إبداع
سالم بن سليم
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 18 .. ص 111
رابط العدد 18 : اضغط هنا
إن اللحظة التي أحست فيها بشعور العجز الذي يكاد أن يعميها عن رؤية أية بارقة حل أخرى، هي عندما رأت أن حلاوة ضرعها لم تعد كافية لإنعاش صغيرتها لترفرف من جديد، وأن تحريك وركها بحركتها المميزة لجلب النوم لم يعد يجدي.
إنها تذبل أمام عينيها، لا تستطيع أن تجعلها تنام أو تستيقظ، تفتح عينيها بنصف إغماضة وهما مشبعتان بالوهن.
إنها تنظر.. وفقط تنظر، وتتلو ما تحفظه من أدعية وصلوات. بينما -ومن خلف دمعة ألم- تتحرك قرة عين صغيرتها ببطء نحو اتجاهات عبثية، من يدري؟! ربما ملائكة الله هناك يجلسون في صمت.
يومان وكل ما عصرته من لبابة عظامها لتشكل به هذا الجسد الصغير يذوب، وبدت أطرافها الصغيرة عارية وملتوية.
كل وعود العالم تحت الأسقف المنمقة والقاعات الكريستالية لم تلتف نحو هذا الشيء الصغير.
كل المنابر المعتقة، والمعبدة بالزخارف كانت تنظر عاليًا فوق مستوى هذه (العشة).
وبقيت الأم تفتش في صناديقها عن أجرة تحملهما لكي تصبحا في مجال رؤية أحد ما في الأقل.
القرية ما زالت تحتفظ بنخوتها ولكن يا للعجب، كل سفن النفط التي تمخر بحار الله بعيدًا في كل اتجاه، لم يتفلت منها القليل ليملأ أنابيب سيارة القرية.
يوم ثالث أيضًا أمضته الأم تسعى، تهرول بين الرجاء والأمل، وهذا الجسد الصغير يذبل أكثر، وما زالتا كلتاهما تحت خط رؤية الإنسانية ذات البدلات الأنيقة والأشمغة باهظة الثمن.
إنهما أخيرًا بباب النجاة، وعند دخول باب المشفى كان ذلك أشبه بدخول عالم من المرايا العاكسة اللامنتهية.
المئات من النساء ذوات الأقدام المدماة من الركض نحو النجاة، المئات من الأجساد الصغيرة المعصورة وهي تتلوى على الأسرَّة وعلى أرجل الأمهات اللاتي يفترشن أرضيات الممرات المتسخة،
– اجعليها تشرب المحلول إن استطعت
المئات من الأعين التي تتحرك ببطء يائس من كل شيء في هذا الكون المنافق.
– احقنيها بالمغذيات سوف يقتلها الإسهال.
وبعد الممر الأول والثاني قابلت الملاك الحقيقي المتجسد، يرفرف بأجنحته البيضاء هنا وهناك ولكنه بدا مكسورًا وعاجزًا أيضًا.
– لقد تأخرتم كثيرًا، هذه الكوليرا لعينة حتى على الكبار.
أرجل الأم سرير ويدها حامل المغذية والمساحة التي تجلس فيها هي غرفتها الافتراضية.
لم يكن باستطاعة الملاك الجميلة سوى أن تدس الطرف المعدني في هذا الجسد، وتسكب بداخله نتاج تلك الاجتماعات والاتفاقات الدولية، وتمسح جبينه ثم تطبعه بقبلة دافئة، تبتسم بوجه الأم بصمت وتغادر.
اليوم الرابع، عندما فتحت الأم عينيها، كانت ما تزال في الممر ذاته ولكن بجيران جدد.
اليوم الخامس كانت الأم عائدة نحو القرية، وحدها، إن فرصتها أقل من النصف في أن يلتفت لها أحد.