دراسات
صالح علي محمد العطاس
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 19 .. ص 71
رابط العدد 19 : اضغط هنا
يذهب البحث إلى أنّ منهج (د.حمودة) الفكري في كتاباته النقدية ولاسيما في كتبه الأخيرة (المرايا المحدبة: من البنيوية إلى التفكيك 1998م، والمرايا المقعرة: نحو نظرية نقدية عربية 2001م، والخروج من التِّيه: دراسة في سلطة النص 2003م) يسلِّم بوجود التحيز في الخطابات النقدية الغربية ومناهجها، فهي غير محايدة أو موضوعية بصورة نهائية أو إنسانية عالمية، وكذلك المعارف أو النظريات أو المشاريع أو المدارس الناتجة عنها.
فنتاجات النقد الحداثي وما قبله وما بعده كما يرى (د. حمودة)، على مستوى نظرياتهم الأدبية أو التنظير للأدب ورؤيتهم للنص الأدبي، وعلى مستوى مناهجهم النقدية أو كيفية قراءتهم له، هي ليست حقائق علمية إنسانية عالمية يجب التسليم لها وعدم مناقشتها، بل هي طروحات وفرضيات ومبادئ ومفاهيم قابلة للنقاش والحوار والجدل والاختلاف أو الاتفاق معها، فهي نظريات متأثرة باتجاهات ذلك الفكر، بوصفها جزءًا من الثقافة الغربية، متحيزة إلى رؤى فلسفية غربية خاصة بواقعهم(1). ونحن نؤيد هذا الطرح، فالنقل السهل والاستعارة المجانية غير ممكنة، وإنما لابد من ضرورة التمحيص والتساؤل وتأصيل طرائق التفكير ضمن سياقاتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، لكي يتم الحوار الحضاري في حدود الشخصية الحضارية الواعية بالاختلاف، فهذه القضية تمثل إشكالية حضارية كبرى لا تمس النقد الأدبي وحده، بل تمس العلوم الإنسانية بشكل عام، فغالبية نظريات النقد الأدبي الغربية ومناهجه متحيِّزة في جوهرها للأنساق الحضارية التي نشأت واستمرت من خلالها، فهي تحمل مضامين ثقافية تجعلها متلائمة مع بيئتها الحضارية الغربية، فالتراث المتكوّن عبر التاريخ له خصوصيته وتفرُّده، ومن ثَمَّ له تحيزاته لرؤيته وإطاره المعرفي(2)، ولذلك فقول عدد من النقَّاد بإمكانية فصل المنهج عن سياقه دون إحداث أية تغييرات، أو بعد إدخال تعديلات طفيفة، هو نوع من الوهم الذي سَرْعَانَ ما يتكشَّف تحت محكِّ التحليل التاريخي للخلفية الثقافية الفلسفية التي تحملها تلك المناهج، وهذا الطرح ليس جديدًا على الوعي النقدي العربي، بل هو أحد المرتكزات الأساسية للحوار العربي- الإسلامي الطويل مع الحضارة الغربية منذ كانت موروثًا يونانيًّا، حتى أَمْسَتْ هذه القضية ضربًا من التفكير البديهي، الذي لا يحتاج إلى دليل، وعليه فإنّ إسقاط صفات العالمي والموضوعي على النقد الأدبي الغربي كما يذهب إليه عدد من النقاد، هو تحيُّزٌ لرؤى ومرجعيات غربية(3).
إنّ هذه النتيجة التي يسلِّم لها (د. حمودة) في كتاباته النقدية تنطلق كما نرى من رؤية فكرية كلية للمعرفة، والتي ينبثق عنها مفاهيم ثنائية فكرية أعدُّها مفاهيم أساسية ومحورية في منهجه الفكري، تمثل شبكة متداخلة فيما بينها ويكمل أحدها الآخر، فهي التي تكوِّن منهجه الفكري برمته، ويستخدمها بوصفها أدوات فكرية في قراءته ونقده وتشكيل تصوراته وآرائه النقدية، وهي كما أرى: ثنائية مفهومَيِ الاختلاف والاتفاق، ومفهومَيِ الثابت والمتغير، ومفهومَيِ الاجتهاد والتقليد، وسنتناول هذه المفاهيم تباعًا، بعد بيان رؤيته الفكرية الكلية للمعرفة التي انطلق منها من خلال تقصِّي آرائه ومواقفه المبثوثة في كتاباته النقدية.
