أضواء
طارق بن محمد سكلوع العمودي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 19 .. ص 22
رابط العدد 19 : اضغط هنا
إنَّ الحافظ الرحالة السخاوي (تـوفي عام 902هـ)؛ إذا جال في موضوع ما؛ فإنه لابد أن يترك بصمته السخاوية؛ وذلك بأن ينفرد بمعلومـات وفوائد أيا كان تصنيفها؛ لا تجدها في الغالب مجموعة في مكان واحد عند غيره.
وهذا ما حصل معنا هنا؛ فإنني قرأت كثيرًا عن أهرامات وبرابي مصر؛ حتــى وضعت مقالة حيالها بعنوان :“رفع الإصر في قراءاتي عن أهرامات مصر”، وهي منشورة ولله الحمد، وقد استأذنني جمع من الإخوة الأفاضل في نشرها على نطاق أوسع فقبلت .
إلى أن وفقني الله عز وجل بأن وقفت على زيارة السخاوي لها ووصفه عنها؛ فوجدته كعادته أتى بما لم يأت به غيره؛ مع اقتضابه وعدم بسطه فيما تراءى لي .
بل جاوز الأمر الزيارة والوصف عمن ينقل عنه فــــــي حق الأهـــــرام؛ إلى مرحلة الاستكشاف العلمي لها التي قام بها بنفسه كما سيأتي؛ فرأيت نقل كل ذلك في مقالنا هنا، والتعليق بما يفتح الله علينا.
ذكر رحمه الله تعالى في كتابه القيِّم :“التِّبر المسبوك في ذيل السلوك”؛ (2/9 ــ 12)، تحت حوادث يوم الجمعة الموافق 18 محرم لعام (851هـ(، أنه توجَّه مع صاحبه الشمس السنباطي إلى (إنبابه)، ثم إلى (الجيزة) لزيارة المدرسة الخرّوبية، وباتا هناك؛ ثم قال: “وأسرينا حتى وصلنا إلى الأهرام التي حارت الأفكار في شأنها.
وصنف فيها الشريف أبو جعفر محمد بن عبد العزيز بن أبي القاسم عبد الرحمن الهاشمي الإدريسي المصري؛ كتابًـا حافلًا طالعته؛ سمَّاه: “أنوار علو الأجرام في الكشف عن أسرار الأهرام“؛ عمله ليوسف بــن الحافظ أبي الفرج بن الجوزي؛ حين قدم عليهم الديار المصرية في الرسلية . وكذا صنف فيها غيره.
وقال الحافظ الذهبي فيما نقله عــن بعض التواريخ، أنهما قبران لنبيَّيْنِ؛ أحدهما شيث؛ والآخر هرمز .
وأن كاشم بن سعدان العمليقي ملك مصر قصد هدمهما، فقيل له لا يفي هدمهما خــــــراج مصر. وقال غيره حكاية عن بعض الفضلاء، أنه كتب على صفحة حجر؛ وقد نظر إلى الأهرام وإلى ما هُدم منها :
هذا ما انتدب لعمارته الملوك والفراعنة، وتصدى لخرابه الأراذل والصقاعبة.
