ملف العدد
م. محمد سالم مصيباح
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 18 .. ص 57
رابط العدد 18 : اضغط هنا
أتمنى أن تتسع لي صدوركم لمخالفتي لكم في هذا المقال، وسأكون سعيدًا بردود الأفعال بالملاحظات المخالفة لي؛ لكونه قد تبيَّنَ لي (أن الذين كانوا يهتمون بعمارة الطين من المؤسسات والمنظمات لم يظهروا إيمانهم بانتشال عمارة حضرموت وعمارة الطين ودعمها ومحاولة تخليصها من ضعفها الذي تعاني منه، وإنما رأيتهم أشبه بأوعية تنتظر الكارثة لتمتلئ، ثم يعودون إلى مواقعهم، بعد أن نزعوا معاطفهم الممتلئة بلطف، ليحتكروا من جديد موجة أخرى من المصائب التي تُبتلى بها عمارتنا المسكينة).
بهذه العبارات المؤلمة وبعد تردد رأيت أن أكتب هذا المقال، بعد أن وجدته ضروريًا لعمارة دخلت منطقة الخطر، ووصلت إلى مرحلة قد تكون شديدة نوعًا ما، تمثل هذا الخطر في (تغييرات مناخية، ومتطلبات معيشية، ومواد عصرية جديدة).
لقد توصلتُ بعد سنوات من القراءة والتأمل والكتابة في كثير من المسائل المرتبطة بالعمارة المحلية، إلى قناعة أقدِّمها اليوم إلى الجيل الجديد، وأرجو أن يتلقاها بتلك الصفة التي أود أن لا يقاومها مقاوم قبل أن يفهمها، وأن يعدها نوعًا من الاعتراف والإقرار، وأرجو أن لا أكون محلًا للمحاسبة من قِبل الذين سبقوني في مضمار العمارة؛ لأنه لا سند لي في كل ذلك إلا الوفاء لمنهج التطوير، ولكوني وضعتُ نفسي في محل الإجابة عن التساؤل الذي بات يحيرني، وهو (ماذا قدمنا لعمارة حضرموت وعمارة الطين من تطورٍ؟)، هذا السؤال له جواب، قد يؤدي في مفهوم البعض إلى فك الارتباط بالماضي، لكن هذا ليس كل ما في الأمر، فهناك عالمٌ جديدٌ يتحرك من حولنا منذُ ما بعد منتصف (القرن العشرين وحتى بداية القرن الواحد والعشرين)، ولم يصل كثيرٌ من شرر هذا التطور السريع إلى عمارتنا المحلية، وإن كان هذا الأمر حميدًا في نظر التقليديين من الناس، لكننا يجب أن نستفيد منه، ولا نغفل عن توجيه التطور الحتمي وإدراجه في مساره الصحيح، وحتى لا نكون حجة على عمارتنا، ولا نسمح بأية تهمة تُلصق بنا من الجيل القادم بأننا لم نتحرك في سلم التطور درجة واحدة، فنكون سببًا من أسباب تأخر من يأتي بعدنا.
أرجو أن يكون مقالي هذا إشارة أمل للكثير من التقليديين، الذين يعيشون في قفص التقليدية المفرطة في العمارة، فإنني بعملي هذا أريدُ أن أبرق بإشارة في ذهن المهندس المنتمي إلى التقليدية بانغماس، وأن أدعوه ليخرج من قفص التراثية المقيتة إلى أفقٍ أوسع، وأجعل ما كان ضعيفًا في نظره اليوم، نجعل منه حدًّا فاصلًا ومفتاح تحّول في التفكير والتأمل فيه، بحيثُ لا يبقى على الفكر المعماري نفسه الذي يطرح الأسلوب البنائي في الإطار نفسه، فيتبادر إلى الذهن أنه الأسلوب الأمثل.
