعاب. فهو عند ترجمته لشخص ما يعرض لنا وصفًا للمدينة التي عاش فيها، وأهم ما جرى بها من أحداث سياسية تاريخية، كما أننا نجده لا يغفل الجانب الحضاري فيصف لنا ما بهذه المدن من عمارات ومنشآت دينية ومدنية وعسكرية، كما أن الدارس للكتاب يستفيد كثيرًا فيما يتعلق بالحياة الثقافية والعلمية«)[47](. ويقول أيضًا: »إن الدارس لمنهجية المؤلف يتضح له أنه يسير على منهج من سبقه من كتاب ومؤلفي كتب التراجم«)[48](.
وعليه؛ فوصف د. باعيسى كتاب (المشرع الروي) بأنه كتاب يقوم على الغيبيات والكرامات وصف مبالغ فيه جدًا وغير دقيق.
ورغم أن د. باعيسى يقول: »إن الوظيفة التي يسعى إليها الكتاب كما يبدو هي تطهير الأخلاق وتزكية النفوس«)[49](، لكنه يناقض نفسه في كل مفاصل البحث فيجعل للكتاب وظيفةً تدميريةً وآثارًا مفصليةً في تشكيل الوعي السلبي في حضرموت، ويأتي بأوصاف تخيلية لا علاقة لها بما ورد في الكتاب هي من آثار الأفكار العامة المسبقة لديه ليصف الكتاب بقوله: »واللافت في هذا الكتاب قوة المنزع الوثوقي والإطلاقي الذي ينطلق منه المؤلف والذي يدل على لحظة من لحظات تشكل الوعي في حضرموت في مرحلة تاريخية معينة بحيث يبدو هذا الوعي الغيبي هو الموجه لكل القيم«)[50](. ليصل في ختام بحثه إلى نتيجة أنه كتاب »كان يعرف مساره وموقعه على مستوى الوعي الاجتماعي والنفساني في مجتمع تريم وترك أثرًا في ذلك الواقع مازال أثره واضحًا إلى يومنا هذا«)[51](.
هنا يقصد د. باعيسى أثر الكرامات التي ذكرها الشلي في كتابه، وهو وصف لأثر مبالغ فيه. فالغيب موجه للقيم في حضرموت منذ أن اعتنق أهل حضرموت الإسلام، وليس بعد صدور كتاب (المشرع الروي). وليثبت د. باعيسى الأثر السلبي للمشرع الروي في نشر الكرامة وإشاعتها، وهيمنة وعي التمركز حول الذات بحسب وصفه، نقل عن د. عبدالنور القول الذي نقله عن المؤرخ السيد محمد الشاطري، حين فرغ المؤلف (الشلي) من تبييض أول نسخة »تناقلها بعض النساخ… حتى لقد أشار عبدالله بن علوي بن محمد الحداد (ت1132هـ/ 1719م) على مريده أحمد بن زين الحبشي (ت 1144هـ)؛ بأن ينقل عن هذا الكتاب ويجمع فوائد منه، فامتثل لأمره. فكان حصيلة ذلك كتابه (المسلك السوي في جمع فوائد مهمة من المشرع الروي)«)[52](. ود. باعيسى يريد أن يقول إن آل باعلوي سارعوا إلى نشر الكرامات وإذاعتها، وهي التي ذكرها كتاب (المشرع الروي).
وهذا الرأي تنقضه الوقائع والحقائق؛ فالكتاب تم تأليفه في الحجاز فهو موجه لجمهور القراء في العالم الإسلامي، وليس للداخل الحضرمي التي تسود فيه البيئة القبلية الزراعية البسيطة بحسب وصف د. باعيسى، والذي تغلب عليها الأمية، وهو غير متيسر لكل القراء. لهذا أُلف كتاب (المسلك السوي).
والقارئ لكتاب (المسلك السوي) سيرى أن الحقيقة بخلاف ما قال به د. باعيسى. فكتاب (المسلك السوي في جمع فوائد مهمة من المشرع الروي)، الذي ألفه الحبيب أحمد بن زين الحبشي بإشارة من الحبيب عبدالله بن علوي الحداد هو كتاب فوائد مختصر، جمع فيه فوائد علميةً وتراجميةً موجزةً، واستبعد ذكر الكرامات منه؛ فلم تذكر الكرامات فيه إطلاقًا؛ بل إنه عقب واستدرك على صاحب المشرع في بعض المعلومات)[53](.
