ملف العدد
أ. د. أحمد إبراهيم محتسب حنشور
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 18 .. ص 46
رابط العدد 18 : اضغط هنا
المقدمة:
إن العمارة الطينية في وادي حضرموت هي نتاج لتراكم معرفي حضاري وموروث تاريخي ارتبط بمنطقة جغرافية، اكتسب من خلالها منحنى تطوره، وصفاته المميزة، التي تجلت في استعماله لمواد وأساليب بنائية محلية، وتفرد بحلول تطبيقية للمشكلات البيئية الموجودة بمجتمعه خلال مدة زمنية تزيد على ثلاثة آلاف سنة، تطورت خلالها أساليبه الإنشائية من خلال التفاعل الكامل مع معطيات البيئة والموروثات الحضارية لمنطقة وجودها، فضلًا عن الدور الكبير الذي لعبته العادات والتقاليد المحلية، والتراث الثقافي الزاخر في إبداع نمط التكوينات الفضائية لتلك المباني، والأشكال الهندسية المعمارية والعمرانية، التي تنبع من جوهر المتطلبات الوظيفية وتتلاءم مع المؤثرات البيئية المحيطة، كخصائص ذات تأثير ثابت، تتمثل في الجوانب البيئية من مناخ وتكوين جغرافي وجيولوجي، وخصائص ذات تأثير متغير، تتمثل في القيم الحضارية المختلفة من جوانب روحية واقتصادية واجتماعية وجمالية.
ويُعد البناء بالطين نظامًا تقليديًا متكاملًا، يمتاز بصفات كثيرة، أهمها سهولة التشكيل، وإمكانية الزخرفة، ومناسب للظروف المناخية المختلفة، كما أن الطين مادة صحية موفرة للطاقة ولا تسبب تلوثًا بيئيًا عند البناء أو في حالة الهدم والإزالة؛ إذ يمكن إعادة استعمال المواد نفسها في البناء والترميم أو إعادة تدويرها، فضلًا عن خواصها الفيزيائية المتميزة، وتكيفها مع البيئة، وتلبيتها لخصائص البناء في عموم الأرض، فقد استعملت مادة الطين في بناء العمارات والأسوار والأبراج والمساجد والمآذن وغيرها من المنشآت العمرانية التي تكتسب كل يوم أهمية ومزايا خاصة.
البناء بالطين:
كانت مادة الطين منذ فجر التاريخ واستقرار الإنسان في مجتمعات قروية من أهم مواد البناء وأكثرها استخدامًا من قبل الإنسان؛ إذ لم يقتصر استخدامها على منطقة دون أخرى، بل امتد إلى المناطق الجغرافية والمناخية المختلفة، فقد استعملتها أغلب الحضارات البشرية لبناء منشآتها، مثل: حضارات بلاد الرافدين، وبلاد الشام، ووادي النيل، واليمن، وغيرها من حضارات العالم القديم، وما زال كثير من البشر -حتى يومنا هذا- يعيشون في منازل مبنية من الطين؛ إذ أثبتت هذه المادة ديمومتها، وتناسب حالتها الطبيعية، مع ظروف البيئة المختلفة، والتكيف معها.
يزخر وادي حضرموت بالتربة الطينية الصالحة للبناء، التي استعملت في أغلب مناطقه مادة بناء أساسية، وتُعد المباني الطينية المتعددة الطوابق ذات الأنماط المختلفة، المبنية بتقنية البناء بالطوب الطيني المخلوط بالتبن المجفف بالشمس (المسمَّى محليًّا بالمدر) المنتشرة في مختلف أنحاء مناطق وادي حضرموت من أقدم المباني المتعددة الطوابق التي وجدت حتى الآن، وقد اختلفت أنماط بنائها باختلاف ظروف نشأتها، ومنها المباني الطينية التي وجدت آثارها في بعض مناطق الوادي، والتي تُعد من أقدم أنماط البناء الطيني، التي عثر عليها، وهي عبارة عن مبانٍ سكنية من طابق واحد، بنيت جدرانها بأسلوب رص الطوب الطيني (اللبن) في صفوف أفقية مع المونة الطينية (يتراوح إبعاد الطوبة بين 22×30 سنتيمترًا إلى 37×58 سنتيمتر)([1])، يعود تاريخها إلى القرن الثامن قبل الميلاد([2]).