عن قناعة مني وصلتُ إلى أن هناك أدلة دامغة على تفريط جهات مختلفة في حضرموت بعمارة الطين، وأنني على يقين من أن كثيرًا من الأسئلة ستنهال عليَّ، وعلى من قد يؤمن بما أراه، ويقال حينها لنا – من أنتم؟ وكيف تنصبون أنفسكم للدفاع عن عمارة حضرموت، وتكونون مرجعًا لها، فأقول: إن إثبات الحجة ليست على المفكر أو الناقد فيما يجب طرحه ليثبت للجميع ما يراه لهم، لكن حجتنا حجة فكرية نقدية لا بد أن تلازم أي عمل منغمس في التقليد ويريد التطوير.
إن اتباع المنهج الوصفي في الكتابة عن عمارتنا المحلية هو اتباع منهج الوعظ والإرشاد المعماري، الذي يجب علينا أن نتوقف عنه كمختصين في مجال العمارة، ونتركه لكل من يريد أن يكتب في هذا المجال، ويريد أن يعبر عن حبه لعمارة حضرموت، وهذا ليس عيبًا، بل يحق لهم أن يكتبوا ما يريدون، ونشجعهم عليه. لكن من المعيب أن لا تأتي أصوات المختصين المفترضين على عمارة حضرموت والذين هم أولى بالكتابة في (ميدان النشر المعماري)، الذي أراه لم يُولد أصلًا في واقعنا المحلي على الرغم من كثرة الوسائط الممكنة. إنني قد أبدي استحياءً معنويًا لكونه لا يوجد من بين خريجي الجامعات وكليات الهندسة من يُسهم في نشر فِكْرِ العمارة المحلية ويعيش آلامها، ولا أريدُ أن أقول إن معماريينا ليسوا على قدر من الطموح الذي يجبُ، ولكني وجدتهم منشغلين بنشاط في ميدان آخر اسمه الميدان العملي، وتحول معظمهم بفعل عجلة الزمن إلى عقول اكتفت بمناهج الكتب الدراسية التي درسوها من زمن بعيد، والمنسية هي الأخرى في عقولهم، وربما أغلق البعض باب التحديث المعماري عن فكره، وانشغلت ذاكرته بشؤون واقع سياسة البلد، وربما انساق البعض في قنواتها ظنًا منه أنه يسهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه كمهندس، إنه ليس على أية حال من الأحوال أن أقنع الجميع فكلٌ حر فيما خطط له وسار عليه.
إنني أكتب هذه المقدمة وأنا على يقين من إنني مخالف للكثير من الآراء في الساحة المعمارية في حضرموت، وهذا شرف لي، وليست عباءة استأجرتُها ولبستها لكي أذكر أو أحدث صوتًا مدويًّا، وهو ما قد يذهب إلى تفسيره البعض، بل إنني أردت أن أنقر نقرة بلطف على طاولة الحضور؛ لأوصل رسالة لمن ينتمي لعمارة حضرموت، وأقول إن هناك صراعًا مع المواد المحلية والمواد العصرية الحديثة، وتغيرات مناخية متوالية، لم نضعها في حساباتنا المعمارية والإنشائية؛ لكون أنظارنا متجهة نحو التقليدية والتراثية في العمارة وسخرنا جل جهودنا فيها، ولم نفكر يومًا ما في التحديث أو التطوير، وماذا سيحدث لمستقبل عمارة عميقة الجذور وهشة البناء في مقاومة الرطوبة والماء؟ بل لم نتنبأ حتى بنتائج متغيرات المناخ التي قد تُداهمنا يومًا ما، ولم نميز بين منهج التقليديين والحداثيين، وأثرها في مستقبل عمارتنا.