أما المؤلف السيد محمد بن أبي بكر الشلي فقد قدمه د. باعيسى بصورة مشوهة، أعطت للقارئ تصورًا سلبيًا عنه. فصوره وكأنه ليس لديه من العلم إلا الاطلاع على الكرامات وأمجاد أجداده العلويين. فهو لم يعط للقارئ نبذةً عن المؤلف مع أن السيد الشلي قد كتب نبذةً عن حياته في المشرع الروي.
فتحت عنوان (الكتاب انطلاقًا من الشلي) يصف د. باعيسى الشلي أنه »قرأ كثيرًا من تلك الكرامات واستمع إليها بحواسه وروحه…«)[54](. ثم ينطلق في وصف أثر الكرامات ومحاولات آل باعلوي استغلالها ومحاولة »السيطرة على المجتمع باسم الصالحين مما أوضح نوعًا من علاقات السيادة المحاولة فرضها بالدعاية وإبراز الأبهة، والمبنية على الاتباع، وتقديم فروض الولاء«)[55](. فيصور السيد الشلي أنه أحد أبواق الدعاية والتحريض لنشر حكايات الكرامات.
ويبدو لي أن د. باعيسى لم يستقرئ كل جزئيات الكتاب؛ لأنه لو استقرأها لوجد أن السيد محمد الشلي يقلل من شأن الكرامة فهو يقول: »إن كثيرًا من آل باعلوي [يقصد صالحيهم] ظهرت عليهم من الكرامات والمكاشفات الدالة على ولايتهم ما يكاد يبلغ حد التواتر، وليس ذو الكرامة أفضل من غيرهم على الإطلاق بل قد تنبيء الكرامة عن ضعف يقين أو همة فتعجل لمن أريد به عنايةً حتى يزول عنه ذينك أو أحدهما بل قد تقع الكرامة لمحب أو زاهد ولا تقع لعارف مع أن المعرفة أفضل من المحبة عند الكثيرين وأفضل من الزهد عند الكل [يقصد العلماء]… ولهذا ما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم إلا القليل، ونقل عن المتأخرين والمشايخ الصادقين أكثر من ذلك… «)[56](.
وهو في هذا يتوافق مع ما ذكره ابن تيمية الذي يقول: »ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه منها ما يقوي إيمانه، ويسد حاجته، ويكون من هو أكمل ولايةً لله منه مستغنيًا عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها لا لنقص ولايته، ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة، بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدي الخلق ولحاجتهم فهؤلاء أعظم درجة«)[57](.
كما أن د. باعيسى لم يقرأ رأي السيد الشلي عن وجوب ترك الفخر بالآباء والأحساب والذي أفرد له عنوانًا خاصًا أورد فيه الآيات والأحاديث الحاثة على ذلك)[58](.
كما أن السيد الشلي عند حديثه عن المقابر لم يقتصر حديثه على قبور آل أبي علوي؛ بل شمل غيرهم، والحادثة التي اتخذها د. باعيسى مرتكزًا لتحليلاته في قضية تواصل الأحياء بالأموات، والتي أوردها السيد الشلي في كتابه، وهي حكاية الشيخ سعيد الذي قرأ سورة هود وأجابه من القبر العارف بالله أحمد بن محمد بافضل هي حادثة بين شخصيتين من غير آل أبي علوي بنى عليها د. باعيسى تأويلاته وتحليلاته التي أسقطها على آل باعلوي. وعليه فالذين اتصلوا بالعالم الآخر »أصبحوا مصدرًا أسمى لكل حقيقة ولكل معرفة، وصاروا عبرةً للمجتمع«)[59](، هم ليسوا من بني علوي. والسيد الشلي ذكر كثيرًا من فضائل علماء وقضاة من غير آل أبي علوي ومكارمهم منهم على سبيل المثال القاضي أحمد باعيسى قال عنه: »… ثم بقية الأولياء والصالحين كالقاضي أحمد بن محمد باعيسى (حكي عنه) أنه قال من زارني بنية صادقة وطلب حاجةً ضمنت له قضاءها أو كما قال رضي الله تعالى عنه«)[60](.