وتطور من هذه النمط المعماري نمط بناء جديد، يعتمد على البناء المتعدد الطوابق، استعمل في بناء قصور الملوك، ومساكن الطبقات العليا في مملكة حضرموت، ويقوم هذا النمط على تقنية بناء الجدران من هيكل خشبي مترابط تعامديًا، مكون من قطع خشبية عرضية، طولها مساوٍ لطول الجدار، وأعمدة رأسية تفصل بينها مسافات متساوية مشكلة بذلك إطارًا هيكليًا. ويعلو ذلك قطع مختلفة من الخشب، تربط بين أجزاء البناء، ويحشو هذا الهيكل باللبن وملاط الطين، بحيث تشكل تلك الأعمدة الخشبية المترابطة نسقًا متميزًا، يسمح ببناء طوابق متعددة تصل إلى سبعة أدوار، ويصل ارتفاع كل طابق إلى ثلاثة أمتار تقريبًا، كما في القصر الملكي في شبوة([3])، ومباني مستوطنات ريبون في وادي دوعن([4])، ومباني مستوطنة مشغة الواقعة وسط وادي عدم في منطقة حضرموت (الأشكال 1- 4)، ومن خلال الدراسة التي قامت بها البعثة الأثرية الفرنسية اليمنية للمباني في مشغة، أعادت المباني التي بنيت بهذه التقنية إلى القرن الخامس قبل الميلاد([5])، وفي القرن الثاني الميلادي تراجع الاعتماد على هذه التقنية في بناء مساكن الطبقات العليا في المجتمع؛ بسبب عدم توافر الأخشاب، فطور معالمة البناء تقنية جديدة، تم من خلالها الاستغناء عن الهيكل الخشبي؛ إذ استغل البناءون معرفتهم لخصائص الطين المعمارية بذكاء لبناء مبانٍ برجية من المدر بارتفاع ثمانية أدوار وباستخدام تقنية الجدران المتناقصة، يكون سمك الجدار مترًا تقريبًا في الدور الأرضي، ويتناقص السمك كلما ارتفعنا إلى الأعلى ليصل سمكه إلى سمك 20 سنتيمتر في الدور الأخير، هذا التناقص في سمك الجدار يؤدي إلى تخفيف الأحمال على الأساسات كلما ارتفعنا نحو الأعلى، وما زالت تستعمل في بناء المنازل الطينية في مدن حضرموت وشبوة إلى يومنا هذا (شكل 5).
وتجلى إبداع معالمة البناء في وادي حضرموت وقدرتهم على الاستفادة من موارد البيئة المحلية على أحسن وجه خلال النصف الأول من القرن العشرين، عندما أراد بعض أبناء الوادي العائدين من المهجر بناء مبانٍ تضاهي المباني التي شاهدوها في الخارج، فشيّد لهم معلمو البناء مباني رائعة من الطين، تلبي رغبات أصحابها، وتواكب التطور الاجتماعي، وأهمها القصور التي بنيت في مدينتي تريم وسيئون، فقد جسدت تلك القصور صورًا متميزة ومتجددة للعمارة الطينية، وتعد المباني الطينية الحديثة خير نموذج للتفاعل بين الإنسان وبيئته الطبيعية؛ حيث استلهمت مقوماتها الأساسية من بيئتها، وحافظ معلموها على طابع البناء الخاص بهم (شكلا 6، 7).
المتغيرات التي طرأت على العمارة الطينية:
ظلت موارد البيئة المحلية المصدر الوحيد والأساس للعمارة في وادي حضرموت، وتوارث معالمة البناء تلك الخبرات المعمارية عبر أجيال من البنائين عن طريق التجربة، وعملوا على إيجاد الحلول التقنية والتصميمية لما يستجد من متغيرات باستخدام مواد البناء المحلية التي أنتجت عددًا من المدن المتميزة إلى منتصف القرن الماضي، عندما ظهرت متغيرات اجتماعية وبيئية ومناخية، أدت تدريجيًا إلى العزوف عن البناء التقليدي، والبدء في البحث عن بدائل للمواد التقليدية المتوفرة في البيئة الطبيعية.
المتغيرات الاجتماعية:
ظهرت المتغيرات الاجتماعية نتيجة لمتطلبات الحياة الحديثة، التي ساد فيها استعمال الاكتشافات التكنولوجية في مختلف نواحي الحياة، بحثًا عن رفاهة العيش، الأمر الذي أدى إلى البحث عن بدائل للمواد التقليدية، يمكن من خلالها اختصار المدة الزمنية اللازمة لتجهيز المبنى، وتوافر غرف مريحة ذات مساحات واسعة، والحمامات المجهزة بطريقة عصرية.
المتغيرات البيئية والمناخية:
شهد وادي حضرموت في العشرين عامًا الماضية تصاعدًا في المتغيرات البيئية والمناخية، منها زيادة الكثافة السكانية، التي أدت إلى توسع في البناء، وجاء التوسع هذا على حساب المساحات الزراعية، الأمر الذي أدى إلى دخول أنماط بناء جديدة إلى الوادي، ومنها البناء بالطوب الخرساني والخرسانة المسلحة.