إن الفروق بين التقليديين والحداثيين في عمارتنا مثيرة للاستياء، وأراها لا تخدم أي هدف سوى بعض الإثارات غير المقنعة، وهي ما تزال تعيش حالة من الصمت المطبق؛ لغياب النشر المعماري، وقلة الأقلام المتفرغة لذلك، واقتناع الكثيرين عن ما كتبهُ التقليديون عن عمارتنا سلفًا، بأنها أمور مُسلم بها، يجب ألا نحيد عنها، وهي كتابات كثيرًا ما انجذب إليها المتخصصون من طلاب الجامعات وأساتذتها، وتفسيرهم ذلك كثرت المنتمين لهذا التيار. فنحن اليوم إذا أدرنا (محرك البحث) على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) نبحث عن (عمارة الطين في حضرموت) لا نجد إلا النزر اليسير من الكتابات اليتيمة والهامشية، ومعظمها كُتبت من سنوات مضت، والأوراق العلمية محدودة وحتى باللغات الأجنبية. هذه النتيجة تعكس مدى تدني نشاط النشر المعماري لعمارة حضرموت ومحدوديته، وإن ميداننا الثقافي المعماري ما يزال يعيش حالة يمكن أن تُوصف (بالحالة الخاملة)، وأنها ما تزال تتصدر الساحة المعمارية كتابات الوصف المعماري لعمارة حضرموت، كُتبت معظمها في نهاية القرن الماضي، ولعل أبرزها ما كتبته (الدملوجي) كأشهر ممن كتب عن عمارة حضرموت، وهي ما تزال تتصدر قائمة الكتب العلمية باللغة العربية والإنجليزية، وبعض الكتب الأخرى المعدودة بأصابع اليد، لكتّابٍ طموحين، حالفهم الحظ بعد جهد طويل لإصدار كتبهم، في بلد يعاني من صعوبة بالغة في طباعة ونشر الأبحاث، ويدعم بسخاء جم (المؤتمرات السياسية) المتواصلة التي تُعقد أكثر من مرة في الشهر، وتكلف الكثير من الأموال، ولا نريد أن نشمت بسياسة البلد المهترئة اليوم، ولكن حساباتنا تتطلب منا عقد مقارنة فورية بين منتجاتنا الثقافية المعمارية المحلية والمنتجات الثقافية المعمارية للباحث القادم إلى بلادنا الذي يجد الدعم والترحيب والتفاعل، لذا لا نستغرب مما قدمه بعض الباحثين أمثال (ريم عبد الغني، وباملا جيروم، وسلمى الدملوجي)، وتعد الدكتورة سلمى الدملوجي الأستاذة بقسم العمارة في الجامعة الأمريكية ببيروت، واحدًا من أهم الخبراء الذين اكتسبوا خبرة عن عمارة وادي حضرموت، وما زلنا نتلقى عطائها منذُ منتصف الثمانينيات، فهي عصرت جهدها في عمارة حضرموت، وعملت جاهدة على نقلها من مرحلة الميدان والتناقل الشفهي، إلى وسائط ولغات جديدة سهل تعلمها من الكتب والأفلام والصور وغيرها، وسهلت الكثير من المنجزات على دارسي العمارة، وكانت سبّاقة إلى ذلك، وإننا نجد أنفسنا كجيل جاء بعد جيلها نتعلم من خزينها الفكري، مدينين لها كل الدّين لمثل أعمالها؛ إذ كانت لها محطات ومواقف دافعت فيها عن عمارة الطين وكأنها ملك من أملاكها الشخصية.