أعطى د. باعيسى لإيراد لفظة “الكرام” في العنوان مدلولًا مبالغًا فيه. يقول: »فتضخيم الصفات في الكتاب الذي بدأها من مضاعفة دلالة العنوان التعبيرية بزيادة لفظة (الكرام) إلى ( السادة) (في مناقب السادة الكرام) يحيل إلى تفخيم مقصود…«)[61](.
من يقرأ مقدمة المؤلف لكتاب (المشرع الروي) يكتشف أن العنوان الذي وضعه المؤلف لكتابه لم يضف إليه (السادة الكرام)، يقول السيد الشلي: »سميته (المشرع الروي في مناقب بني علوي)«)[62](.
ويبدو أن النساخ هم من أضاف لفظة (السادة) ولفظة (الكرام) بدليل أن النسخة التي نقل منها الحبيب أحمد بن زين الحبشي في كتابه (المسلك السوي في جمع فوائد مهمة من المشرع الروي) كانت بعنوان (المشرع الروي في مناقب السادة بني علوي))[63]( بدون لفظة (الكرام).
وعليه فإن هذا التفخيم الذي بنى عليه د. باعيسى تحليله غير مقصود من السيد الشلي، وبالتالي فاستنتاجات د. باعيسى غير صحيحة.
وألفاظ التفخيم للمترجم لهم التي وردت في (المشرع) هو أسلوب لغوي معتاد في سياقه الزمني، ومتبع عند أغلب الكتاب في العصور الإسلامية السابقة، وفي كتب التراجم الإسلامية والحضرمية وليس خاصًا بكتاب (المشرع الروي).
على سبيل المثال نجد ابن تيمية يصف أئمة الصوفية بقوله: »إنهم مشائخ الإسلام وأئمة الهدى الذي جعل الله تعالى لهم لسان صدق في الأمة…«، وذكر الكثير، ومنهم: الجنيد، والشيخ عبدالقادر الجيلاني، والشيخ أبو مدين… إلخ)[64](.
كما أن الشيخ ابن تيمية يوصف بأوصاف كثيرة كما جاء في كتاب (مجموع الفتاوى)، منها على سبيل المثال وصف له مكون من أسطر عدة: »شيخ الإسلام، ناصر السنة، وفريد الوقت، بحر العلوم، بقية المجتهدين، وحجة المتأخرين، وتاج العارفين، وقدوة المحققين، ورحلة الطالبين، ونخبة الراسخين، وإمام الزاهدين، ومنال المجتهدين، الإمام الحجة النوراني، والعالم المجتهد الرباني، تقي الدين أبو العباس أحمد عبدالحليم ابن عبدالسلام بن تيمية الحراني أدام الله علو قدره في الدارين وجعله يتسنم ذروة الكمال مسرور القلب قرير العين«)[65](.
إن كتابات السيد الشلي، هي نتاج ثقافة عصرها وأصولها المعرفية العقائدية الإسلامية، وهي ليست خاصة بالشلي أو بآل أبي علوي، مع وجود الخصوصية النسبية.
وإتمامًا للفائدة لا بد من إعطاء نبذة موجزة عن السيد محمد بن أبي بكر الشلي: فقد ولد بتريم سنة 1030هـ/ 1621م حفظ القرآن الكريم وهو ابن عشر سنين، وقرأ في المتون الفقهية والحديثية والنحوية، ثم ارتحل لطلب العلم إلى ظفار والهند والحجاز حيث استقر هناك، وتصدر للتدريس في المسجد الحرام خلفًا لشيخه علي بن الجمال، وأصبحت له حلقة علمية ثابتة برواق المسجد الحرام عن يسار الداخل من باب السلام، أطلق عليه معظم من ترجم له لقب المؤرخ الفلكي الرياضي، وقد ألف مجموعةً تقدر بعشرين من الكتب والرسائل في الفقه والتاريخ والسير والتراجم والفلك. توفي 1093هـ/ 1682م ودفن بالمعلاة بحوطة آل باعلوي بمكة المكرمة)[66](.
السياق المعرفي للكتاب:
رغم أن د. باعيسى يرى أن »الكرامات غير منكورة في مستواها المعقول لا سيما أن نموذج الولي الصالح ظهر في التاريخ الإسلامي…«)[68]( لكنه يعود ليخصصها في آل أبي علوي ويبترها عن سياقها المعرفي الإسلامي ليوظفها في إثبات فكرته المسبقة عن أثرها في مكانة آل باعلوي الاجتماعية.