كما أن التغيرات المناخية تسببت في حدوث أمطار غزيرة وسيول جارفة في ظل توافر ظروف جيوموروفولوجية وطوبوغرافية محفزة أدت إلى إحداث دمار كبير للممتلكات في أكثر من منطقة من مناطق وادي حضرموت، وساعد على زيادة حجم الدمار عوامل عدة، منها:
بعض البدائل المحلية لمعالجة المتغيرات:
لقد تم عمل دراسة لتتبع بعض البدائل التي لوحظ استعمالها كبدائل محلية لمعالجة التغيرات التي طرأت على العمارة الطينية التقليدية، ومن هذه البدائل استعمال المواد التقليدية إلى جانب بعض المواد المتاحة لتحقيق بعض الخصائص المطلوبة، منها:
1- استعمال مواسير المياه المجلفنة كعوارض، بدلًا عن أغصان أشجار العلب (شكلا 12، 13).
2- استعمال الجسور الحديدية (Steel Beams I-Section) بدلًا عن جذوع أشجار العلب وأغصانها (شكلا 14، 15).
3- تكسية جدران الحمامات والمطابخ بالطوب الإسمنتي والمونة الإسمنتية من أجل تبليطها بالسيراميك بدلًا عن المونة الجيرية، فضلًا عن تكسية الجدران الخارجية لحمايتها من تأثير المياه، وهذه المعالجات أحدثت تغيرًا مهمًا في نمط البناء التقليدي، بالرغم من عدم ثبوت جدواها (شكلا 16، 17).
المعالجات التي نطمح إليها:
في البدء قبل طرح المعالجات التي نطمح إليها، نود توضيح بعض المفاهيم التي سيتم البناء عليها.
إن مادة الإسمنت التي تعد أهم مكونات العمارة الخرسانية الحديثة، مادة عرفت منذُ القدم بأسماء مختلفة، استعملت في معظم مناطق الحضارات القديمة، ومنها مدن الحضارة اليمنية القديمة؛ إذ استعمل معلمو البناء نوعًا من المونة تحتوي على الخبث البركاني مع النورة باسم القضاض أو البوميس، واستخدم المصريون القدامى نوعًا من المونة يحتوي على الجبس، واستعمل الرومان القدماء الإسمنت الروماني وهي المادة التي تتصلد بتأثير تعرضها للماء وأطلقوا عليها الخرسانة (Concrete)، ويعد عام 1824م هو عام البداية الحديثة للإسمنت الحديث الذي تم ابتكاره بوساطة جوزيف اسبيدن – عامل البناء الإنجليزي، الذي استطاع ابتكار خلطة تعتمد على التفاعل الكيميائي، يمكن التعامل معها دون الحاجة إلى الخبرات السابقة، الأمر الذي أعطى لها الانتشار الواسع لاستعمالها مادة بناء أساسية، وأنشئت بعدها مراكز للدراسات والأبحاث خاصة بالعمارة الخرسانية.
لقد سعت كثير من الهيئات الأهلية وبعض الشخصيات الاعتبارية المحلية إلى الحفاظ على النمط المعماري للعمارة الطينية في وادي حضرموت، وتم إنشاء هيئات شعبية للحفاظ على العمارة الطينية، قامت بتمويل بعض الدراسات والأبحاث التي تساعد العمارة الطينية على مواكبة المتغيرات الجديدة، كما وجدت رغبة أكيدة لدى الكثير من أبناء الوادي لدعم المساهمات التي تسعى إلى عملية النهوض بتطوير العمارة الطينية.
من خلال ما سبق ذكره نجد أن هناك أهمية كبرى لوجود مركز رئيس للدراسات والأبحاث الخاصة بالعمارة الطينية، تنضوي تحت مظلته كل الجهود الرامية إلى الحفاظ على العمارة الطينية، باشتراك الهيئات الشعبية مع الهيئات الحكومية، ويضمن الحصول على التمويل الكافي والميزانية التشغيلية له، ومده بالخبرات الوطنية والأجنبية، يقوم بدراسة مميزات العمارة الطينية، واستنباط الحلول العلمية لتطويرها، وعقد ورش عمل يشارك فيها كل الكوادر المحلية، ويدعى إليها الخبراء من الدول العربية والأجنبية للاستفادة من خبراتهم العلمية في مجال تطوير العمارة الطينية.
المراجع:
أ. د. أحمد إبراهيم محتسب حنشور .. أستاذ العمارة القديمة – قسم الآثار .. جامعة عدن
[1]– كوجين، 1988م، ص148.
[2]– كوجين، 1985م، ص90.
[3]– بريتون، 1996م، ص 99 – 105
[4]– كوجين، 1985، ص50.
[5]– بريتون، وآخرون، 1980م، ص40-42