شخصيات
أ. محمد بن سالم بن علي جابر
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 19 .. ص 37
رابط العدد 19 : اضغط هنا
هو شخصية جزائرية مؤثرة، من جذور حضرمية، ذاع صيته في النصف الأول من القرن العشرين، وارتبط اسمه بالنضال الجزائري، فقد كان متعدد المواهب، جمع بين الشعر والصحافة والترجمة والقانون والثقافة المتنوعة، ونبغ في كل ذلك، فسخَّرَه لمجابهة الاستعمار، حتى ختم حياته بالشهادة من أجل وطنه.
عهده:
في الفترة التي عاشها العمودي تعرضت الجزائر المستعمَرَة من فرنسا لأحداث جسام، اكتوى جيله بنارها، وقد انقسمت هذه الفترة على مرحلتين: مرحلة المعاناة من سطوة الاحتلال، وأخرى بدأ فيها الحراك الفكري والسياسي بشتى الوسائل الصحفية والنضالية، بجانب الأحزاب التي كان لها دورها في المحافظة على الشخصية الوطنيـة، والتصـدي للتجهيـل والتنصيـر الذي حـاول الاستعمار بكل الوسائل فرضه على الشعب الجزائري. وقد كان للعمودي دور فعَّال في كل هذا نضالًا وصمودًا وتفاعلًا، دفعته إليه سماته الشخصية ومواهبة المنبثقة من جذوره الحضرمية، على نحو ما سنعرضه في السطور الآتية.
مولده:
اختلف المؤرخون في تقدير عام مولده، يقول العمودي في رسالة بعث بها إلى الزاهري سنة 1927: »أما حياتي فحياة كل مسلم جزائري، حياة لا يأسف على أمسه ولا يغتبط بيومه ولا يثق بغده… تلك حياتي من يوم عرفت الحياة وها قد دخلت السابعة والثلاثين من عمري ولم أظفر بعقد هدنة مع الدهر«. وبطرح سبعة وثلاثين عامًا من تاريخ الرسالة، نستطيع تحديد سنة مولده 1890؛ وهذا هو الراجح. ?????????
يذكر المؤرخون أن عائلة العمودي قَدِمَت من حضرموت مع القبائل المهاجرة إلى شمال إفريقيا بعد الفتح الإسلامي مباشرة، وكان لهم دور بارز في التاريخ الإسلامي، ومن أبرز العلماء المنتسبين لهذه العائلة: الشيخ أبو قاسم العمودي. ولا يزال ضريحه في مدينة (توزر) بالجنوب التونسي، وقد ترجم له أبو العباس الدرجيني في كتابه: »طبقات مشايخ المغرب«.
تمتعت عائلة العمودي في بداية عهدها قبل أن يتنكر لها الزمان بحظ وافر من الجاه والمال والرفعة؛ فقد نشأت بوادي (سوف) في عائلة، كان لها مقام معتبر، وحظ من النعيم بمفهوم ذلك الزمان، ثم دارت عليها الدوائر وتوالت عليها النكبات، وقد وفدت هذه العائلة إلى وادي (سوف) من منطقة (الجريد) التونسي القريبة من الوادي؛ وتحديدًا من (نفطة) وهي تبعد عن وادي سوف مئة كيلو متر تقريبًا.
تعليمه:
غالبًا تساعد الظروف القاسية على نشأة الرجال القادرين على حمل المسئوليات الجسام، وهذا ما كان من ظروف نشأة العمودي وتعليمه، فقد نشأ يتيمًا؛ إذْ توفي والده وهو طفل صغير، وكان الفقر قد ألمَّ بعائلته، فربَّــتْه أمُّه، وكفلَه عمُّه. وكعادة الأيتام إذا وجدوا الرعاية تحفَّزوا للاعتماد على أنفسهم، وإظهار قدراتهم ومواهبهم. يقول العمودي عن نفسه: »تربيت في أحضان أم حنون وعَمٍّ أشفقَ عليَّ من نفسي، وتعلمت بالمكتب الفرنسي الابتدائي وبالمكتب القرآني«.