إن الإيمان بالغيب جزء أساسي ومحوري للمنظومة العقدية والمعرفية للمسلمين، والإيمان بمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء جزء منه، فقد ورد ذكرهما في القرآن الكريم والسنة النبوية.
يقول ابن تيمية: »من أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري على أيديهم من خوارق العادات، المأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة«)[69](.
ويقول الشيخ عبدالله بن أسعد اليافعي: »واعلم أن ظهور الكرامات للأولياء جائز عقلًا وواقع نقلًا، أما جوازه عقلًا فإنه ليس مما يستحيل في قدرة الله تعالى، بل هو من قبيل الممكنات كظهور المعجزات للأنبياء، وهذا مذهب أهل السنة من المشايخ العارفين والنظار الأصوليين والفقهاء المدققين والأئمة المحدثين رضي الله عنهم، وتصانيفهم ناطقة بجوازها ووقوعها شرقًا وغربًا وعجمًا وعربًا، ثم القول الصحيح المحقق المختار عند جمهور العلماء المحققين من أهل السنة أن كل ما جاز للأنبياء من المعجزات جاز للأولياء مثله من الكرامات في جنسها وعظمها بشرط عدم التحدي«)[70](.
يقول الشيخ الشوكاني عن كرامة الولي: »فغير مستبعد ولا مستنكر أن تظهر على يده من الكرامات التي لا تنافي الشريعة والتصرفات في مخلوقات الله الواسعة، لأنه إذا دعاه أجابه وإذا سأله أعطاه، ولم يصب من جعل ما يظهر من كثير من الأولياء من قطع المسافات البعيدة والمكاشفات المصيبة، والأفعال التي تعجز عنها غالب القوى البشرية، من الأفعال الشيطانية والتصرفات الإبليسية. فإن هذا غلط واضح؛ لأن من كان مجاب الدعوة لا يمتنع عليه أن يسأل الله سبحانه أن يوصله إلى أبعد الأمكنة التي لا تقطع طريقها إلا في شهور في لحظة يسيرة، وهو القادر القوي إذا شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأي بعد في أن يجيب الله دعوة من دعاه من أولياءه في مثل هذا المطلب وأشباهه«)[71](.
وليؤكد الشوكاني صحة ما ذكره يقول: »ومن نظر في مثل (الحلية) لأبي نعيم، و(صفوة الصفوة) لابن الجوزي عرف صحة ما ذكرناه…، وكم للصحابة رضي الله عنهم من الكرامات التي يصعب حصرها… وفي كتب الحديث والسير من ذلك الكثير الطيب، وكذلك في أمم الأنبياء السابقين من أولياء الله الصالحين العدد الجم حسبما نقل إلينا من نبينا صلى الله عليه وسلم«)[72](.
جاء د. باعيسى بوصف لمادة الكتاب مبالغ فيه يقول: »فهي تراجم ذات هدفية خاصة وتخوض في عالم روحي لا نعرف عنه الكثير، فمن حيث الموضوع يعد بالنسبة إلينا موضوعًا مغلقًا أو مكتفيًا بذاته ما دمنا لا نعرف خصوصيته… إلخ«)[73]( فهو يتحدث هنا عن العلاقة بين الأحياء والأموات والتي تبدو له غامضة وغير مفهومة. وأشار إلى هذا المعنى في أكثر من موضع.
إن القضايا التي أشار إليها د. باعيسى هي واضحة ومفهومة عقلًا ومنطقًا، في السياق المعرفي الإسلامي عند العلماء والعامة. فحالة الموت لا تعني الفناء وإنما هي انتقال من عالم الدنيا إلى عالم البرزخ، وهو عالم غير منقطع، له تعلق بالآخرة وتعلق بالدنيا، وعليه فالتواصل بين الأحياء بالأموات ممكنة لمن تهيأت له الأسباب. يقول الإمام القرطبي: »قال العلماء الموت ليس بعدم محض، ولا فناء صرف وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن، ومفارقته والحيلولة بينهما، وتبدل حال، وانتقال من دار إلى دار«)[74](. ونقل عن شيخه قوله: »إن الموت ليس بعدم محض وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدنيا«)[75](. وقد أفرد ابن القيم كتابًا يشرح فيه أحوال الروح والتقاء الأحياء بالأموات سماه (الروح)، واتسع في ذكر الوقائع عن أحوال الصحابة والتابعين والأولياء والتواصل بين الأحياء والأموات منهم)[76](.