1- رؤيته الفكرية الكلية للمعرفة ووعيه بضرورتها:
إنّ (د.حمودة) في كتاباته النقدية مدرك أهمية الرؤية، وأنّه لابد لكل ناقد أو اتجاه نقدي أن ينطلق من رؤية فكرية كلية للمعرفة، توجِّه رؤيته النقدية وآراءه، فضلًا عن أنّه لابّد أن ينحاز لواقعه الخاص، لهذا وجدنا (د.حمودة) يذهب إلى القول بأنّ من الضرورة العلمية والمنطقية والواقعية أن ينطلق النقَّاد أو النقد العربي المعاصر من رؤية فلسفية ومعرفية تنتمي للأنساق الفكرية الكبرى لتراثه وحضارته العربية، التي ينتمي إليها وتشكِّل واقعه العربي، وأنْ ينطلق من هذا الواقع العربي المعاصر، لذلك فهو يأخذ على الناقد الحداثي العربي افتقاره “إلى فلسفة خاصة به عن الحياة والوجود والذات والمعرفة، فهو يستعير المفاهيم النهائية لدى الآخرين ويقتبس من المدارس الفكرية الغربية، ويحاول في جهد توفيقي بالدرجة الأولى، تقديم نسخة عربية خاصة به، إنَّها كلها عمليات اقتباس ونقل وترقيع وتوفيق لا ترتبط بواقع ثقافي أصيل، ومن هنا تجيء الصورة النهائية مليئة بالثقوب والتناقضات “(4)، وهذا الواقع النقدي مرتبط بواقع فكري أكبر، لذلك نجد (د.حمودة) يشير إلى أنه على الرغم من حماس الحداثي العربي المحمود عمومًا المتبني للرؤية الغربية، لتحقيق نهضة فكرية عربية، وسعيه الدؤوب لتحقيق استنارة ثقافية، فإنَّه فشل في إنشاء حداثة عربية حقيقية، بل فشل في نحت مصطلح نقدي جديد خاص به تمتد جذوره في واقعنا الثقافي العربي، فضلاً عن فشله في تنقية المصطلح الوافد من عوالقه الثقافية الغربية، لارتباطه بمناخه الفكري والاجتماعي والسياسي الذي أنتجه، والذي يمثل الخلفية المرجعية الدائمة له من ناحية، والذي يفسره ويمنحه شرعيته من ناحية أخرى، فالحداثة الغربية لم تنشأ من فراغ، وإنما هي النتاج الطبيعي المنطقي لتطورات الفكر الغربي في الثلاثمائة عام الأخيرة في الأقل، التي أدت بصورة حتمية سببية إلى ظهور المدارس الأدبية والنقدية الجديدة بمصطلحاتها الخاصة، وعليه فإنَّ نقل هذا المصطلح في عزلة عن خلفيته الفكرية والفلسفية سوف يفرغه من دلالته ويفقده القدرة على أن يحدد معنى، ونقله بعوالقه الفلسفية سوف يؤدي إلى الفوضى والاضطراب والترف الفكري الذي لا يتقبله الواقع العربي؛ إذ إنّ القيم المعرفية القادمة مع المصطلح تختلف، بل تتعارض أحيانًا مع القيم المعرفية التي طوَّرها الفكر العربي المختلف عن الفكر الغربي(5).