حفظ العمودي في صباه مثل أقرانه القرآن الكريم بالمدرسة القرآنية، وتلقَّى مبادئ اللغة العربية والفقه الإسلامي على يد عمِّه الشيخ عبد الرحمن العمودي، والتحق بمدرسة التعليم عام 1902م، وحصل فيها على الشهادة الابتدائية عام 1905م، ثم التحق بثانوية بَسْكَـرَة، وسِنُّه آنذاك 15 عامًا. وعلى الرغم من سنِّه هذا فإنَّ العموديَّ لم يكن خانعًا مستكينًا، فكانت جذوة الوطنية والثورة ضد المستعمر متَّقدة في كيانه بادية على لسانه، مما أثار حنق القيادة الفرنسية للمدرسة، فمكث فيها قليلًا ثم طُرِدَ منها.
عندما بلغ 16 عامًا التحق بالمدرسة الفرنكو إسلامية بمدينة قسنطينة، وكان التعليم فيها مزدوجًا (عربيًا وفرنسيًا)، وكانت متخصصة في إعداد القضاة والوكلاء الشرعيين والمترجمين الملحقين بالمحاكم، وعلى الرغم من أنها كانت تضم أساتذة فضلاء وعلماء كبارًا مثل الشيخ عبد القادر المجاوي، والشيخ عبدالحليم بن سماية، والشيخ محمد السعيد بن زكري، والشيخ المولود بن الموهوب، وآخرين… فإنَّ الإدارة كانت تُوكِل تنفيذَ البرامج إلى فرنسيين، فكانت علاقة الإدارة ببعض التلاميذ النابهين الوطنيين سيئة، وكان العمودي في مقدمة هؤلاء، فكان دائم الحنق على تصرفات الاستعمار الـخَرْقَاء في الجزائر. وقد حكى عن هذه المدرسة في كتاباته وكذلك أشعاره، فقال: »تعلَّمتُ فيها ما كان يتعلمه معي نـيِّف وأربعون تلميذًا، وما حصَّلـتُه وما حصَّله أولئك التلاميذ إنما هو من مزايا الصدف، ومن فضل الله، ولا مزية ولا فضل لأحد من أبناء حواء في ذلك عليَّ أبدًا«. وقد عبر عن ذلك في شعره في قصيدة، منها:
في قُسَنْطِينَةٍ قَضَيْتُ شَبَابِــي في عَنَاٍء وَمِحْنَةٍ وَعَــذَابِ
وَخُطُوبٍ تَحِلُّ بَعْدَ خُطُوبِ وَمُصَابٍ يَجِيءُ بَعْدَ مُصَابِ
وقد ذكر في القصيدة جميع الصعاب والمتاعب التي واجهته، ومكث في مدرسة قسنطينة أربع سنوات، ولم يتمكن – نتيجة عراقيل كثيرة – من الالتحاق بمدرسة العاصمة لقضاء سنتين يتم فيهما دراسته في القسم العالي، فيحصل بذلك على إجازة التعليم العالي، فاكتفى بالتعليم الأوَّليِّ، وعمل به وكيلًا لدى المحاكم الشرعية.