وذكر ابن تيمية تواصل الأحياء والأموات، وأشار إلى إمكانية سماع الأصوات من القبور فذكر أن »سعيد بن المسيب في أيام الحرة يسمع الأذان من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقات الصلوات، وكان المسجد قد خلا فلم يبق غيره«)[77](. وكذلك أشار إلى ذكر هذه الحادثة الشوكاني)[78](.
مما سبق يمكن القول؛ إن ما جاء في (المشرع الروي) يتسق مع التراث العلمي الحضرمي، والسياق المعرفي الإسلامي.
إشكالية البحث الاجتماعية:
ربط د. باعيسى المكانة الاجتماعية لآل باعلوي بالكرامات، وجعل من كتاب (المشرع الروي) دليله على ذلك، والسياق والمضمون العام للبحث يعبر عن هذه الفكرة، وهناك إشارات عدة قد ذكرناها في مواضع سابقة.
ويصل د. باعيسى في الختام إلى نتيجة فحواها: »وقد يكون الدخول إلى عالم التصوف والكرامات منذ بدء إنشائه (المؤسسي) في حضرموت على يد الفقيه المقدم محمد علي باعلوي ناتجًا عن إحساس العلويين بالغربة في المجتمع في ظل اعتزاز مفرط بالذات، فصب الفقيه المقدم جهوده على هذا المنحى… [و] (كتاب المشرع الروي) والكتب المماثلة له علامة من علامات تميزهم الخاص الذي أسسوه بأنفسهم، ونموه بعناية ومحبة في بيئة قبلية وزراعية بسيطة يمكن أن يتسيد فيها الجانب الوجداني – الروحي على الجانب العقلي«)[79](.
إن القول بأن الفقيه المقدم دخل عالم التصوف والكرامات لإحساس العلويين بالغربة في المجتمع من غير تقديم أي دليل نقلي ولا عقلي خطأ منهجي، بينما المتوفر لدينا من أدلة تشير إلى اندماجهم في مجتمع حضرموت؛ فكثير من أساتذته ومشايخه الذين تلقى عنهم العلم هم من غير آل أبي علوي؛ إذ »تفقه على شافعي زمانه وعلامة أوانه عبدالله بن عبدالرحمن باعبيد مصنف الأكمال، وكان لا يبتدئ بالدرس حتى يحضر صاحب الترجمة، وعلى القاضي أحمد بن محمد باعيسى، وأخذ الأصول والعلوم العقلية عن الإمام العلامة علي بن أحمد بامروان والإمام محمد بن أحمد بن أبي الحب، وأخذ التفسير والحديث عن الحافظ المجتهد السيد علي بن محمد باجديد، وأخذ التصوف والحقائق عن الإمام سالم بن بصري، ومحمد بن علي الخطيب…«)[80](.
وتخرج على يديه »الإمام الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن باعباد، وكان الأستاذ يحبه ويثني عليه، ويشير بالكمال إليه، وأخوه الشيخ عبدالرحمن بن محمد باعباد والشيخ الكبير العلم الشهير عبدالله بن إبراهيم باقشير، والشيخ المتحلي بالتقى والعفاف سعيد بن عمر بالحاف، والشيخ إبراهيم بن يحيى بافضل صاحب الرباط، والشيخ علي بن محمد الخطيب وأخوه الشيخ أحمد وسعد بن عبدالله أكيدر«)[81](.
وإذا كان الفقيه المقدم تصوف لأنه شعر بالغربة، فهل الذين لبسوا خرقة التصوف معه من المصدر نفسه، وفي الوقت نفسه؛ وهم الشيخ سعيد العمودي، والشيخ باعمر صاحب عُورة والشيخ باحمران صاحب ميفعة)[82]( كذلك دخلوا التصوف؛ لأنهم كانوا يشعرون بالغربة في مجتمع حضرموت؟ هل كل من تصوف من علماء حضرموت كانوا يشعرون بالغربة في مجتمعهم؟
الدكتور باعيسى يفترض أن التصوف كان سائدًا بين فئات المجتمع الحضرمي كافةً، وأن الفقيه المقدم وآل باعلوي كانوا خارج التصوف، لهذا كانوا يشعرون بالغربة في مجتمع مغاير لهم، فدخلوا التصوف لإزالة الشعور بالغربة عنهم. والواقع أن الفقيه لم يكن بعيدًا عن التصوف؛ فقد أخذ علم التصوف من طرق مختلفة قبل الإمام شعيب أبي مدين التلمساني، فقد أخذ التصوف عن الإمام سالم بن بصري، وعن الشيخ محمد بن علي الخطيب، وعمه الشيخ علوي بن محمد صاحب مرباط، والشيخ سفيان اليمني لما زار حضرموت ونزل تريم، والشيخ سعد الدين بن علي الظفاري)[83](. فلا توجد هناك غربة علمية ولا اجتماعية.
