أضواء
أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 19 .. ص 6
رابط العدد 19 : اضغط هنا
تمهيد:
في بداية عام 1993م كنت طالبًا في السنة التمهيدية لمرحلة الماجستير في قسم التاريخ جامعة عدن، وفيها تم تكليفي من قبل الأستاذ الدكتور سيد مصطفى سالم بكتابة بحث تاريخي عن الأوضاع الاقتصادية في السلطنة القعيطية، وكان هذا هو المدخل المباشر في الاتصال بالأستاذ صالح سعيد بن عكظة (رحمه الله)، الذي يعد من مؤسسي النظام المالي للسلطنة القعيطية، وهو شخصية ممكن وصفها بالرزينة والودودة مع مسحة جميلة من الوقار غير المتكلف، وتعود معرفتي به إلى كوننا نعيش في حارة واحدة بحي برع السدة (حي السلام) بمدينة المكلا، لهذا كان من الأهداف القريبة في خطتي البحثية عن التاريخ الاقتصادي للسلطنة القعيطية، وتحت سارية من سواري مسجد المشهور بالمكلا كان دخولي معه في دردشة حول مالية السلطنة القعيطية واقتصادها، لكنه اقترح أن أقدم له تساؤلات مكتوبة، ووعد بالإجابة عليها، وفي هذا اللقاء عرضت عليه وثيقة باللغة الإنجليزية تبيّن ميزانية السلطنة القعيطية لعام 1962م فأخذ قلمًا وقام بترجمتها في الجلسة ذاتها.
الأستاذ صالح بن عكظة من مواليد مدينة المكلا عام 1928م، ومن خريجي الدفعة الأولى من المدرسة الوسطى بغيل باوزير عام 1944م، وهي دفعة زميله الدكتور المؤرخ محمد عبدالقادر بافقيه (رحمه الله)، كما أنه شخصية مستقلة، ومحاسب محترف مخضرم عاصر في سنوات خدمته في السلطنة القعيطية (1945- 1967م) تأسيس نظامها المحاسبي، كما شهد في مدة عمله في جمهورية اليمن الجنوبية/ الديمقراطية الشعبية (1967- 1980م)، بدايات تشكل الدولة الجديدة التي ضمت حضرموت تحت المسمى الإداري (المحافظة الخامسة)، وهي جمهورية أبقت على كبار الموظفين المهنيين (من العهد البائد) في تسيير الأمور المالية، واستفادت من خبراتهم، وكانت وفاته في 12/ 12/ 2015م بعد أن أمضى (35) عامًا من عمره في العمل الرسمي، و(35) عامًا أخرى خارج الوظيفة الرسمية.
نص الوثيقة(1):
بسم الله الرحمن الرحيم
المكلا 25/ 9/ 1993م
الولد عبدالله سعيد الجعيدي المحترم
تحية:
إليكم الإجابة عن سؤالاتكم، وقد حاولت اختصارها بقدر الإمكان حتى تكون مفهومة لديكم، وأرجو المعذرة عن التأخير، وأتمنى لكم التوفيق في دراستكم
المخلص والدكم
صالح سعيد بن عكظة
بسم الله الرحمن الرحيم
• اسم آخر وظيفة شغلتها في أثناء مدة عملي بالسلطنة القعيطية كانت وظيفة رئيس المحاسبين بمالية الدولة، وقبلها شغلت عدة مناصب بدأتها بوظيفة كاتب، ثم تدرجت إلى وظائف: مساعد سكرتير أصغر، ثم مساعد سكرتير في الشئون الإدارية، ثم في شئون وأعمال الأراضي، ثم في الشئون القانونية والترجمة، ثم في شئون أعمال الموظفين، ثم في الشئون المالية، وعندما عينت الحكومة وزيرًا للسلطنة شغلت منصب مساعد سكرتير في الشئون المالية، وهي تقوم بإعداد الموازنة السنوية للدولة بشقيها الإيرادات والنفقات، بعد مناقشة ذلك مع مختلف الدوائر الحكومية، وإصدار اللوائح والمنشورات المالية، والأذونات المالية، التي تنظم الصرف على الموازنة، ومراقبة الصرف، والإيرادات الحكومية، بعد المصادقة على الموازنة العامة من قبل مجلس الدولة، الذي يتكون من السلطان رئيسًا، وعضوية وزير السلطنة، والمستشار المقيم، وعدد من كبار موظفي الدولة، مثل رئيس القضاة الشرعيين بالسلطنة، والسكرتير المالي، ورئيس الجمارك، ومدير المصارف، وبعض أعيان البلاد الذين يمثلون ألوية السلطنة كما كانت تسمى سابقًا، وهي: لواء المكلا، ولواء الشحر، ولواء شبام، ولواء دوعن، ولواء حجر، واللواء الغربي الذي يمثل منطقة عرما والعبر والمناطق التابعة لها. وللإيضاح فإن مجلس الدولة المشار إليها آنفًا يعد بمثابة البرلمان أو الجهة التشريعية للسلطنة ويختص بالمصادقة على جميع القوانين والتشريعات والأنظمة التي يُعمل بها في السلطنة.