فالحداثيـون العرب كما يذهب (د.حمودة) أعطونا فكرًا لقيطًا مجهول النسب، بالرغم من محاولاتهم المستميتة في تأصيله داخل الواقع الثقافي العربي بالعودة إلى التراث لإبراز بعض جوانبه الحداثية، بدعوى الجمع بين (الأصالة والمعاصرة)، وهو شعار رفعه الحداثيون العرب، الذي يُعَدُّ خروجًا على مبادئ الحداثة الغربية وأسسها، التي تدَّعي القطيعة المعرفية مع الماضي، وهو في حقيقته لا يجمع بينهما، وإنما هو يقرأ التراث من منظور حداثي غربي منحاز، أو من منظور استقراء الحداثة الغربية في بعض مفردات التراث الثقافي العربي، للوصول إلى شرعية الحداثة الغربية، لا شرعية التراث، وهو تناقض واضح بين ادعائهم الرؤية النهضوية المستقبلية التي تنطلق إلى الأمام رفضًا للحاضر والواقع الذي فقد شرعيته، وتمرُّدًا على التقاليد الموروثة، وبين محاولة إعادة تفسير التراث الثقافي، أو استقرائه للوصول إلى تأكيد تراثي لمقولاتهم الحداثية الجديدة(6). وهذا يقتضي أنّ المنطلق أو المدخل الحقيقي لتأسيس آراء أدبية ونقدية عربية حسب وجهة نظره، هو الارتكاز على فلسفة منتمية إلى أنساق الواقع الثقافي العربي الكبرى، ولا تكون غريبة عنه، وهي التي جسدها سؤاله عن الذات والهوية الثقافية الواقية: من أنا؟ ومن نحن؟(7). وما يعنيه بسؤاله هذا هو البحث عن دور فاعل لهذه الذات في واقعها الحاضر وفي علاقتها مع الآخر، يخرجها من التبعية له، ويحافظ على شخصيتها وهُوِيَّتِها الخاصة من الذوبان في الآخر، ويحدِّد لها دورها على الصعيد الإنساني العالمي، وما يعنيه في هذا السياق هو الواقع النقدي الأدبي، ثم إنّ تشكيل صوت أدبي ونقدي خاص يفرض البحث الدائب عن منهج، وهو ما يعني- في التحليل الأخير- تشكيل رؤية حضارية متميزة، وكل هذا يعني- أو يفضي بالضرورة إلى الإسهام في تشكيل علاقة متوازية بين الذات والآخر (الغرب)، أي يسهم في معادلة الفكاك من أَسْرِ التبعية، هنا تتجلَّى خطورة الممارسة النقدية المنهجية وارتباطها الحميم بالإطار الحضاري، فأهمية الممارسة النقدية وخطورتها وفاعليتها لا تكمن فـي مـدى جدَّتِها وجِدِّيَّتِها وعمقِها فحسب بل تكمن – فضلاً عن ذلك – في مدى استجابتها لحركة الواقع المعيش، وتلبية حاجاته المستجدة المتغيرة(8)، وما يعني به (د.حمودة) في الإجابة عن هذا السؤال هو الواقع النقدي الأدبي، لهذا يذهب إلى القول إنه قد تعني الإجابة والقدرة على تحديد هويتنا الثقافية، القدرة على اتخاذ قرار حول أي عمل أدبي مستقبلي؛ لأنّ الاتفاق يفترض أنه سينهي حالة الفصام، ويضع حدًّا للشرخ ويرأب الصدع، وهكذا سنعود إلى درجة من التوحُّد الصِّحِّيِّ والكلية التي راوغتْنا لِمَا يقرب من قرنين من الزمان(9)، وإلا فإنّ المفارقات “ستظل تفرض نفسها ما استمر عجْزُنا عن تحديد هوية ثقافية خاصة بنا، وما استمر اعتمادنا على الآخر الثقافي، سواءً استعرْنا فكرَه فقط أو مناهجَه فقط، أو الاثنين معًا”(10). ونحن نتفق معه في هذه المسألة، ولكن ما الرؤية المعرفية الكلية المنتمية إلى الأنساق الكبرى للواقع الثقافي العربي، وغير الغريبة عنه، التي انطلق منها (د.حمودة) في كتاباته النقدية؟ وأثرت في قراءته للنظريات الأدبية الغربية ومناهجها النقدية، أو في قراءته للتراث البلاغي والنقدي العربي القديم، أو في عرضه لرؤيته وآرائه النقدية.
سنحاول في هذا البحث عن طريق تحليل مواقفه الكشف عن رؤيته الكلية للمعرفة والاستدلال عليها من خلال آرائه ومنطلقاته في كتاباته النقدية، وأول تلك الاستدلالات هي الغاية التي يريد الوصول إليها، في كتاباته النقدية بوصفها مُوَجّهة لطريقة تفكيره، ودالَّة على منظوره الثقافي أو رؤيته للمعرفة التي يتبناها.