إن الإخلاص الذي سجلته (الدملوجي) عن عمارة حضرموت كان جيدًا، ولا نقول إنها أطالت من عمر عمارة الطين، لكنها شحنتها بصفات (الترميم والصيانة)، وجعلتها قادرة على الاستمرار في مكانها بتمديد مشاريع الترميم والصيانة لها، وكانت أقرب إلى السكون أمام تجارب التجديد، وذلك باستيعاب (معلم البناء) (الأوسطي)، وجعل له الصدارة ليقود المهندس في العمارة المحلية، وهو فكر بعض المدارس المعمارية الأقرب إلى الواقع المحلي وهو تلبس (سمة الواقعية)، ومهما يكن من فكر المدرسة التي أرادتها (الدملوجي) لعمارة حضرموت إذ لم تكن مهمة في نظرنا، لكن الأهم في الجواب عن السؤال الآتي: هل قدمت هذه المدرسة صعودًا لعمارة حضرموت؟ وهل تعاملت معها بأنها بحاجة إلى تطوير؟ لا يحق لنا أن نجيب هنا كوننا ما نزال نلتمس عطاء (الدملوجي)، وما يزال يسير خلف فكرها المعماري طابور من دعاة المحافظة على التاريخ والتراث المعماري، والذين عجزوا عن تحقيق الترميم والصيانة بمفردهم للكثير من المباني التاريخية، والتي كانوا هم أحق بترميمها، لولا قصر اليد، الذي تعانيه سياسة بلدهم، وتزايد الأيادي التي تخلي الجيوب في تركيب النظام العام للبلد، ومع ذلك كله يحق لنا القول إنه قليل في حق (الدملوجي) التكريم وتعليق النياشين في احتفالات الميديا والإعلام التقليدي اليوم، وتتقزم كلمات الشكر والامتنان؛ كونها قامت بهذا العمل في وقت تتساقط فيه أوراق الشجر بهبوب الرياح العاتية، وقد حققت الكثير من المنجزات في مجال الترميم والصيانة، وعلقت صورة عمارة حضرموت في بعض المحافل الدولية، كان آخرها مشاركة (مؤسسة دوعن للعمارة الطينية) في المحفل الدولي بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي إشادة يجب أن نقولها مع اختلافنا في توجه فكر المدرسة المعمارية التي تنتمي إليها (الدملوجي)، فنحن في بلد يرحب بالأجنبي وقد لا يقدر منجزه الميداني، ويساهم في خدمته بكل قواه، لكننا في الوقت ذاته ربينا جيلًا لا يقرأ كثيرًا وأقرب إلى الغباء في بعض الأحيان؛ لكوننا نستسلم خاضعين إلى كل فكر يأتي منهم بأنه الأمثل، ويستحيي أحد منّا من المناقشة العقلانية في بعض القضايا التي يصرّون عليها، لذلك لم يظهر من بيننا من يناقش كتابات ما يكتبون بعمق، وذلك ليس إنقاصًا منها، لكنه الاستسلام وعدم النقد، بسبب تشابه الأفكار في التربية التبعية، ولا يوجد عندنا ميدان للتصحيح والنقد المعماري، فمعظم المهندسين وحتى أساتذة الجامعات منشغلون بهمِّ تأمين حياتهم المادية، أضف إلى ذلك عدم تعرضهم لأفكار أخرى، فلو خرج أحدهم كمتخصص ولو للحظات عن أسوار التقليدية في العمارة التي حُشرنا فيها من أكثر من 30 سنة، ليتأمل سؤالًا ساذجًا (إلى متى ونحن نراهن على عمارة متوارثة ونتغافل عن تجديدها؟) ولماذا العلاقة (البيئية) تقفز إلى عمارة الطين بسرعة لتمنع عنا السؤال عن تغيير مواد البناء أو تحديثها مثلًا، أو التفكير في وسائل التبريد الحديثة والاكتفاء بالوسائل البديلة، على الرغم من أنها غير كافية، والخوف علينا من (كلفة فاتورة الكهرباء)، وإننا يجب أن نبقى على عمارة الطين بالكيفية نفسها طالما أنها غير مكلفة لدخل الفرد، لبناء مسكن في هذا البلد، الذي يتدنى فيه دخل الفرد لأسباب اقتصادية وسياسية مؤقتة، وكأنهم