ملف العدد
د. أنور أحمد باعيسى
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 18 .. ص 53
رابط العدد 18 : اضغط هنا
تتميز العمارة الحضرمية بميزة فريدة بطرازها الغني عن بقية الفن العماري في اليمن؛ إذ يحمل في طياته الهوية الثقافية، كما أنه يعد ملمحًا من ملامح التطور الفكري والحضاري الذي وصل إليه الإنسان الحضرمي في حضرموت. لذلك تأتي فكرة الحفاظ على العمارة الأثرية التاريخية في حضرموت آخذين بعين الاعتبار التغيرات السريعة في النمو السكاني التي تشهدها منطقة حضرموت في هذه المرحلة الراهنة بالذات. والعمق في إدراك البعد الحضاري لهذا الموروث الذي يتعرض حاليًا للتلوث والإهمال، والاطلاع المباشر على واقع العمارة الحضرمية والموروث عبر الأجيال والمتبع إلى يومنا هذا، وكذلك الوقوف على التطورات والتغيرات الشكلية للعمارة الحضرمية للحقبة السابقة.
فرضت العمارة الحضرمية حضورًا متميزًا بشكل خاص نابعًا عن توظيف مواد البناء المحلية واستخدامها بشكل منسجم وبيئة الإنسان وحاجته ومتطلباته. ففي عام 1982م أدرجت منظمة التربية والثقافة والعلوم (يونسكو)، مدينة شبام حضرموت في قائمة التراث الإنساني الدولي، وفي عام 2007م حصلت شبام على جائزة الآغا خان الدولية للعمارة في مدينة كوالالمبور الماليزية، وهكذا باتت واحدة من المدن الحضارية العالمية، ما جعلها بؤرة جذب سياحي وقبلة للباحثين والزوار. حيث أعجب الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في أثناء زيارته لمدينة شبام بعبقرية الإنسان الحضرمي، وما بلغه أولئك الناس من بناءين وحرفيين استطاعوا أن ينقبوا في الشجر والحجر، بالإضافة إلى تفننهم في تشكيل مادة الطين حيث طوعوها وفق ظروفهم البيئية لتبقى ولتقاوم ظروف الزمن وتقلباته مع مرور الأيام والسنين. حيث تقع مدينة شبام في محافظة حضرموت شرقي اليمن، وهي واحدة من المدن التاريخية الموغلة في القدم، والتي يعود تاريخ بنائها إلى ما قبل الميلاد، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى بانيها شبام بن السكون بن الأشرس، ومن قبل سميت باسم شبام بن الحارث بن حضرموت بن سبأ الأصغر.
ما زالت الأنماط المعمارية القديمة في محافظة حضرموت -الساحل والوادي- شاهدة حتى اليوم على جذب أنظار السائحين والوافدين، تحكي لهم روعة الماضي وأصالة عهد الأجداد وما أبدعوه للأجيال المتلاحقة على مر التاريخ. كما أن التناغم المعماري مع البيئة المحيطة ما زال صامدًا أمام زحف الجبال الخرسانية (المسلحة)، لم تهزه رياح الانفتاح وصيحات موضة العمران، وأمر المحافظة عليه متروك أولًا للمواطن، وثانيًا للمجلس المحلي المنتخب مؤخرًا، وكذلك للمحافظ الجديد. تناغم مع البيئة الزائر لمحافظة حضرموت -الساحل والوادي-، والناظر إليه يجد نفسه أمام لوحة معمارية بديعة تجسد أصالة الفن المعماري وتناغمه مع البيئة المحيطة، وكذلك ارتباطه الحميم بالمادة الطينية اللدنة، لوحة خلابة تجمع بين الماضي والحاضر، الأصالة والحداثة، وتتميز بكثرة الصور والألوان المعمارية، ولئن كانت عين الزائر تعشق العمارة الطينية فستجد أن هذا النوع تتمايز نماذجه من جهة إلى أخرى في وادي حضرموت الكبير، وإن كانت العين تعشق تمازج الأنماط المعمارية الجميلة المحلية والخارجية -وهي حاليًا الزاحفة على مدن حضرموت الرئيسة وفي مقدمتها (تريم والمكلا) عاصمة المحافظة- فستجد أنها تتميز بالنمط المعماري اليمني والعربي ونمط جنوب شرق آسيا والهند. وبخصوص النوع الأول، يلاحظ الزائر أن اختلافه وتمايزه من مكان إلى آخر يرتكز على البيئة المحيطة، ففي منازل وادي (ليسر) بمديرية دوعن تتدرج واجهاتها الأمامية المطلة على مجرى الوادي على صورة سطوح متراتبة الواحدة فوق الأخرى، أما واجهاتها الخلفية المستندة إلى السلسلة الجبلية أو على مقربة من السلسلة فسيجدها في المنازل.