إن إسناد سبب مكانة آل باعلوي الاجتماعية إلى الكرامات، تبسيط مخل في تفسير سنن وقوانين حركة الحياة الاجتماعية وفهمها، وخطأ منهجي بتعميم نتائج جزئية، وتحليل يتنافى مع معطيات الواقع.
إن الواقع الاقتصادي والسياسي المتردي في أغلب فترات تاريخ حضرموت، والصراع القبلي المستمر نتيجة لذلك الواقع لا يمكن أن نفسر المكانة الاجتماعية لفئات المجتمع فيه بجزئية هامشية، أو بالاستناد إلى مجال واحد فقط من مجالات الحياة المختلفة. لهذا فإن أفضل نظرية اجتماعية وأنثروبولوجية يمكن الاستفادة منها في هذا المجال؛ هي النظرية البنائية الوظيفية، التي يمثل مفهوم النسق الأساس الفكري فيها. فهي ترى أن المجتمع عبارة عن نسق عام، يتكون من مجموعة من الأنساق الفرعية التي تؤدي وظائف تساندية. وكلمة نسق تعني بأنه الكل الذي يتألف من مجموع الأجزاء التي تتمايز عن بعضها إلا أنها تتساند في الوقت نفسه. والنظرية الوظيفية ترى أن هناك تدرجًا اجتماعيًا تحتله شرائح وفئات اجتماعية لها مكانة اجتماعية بحسب الوظائف التي تؤديها، وقيمة المكانة يحددها العرف الاجتماعي في سياقه التاريخي)[84](.
إن مرتكزات المكانة الاجتماعية لآل باعلوي وكل فئات مجتمع حضرموت تستند إلى الوظائف الاجتماعية التي تؤديها هذه الفئات. وكانت الوظائف الاجتماعية لآل باعلوي وجميع مشايخ حضرموت هي بذل العلم وإصلاح ذات البين وفعل الخير)[85](.
ود. باعيسى افترض أن مكانة آل باعلوي هي فقط في حضرموت حيث »بيئة قبلية وزراعية بسيطة يمكن أن يتسيد فيها هذا الجانب الوجداني – الروحي على الجانب العقلي«)[86](.
والواقع والأدلة التاريخية تدل على أن مكانتهم لم تقتصر على حضرموت، حيث البيئة القابلة للكرامات كما يعتقد د. باعيسى، بل كانت لهم المكانة الاجتماعية في بيئات وحواضر العلم والمعرفة في العالم الإسلامي: في عدن والحجاز والقاهرة وبغداد وإسطنبول والهند وجنوب شرقي آسيا)[87](. فضلًا عن شرق أفريقيا حيث كان العمانيون يحكمون هناك. وهم إباضيو المذهب الفقهي وفي العقيدة على مذهب الاعتزال، لهم رأي في الكرامات مخالف لرأي أهل السنة والجماعة. ومع ذلك كانت لآل باعلوي مكانة مرموقة عند العمانيين في شرق أفريقيا، حيث ولوهم القضاء والإفتاء والتعليم. وقد لفت أثرهم ومكانتهم في شرق أفريقيا الباحثين الأوروبيين. وقد لاحظ مارتين (B.G. MARTIN) أن تأثيرهم في زنجبار أكثر من تأثير العمانيين الإباضيين، بل إنه وصف زنجبار بأنها ملحقة بحضرموت ثقافيًا وفكريًا)[88](.
ولدينا مثال ونموذج يمثل طريقة سلفه آل باعلوي أصدق التمثيل، تتلمذ على يديه د. باعيسى وغيره من أساتذة اللغة العربية في جامعتي (الأحقاف) و(حضرموت)، هو العلامة السيد عبدالله بن محفوظ الحداد. حظي بمكانة عظيمة في حضرموت، ليس بسبب كرامات ظهرت منه، وإنما بالوظيفة الاجتماعية لسلفه آل أبي علوي التي كان يقوم بها وتتمثل؛ في بذل العلم وإصلاح ذات البين وفعل الخير.