ضمنوا لنا الانعزال عن العالم، والتطور والتجديد مستقبلًا. هذه الأسئلة وغيرها قد تثير حفيظة التقليديين المحافظين، وأعتقدُ أنني بهذه الأسئلة قد وضعتُ نفسي في تحدٍّ مع وعاظ عمارة حضرموت وعمارة الطين، بل أشعر أنني قد تأخرتُ كثيرًا في طرح مثل هذه الأسئلة التي هي علامة على ضعف عمارتنا وليست علامة على قوتها، ولو عدت دفاعًا عن البداية المسبقة فيمن فكروا قبلنا نجدهم مخلصين تجاه التقليدية لمنجز عمارة حضرموت، ويبرؤنهم تمامًا من عدم تورطهم في تأخر عمارتنا وجعلها في محل التقديس، وهذا ما جعلنا عاجزين إلى هذا الحد عن التفكير عن إيجاد البدائل، واستخدام مواد داعمة للطين، وكأننا أرغمنا على التقليدية في الأسلوب والأدوات نتمسك بسلوك الأجداد، حتى ولو تبين لنا أنهم قد أخطأوا، وحتى لو كان ذلك حتفًا لمبانينا الطينية، وهي مغامرة أراها فاشلة في مواجهة تغييرات المناخ، ويؤسفنا أن يقول بعضنا إن هذا قدرنا أن نتمسك بسلوك الأجداد ولو تبين لنا أنهم قد أخطأوا. ويجيب التقليديون عن تساؤلنا هذا بـ(أنه واجب علينا أن نتلطف قليلًا في نقد خبرات زمانية طويلة)، وأن نتريث ونبقى حينًا من الزمن، حتى لا نسجل كثيرًا من الأهداف ضد الخبراء الأقدمين، وإن سعينا في هذا الاتجاه يرونه محاولة منا (لتصيّد الأخطاء وترقُّبها)، وأن لا نرمي كل ضعفنا على خبرائنا الأجلاء، وهنا أعتقد أنه علينا أن نكون قادرين على فصل ما فعله الآخرون، وعجزنا في فهمنا لدورهم كما يبدو في إعادة ربط (التقليد بالتحديث) في صيغة تمكننا من وضع نصوص عمارتنا المتوارثة مقابل المتطلبات العصرية الجديدة، بمعنى أن نكون جزءًا من التكوين العام للعمارة المعاصرة، لكن هذا التعليل قد لا يكون غير كافٍ لتأخر عمارة الطين؛ فالجهود المبذولة لم تكن شافية للمشكلة، فحتى المدافعون عن عمارتنا المحلية ابتعدوا اليوم عن الصفوف الأمامية حينما ظهر التعب على العمارة الطينية التقليدية بدخول المواد الحديثة عليها، فقد أحالوا (العصا) إلى غيرهم؛ لكي يتحملوا وزرها، وتركوها تتطور بعقلية (معلم البناء) (الأوسطي)، الذي أبدى جهودًا مفيدة في سبيل التطوير (بالتجربة والخطأ)، لكنها قاصرة علميًا وبغير شعارات، وبعيدة عن احتكار المعرفة التي تتمتع بها المؤسسات والمنظمات، التي كان من المفترض أن تقوم هي بهذا الدور المنقذ، ولكنها لم تدفع به، في حين نجحت في تحقيق بُعدٍ آخر للعمارة الطينية وبخاصة في بعض (الأحياء التاريخية)، وهو نجاح باهر تُشكر عليه، لكنه يُعد منقوصًا ما لم يشمل وضع هدف تنموي لتطوير مجمل عمارة الطين وتحديات مستقبلها، فعندما بدأ يظهر تغير المناخ في اليمن وفي وادي حضرموت، أخذ يتكشف العيب الذي كان غير جاد من قبل بعض الجهات، التي كانت تدَّعي أنها تحافظ على وادي حضرموت وعمارة الطين، والتي تُظهرها بثوب القادر على مقاومة المصاعب ومواكبة العصرنة، وبدأ يبرز العجز الحقيقي الذي كنا نخشاه من قبل الذين يدّعون حمايتها، وقد أصبحت اليوم في غير