• لا يعرف بالتحديد متى أدخل نظام الموازنة في السلطنة القعيطية، ولكن المرجّح كما يقول من سبقوني في العمل أن السلطنة بدأت تنظم أمورها المالية وإدخال نظام الموازنة في عام 42/ 1943م وصدرت لها أول ميزانية سنوية منظمة في ذلك العام.
• إيرادات السلطنة كانت تعتمد على الضرائب والرسوم الجمركية التي تفرض على جميع الواردات من المواد الغذائية، والمواد الأخرى من الكماليات والأخشاب وغيرها من الأدوات، التي كانت ترد إلى جميع موانئ السلطنة البحرية والجوية، التي كانت منتشرة في مختلف ألوية السلطنة، وكذلك الموانئ والجمارك البرية، وكذلك الرسوم والضرائب التي تفرض على السيارات، والتراخيص التجارية، ورسوم إيجار وبيع أراضي الدولة، وكذلك الرسوم التي تفرض على الصادرات التي كانت تصدّر إلى خارج السلطنة، ومنها التمباك، والعسل، وبعض أنواع السمك المجفف (اللخم) وغيره، وكذلك النورة والليم المجفف. أما فيما يتعلق بعلاقة السلاطين بأموالهم في الهند فأموالهم تعد أموالًا شخصية، وليس لها علاقة بشئون السلطنة.
• إدارة المستشار المقيم والمعتمد البريطاني -كما كانت تسمى- والضباط السياسيون الذين كانوا يعملون بها لا علاقة لهم البتة فيما يتعلق بشئون الموازنة إلا فيما يتعلق بإسداء النصح أو المشورة في بعض الأمور العامة؛ لأن حكومة بريطانيا ممثلة بحكومة عدن كانت تقدم بعض المعونات المالية فيما يختص بالتعليم، والصحة، والأمن، للسلطنة عن طريق إدارة المستشار المقيم والمعتمد البريطاني بالمكلا.
• إدارة المستشار المقيم والمعتمد البريطاني وموظفوها سواء من الضباط السياسيين البريطانيين أو المحليين، وكذلك ميزانية إدارة المستشار وصرفياتهم وجميع رواتبهم كانت تابعة لحكومة عدن.
• لم يكن هناك اقتصاد منظم للسلطنة القعيطية، وكما أوضحت آنفًا حول الموارد التي كانت تعتمد عليها الموازنة، إضافة إلى المساعدات التي تقدم لها من الحكومة البريطانية بوساطة إدارة المستشار المقيم والمعتمد البريطاني بالمكلا، إضافة إلى الإيرادات التي تأتي من الدوائر الحكومية، وكان اقتصاد السلطنة اقتصادًا مفتوحًا غير مقيد، شأنه في ذلك شأن بعض الدول الملكية التي لم يكن لها اقتصاد منظم.