ورغم صدامه مع نظام تلك المدرسة تحت إشراف فرنسي حاقد، ورغم شتَّى المشاكل، فقد استطاع بذكائه الوَقَّاد أن يتحلى بثقافة واسعة إسلامية وفرنسية، في المواد الشرعية والقانونية، وكأنَّ الاستعمار يستطيع أن يُخرِّب البلدان إلى حين، ولكن لا سبيل له على نفوس الأحرار. فكل ما استطاع أن يفعله مع النابغة محمد الأمين العمودي أن دبَّرت الإدارة الاستعمارية مكيدة، بالاتفاق مع بعض الطامعين من الطلبة، وبعض الطامعين من الأساتذة، استهدفت إسقاطه في الامتحان النهائي، وهو ما سجَّله في بعض شعره ومنه:
حَالِي اسْتَحَالَ وَفَاقَنِي الأقْرَانُ مُذْ غَابَ عَنِّي الأصْفَرُ الرَّنَّانُ
نضاله:
يُعَدُّ العمودي مناضلًا بارزًا في التاريخ الوطني للجزائر، فكان قلمُه مزعجًا للمستعمر، حيثُ نَقْدُهُ اللاذع للأوضاع المتردِّية في بلد خضع دهرًا للاستعمار الاستيطاني، وكان صوته مرتفعًا باللغة الفرنسية لغة المستعمر ذاته. ومما جعله شديد الـتأثير على ذلك المستعمر، أنه لم يكن مجرد بيانات للتنديد، وإنما عبارة عن مقالات نقدية واعية بليغة الأسلوب، بالغة الأثر، تفضح سياسة الاستعمار في الجزائر. وإنَّ ما كتبه في الجرائد العربية والفرنسية، مثل: الإصلاح والشهاب، وصوت الأهالي، والإقدام، والدفاع، كان أفضلَ انتقاد فاضح لمشروع المستعمر الصليبي في الوطن الجزائري، الذي افتداه العمودي، ودفع حياته ثمنًا لهذا الفداء.
لقد كشفت كتابات العمودي ما درج عليه المستعمر من النهب ومسخ المقومات وإضعاف المقاومات، وقد كان يُحرِج الاستعمار أمام العالم بذكر مبادئ الثورة الفرنسية، وحقوق الإنسان، والمواطنة، وفلسفة عصر التنوير منذ القرن الثامن عشر، وقد ساعدتْه على ذلك ثقافته الفرنسية، واطلاعه الواسع. فكان شوكةً أيَّ شوكة في حلق الاستعمار.
لقد كشف العمودي المشروع الاستعماري، وسياسته التي تهدف لتدمير الشخصية الجزائرية وطمس هويتها، كما تصدى ببطولة وشجاعة لمحاولات التنصير التي بدأت من بداية الاحتلال، وتزعمها في القرن التاسع عشر شارل لافيجري ومن معه.
وشارك العمودي في تنشيط الحركة الوطنية، وكان من الداعمين المؤيدين لها، وكان من الموقِّعين على البيان الجزائري الصادر في فيفري 1943م، وقد تعرَّض للسجن. ورغم أعبائه المادية فلم يهادن الاستعمار يومًا، وكان حانقًا عليه، فكتب تقريرًا يفضح فيه سياسة الاستعمار الخبيثة لإجهاض ثورة التحرر، وقد تم تقديم هذا التقرير إلى الأمم المتحدة، وهذا ما جعل حركة اليد الحمراء الإرهابية تستهدفه، حتى تمكَّنت من طعنه ورميه من القطار في 10 أكتوبر 1957م.
قلمه الصحفي:
كان لقلم العمودي تأثير كبير، وقد مارس الكتابة في الصحف الجزائرية باللغتين العربية والفرنسية، وعالج بقلمه قضايا أدبية، واجتماعية، وسياسية، تخص الشأن الجزائري. وقد عرَّضَه ذلك لمتاعب على مدار حياته، لم ينجُ منها يومًا، وظل يدفع ضريبة قلمه الحر من راحته، إلى أن ختمها بروحه، وبعد أن انتقل من عمله في محكمة (فج مزالة) إلى محكمة (الزيبان ببسكرة). كان يُعَدُّ اسمًا كبيرًا في عالم الأدب والصحافة، مع مجموعة من الشباب النشطاء بالمدينة وإقليمها، وقد اشتهرت بهم مجالس العلم والأدب والشعر؛ فكان لنشاطهم الثقافي والأدبي آثار فعالة في صحف ذلك العهد، مثل: المنتقد، والشهاب، وصدى الصحراء، وغيرها من الصحف التي كانت تصدر باللغتين الفرنسية والعربية.