مأمن، فقد تتضرر عمارة الطين من أصغر العوادي، التي يمكن أن تمرغ أنفها في التراب، وقد تدفعها إلى أن تتراجع إلى الخلف؛ وذلك لكون المناظرة التي تتعرض لها مباني الطين على ألسنة هؤلاء وكتاباتهم الذين يدعون تطوير وادي حضرموت الزراعي وعمارته، لا بد وأن تأتي متلحفة بزيف الأصالة والمحافظة على التراث في موادها وأدواتها، دون النظر إلى ما تخلفه الأمطار من اضطرابات، فحينما تتعرض العمارة الطينية لاستمرار مياه الأمطار وجريان السيول السطحي، فإن ربع هذه المباني إن لم يكن ثلثها تكون تحت العناية المركزة، إن لم يشمل سقوط ضحايا منها في الحال، هذا واحدٌ من الدلالات التي تؤكد ضعف عمل المنظمات والمؤسسات في وادي حضرموت لأكثر من 30 سنة، من غير أن يصل إلينا الحد الأدنى من مستوى المقاومة لهذا الوادي وعمارته، التي تصنف بأنها متميزة، وكان من المفترض التقليل من مستوى التعرض لفيضان الوادي ليضمن للعمارة الاستمرار كما يجب، وإدخال مواد هذه العمارة إلى المختبرات الحديثة وإضافة مواد عليها، بدلًا من المبالغة في المحافظة على التراث وتحديث فكرها حتى تصحح أخطاءها، وفي أقل تقدير تصحيح المجرى الرئيس لوادي حضرموت، وترميم السدود وبنائها فيه، وتنظيم حركة المجاري بطرق علمية حديثة، لكن ما حدث خلاف ذلك تمامًا؛ فقد كان عملهم هو تهذيب طرق الصيانة الدورية التقليدية لمباني الطين في قالب علمي تعلموا منه الكثير كما تعلم طلابهم المرسلون، وتعرفوا على طرق أساليب الصيانة عن عمارتنا المحلية وهذا لا ضير فيه، لكن الذي يوضع في محل النقد (كثرة الاستفراغات لكثير من الأموال) باسم العمارة الطينية، وتارة باسم (مركز الأديب ونتر غراس للعمارة الطينية)، وتارة أخرى تحت مسمى تطوير وادي حضرموت الزراعي. إنه من المؤسف أن نقول إنه حان الوقت لنمسك بتلابيب المنظمات والمؤسسات والجهات الداعمة التي كانت تعمل في مجال المحافظة على عمارتنا ومشروع تطوير وادي حضرموت، ونسألهم عن النتائج التي تحققت إلى يومنا هذا عن وادي حضرموت، وعن الأبحاث المفيدة لعمارة الطين على مدى عمرها الذي يربو على 40 عامًا. فنحن اليوم نشاهد أصحاب بيوت الطين ينتفضون لا لأنهم ملّوا من مباني الطين وكلفتها! بل لأنهم يتشوقون لشيء من الأمل يأتي على يد هؤلاء المنظرين والخبراء، الذين أتوا لتقديم شيء لعمارة حضرموت وعمارة الطين، فالناس لا يريدون من المنظمات والمؤسسات التي تعمل في وادي حضرموت وتلك التي تهتم بالطين بأن يكونوا أوصياء عليهم، ويوزعوا الشهادات، ويعلقوا النياشين على صدورهم في يوم احتفالي لإنجاز ترميم بضعة مبانٍ طينية في شبام مثلًا، أو نفتخر بالمشاركة في المؤتمرات العربية التي يقدم غالبها أعمالًا للترويج الإعلامي الوصفي عن عمارة حضرموت، من غير أن تسهم برأي أو بحث علمي رصين في سبيل التطوير لعمارتنا التي هي بحاجة ماسة إلى دراسة مادتها، وإجراء تجارب علمية عليها؛ لمواصلة سيرها في خضم التطور العمراني، والتغير المناخي الحتمي.
