ملف العدد
ليلى العمودي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 18 .. ص 64
رابط العدد 18 : اضغط هنا
العمارة في حضرموت.. ملازمةٌ وانتماء
تحظى حضرموت بوجود روح العمارة فيها، وهي الروح التي تظهر على السطح، إلا أن لهذا الظهور وقبلهُ التأسيس جذورًا تمتد لخصائص المجتمع، وبيئته وطبيعته، وقد يكون ذلك ميزة نُغبط عليها، فهناك مناطق ودول تغلب عليها العشوائيات البنائية، والدخيلة، ولا وجود فيها لبناء يميزها ويعكس هويتها، حتى وإن كانت تملكه -قد يُرى في مناسبات إحياء التراث لكنه لم يعد مستخدمًا-، في حين أننا نذكر حضرموت فنستذكر المباني الطينية وصورة شبام أولى الخواطر، وكذلك الأمر عند ذكرنا صنعاء فيطلّ على الذاكرة البناء الصنعاني المميز والمتقن.
كان لحضرموت -شأنها شأن العديد من المدن- فن معماريّ امتاز بشكله وبمكونات بنائه، حيث تماشت هذه المكونات مع الظروف البيئية والمحلية الخاصة بالبلاد، ما أضاف عليها طابعًا مميزًا لمظهرها الخارجي، ولجوهرها. وتعد العمارة التقليدية التراثية حصيلة لأجيال متعاقبة أنتجت هذا الشكل بعد معرفة وخبرة طويلتيْن بالبيئة ومناخها. وبدورها العمارة هنا تأثرت بعوامل أخرى، أكثرها خصوصية هي: الهجرة الحضرمية وما أحدثته من أشكال معمارية وتفاصيل بنائية دخيلة على ما كان موجودًا قبلها.
وفي حديثنا عن العمارة الطينية التي تربط الإنسان بأرضه، من المثمر الإشارة إلى ما قاله المفكر الدكتور عبدالوهاب المسيري رحمه الله حول أهمية المعمار ودوره في تأصيل الانتماء لقومية المرء، حيث يقول: “ومن أهم الوسائل لتعميق الإحساس بالهوية المعمار، فهو الشكل الفني الذي يمكنه أن يجسِّد النموذج القومي والذي يعيش في داخله المواطن، يتعامل معه في كل لحظة، ويتفاعل معه سواء أكان مستيقظًا أم نائمًا، ويستوعبه ويستبطنه داخل وجدانه كل لحظة. بل إن المعمار يحدد له محيطه وخريطته المعرفية والنفسية وإحساسه بالعالم كله، خصوصا وأن اللغة المرئية تخترق وجدان الإنسان بشكل يفوق في قوته وتأثيره اللغة اللفظية”. وهذا الترابط ستكون نتيجته الحتمية تجانسًا بين الإنسان وموارد بيئته، وفي هذا الصدد، يؤكد الباحث “صبري عفيف” أن سبب بقاء البناء الطيني في حضرموت واعتماد الأهالي عليه هو أن طبيعة الطين مناسبة للإنسان الحضرمي، وذلك عائد لبرودته بعكس البناء بالإسمنت والخرسانة المسلحة، والتي تمتاز بالحرارة العالية، ومن جانب اقتصاديّ فإن التكييف واستهلاك الطاقة الكهربائية تكون أكثر في المسلح، بينما يعد الطين أكثر ملاءمة للاقتصاد كونه متوفرًا في البيئة المحلية، وبالتالي ستكون تكاليف البناء أقل.
حضرموت.. ثنائية الأرض والإنسان
تربع الطين على مواد البناء الأخرى، فكان هو المصدر الأساس للعمارة الحضرمية، والإنسان هناك ليس بمعزلٍ عن غيره من بني البشر، حيث لازمت هذه المادة الإنسان منذ القدم، وكانت بذلك إحدى مواد البناء الأساسية؛ وعليهِ تسمى عمارة حضرموت التقليدية بـ “العمارة الطينية”. وقد وجد الإنسان في هذا النوع من البناء امتدادًا وارتباطًا بالأرض، وتأكيدًا على ملازمة الإنسان لأرضه وبيئته التي خُلق في حدودها، وعاش فيها. وبخلاف هذا الارتباط الذي لا مفرّ منه فإن للطين ميزته في التقليل من درجات الحرارة خلال صيف حضرموت الحار. وكان الإنسان الحضرمي قد تعايش مع أرضه، فأوجد طرقًا لتبريد الأشياء، كالطين في البناء، والقِربة في الماء.