وقد امتاز فكر محمد الأمين العمودي بالحس المرهف الوطني والاجتماعي، ومعايشة هموم بسطاء الناس في المحاكم، بجانب العلماء والأدباء ذوي الثقافات المتنوعة، فاشتهر كواحد من رجال الصحافة البارزين، ولم تكد صحف الجزائر الصادرة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية تخلو من مقال له كالسُّمِّ الناقع، أو عمود كأنه خنجر يغرسه في خاصرة أعداء الأمة، ولم يقفْ نشاطه عند الصحف الجزائرية فقط، بل امتدَّ مِدادُه الحرُّ إلى الصحف التونسية باللغتين العربية والفرنسية أيضًا، معلِّقًا على الأحداث والمواقف، ومحلِّلًا ودارسًا لأسبابها ونتائجها.
كما كانت له مساجلاته الشعرية، وحواراته الأدبية مع كبار الأدباء والشعراء، ومنها حواراته مع الشيخ الحافظي. ومما يذكر للعمودي أنه فضح الطرق الصوفية الفاسدة المتعاملة مع الاستعمار، وكان قلمه من أهم الأقلام المتحمسة لذلك.
أسلوبه في الكتابة:
جمع العمودي مواهب عدة، فهو كاتب صحفي، وله كتابات نثرية، بالإضافة إلى كونه شاعرًا متميزًا، واستطاع أن يفرق بين أسلوبه في كل ذلك، مستعينًا بثقافته الواسعة، وإدراكه العميق لما يناسب كل فن من فنون الكتابة المختلفة، فاهتم في كتاباته الصحفية بالمعنى المباشر، مدركًا الفرق بين القصيدة الشعرية والنصوص النثرية، فبينما تتطلب القصيدة عاطفة عارمة وديباجة لفظية، فالمقالة الصحافية تتطلب معرفة واطلاعًا على المجتمع وأحواله.
تميز أسلوب العمودي بالمنطق والموضوعية، والتحليل الدقيق المقنع بأفكاره، عاكسًا رصانة عقلية، وهدوءًا نفسيًّا، فإذا طرح قضية ما، اتسم طرحه بالموضوعية، التي تفسر الوقائع على حقيقتها دون مواربة ولا تضليل أو مبالغات، ودون اعتبار للعواطف والقلاقل المحيطة.
بهذا الأسلوب عرض وناقش قضايا، مثل: التجنيس، والسفور والحجاب، وتعليم المرأة… ولم يتهرَّب يومًا من الواقع، فكان يطرح الأمر للدراسة فيبحث أسبابه وآثاره من جميع الجوانب، ويرصد مساوئه ومزاياه، ويعرض آراء الآخرين، ولا يستسهل الأحكام العابرة، ولا يركن لرأي الأفراد دون أدلَّة، وكذلك كان يعتمد على الواقع المحسوس، فيستمد منه الدليل ولا يقف عند الشواهد الموجودة في الكتب؛ يفعل ذلك كله بقدرة لغوية ومعرفة قانونية راسخة.
ولم يكن يرأف بمن يتطاول على أمر ديني، بل كان يصل معه أحيانًا إلى التهكُّم الـمُوجِع، والسُّخريَّة اللاذعة، وكان ذلك يعكس مقدرة أدبية وسلاحًا فتَّاكًا يخيف خصومه، ويردع أي دافع للتجاوز لديهم.
بهذا الأسلوب وبهذه المقدرة أدان العمودي بقوة جميع الكتابات والأصوات التي تهدف إلى مسخ الشخصية العربية الإسلامية الجزائرية، وقد نصَّبَ نفسه ناطقًا باسم المذهب السياسي والثقافي للحركة الإصلاحية الإسلامية. لقد ساعد هذا الجزائري الأصيل حضرمي الأصل، على حفظ الهوية الجزائرية العربية الإسلامية، في وجه المحاولات الاستعمارية الدؤوبة.