الخاتمة
وختامًا أقول إننا وقفنا على جانب من صراع ما يزال في بداياته، تمثلت مسيرته بين التقليديين والحداثيين في عمارة حضرموت، ولم يبلغ إلى الآن مرحلته التي يمكن أن يطفو فيها على السطح، وهو لا يختلف عن أي صراع يرافق محتوى التطور المعماري، الذي قد يتم في أي بلد ما، وكان هدفي من ذلك إيقاظ الشارع المعماري وتفقد أحوال المهندسين، والمختصين والمفترضين على عمارتنا حتى يكونوا على يقين من أن واقعنا المعماري ما يزال يعيش مرحلة من (الهدوء قبل العاصفة) بسبب الوضع الاقتصادي العام للبلد. وقد تعقب هذه المدة نهضة عمرانية سريعة مباغتة، يضاف إلى ذلك أن عمارتنا تواجه متغيرات حتمية طرأت عليها، ونخشى على عمارتنا من الانهزام فيها، كونها فقيرة من الناحية العلمية، وما تزال تتبع منهج (التجربة والخطأ)، وبالتالي فهي غير قادرة على أن تقف في وجه الحداثة، وتتصدى لها دون أن توظف لنفسها قواعد علمية رصينة، تثبتها بالتجربة والبرهان، ولكون الخطر القادم على عمارتنا هو معركة المناطحة الاقتصادية بين مواد البناء وجودتها، وقد تكون هذه المعركة حامية الوطيس بين (مواد البناء وتغييرات المناخ)، وكيف ستتعامل عمارتنا المسكينة مع هذه المتغيرات في ظل غياب مفكرين معماريين وإنشائيين ينيرون لها الطريق؟ لذا فنصحنا كله منصب على نزع عباءة المبالغة في التقليدية والترشيد فيها، وألا نأخذها (كمشروع تقدم لمستقبل العمارة)، بل علينا أن نستوعب متطلبات المرحلة، ونعمل على توظيف المواد الجديدة بالطرق الحديثة، وبما لا يؤدي إلى فقد الهوية في نطاقاتها، وأكرر محذِّرًا من عدم نجاح (سمك الجدار الطيني العريض، ولن تقبل جدران تضعف بمجرد تعرضها للمياه)، في عمارة الغد، كما أنه علينا ألا ننخدع بكثرة مشاريع الترميم؛ فهي الحديقة الخلفية لعمارتنا، والحديقة الأمامية، تتمثل في التطوير والتحديث، والذي نحن نسعى إليه.
هذه القضايا إذا لم يتنبه لها المختصون فإن عمارة الطين ستبقى تراهن على معلم البناء (الأوسطي)، وبالتالي لن يكون قادرًا على أن يساجل مواد الحداثة في سباق التطور، فهذا يتطلب دخول المختصين ومختبرات جودة المواد وتصرفها الإنشائي في تطوير عمارة الطين، أضف إلى ذلك أن هناك تغييرات مناخية تحتاج منا إلى المزيد من الأبحاث العاجلة عن عمارة الطين، وعقد المؤتمرات في الجامعات عن المتغيرات المناخية وانعكاساتها على عمارتنا، كما أن التماهي في عدم تطوير فنون عمارتنا المحلية في مواجهة عصر ثقافة الصورة سيؤدي إلى ذوبانها في وجه عمارة الحداثة.
إنني لا أستطيع أن أشرح كل قضايا عمارة حضرموت وعمارة الطين في مقال واحد، فقد أجلت ما عندي إلى كتاباتي اللاحقة، وأرجو أن أكون قد فتحت عين المختصين على عمارتنا ولو بلفتة لكي يفهموا أين تقف عمارتنا التي نراها دائمًا في سلم التقليد أكثر من ربع قرن من الزمن. وأختم بمقولتي (إن رؤيتنا للعمارة المحلية يجب أن تكون متوازية مع رؤيتنا للتطور).
أهم المراجع:
1- الجادرجي. رفعة 2014م. دور المعمار في حضارة الإنسان، مركز دراسات الوحدة العربية.
2- الدملوجي. سلمى 1996م. وادي حضرموت هندسة العمارة الطينية مدينتا تريم وشبام، شبكة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت.
3- تقرير عن المناخ المصغر. 2008م. للفريق الحكومي الدولي المعني بتغّير المناخ.
4- مؤسسة دوعن للعمارة الطينية.
5- منصة السفير العربي، بيروت – لبنان، المقال على الرابط 14/ 8/ 2013م http://assafirarabi.com/ar/3541/2013/08
1- Columbia University in the City of New York.2009 . Graduate School of Architecture، Planning & Preservation.
2- Report of Appraisal of Y-Wadi Hadramawt Agricultural Project People’s Democratic Republic of Yemen .1976. Projects Department Europe، Middle East and North Africa Regional
3- Wiebelt، M.، Breisinger، C.، Ecker، O.، Al-Riffai، P.، Robertson، R.، & Thiele، R. (2011).” Climate change and floods in Yemen” Development Strategy and Governance Division، Washington.
م. محمد سالم مصيباح – ماجستير عمارة وتخطيط