هذا واعتمدت العمارة الطينية في عموم اليمن على نوعين، هما: ما يتم بواسطة اللبنة أو المدرة وهو الطوب غير المحروق، المستخدَم في عمارة وادي حضرموت، أما النوع الآخر المستخدم في مدينة صنعاء القديمة فيسمى بالطوب الآجر أو اللبن المشوي أو المحروق.
وللطين خصائص ومزايا عدة لعل أهمها للساكن فيه: توفير درجة عالية من العزل الحراري حيث يكفل بذلك الحد الأمثل للراحة الحرارية، بخلاف مواد البناء الأخرى كالأسمنت، ويعود ذلك لكون الطين مادة لا تنفذ من خلالها الحرارة إلا بعد وقت طويل يصل إلى (15) ساعة تقريبًا في سماكة 40 سم، في حين لا يتعدى الـ 5 ساعات في الجدار الإسمنتي بسماكة 20 سم. وهو أيضًا يشكل مادة عازلة للصوت نتيجة سماكة الجدران في هذا النوع من البناء.
وتجلّت معالم هذا البناء العظيم في إنسانيته، والبسيط في مواده في وادي حضرموت، حتى أُطلق عليه: “وادي الطين”؛ وذلك عائد لبروز هذه المباني وتمثيلها واجهة الهوية، حيث تشكل نسبة المباني الطينية 95% من المباني في الوادي، ويصل عمر بعض المباني فيه إلى قرون عدة دون أن تشهد اندثارًا أو زوالًا، وربما تكون تقنيات البناء الخاصة، وطبيعة الطقس الجاف سببًا لهذا الاستمرار الراسخ، ونرجو أن لا يخذلنا. فلم نعد نعوّل على البشر.
لمّا كانت شبام محاصرة بضيق المساحة نتيجة موقعها الجغرافي، ومحاطة بأراضٍ زراعية من كل جانب، اتجه بناؤها رأسيًا إلى أن وصل بعض مبانيها إلى ثمانية طوابق طينية.
وتعود خصوصية شبام وتميزها وتصدرها واجهة العمارة الحضرمية بالرغم من امتلاء الوادي بهذا النوع من المباني -تعود- لهذا الارتفاع العالي، ولأسلوب البناء بالطوب الطيني على أساسات حجرية، وبجدران تميل واجهتها الخارجية نحو الداخل، وتُمسح جدرانها الخارجية بطبقة خفيفة من الطين المخلوط بالتبن. في حين يتم مسح جدران الدور أو الدوريْن العلويين -في غالب الأحيان- بطبقة خفيفة من مادة النورة البيضاء، حيث يؤدي هذا المسح لحماية المبنى من الأمطار، ولعكس أشعة الشمس الحارة؛ وبذلك فلا وجود لمدينة في الوادي -غير شبام- حظيت بهذا النمط البنائي القائم على تكثيف مساحات البناء في رقعة محدودة، وبارتفاعات عالية.
الشتاتُ الذي طال البناء
لم تكن العمارة بمعزل عن آثار الشتات الحضرمي التي طالت كلّ تفاصيل الإنسان الحضرمي؛ فظهرت آثاره واضحة في المباني، فلم يكن جيل المهاجرين الأوائل على علمٍ بأهمية الموروث الثقافي الخاص بأرضهم مما اضطرهم -بعد عودتهم- لرؤيته شيئًا مقرونًا بالتخلف وربما بذكرى الماضي أي قبل هجرتهم وترحالهم، وبدورهِ أظهر المجتمع الحضرمي إعجابًا تلاه قبول بهذا النمط المعماري الجديد، فأنتج هذا القبول تجاهلًا للتراث العمراني المحلي والمميز بتعايشه البيئي، وظهرت مبانٍ لا تحتوي على التفاصيل المعمارية الخاصة والزخرفية بالبناء الطيني الأصلي. وساهم التجار بـ”تهجين العمارة المحلية” ببعض أنماط البناء الخاصة بدول شرق آسيا والهند.
ولكن لم تكن هذه الحالة في عموم حضرموت، حيث يقول صبري عفيف عن مدى تأثير المهجر: “المصممون والبناؤون الحضارمة قد نقلوا كثيرًا من أنماط عمارة المهجر وأسقطوها على العمارة الحضرمية بعد تعديلها وإصباغها بنكهة محلية إبداعية”.