التعليق:
تم إجراء هذه المقابلة المكتوبة بخط يد الأستاذ صالح بن عكظة في 25/ 9/ 1993م وبهذا يكون عمر (الوثيقة) -حتى حينه ديسمبر 2020م- سبعة وعشرين عامًا، والتصنيف المنهجي لهذه الوثيقة في وقت كتابتها يدخلها في باب المصادر التي تعتمد على المقابلات الشخصية للمعاصرين للأحداث المتناولة، وبالعودة إليها بعد هذه المدة صارت أقرب ما تكون إلى الشهادة المعاصرة، ورغم ما تتسم به هذه الوثيقة من إيجاز في معلوماتها، فإنها قدمت إضاءات تستحق النشر لعلها تعين الباحثين التاريخيين وهم ينقبون عن الشوارد، وعلى ما يبدو من صيغة السؤال الأول التعريفي بالوظائف التي تقلدها بن عكظة في خدمته لدى السلطنة القعيطية، فإن ذكره لتنوع الوظائف يشي إلى نوع من الضبط الإداري والتسلسل الوظيفي التي اتسق مع سياسة التحديث والبناء لمؤسسات السلطنة القعيطية، التي أشرف عليها المستشارون البريطانيون بعد معاهدة الاستشارة عام 1937م بمباركة السلطان صالح بن غالب القعيطي وخلفائه، وهي مرحلة ترسخت فيها التقاليد الإدارية الحديثة للسلطنة القعيطية متجاوزة بذلك الفوضى في النظام الاقتصادي في المراحل السابقة. وأيضًا نستشف من خلال هذه الإجابات محدودية موارد السلطنة القعيطية التي تعتمد بشكل كلي على الضرائب، وهو أمر يوضح لنا أسباب الحالة المعيشية الصعبة للأهالي، وقتئذ واضطرار الرجال منهم إلى خيار الهجرة الصعب إلى دول الجوار العربي بعد أن تدفق النفط فيها، وفي هذا الوقت كان الأمل في دخول حضرموت العصر النفطي كبيرًا ومبشرًا لا سيما في ستينيات القرن الماضي ثم تحول الأمل -حتى ساعة الناس هذه- إلى حلم مجمد يلتقطون قطرات منه بعد قرار لا يملكون خطامه.
وتعطينا الوثيقة إشارات تتعلق بكيفية تدخلات المستشارين البريطانيين في مؤسسات الدولة القعيطية لا سيما في الشؤون المالية، وتؤكد إفادة الأستاذ بن عكظة على عدم تدخل البريطانيين في شؤون الموازنة إلا عند النصح، وهذا يخالف بعض الأطروحات التي تقدم تصورًا عامًا بتدخل المستشارين البريطانيين في كل صغيرة وكبيرة في شؤون السلطنة، ويدفعنا ذلك إلى أن نكرر الدعوة إلى أهمية إعادة كتابة التاريخ بموضوعية بعيدًا عن الأسلوب الشعبوي أو الدعائي المضغوط بخطاب السياسة.
بقيت إشارة أخيرة تتعلق بإشكالية كتابة التاريخ الاقتصادي لحضرموت ولا سيما في عهد سلطنتيها القعيطية والكثيرية، فما تزال الجوانب السياسية صاحبة الحظ الأوفر في الدراسات التاريخية على حساب النواحي الأخرى الاجتماعية والاقتصادية، ويبدو أن ندرة المصادر المتعلقة بالجوانب الاقتصادية، وصعوبة استنطاق ما هو متاح منها، وكلفة الحصول عليها، هو السبب الأساس لعزوف الباحثين التاريخيين عن دراسة هذه النواحي التي بدونها يصعب إعطاء صورة كلية معقولة عن التاريخ وفهم مساراته.
ولأن الشيء بالشيء يذكر ففي قاعات الدرس الجامعي في مرحلة الماجستير اعترف الدكتور محمد عبدالكريم عكاشة بوجود نواقص في كتابه الموسوم (قيام السلطنة القعيطية والتغلغل الاستعماري في حضرموت (1839- 1918م) تتعلق بعدم ذهابه إلى حيدر أباد، وتتبع ثروة الأسرة القعيطية هناك، وهي ملاحظة وردت -كما أُخْبرنا- من عضو في لجنة مناقشة أطروحته للدكتوراه التي نشرها في كتابه بالعنوان أعلاه، ولا ريب أن الدكتور عكاشة تعمد الإشارة إلى ذلك للفت الأنظار إلى أهمية تغطية النواحي الاقتصادية في التاريخ الحضرمي الحديث والمعاصر.
ولكن تاريخ حضرموت الاقتصادي أوسع من ذلك بكثير، إنه قصة الأرض والمطر، وتحديات البقاء في ظروف طبيعية صعبة، وبنية اجتماعية متخلفة، وهو أيضًا ملحمة الهجرة والشتات الحضرمي في أصقاع الأرض، وتلك قصص عميقة بعمق البحار والمحيطات التي عبرها أجدادهم، وهم يبحثون عن مصادر الرزق والأمان.
___________________________
(1) تم التصويب اللغوي لنص الوثيقة المطبوع.