وتمثل بهذه الأبيات :
مررت على الأهرام يومًا فراعني **بها رجل الأحجار تحت المعاول
تناولـهـا عـبـــــــــــل الـذراع كـــأنـمـا **رمى الدهر فيما بينهم حرب وائل
أهادمــهـــا شلَّــت يـميــنـك خـلّـها ** لمعتــبــر أو مبصـــر أو مســـائــــل
منـــــازل قــوم حدَّثَــتْــنا حديثــــهم ** ولم أر أحلى من حديث المنازل
وقال القاضي فخر الدين عبد الوهاب المصري فيما كتبه عنه الشهاب أحمد بـن يحيى بن أبي حجلة التلمساني في سنة خمس وخمسين وسبعمائة؛ من نظمه وأحسن ما شاء:
أَمباني الأهرام كم من واعظٍ ** صدع القلوب ولم يفه بلسانه
أذكَرتني قولًا تقادم عهده ** أين الذي الهرمان من بنيانه
هنَّ الجبال الشامخات تكاد أن ** تمتد فوق الأفق عن كيوانه
لو أنَّ كسرى جالس في سفحها ** لأجل مجلسه على إيوانه
ثبتت على حر الزمان وبرده ** مددًا ولم تأسف على حدثانه
والشمس في إحراقها والريح عند **هبوبها والسيل في جريانه
هل عابد قد خصها بعبادة ** فمباني الأهرام من أوثانه
أو قائل يقضي برجعي نفسه ** من بعد فرقته إلى جثمانه
فاختارها لكنوزه ولجسمه ** قبراً ليأمن من أذى طوفانه
أو أنها للسامرات مراصد ** يختار راصدها أعز مكانه
أو أنها وضعت بيوت كواكب ** أحكام فرس الدهر أو يونانه
أو أنهم نقشوا على حيطانها ** عِلمًا يحار الفكر في تبيانه
في قلب رائيها ليعلم نقشها ** فكر يعضّ عليه طرف بنانه
ولعمارة اليمني :
خليلي ما تحت السمـــــاء بنيـــــة **تماثــــــل في إتقانــهــــا هرمـــي مصـــــــــر
بناء يشيب الدهر منه وكـــــل ما ** على ظاهر الدنيا يشيب من الدهر
تــنـــزَّه طرفي في عجيب بـــنــائــها ** ولم يتنزّه في المــــراد بها فكــــــــري
وأنبأني أبو هريرة عبد الرحمن بن عمر القباني عن شيخ الإسلام التقي أبي الحسن السبكي ، وقرأته بنزول على أبي العباس الحنفي عـــــــــن أم محمد سارة ابنة السبكي سماعًا؛ قالت : أخبرنا أبي، قال: أنشدنا أبو زكريا يحي بن أبي بكر التونسي، قـال أنشدنا الشيخ أبو محمد عبد الحق بن سبعين بمكة :
بعينك هل أبصرت أحسن منظرًا **على طول ما أبصرت من هرمي مصر
أنـــــافا بأعنـان السمــــــاء وأشرفـــــــا ** على الأرض إشراف السمــــا أو النسر
وقد وافيا نشرًا من الأرض عالــيًـا **كأنهــــمــا نهـــــدان قامــــا علـــــى صـــــــدر
قلت: وهذه الأبيات ليست لابن سبعين على وجهة اليقين؛ بل هـي لأمية بن أبي الصلت المغربي في رسالته. وليس في إنشاد ابن سبعين لها ما ينافي ذلك؛ إلا أن يكون جرى على شأنه في الكذب .
وللإمام الشهاب الحجازي :
يا هرمي مصر لقد ** حســنــتـــــما رُبـــاهـــــــا
عروس حسن قــد ** غدت وأنتما نهداها
ولمّا وصلنا إلى المكان المشار إليه اقتفينا أثـر شيخنا، وصعدنا إلى أعلى أكبر هـــرم هناك، وسمعت البقاعي ينشد فوقه قصيدة).
ثم استطرد السخاوي بما لا يخص موضوع الأهرام؛ ثم رجـــع للموضوع عند نزوله مـــــــــــــن أعلى الهرم وهو ما يخص استكشافه لأحد الهرمين؛ فقال: (ثم انحدرنا منه ودخلنا المكان الذي بأسفله، ومع كل مِنَّا الشمع المطيب .وفي الوصول إليه خطر؛ لكونه لا يتمكن مــــن الدخول في أوله؛ إلا بالمرور على البطن كالحيات والهوام والحيتان .ولا يؤمن في حال المرور فيه من حيّة وغيرها. ويحصل الرقيُّ بعد ذلك من مكان صعب جدًّا، يكون عرضه مقدار ذراع، وعلى يسار الصاعد فيه وهدة، الله أعلم بقرارها، ثم ينتهي إلى مكان مربع .
إلى غير ذلك مما كان الأولى عدم التوغل في دخوله؛ لما فيه من مزيد المشقة والخطر .
وقد توجه عقبنا بيسير القاضي بدر الدين بن القطان؛ فلم يستطع هـو ولا أحد ممن معه الدخول إليه .
واقتضى رأيهم ؛ ردم المكان الذي يدخل منه ؛ لما في بقائه عندهم من الضر ؛ رجع فأخبرنا بذلك، فما كان بأسرع من رجوع البقاعي .