نستطيع أن نقول: إن العمودي بأسلوبه المتفرِّد، عالج علاقة المجتمع الجزائري بالوجود الفرنسي، مبتعدًا عن الإنشاء والإسهاب والتمهيد المطوَّل والخطاب الديني، واعتمد أكثر على الخطاب الذي يحمل أفكارًا واضحة ممكنة التطبيق في الواقع، ولذلك كان شديد التأثير، وحظي باهتمام الخاصة والعامة من الجزائريين والفرنسيين على حد سواء.
شعره:
ظهرت موهبة العمودي الشعرية وهو طالب، وكان شعره في ذلك الحين يعبر عن البؤس والشقاء الذي يعيشه الجزائريون في ظل الاستعمار، ثم كتب الشعر الاجتماعي الساخر، ودعا في شعره إلى وحدة الشعب الجزائري، ورَفْض الاستعمار.
يقول في قصيدة له:
خَيْرُ خِصَالِ الفَتَى حَزْمٌ وإقْدَامُ
وَشَرُّهَا عَنْ قَضَاءِ الوَطْرِ إحْجَامُ
نَفْسِي تُرِيدُ العُلَا وَالدَّهْرُ يَعْكِسُهَا
بِالقَهْرِ وَالزَّجْرِ إنَّ الدَّهْرَ ظَلاَّم
إنَّ الزَّمَانَ سَطَا عَنِّي بِسَطْوَتِهِ
كَمَا سَطَا عَنْ ضَعِيفِ الوَحْشِ ضِرْغَامُ
أبْكِي إذَا اشْتَدَّ إرْزَامُ الحَوَادِثِ بِي
وَلِلْحَوَادِثِ مِثْلُ الرَّعْدِ إرْزَامُ
إنْ حَلَّ عَامٌ جَدِيدٌ قُمْتُ أسْألُهُ
قُلْ لِي بِمَاذَا أتَيْتَ أيُّهَا العَامُ؟
هَذَا القَضَاءُ عَلَى مَنْ خَصْمُهُ مَلِكٌ
لَا يَعْتِرِي فَاهُ وَقْتَ الحُكْمِ تِبْسَامُ
قُلْ للَّذِينَ تَمَادَوْا في غَوَايَتِهِمْ
هَلْ في قُلُوبِكُمُ يَا قَوْمُ إسْلَامُ؟
إنِّي وَإنْ حَطَّ سُوءُ الحَظِّ مَنْزِلَتِي
وَقَدْ عَلَا شَرَفِي بالظُّلْمِ أقْوَامُ
في خِلْقَتِي رَجَلٌ بَرٌّ وَفِي أدَبِي
فَحْلٌ لأثْمَنِ دُرِّ الشِّعْرِ نَظَّامُ
لَوِ اتّخَذْتُ خَلِيجَ البَحْرِ مِحْبَرَةً
وَصِيغَ لي مِنْ يَرَاع العِلْمِ أقْلَامُ
وَكَانَ لي الجَوُّ قرْطَاسًا أُمَهِّدُهُ
ضَاقَتْ عَلَى ذِكْرِ مَا قَاسَيْتُ أعْوَامُ
لي أُسْوَةٌ بالأُلَى غَارَتْ كَوَاكِبُهُمْ
وَلَمْ تَهَبْ لهمُ الأقْدَارُ مَا رَامُوا
تبدو في هذه القصيدة شاعريته العذبة، ومقدرته على بث الأسى والسخرية مما يكتنفه من ظروف صعبة، كما يبدو فيها اعتزازه بموهبته، وثقته في نفسه، ومهاجمته لمن ظلمه وتمادى في هذا الظلم.