([1]) عبدالقادر علي باعيسى، كتاب (المشرع الروي في مناقب السادة الكرام آل أبي علوي) قراءة تحليلية، العدد (11)، يناير – مارس 2019م، ص55- 61.
(2) كتب د. محمد أبوبكر باذيب ملاحظات على منهجية هذا البحث، نشرها على بعض مواقع التواصل الاجتماعي.
([3]) بدر الدين مصطفى، دروب ما بعد الحداثة، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2017م، ص12- 13.
([4]) تيري إيجلتون، أوهام ما بعد الحداثة، ترجمة: منى سلام، مركز اللغات والترجمة أكاديمية الفنون، القاهرة، (د. ت)، ص7.
([5])مصطفى، المرجع السابق، ص22.
([6]) السرديات الكبرى يقصد بها ما بعد الحداثيين أية نظرية شمولية تشكل أساسًا تتم العودة إليه في التفسير.
([7]) إيجلتون، المرجع السابق، ص7.
([8]) مصطفى، المرجع السابق، ص25.
([9])أليكس كالينيكوس، ما بعد الحداثة: هل هي بالفعل عصر جديد؟ في: ما بعد الحداثة؛ تجلياتها وانتقاداتها، إعداد وترجمة: محمد سبيلا وعبدالسلام بن عبدالعالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، 2007م، ص60- 61.
([10]) عبدالوهاب محمد المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1999م، ص415.
([11]) مصطفى، المرجع السابق، ص128.
([14]) المرجع نفسه، ص157- 158.
([15])ألون مونسلو، دراسة تفكيكية التاريخ، ترجمة: قاسم عبده قاسم، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2015م، ص20.
([18])حسن عثمان، منهج البحث التاريخي، دار المعارف، القاهرة، ط6، (د. ت)، ص17.
([19]) المسيري، المرجع السابق، ص425.
([20])مصطفى، المرجع السابق، ص39.
([21]) أحمد عبدالحليم عطية، ما بعد الحداثة والتفكيك، دار الثقافة العربية، القاهرة، 2008م، ص194.
([22])إدوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة: محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006م، ص73.
([23]) مصطفى، المرجع السابق، ص23.
([24]) عطية، المرجع السابق، ص210.
([25]) المسيري، المرجع السابق، ص415- 445.
([26]) عطية، المرجع السابق، ص211.
([27])مصطفى، المرجع السابق، ص11.
([28]) إدوارد سعيد، الثقافة والامبريالية، ترجمة: كمال أبو ديب، دار الآداب للنشر والتوزيع، بيروت، ط4، 2014م، ص34.
([29]) هومي. ك. بابا، موقع الثقافة، ترجمة: ثائر ديب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – المغرب، 2006م، ص26- 27.
([30]) ينظر: صادق عمر مكنون، اندماج الحضارمة في مجتمعات جنوب شرقي آسيا، مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، جامعة الكويت، العدد (139)، السنة 36، أكتوبر 2010م، ص185- 231. حاول الباحث في هذا البحث تطبيق مفهوم الهجنة المنضبط منهجيًا.
([31])مصطفى، المرجع السابق، ص157.
([32]) عبدالهادي الفضلي، أصول البحث، دار المؤرخ العربي، بيروت، 1992م، ص198.
([33]) سعيد إسماعيل صيني، قواعد أساسية في البحث العلمي، الرسالة، بيروت، 1994م، ص180.
([35])عثمان، المرجع السابق، ص118.
([39]) باعيسى، المرجع السابق، ص55.
([41]) محمد بن أبي بكر الشلي، المشرع الروي في مناقب السادة الكرام آل أبي علوي، العامرة الشرفية، 1319هـ، ج1، ص161.
([42])باعيسى، المرجع السابق، ص57.
([44])محمد يسلم عبدالنور، بحث مخطوط، ص13- 14.
([45])ينظر: الشلي، المرجع السابق.
([46]) عبدالنور، المرجع السابق، ص20.
([47])بندر محمد رشيد الهمزاني، المنهج التاريخي لمؤرخي مكة المكرمة في القرن الحادي عشر الهجري، رسالة دكتوراه مقدمة لكلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1993م، ص345.