فأزال الردم وصيَّره كما كان أولًا، لكنه لم يلبث بعد ذلك يسيرًا، وسقط عليه مـــــن قطع الحجارة ما لا يمكن إزالته إلا بتكلف ورجال. ولله الأمر) انتهى كلامه رحمه الله .
قلت: وهذه بعض التعليقات حيال ما ذكره السخاوي عن الأهرامات رحمه الله تعالى:
ــ يتضح من النص أن الكلام على هرمين فقط لا ثلاثة .وهذا أمر لا يُستغرب؛ إذْ كـان الظاهر منهـا هما هرمي) :خوفو) وهو الأكبر، و(خفرع(.
أما الثالث الذي هو الأصغر وهو: (منقرع) فكان مطمورًا غير ظاهر بسبب الرمال الكثيفة التي علتْـه؛ فلم يُكشف أمره إلا متأخرًا .
وينسحب مثل ذلك على تمثال (أبي الهول)، الذي ليس ببعيد عنهم مكانًـا.
ــ الرسالة التي أشار إليها السخاوي، والتي عزاها لأبي الصلت، هي: “الرسالة المصرية” لأبي الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي؛ المتوفى عام (528هـ). وهي رسالة قيمة نفيسة تكلمت عـــــن المصريين في أحوالهم وأخلاقهم وعاداتهم وأشياء أخرى.
وتكلمت عن أهرام وبرايي مصر بكلام نفيس، ومعلومات مهمَّة في زمنهم، وانفردت بأمور حيالهم.
والرسالة مطبوعة في المجلد الأول ضمن (نوادر المخطوطات) حققها المحقق الكبير عبد السلام هارون رحمه الله، فقد وذكر رحمه الله أن مخطوطة هذه الرسالة كانت في حكم المفقود، حتى عثر عليها العلَّامة تيمور باشا، وضمَّها لمكتبته الضخمة .وهي النسخة الوحيدة في العالم عن هذه الرسالة المصرية المهمَّة .
ــ كان اهتمام السخاوي ورفقته بالهرم الأكبر (خوفو) دون الثـاني (خفرع)، فقد صعدوا قمته، ثم انحدروا إلى أسفله.
ــ يبدو أن السخاوي ورفقته لديهم استعداد مسبق لهذه الرحلة؛ فعند انحداره لأسفل الهرم الأكبر تناول بالذكرِ كل واحد منهم لـ (الشمع المطيب)، وهذا يستلزم أن لديهم استعدادات أخرى، وإن لم تذكر في النص. والله اعلم .
ــ تحقق قاعدة دفع الضرر مقدم على جلب المصلحة، لدى القاضي بدر الدين بن القطان ورفقته عندما عاينوا خطورة ومشقة محاولة التوغل عند الدخول في فتحة أسفل الهرم؛ فرأوا ردمه لكي لا يتضرر أحد من بعدهم. وهذا هو الفقه، والاهتمام بأمر المسلمين، خصوصًا مع قلة الإمكانات في زمنهم.
ــ من الواضح أن السخاوي ورفقته ومن ذكرهم في النص، وفيهم العلماء، والقضاة، والمحدِّثون، وطلبة العلم .. أنهم يرون جواز زيارة الأهرام، بل واستكشافها من الصعود لقمتها، أو الدخول إليها .
ولست أدري لو كان تمثال أبي الهول شاخصًا بارزًا في زمنهم؛ هل كانوا سيلحقونه بالأهرام على الجواز أم لا؟ .
ــ أحب أن أنبه إلى أن الحافظ السخاوي بعـد أن ذكر تقريره الفريد لدى زيارته الاستكشافية لهرمي الجيزة بمصر ذكر (تتمَّة) هكذا أثبتَها بها، ذكر فيها حكاية مسندة عـــــــن قصة رجلين حفرا في ناحية الأهرام، فوجدا مكانًـا مجوَّفًـا، فيه هيئة سرير من ذهب فأخرجاه، إلـــــــى آخر القصة التي أهم ما فيها إخراج السرير الذهبي المكتشف، لذا آثرنا عدم ذكرها خشية التطويل، ولمن رام قراءتها فعليه بالكتاب .
إنَّ موضوع نهب الآثار المصرية النفيسة وخاصة الفرعونية، معروف باستنزافه على طول القرون والأحقاب، وقد ألَّـف وكتب حوله الكثير .