وقد كان شعر العمودي مرافقًا له في تقلبات حياته، معبِّرًا عنها أصدق تعبير، وكأنه يتنفس شعرًا، كما أنه عبر بالشعر عمَّا عالجه من قضايا مختلفة، ومن ذلك قضية الزواج المختلط، وما ينتج عنه من مشاكل تربوية، وتنازُع في الهوية، وكان للعمودي صديق اسمه الدكتور سعدان، تزوَّج بفرنسية، وأنجبا غلامًا فأسماه (محمد الصالح) وسمَّــتْه أمُّه (موريس)، واختلفتْ حينها آراء المسلمين والأوربيين حول مستقبل هذا الطفل، الذي تعهَّدتْـه تربيتان مختلفتان، فقال العمودي ساخرًا من هذا الواقع:
حَيِّ الطَّبِيبَ ولَا تَنْسَى قَرِينَـتَهُ
فَهْوَ السُّلَيْمَانُ وَالمادَامُ بِلْقِيسُ
لَهُ غُلَامٌ أطَالَ اللهُ مُدَّتَهُ
تَنَازَعَ العُرْبُ فِيهِ وَالفَرَنْسِيسُ
لَا تَعْذِلُوهُ إذَا مَا خَانَ مِلَّتَهُ
فَنِصْفُهُ صَالِحٌ وَالنِّصْفُ مُورِيسُ
وقد ذاع هذا الشطر الأخير على الألسنة آنذاك، وصار مثالًا للتَّندُّرِ والسُّخرية من الزواج المختلط.
ولم يغفل شعر العمودي الهدف الأسمى للشعر في ظروف الوطن المحتل، فذَكَر الأبطال الوطنيين، ذوي الجهود المخلصة، التي تهدف إلى تغيير أوضاع الاستعمار المأساوية، فمدح في سبيل ذلك الأمير (خالد) وأظهر نسبَه الطيِّبَ وفضلَه الكبير.
وظل الشعر مرافقًا للعمودي معبِّرًا عن أحواله حتى في أصعب الظروف، فعندما اقتيد إلى السجن بعد اندلاع الحرب كسجينٍ سياسي، وكان أكثر شباب المؤتمر من بائعي السمك، فكانوا يرسلون إليه وزميله في السجن الشيخ فرحات سمكًا باستمرار، فقال العمودي مخاطبًا صديقَه ساخرًا:
إن دامَ هذَا الحَالُ يَا فَرَحَاتُ لَا حُوتَةٌ تَبْقَى وَلَا حَوَّاتُ
تنوع عمله:
امتهن العمودي المحاماة الشرعية، فاشتهر وذاع صيته في ذلك، وكان قد تمكَّنَ رغم المكائد أن يجتاز الامتحان، ونال الشهادة كوكيل شرعي، وقد تولى العدالة بفج مزالة، وهي قريبة من قسنطينة، ولم يقتنع به القاضي لقلّة خبرته وسنِّه الصغيرة آنذاك، فكان يعهد بكتابة الرسوم وتسجيلها لعون المحكمة، وكلما أراد العمودي أن يقوم بهذا الدور كان القاضي يصرفه بلباقة، ويكلِّفه بأمر آخر يشغله، وذات يوم تقدَّمتْ سيِّدةٌ إلى المحكمة تطلب الطلاق من زوجها لضِيْقِ ذات اليد، وحكم القاضي بطلاقها، فانفعل العمودي بهذه الواقعة، وكتب قصيدة معبِّرة عنها، فأعجبت القاضي أيَّما إعجاب، وأدرك من خلالها قيمة العمودي ومكانته، وأصبح يقدِّره حقَّ قَدْرِه بعد ذلك. ولكنَّ العمودي استقال من سلك العدالة، واتجه للعمل في الترجمة، نظرًا لإتقانه اللغتين العربية والفرنسية، فعمل مساعدًا للترجمان الشرعي لبلدة (برنيل) و(وادي الماء).
