صالح حسين باعامر
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 18 .. ص 69
رابط العدد 18 : اضغط هنا
العلاقة بين الإنسان والبحر اتسمت بالكر والفر، بالسعادة والشقاء، بالحب واللاحب، بالوضوح والغموض، فكلما كشف البحر عن شيء منه واتضح أكثر جدد المرء عزمه لسبر غوره أكثر، وكلما ازداد غموضًا ازداد رغبةً في امتطائه.. لما أفتح عيني على الحياة فإذا به يأخذني كما أخذ غيري، فأجدني أقف أمام تمدده وتموجاته وتلوناته وصخوره، يغريني بالتقرب إليه فنبدأ نتبادل الغزل.
أهم صعوده فتعوقني أمواج تتلاطم وهي تتقدم نحو اليابسة، تتكسر، تفترش فوق الرمل الذي أخاله سجادة مسجاة تلونت بالماء والضوء. يتنشر الزبد فيزيد المكان والزمان سحرًا وجمالًا، أحاول اختصار الزمن وكل مقدمات التعارف والحب والوصال بتلمس قدمي بعضًا من رذاذه، وأهم الإمساك بمويجة تتهاوى فيختفي تبقى تكسراتها فأراها وغيرها من الأمواج تندمج في بعضها وتنغمس في الأعماق لتتشكل ثانية، ومن جديد تتنافس في السباق للتقدم نحو اليابسة؛ لتعيد ترحالها جيئة وذهابًا.
في الوقت الذي يتم فيه تهيئة (السنابيق) الجاثمة فوق المجحب التي أخذ منها البحر طوال إبحارها، والذي بدا واضحًا فيما علق فوق ظهورها من نتوءات، يهل كبار النجارين من آل بن ربيد من الديس الشرقية فيشكلوا مع آل بازياد من قصيعر مجموعة واحدة، تقوم بصيانة السنابيق وترميمها، بدءًا (بالهارب)، أي: قاعدة السنبوق والشلمان، أي: أضلاعها، أو السطحتين اللتين في المقدمة وفي المؤخرة، والخن، والبندول، والمطبخ، ومكان المؤن والمياه والحطب والتنور، ومكان قيادة السنبوق الذي يقع في السطحة الخلفية، والديرة، أي: البوصلة، والشاروني، أي: مكان التغوط، ومجلس الناخوذة والربان والصرنج ومساعديهم من كبار البحارة من ذوي الخبرة بتقلبات البحر والرياح ومواجهة الأخطار.
في مقدمة السنبوق (الصدر) يتولى بعض من البحارة عملية الاستطلاع ومراقبة ما يمكن أن يطرأ أمام السفينة، وبقية البحارة يتوزعون في أنحاء السفينة لمعاينة الدقل والشراع والحبال ومراقبة البندول من تسرب المياه.
في مكان مجاور من السفن الرابضة فوق (المجحب) ترى بعض البحارة ومن عمال البحر والصيادين من يقوم بترميم الأشباك وعدة الاصطياد و(يفتخون) خيوط الصنانير بلون شجرة (الفتوخ) لإكسابها مناعة ضد الماء وإعطائها لمعانًا يجذب الأسماك إليها لتقع في المحذور، والتأكد من سلامة (الطرقة) التي يزرق بها صيادون مهرة سمك القرش وسمك الديرك، والتأكد من أن المنازك مغروسة في رؤوسها، ومن وجود (العساوي) الخشبية التي يضرب بها رؤوس أسماك القرش حتى لا تظل الروح نابضة فيها.
وفي جانب آخر ترى الدقل والشراع والقلمي، وفي هذه الأثناء يتم إزالة النفايات التي لما تزل تنتشر فوق المجحب من العام الماضي، مثل (البراميل الصدئة)، أي: الأوعية التي كانت تحتفظ بـ(الصيفة)، أي: زيت السمك، والتي بها يتم دهن واجهات السفن وبطونها قبل تشحيمها، وطلاء جوانبها العليا بالألوان المختلفة وبالأبيض خاصة بهدف الوقاية والزينة والشكل الجمالي للسنبوق في آنٍ، وذلك يأتي بعد سد الفراغات والشقوق بالقطن المبروم والمغمور بزيت الخاص بالأخشاب.