ــ من هم بناة الأهرام؟
كل الدراسات والكشوفات الحديثة تنسب بناءَ الأهرام للفراعنة المصريين ببنائها. ولم يجيبوا، بل ولم يتطرَّقوا إلى التناقض الصارخ الواضح بين بناء الأهرامات، والمعابد، والتماثيل الشاهقة العظيمة الطول، وبين بنية الفراعنة التي تماثل بنية بشر اليوم من الطول والعرض.
بل إنَّهم وضعوا السيناريوهات في كيفية بناء الأهرام مما يضحك، ولا ينطلي علــى صبي لم يقارب الحلم. وهم يعلمون بسخافة وضحالة ما يضعونه من تخيلات ومقترحات في هذا الصدد.
كذلك يعلمون بأن الجنس البشري تدرج في ضخامته طولا وعرضا حتى وصل إلـى ما وصل إليه .
وقد تمت اكتشافات جمة لهياكل بشرية بالغة الضخامة ولم يتم تسليط الضـوء عليها بالشكل الكافي، بل لم يحاول علماء المصريات افتراض فرضية مجردة بأن بناة الأهرام كانوا بضخامة الهياكل البشرية المكتشفة؛ لأجل أنها ستبعد تماما مقولتهم التي يريدون ترسيخها علـــى الناس بأن الفراعنة هم بناة الأهرام .ولعل لذلك حسابات وأهدافًا خفية.
وإذا علمنا أن قوم هود (عادًا الأولى) كانوا ضخامًا طوالًا، وقد جابوا الأرض، ومنها مصر،
مع ما ذكره عنهم كتابُ ربنا الكريم :من أنهم كانوا خلفاء من بعد قوم نوح، وأنهم يبنون بكل رِيعٍ آية ويتَّخذون مصانع، ويبطشون بطش الجبابرة، وأن الله زادهم في الخلق بسطة، وأمدَّهم بأنعام وبنين وجنات وعيون، وأنه لم يخلق مثلهم في البلاد .
يتضح لك بعد كل ذلك بأن هناك احتمالًا كبيرًا من أنهم هم بناة الأهرام الحقيقيون، وما يتبعها من تماثيل ومعابد.
هناك دراسة غربيةٌ عجيبة بعنوان: “تصحيحًا للتاريخ المزور: عمالقة قوم عاد كانوا مصريين، وهم بناة الأهرام الحقيقيون منذ سبعين ألف سنة “ لمحمد سمير عطا .وهي دراسة مطبوعة في كتاب، ومنشورة على الموقع الشخصي لمؤلفها .وهو يرى أن الفراعنة متطفلون في ذلك؛ حفروا لغتهم ورسوماتهم على جدران الأهرام، وتمثال أبي الهول لخداع غيرهم وإيهامهم بأنهم بناة الأهرام، ولذلك أردف الباحث المذكور كتابه الآخر: “الفراعنة لصوص حضارة“، وحشد من الأدلة والقرائن لذلك؛ مع إلحاقه صورًا وخرائط ما يعجب له المرء.
ـ ويستدرك على السخاوي هنا ما وقفت عليه فـــي كتابه: “الضوء اللامع لأهل القرن التاسع” (2/ 169) في ترجمة أحمد بن محمد بن عمر البارنباري ( توفي 898هـ)؛ إذ قال: (وسمعته ونحن علو الأهرام يحكي عن جده لأمه وكان من الصالحين؛ إنه سمعه يحكي عـن أبيه عن جده عن ولي الله أبي العباس السبتي أنه قال: يصلي العشاء بجامع عمرو في مصر كل ليلة مائة رجل من رجال القيروان وقابس؛ وبعرفات؛ والصبح ثمانون منهم).
قلت: هل فات السخاوي ذكر البارنباري في روايته هنا عن رحلته إلى الأهرام من كتابه: “التبر المسبوك”؛ أم أنَّ هذه حادثة أخرى زار فيها الأهرام غير التي نعنيها هنا؛ كلا الأمرين وارد والله أعلم.
ــ بقي علينا أن نقول إنَّ رحلة السخاوي الاستكشافية لهرمَي الجيزة المصرية وكانت عُمرُه إذْ ذاك (20) عامًا تقريبًا؛ إذْ كانت ولادته في ربيع الأول سنة (831هـ) . هذا وبالله التوفيق .