ولا تعني هذا النظرة تصلب الموقف ضد كل ما هو مستحدث وجديد، بل إننا نرغب باستغلال هذا الموروث وتوظيفه في إبراز الهوية المعمارية لحضرموت، مع التأكيد على ضرورة الاستفادة من العمارة بمفهومها الحديث لابتكار حلول حديثة لعمارتنا التقليدية والحفاظ عليها، مما يعني أننا نرفض إلغاء الأصل بالكامل وتثبيت الدخيل بالكامل أيضًا!
ويمكن رصد بدء تأثير المهجر في أوائل القرن الثاني عشر والثالث عشر الهجريين، حيث ارتبط الحضارم في ذلك الوقت بالهجرة، وبدأ التأثر والتأثير يأخذان مجراهما، وعليه ظهرت في الساحة المعمارية عدد من المباني التي تصور هذه المرحلة، وتعتبر ظاهرة القصور في حضرموت وتريم خصوصًا انعكاسًا بارزًا لتلك المرحلة، كقصور الكاف في تريم، وبعض مساجدها، إضافةً لقصور وادي دوعن.
يكشف كتاب: “حضرموت إزاحة النقاب عن بعض غموضها” بعض التفاصيل حول مدى التأثر بالمهجر، ويرافق حديثه وصف عن أصالة البناء الحضرمي وجماله، أكد فيه خصوصية البناء الطيني وروعته المتفردة.
شبام العالية.. “منازل ناصعة البياض بفن معماري رفيع”
عند دخولهم شبام يقول: “وفجأة رأينا أمامنا شيئًا يشبه السراب: كتلة مربعة رمادية ترتفع عالية فوق الصحراء، ويبدو جانبها الأعلى وكأنه مغطى بالجليد. هناك تقع شبام. نيويورك حضرموت، وواحدة من أكبر مدنها الثلاث ومركز لتجارتها لقرون مضت. وتحمي مزارع النخيل أسوارها العالية من الرمال الزاحفة، فهي مخفية حتى أن المنظر الخلّاب للمدينة العظيمة وهي تلوح في الصحراء يفاجئ الشخص الغريب بعنفٍ وهو يقترب من شبام للمرة الأولى من اتجاه القطن. لا توجد مدينة في حضرموت مصممة بمثل هذا الإحكام وبهذه المنازل العالية مثل شبام. كل المنازل تقريبًا لها طابق في السطح مطلي بالجير الأبيض، مما يعطي ذلك الإحساس الرائع بأنها تشبه الكيكة بُنية اللون المحلّاة بالسكر”.
“هذه المدينة العجيبة. تكون الشوارع أنفاقًا ضيقة داكنة بين المنازل العالية الرمادية المبنية في صفوف”… “تُقام المساجد في المساحات وهي بحقّ مثل التحف المصنوعة من السكر وسط البيوت العديدة الطويلة”
وعن كثرة المساجد يقول: “إن السيد الذي جمع ثروة في المهجر يقوم أولًا ببناء المسجد ثم بعد ذلك المنزل، حيث يوجد دائمًا بجانب منازل الأثرياء مسجد بمئذنة، مطلي باللون الأبيض الخلّاب، ويعزو ذلك لأنه مدين بوضعه الثري هذا لدينه الإسلام ولعون الله له”.
سيئون الطويلة.. وتريم الغنّا..
أما عن سيئون وتريم مركزا الحضارم الذين أثـروا في جاوا فتتضح معالم التأثر.. فيقول عن أحد بيوت الأغنياء الذين أثْروا بالمهجر: “شيء من الجمال القديم. وأصبح البناؤون بارعين بحق في التعامل مع الطين والجير الأبيض. واستطاعوا تحويل الأعمدة المصنوعة من جذوع النخيل كأنما بلمسة سحر، إلى أعمدة مستديرة قوية المنظر ولها تيجان أنيقة في رؤوسها”.
وعن تأثيث المنزل فنلمس ونرى فيه روح المهجر، على سبيل المثال، منزل عمر الكاف كان يحوي على كراسي متأرجحة “هندية” ذات طراز قديم، أما سرير غرفة الاستقبال فهو معد بالطريقة الجاوية.
وإجمالًا تشتهر تريم بأنها “مدينة القصور”، جاء في الكتاب عن منزل عمر بن شيخ الكاف أنه أجمل منزل في تريم، بألوان بهيّة، كالأزرق والأصفر والوردي والأخضر، وبنوافذ طويلة. أما أسلوب البناء فهو هندي أكثر مما هو حضرمي.