([49])باعيسى، المرجع السابق، ص57.
([53])ينظر: الحبيب أحمد بن زين بن علوي الحبشي، المسلك السوي في جمع فوائد مهمة من المشرع الروي، تحقيق: عبدالرحمن طه الحبشي، دار مقام الإمام أحمد بن زين، حوطة أحمد بن زين، حضرموت، الجمهورية اليمنية، 2004م.
([54]) باعيسى، المرجع السابق، ص59.
([55]) المرجع نفسه، ص59- 60.
([56])الشلي، المرجع السابق، ج1، ص166.
([57]) أحمد عبدالحليم بن تيمية، مجموع الفتاوى، جمع وترتيب عبدالرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي، دار العربية، بيروت، 1398هـ، ج11، ص283.
([58])الشلي، المرجع السابق، ج1، ص25- 26.
([59])باعيسى، المرجع السابق، ص58.
([60])الشلي، المرجع السابق، ج1، ص149.
([61]) باعيسى، المرجع السابق، ص56.
([62]) الشلي، المرجع السابق، ج1، ص3.
([63]) الحبشي، المرجع السابق، ص47.
([64])ابن تيمية، المرجع السابق، ج2، ص452.
([66]) الهمزاني، المصدر السابق، ص316- 320.
([67]) المرجع نفسه، ص320- 321.
([68]) باعيسى، المرجع السابق، ص55.
([69]) ابن تيمية، المرجع السابق، ج3، ص155.
([70]) نقلًا عن: عبدالرحمن محمد الخطيب، الجوهر الشفاف في مناقب السادة الأشراف، مخطوط، ص40.
([71]) محمد بن علي الشوكاني، قطر الولي على حديث الولي، (د. ن)، 2014م، ص136.
([73])باعيسى، المرجع السابق، ص56.
([74]) محمد بن أحمد القرطبي، التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، دار المنهاج، الرياض، 1425هـ، ص111- 112.
([76])محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، الروح، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1986م.
([77]) ابن تيمية، المرجع السابق، ج11، ص280.
([78]) الشوكاني، المرجع السابق، ص149.
([79]) باعيسى، المرجع السابق، ص61.
([80]) الشلي، المرجع السابق، ج2، ص3.
([84])ينظر: شحاتة صيام، النظرية الاجتماعية، من المرحلة الكلاسيكية إلى ما بعد الحداثة، مصر العربية للنشر والتوزيع، 2009م، القاهرة، ص43- 100.
([85]) ينظر: صادق عمر أحمد مكنون، إنجرامز سلطان حضرموت غير المتوج، تريم للدراسات والنشر، تريم، الجمهورية اليمنية، 2018م، ص347- 399.
([86]) باعيسى، المرجع السابق، ص61.
([87]) هناك كتابات وبحوث كثيرة تتحدث عن مكانتهم وأثرهم في كل من عدن والحجاز والهند وجنوب شرق آسيا وشرق إفريقيا. إلا أن ما كتب عن أثرهم ومكانتهم في مصر والعراق قليل. فقد كانت لعلماء آل أبي علوي وصلحائهم المستوطنين منهم أو الزائرين مكانة في كل من مصر والعراق. نذكر على سبيل المثال: السيد عبدالرحمن بن مصطفى العيدروس، الذي كانت له مكانة علمية وروحية واجتماعية مرموقة في مصر. ولمكانته عند المصريين دفن في باحة مسجد السيدة زينب ووضعت له قبة زجاجة. ولآل العيدروس مكانة كبير في بغداد. حيث توجد زاوية ومسجد العيدروس شرق بغداد في الرصافة بقرب مسجد الشيخ عبدالقادر الجيلاني ومقامه. وتكية ومقبرة آل العدروس في غرب بغداد بالقرب من مسجد، ومقام الشيخ معروف الكرخي. من أشهر علمائهم الحبيب عبدالله بن علوي العيدروس المتوفى عام 1177هـ. وحبيب بن محمد العيدروس الذي شارك في ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني عام 1920م وكان أحد قادة الثورة في ديالي. ينظر: علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، دار الراشد، بيروت، 2010م، ج5، ص40. ميعاد شرف الدين الكيلاني، تاريخ تكايا بغداد، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2014م، ص102- 107.