وفي مدينة سيئون -عاصمة وادي حضرموت الذي يصل طرفه الشمالي إلى الربع الخالي- تتميز منازلها وقصورها بالتدرج في زواياها الأربع وارتفاع العمارة تدريجيًا باتجاه الوسط، فيما العمارة في وادي دهر، والكسر، وعمد، ورخية، فتظهر العمارة وكأنها قلاع حربية ودفاعية ذات أطوال رأسية… وتكاد المادة الطينية المخلوطة بالتبن هي اللون المفضل لدى غالب سكان وادي حضرموت، ففي سيئون يتراوح ارتفاع منازلها بين ثلاثة إلى أربعة طوابق تحيط بها غابات النخيل الباسقة والجبال، أما قصورها فهي من المعالم التاريخية والسياحية المفضلة للسائحين الوافدين.
الميناء وأثر الهجرة وفيما يتعلق بالنوع الآخر، يرى الزائر في الضفة اليسرى من وادي حضرموت وتحديدًا مدينة تريم -35 كلم شمال شرق العاصمة سيئون- أن المنازل والقصور العالية والبديعة تتميز بتمازج الأنماط المعمارية وتداخل الخارجي الوافد بالمحلي المتوارث، وهنا أدَّتْ الهجرة الخارجية للسكان دورًا مؤثرًا في هذا التمازج، حيث أدخلت في عمارة مدينة تريم نمطًا جديدًا وأشكالًا معمارية حديثة تمزج بين نماذج دول جنوب شرق آسيا والهند المعمارية، وبين أنماط البناء المحلي والذي أبدعته الأيدي اليمنية على واجهات منازل المدينة وقصورها وقباب مساجدها العالية ومآذنها، وأشهرها مئذنة تريم، وأشهر قصور المدينة قصور (الكاف)، وقصر (القبة)، الذي تحيط به حديقة رحبة الأرجاء ونوافير للمياه العذبة. ويرى في الضفة الجنوبية للمحافظة وبالأخص مدينة المكلا عاصمة حضرموت -تبعد 777 كلم عن صنعاء، وعن سيئون 322 كلم جنوبًا- أن النمط المعماري فيها -المكلا- يجمع بين أشكال المعمار اليمني والعربي ونمط جنوب شرق آسيا والهند… ويعود هذا التمازج الأخير إلى أسباب عدة، أهمها: موقع ميناء المكلا المهم وما يمثله من نقطة التقاء مهمة في حركة الملاحة البحرية الدولية وبالأخص بين موانئ دول جنوب شرق آسيا والموانئ العربية في البحر الأحمر والمتوسط والأفريقية، إضافة إلى سبب الهجرة الخارجية إلى الدول الآسيوية والأفريقية، والتي عرفتها حضرموت في القرون القليلة الماضية. وزحف الجبال الخرسانية ومن الجوانب الملفتة للنظر الأخرى. إن الأنماط المعمارية الحديثة المعتمدة على المواد الاسمنتية والخرسانية المسلحة آخذة بالاتساع في كافة مدن حضرموت وبشكل واضح وبارز، فالأبراج والكتل الخرسانية الضخمة تزحف على شواطئ مدينة المكلا وهضابها وأطراف جبالها، كما تزحف باتجاه ضواحي المدينة، وأحيانًا على حساب النمط المعماري التقليدي القديم القائم على المادة الطينية المخلوطة بالتبن، إن هذا الزحف الأخير لن يتوقف وسرعة حركته تعتمد على حركة الاستثمار في المحافظة.