بعد عودة (المتخرفين) من غيضة عسد الجبل أو غيضة معبر بعد جني محصول ثمار النخيل، الذي يتزامن مع حلول نجم الدلو في شهر أكتوبر وبدء موسم الإبحار.. يبدأ النجارون العمل في الترميم، الذي يستمر أيامًا وما إن يتم الانتهاء من الترميم والصيانة يعلن النجارون عن هذا الانتهاء بدق المسامير الكبيرة بالمطارق وتثبيتها في ظهر السفينة بإحداث دقات إيقاعية متناغمة، أخاذة تجذب المارة الذين يقفون أمام ما يعتمل من مشهد جمالي للفرجة والاستمتاع بالتداخل السيمفوني، وكأن الذين قاموا بتأدية هذه اللقطة الفنية تؤديها فرقة عزف خبرت النقر وتعاطته طويلًا.
بضع أيام ويتم الربط، وهي عجلات معدنية صغيرة بحبال قوية تساعد على سحب الحبال والسنبوق بسلاسة فوق أعواد خشبية عملاقة إلى الماء. وآخرون يتكلفون بتجهيز (الراشن)، أي: الزاد من الغذاء، الذي لا يزيد عن نوع واحد من حبوب الذرة البيضاء، وبراميل الماء للشرب، وما يكفي من البُن لإعداد القهوة.. وآخرون يجمعون (الفرم) لوضعه بقاع السفينة عندما تكون راسية في البحر، وهو عبارة عن أحجار كبيرة وأكياس من الرمل بها يتوازن السنبوق عند إمخاره.
قبل الإبحار بيوم واحد يقدم الناخوذة للبحارة مبالغ نقدية (قدمة) يخصمها في ما بعد من المبلغ الذي سيحصل عليه البحار عند نهاية الموسم وفقًا لعدد أسهمه من الإنتاج طيلة عمله خلال الموسم، هذا المبلغ الذي يستدينه البحار يسلمه لأسرته؛ لتدبير أمرها للإيفاء بمتطلباتها في أثناء غيابه.
قبل التكوير بيوم واحد ينزل (المطرب) إلى الشارع لينادي المواطنين؛ ليخرجوا إلى المجحب لدفع السنبوق، الذي تقرر تكوير السبوق إلى البحر، وهذه المناداة يقال لها (التطروبة)؛ إذ يردد المطرب بالشكل الآتي:
الأوله صلوا عليه
الثانية صلوا عليه
الثالثة صلوا عليه
يعلن قائم البلدة أن صباح يوم غد تقرر تكوير السنبوق الفلاني، وعلى جميع الأهالي الخروج إلى الشاطئ لسحب السنبوق.. والحاضر يخبر الغائب.. ثم ينتقل المنادي من مكان إلى مكان إلى أن يتيقن من أنه أخبر أكبر عدد من المواطنين، حينئذ ينهي مناداته.
في صباح اليوم التالي يكون الناس فوق الشاطئ، ويبدأ ذوو الخبرة في عملية التكوير بمد أعواد خشبية كبيرة من طرف المجحب إلى أطراف الشاطئ، ويسحبون فوقها السنبوق، الذي تقرر تكويره في ذلك اليوم، مع ترديد أهزوج:
بو مسلم قال بالناظور خايل ساعية
نتخت من زنجبار
فوقها شبان ليما يحسبون التالية
يشربون الحلو قار
ويكررون:
يا مسوبان سوبان أو غيرها من الأغاني البحرية، وأحيانًا كثيرة يبتكر من لديه موهبة شعرية أغنية بحرية جديدة أو أهزوجة، مثل ما فعل رجل البحر القصيعري يسر بن خميس يومًا حين ابتكر أهزوجة جديدة من بنات أفكاره في الستينيات من ق 20م حين سمع عن تكاثر سمك (الجدب) في المكلا قائلًا:
الجدب قال شلونا
شلونا بغيت المكلا
يا مسوبان سوبان
ومسوبان: (هو إله البحر في المعتقدات القديمة).