وعن خصوصية تريم فإن المؤلف أشار إلى أن المنازل الفخمة فيها تحمل سمات خاصة بها لا تُرى في مدن حضرموت الأخرى، ويصفها: “ضخمة، ومربعة الشكل، وبها صفوف طويلة من النوافذ، والزخرفة قليلة في أعلى الجدران والشرفات/ والطابق الأرضي فخم جدًّا”، يضيف: “يمكن ملاحظة علامات الاتصال الوثيق مع البلاد الأجنبية خارج وداخل هذه القصور، بالذات مع سنغافورة وأيضًا جاوا”، ويخص بذلك استيراد الأبواب الجاهزة من جاوا وسنغافورة.
يضيف عن تريم: “ليست رمادية وبيضاء كما سيئون، بل خليط من كل الألوان الزاهية. تريم كمدينة، شيء بذاتها. هي مدينة العديد من الأغنياء، يمكن ملاحظة ذلك حتى من بعد”. “هنا الرشاقة، هنا التنوع البهيج للخضرة العميقة، وهنا التمسك بالأسلوب الحضرمي نقيًّا ومتجانسًا”.
وعن المقابر ذات القباب خضراء اللون يقول: “جمالها الذي يخلو من المباهاة”.
وربما كان سرّ حضرموت الدفين هو نفورها من المباهاة، والذي انعكس على طابع بنائها الذي لا زال حاضرًا، وطابع أبنائها في كلّ المهاجر، وحتّى في أرض الوطن.. حضرموت.
هكذا كان لحضرموت فن معماري يعكس صورتها، وصورة الإنسان الذي يرفض ويتجاهل الامتزاج بالمتغيرات الجارفة رغم وجوده وسط هذا الانجراف، وفي الوقت نفسه الإنسان الذي استطاع جمع المهاجر في عائلة واحدة، وأخذ منها ما استساغه ليضيفه على البناء الحضرمي، فأنت عندما ترى إحداها تشعر وكأن عينيك جالت في منطقة راحة لها، لا شذوذ ولا مبالغة.
هذه العمارة التي تخاطب الروح فتثير فيها كوامن الشوق للجذور، وللطبيعة، وللإنسان الرحيم في المقام الأول، وللنفس الصافية… وربما الحب! نحن بحاجةِ الحب، فهو ما صرنا نفتقده معشر اليمنيين.
إلا أننا نعتب التجاهل الدائم لحضرموت فهذه العمارة، وهذا التراث الحاضر قد تزيله عوامل الطبيعة فلا يبقى لنا منه إلا الذكرى. الذكرى وحدها سلوى اليمنيين، لكننا سئمنا سلوى كهذه، ونريد حضارتنا وتراثنا أمام أعيننا، فلا تسلبونا ما يبقينا رافعي الرأس وسط كل هذه المهازل.
المراجع:
– حضرموت إزاحة النقاب عن بعض غموضها، دانيال فان در ميولين، والدكتور هـ. فون فيسان. ترجمة وتقديم: محمد سعيد القدال
– الحفاظ على إرث العمارة الطينية، وادي حضرموت دراسة حالة، سالم عوض رموضة، خالد سالم باوزير، جامعة حضرموت للعلوم والتكنولوجيا، المكلا، الجمهورية اليمنية.
– دراسة تأثير التغيرات البيئية والمستجدات المعاصرة على العمارة الطينية، دراسة حالة: وادي حضرموت في اليمن، ياسر خالد السقاف، عصام صلاح سعيد، قسم الهندسة المعمارية، جامعة حضرموت، وجامعة أسيوط، 2016م.
– دراسة تأصيل قيم الهوية المعمارية التقليدية في مباني إقليم حضرموت بالجمهورية اليمنية، مدينة المكلا كدراسة حالة، د. فهد صالح جوهر، مجلة الأندلس للعلوم التطبيقية، العدد (5) المجلد (11) يناير 2016م.
– أ. صبري عفيف
– البيت الحضرمي (دراسة للعمارة الطينية الحضرمية وما آلت إليه اليوم من تغيرات الأزمنة)، محمد علي، ص16
– دفاع عن الإنسان، دراسات نظرية وتطبيقية في النماذج المركبة، د. عبد الوهاب المسيري، دار الشروق، مصر.