انتقل العمودي بعد ذلك إلى مدينة بسكرة وكيلًا شرعيًّا، وكان الإقبال عليه كبيرًا؛ فقد كان يدافع في القضايا المنظورة أمام المحاكم الشرعية لمدينتي باتنة وبسكرة، وكثيرًا ما كان الناس يلجأون إليه في الوكالة أو الاستشارة أو الوساطة. حتى إنه انتقل إلى العاصمة، وفتح مكتب وكيل شرعي، واشتهر بذلك ونبغ فيه، فاختير رئيسًا لجمعية الوكلاء الشرعيين، ولكنه كان ناشطًا سياسيًّا مُعارِضًا بشدَّة للاستعمار، ممَّا جعل زملاءه يُبعِدُونه عن ذلك المنصب دفعًا للمتاعب، وقد أوقفتْه الحكومة عن العمل وكيلًا شرعيًا لأشهرٍ عدَّةٍ، فاستقال وتفرَّغ للعمل في الصحافة، ونشط فيها؛ إذْ أكسبتْه ثقافتُه وخبرتُه، ومعاشرتُه الأهالي الذين لازمهم في قضاياهم مترافعًا عنهم إحاطةً واسعة بالواقع الاجتماعي الصعب الذي كان يعيشه الجزائريون، فكانت كتاباته واقعية وبليغة ومقنعة.
كما قام العمودي بالترجمة الفورية بين المواطنين وأعوان السلطة والإدارة، وكان الترجمان الشرعيُّ يطلب منه ترجمة المطالب والشكاوى والعقود وغير ذلك مما يتقدَّم به المواطنون.
وعندما تأسست جمعية العلماء، انتقل العمودي إلى الجزائر العاصمة، وصار أمينًا عامًّا لها باختيار أعضاء الجمعية، نظرًا لإجادته الفرنسية بجانب العربية. وعندما عزم وفد المؤتمر على زيارة باريس لتقديم المطالب، قال الشيخ عبدالحميد بن باديس: «لا أرضى بغير العمودي ترجمانًا لي، فهو الذي يستطيع تبليغ أفكاري وترجمة كلامي إلى المسؤولين الفرنسيين، وينقل إليَّ كلامهم بأمانة وإخلاص، فالأمين العمودي لساني الأمينَ الذي لا أبغي به بديلًا».
وعندما سُجِنَ العمودي أثناء الحرب، ترك وراءه عائلة ليس لها من يعولها، وقد ساءت حالُها فتعهد بترك السياسة، واقتصر على ترجمة المقالات من الفرنسية إلى العربية لتنشر في نشرة أيام الحرب، كان اسمها »الدليل«، ورغم اعتزاله العمل السياسي فلمْ ينج من الاغتيال على نحو ما سنعرضه في السطور الآتية.
استشهاده:
كتب الله – تعالى – لمحمد الأمين العمودي نهاية تشـرِّف كُلَّ مجاهد أخلص في جهاده، فقد جعل عزَّةَ الجزائرِ هدفَه، ورغم ابتعاده عن السياسة والإعلام، فقد ظل جهدُه ماثلًا ومؤثِّرًا، ممَّا جعله هدفًا للمجرمين الغادرين.
بدأ الموضوع عندما أراد عبد القادر شندرلي أنْ يقدِّمَ تقريرًا شاملًا إلى لجنة تصفية الاستعمار بالأمم المتحدة سنة 1957م، على أن يتضمَّن التقرير حقائق دامغة، تكشف السِّتَارَ عن مخازي التعذيب في مراكز الموت، التي كانت القوات الفرنسية تستعين بها في استنطاق المتَّهمين زورًا، وأن يشتمل هذا التقرير على أسماء المعذِّبين وأمكنة التعذيب، وأسماء الضُّـبَّاط القائمين بالإبادة والتصفية الجسدية لمناضلي جبهة التحرير الوطني، وغيرهم من المواطنين، وكذلك أسماء السجون، وكل ما يثبت إدانة الاستعمار الفرنسي، وجرائمه النكراء وأساليبه الوحشية.
وقد قام مناضلو جبهة التحرير الوطني بجمع تلك المعلومات وأدلَّتها، وكان المطلوب صياغتها باللغتين العربية والفرنسية صياغة مناسبة معبرة. ومَنْ لهذا غيرُ العمودي؟! فقام الشهيد بصياغة ذلك التقرير المهمِّ وترجمته. وقد علمت بذلك السلطات الاستعمارية.