هكذا تتم عملية التكوير إلى أن يتم الانتهاء من سحب كل السنابيق التي تستقر فوق المرسى استعدادًا للإبحار.
السرد القصصي البحري:
اعتنى الروائي السوري حنا مينة بالبحر كونه جرب ركوبه مثل ما جرب عددًا من المهن، وكتب عنها، لكن كتاباته عن البحر تركزت حول روايات بعينها، هي: (الياطر – الصراع والعاصفة)، وثلاثيته: (حكاية بحار – الدقل – المرافئ البعيدة)، وكل كتاباته البحرية رافقتها أغان تتعلق بالبحر، وثمة روايات له بعيدة عن ثيمة البحر، رافقها غناء شعبي وُظِّف توظيفًا فنيًا ورمزيًا غدا من الفنيات والتقنيات التي لازمت السرد الحديث، وهذه التقنية مثلها من التقنيات الفنية التي استفاد منها السرد القصصي والروائي؛ إذ إنه أخذ من المسرح الحوار، ومن السينما الفلاشباك والمونتاج، ومن الشعر التركيز والتكثيف.. وفي العقود الأخيرة تقاربت الفنون وتداخلت مع السرد القصصي.
على مستوى السرد لم يعتن السرد العربي بالبحر إلا بعد أن كتب حنا مينه رواياته، فهو الوحيد الذي همس بالبحر والكتابة عنه سرديًا إذا ما استثنينا الروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، الذي كتب رواية واحدة عن البحر هي (السفينة)، أما على المستوى الإنساني فنجد الكاتب والروائي الأمريكي إرنست همنجواي من خلال روايته (الشيخ والبحر)، والروائي اليوناني كازانتزاكيس الذي كتب رواية (زوربا)، ورواية (موبي دك) لهرمان الأمريكي هذا بحسب علمنا.
وبالنسبة لليمن لا نجد سوى كاتب هذه السطور الذي عالج فنيًا تعاطي الإنسان الحضرمي مع البحر، والذي اعتنى بالملاح والصياد الحضرمي، وبفضاءات بحر العرب وامتطائه من خلال الإبحار إلى شرق أفريقيا والبصرة والهند، جسد ذلك من خلال ملحمة البحر والإنسان الحضرمي في رواية (الصمصام: 1993م)، و(إنه البحر: 2013م)، والثالثة يشتغل عليها، ولا ننسى رواية (صمت الأشرعة) للروائي خالد لحمدي، الذي عشق البحر من خلال حبه لمدينة المكلا وحبه لشريفة.
ما أن تستقر السفن فوق المرسى حتى تنصب الأدقال فوقها، وترتفع الأشرعة، ويصاحب ذلك غناء بحري ورقص فوق السطحات والدق بالأرجل دقات إيقاعية مصاحبة للغناء وابتهالات، بعد ذلك يبدأ الإبحار باتجاه (ماخر)، وهذه الكلمة إلى جانب كونها تعني الإمخار، فهي تعني التوجه شرقًا بلاد المهرة وعُمان، ثم تعطف إلى جزيرة سقطرى، ثم إلى شرق أفريقيا – جزيرة زنجبار، وكينيا، والصومال. ولا تعود من رحلتها هذه إلا وقد باعت إنتاجها السمكي، وابتاعت ما تريد من الأخشاب والذرة والزيوت وثمار النارجيل والفواكه والحلويات، وبوصولها إلى البلدة تنتعش التجارة والحياة العامة.
أقف مثل غيري من الناس كبارًا وصغارًا رجالًا ونساء، أستقبل السفن القادمة من جهة ماخر التي تنبئ بقدومه ضربات المدافع، فيردد كل من هو فوق الشاطئ مرحبين بالقادمين:
( هورياه هوريا)
دون أن ندري ماذا تعني هذه الكلمة.
وكما اعتدت كل صباح أن أقوم بزيارة للبحر أستجدي انتمائي إليه، ولا أقفل مدبرًا إلا أن أودعه ببيت من طلاسم إيليا أبي الماضي:
(قد سألت البحر يومًا هل أنا يا بحر منكا؟
ضحكت أمواجه مني وقالت: لست أدري؟)