لقد أفحم ذلك التقرير الدبلوماسية الفرنسية وكشف أكاذيبها، وانتصرت بفضله القضية الجزائرية، فحصلت على حق التسجيل في دورة الأمم المتحدة الحادية عشر عام 1957م. ومن يومها بدأت سلطات الاستعمار الفرنسي البحث الدؤوب عمن كتب ذلك التقرير، وألقت القبض على بعض من جمعوا المعلومات، وقامت بتفتيش بيت الشهيد العمودي مراتٍ عدَّةً.
وفي يوم الخميس العاشر من أكتوبر عام 1957م عُثِرَ على جثمانه قرب السكة الحديدية عند قرية (العجيبة)؛ إذْ كان الشهيد مُتَّجِهًا إلى عمله بمحكمة الجزائر؛ لقد اغتالته أيدي الاستعماريين الآثمة، وقد عرفتْ أسرتُه أنَّ (اليد الحمراء) هي التي اختطفتْه، ولم تقضِ عليه تمامًا عند تقاطع طريق السيارات مع السكة الحديدية قُربَ قرية العجيبة، ولكنهم رَمَوْهُ هناك بعد أن ضربوه ضربة قاتلة على قفاه، نُقِلَ في إِثْـرِهَا إلى مستشفى البويرة، ولم تُجْدِ الإسعافاتُ شيئًا، ففاضتْ رُوحُه الطَّاهرةُ إلى خالقها – رحمه الله -.
ومما يُذكَر أنَّ السلطات الاستعمارية أذاعت آنذاك أن الشهيد محمد الأمين العمودي رَمَى نفسه من القطار وهو يحاول الفرار. وهذا السيناريو كان متكرِّرًا منهم في ذلك الوقت؛ يبرِّرون به جرائمهم واغتيالاتهم للمناضلين الشرفاء.
لقد حمل محمد الأمين العمودي على عاتقه قضيَّةَ أُمَّتِه، التي أراد لها أن تكون حُرَّةً مُوَحَّدةً، وقاد مسيرة الإصلاح بلغة الأعداء، حتى وصل صوتُه إليهم في عقر دارهم، واهتم بتثقيف الشباب، فزرع فيهم المبادئ الوطنية، التي دفعتْهم إلى الثورة، فأثمرت الحرية والاستقلال.
والمؤكَّد أن المستعمرين لم ينسوا للأستاذ العمودي ماضيَه الناصع، واسمه المشرق، فقرَّروا أن يعدموه، ونفَّذوا ذلك بالفعل عن طريق منظمة اليد الحمراء الإرهابية، وكانت هذه المنظمة وراء كثير من الجرائم، وقد تكوَّنت من بعض العسكريين، ومجرمي الجالية الفرنسية اليهودية، الذين تأكدوا من نهايتهم الحتمية على أرض الجزائر الأبيِّ، فقرَّروا وَأْدَ كُلِّ صوت حُرٍّ، يمكن أن يكون له دور وتأثير في بناء المستقبل الجزائري.
رحم الله المناضل الجزائري حضرمي الأصل المترجم والصحفي والشاعر محمد الأمين العمودي.
المراجع:
• تاريخ الجزائر الثقافي، د. أبو القاسم سعد الله، دار الغرب الإسلامي.
• معجم أعلام الجزائر من صدر الإسلام حتى العصر الحاضر، عادل نويهض، مؤسسة نويهض الثقافية، بيروت، لبنان.
• محمد الأمين العمودي ودوره في الإصلاح من خلال جريدة الدفاع، رسالة مقدمة لنيل شهادة الماجستير، إعداد محمد بك 2009م، جامعة الحاج لخضر باتنة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الجزائر.
• الشعر الجزائري الحديث اتجاهاته وخصائصه الفنية، الدكتور محمد ناصر، دار الغرب الإسلامي.