أ- غاية خطابه النقدي:
إنّ نتيجة الاستقراء لكتاباته النقدية، وخاصةً لكتابَيْهِ (المرايا المقعرة والخروج من التِّيْهِ)، تقول: إنّ الغاية الأساسية، التي يقصدها (د.حمودة) ويريد تحقيقها، هي تقديم (نظرية نقدية عربية)(11)، مستندة إلى نظريتين جزئيتين، هما (النظرية اللغوية العربية والنظرية الأدبية العربية)(12)، وهـذه الغـاية، تُشِيرُ بصورة جلية إلى نقطتين أساسيتين هما: (النظرية) و(العربية)، فالنظرية هي الموصوف، والعربية هي الصفة الثانية للموصوف بعد (النقدية أو اللغوية أو الأدبية)، وما يعنينا في هذا البحث هو صفة العربية، فما المقصود بالعربية بوصفها صفة ثانية (للنظرية)؟
إنّ صفة العربية التي يصف بها النظرية انحصرت في دلالتين، أولاهما: انبثاق هذه النظرية من خصوصية الواقع العربي بكل أبعاده الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية والثقافية والأدبية والفلسفية. ثانيهما: هو الانطلاق من التراث لوضع أسس أو أركان أو مبادئ هذه النظرية من التراث العربي البلاغي والنقدي، الذي هو نتيجة جهد فكري للعقل العربي الإسلامي في الحضارة العربية، ولاسيما جهد البلاغيين العرب في العصر الذهبي، ابتداء بالجـاحظ وانتهاءً بحـازم القرطاجني، هذا العقل الذي استطاع – في وقت كان عقل أوربا يغطُّ في سبات الجهالة – أن يقدِّم فكرًا لغويًّا ونقديًّا، كان من الممكن أن يتطور إلى مدارس لغوية ونقدية كاملة النضج، لو لم يحدث زمن الانقطاع الطويل من القرن الرابع عشر الميلادي حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولـو لـم يتخذ الحداثيون العرب في العصر الحديث موقف القطيعة الاختيارية والإرادية من ذلك التراث القديم، لانبهارهم بإنجازات العقل الغربي، على أن يكون هذا الانطلاق من التراث هو بقصد تأسيس شرعية الماضي التراثي، لا الحاضر الحداثي أو غير الحداثي، فضلاً عن حتمية النظر إليه من رؤية تعكس الحجم الحقيقي لإنجازات العقل العربي والبلاغة العربية، من دون تضخيم لإنجازاتها، ولا تقليل أو تصغير من شأنها، مع استلهام الثقافات والمعارف الإنسانية الأخرى والاستفادة منها ولاسيما الغربية، لا القطيعة معها(13).
ويذهب البحث إلى أنّ اختيار (د.حمودة) للتراث منطلقًا؛ إذ يعدُّه المنطلقَ الضروريَّ العلمي والمنطقي والواقعي للنقد العربي المعاصر، يدل بداية على تبنيه للرؤية الكلية المعرفية التي تأسس عليها هذا التراث، أي أنّ (د.حمودة) يتبنَّى التراث على جميع مستوياته، ليس على مستوياته اللغوية والبلاغية والنقدية والأدبية فحسب، بل على مستواه الفكري أيضًا؛ إذ لا انفصال بين هذه المستويات، بل إنّ هذا التراث أنتج ولم يكن هناك فصل بين التخصصات؛ إذ يمكن أن يكون الناقد أو البلاغي نحويًّا ولغويًّا وقاضيًا وفيلسوفًا ومتكلِّمًا وفقيهًا… إلخ، ثم إنّ البلاغة العربية انطلقت منذ البداية من الدراسات القرآنية والدراسة اللغوية للنص القرآني، أي إنّ الدراسات القرآنية ولاسيما التي دارت حول إعجاز القرآن الكريم كان لها تأثير على الدراسات البلاغية والنقدية القديمة(14)، والنص القرآني هو منبع هذا الفكر ومُوجِّهُهُ، والواقع التاريخي -كما يسلم- (د.حمودة) لتطور البلاغة العربية يؤكد بأنّ البلاغي العربي كان يتحرك على محورين: محور الدين الذي بدأت البلاغة موظَّفة في خدمته وتبيان إعجاز كتابه السماوي (القرآن الكريم)، ومحور التأثير الأجنبي الذي جدَّ فيما بعد، ولاسيما نظرية المحاكاة ومبادئ المنطق كما قدَّمها أرسطو؛ إذ شق البلاغي طريقه بين المحورين في براعة واضحة، مكَّنتْه من تحاشي الصدام المحتمل في أكثر من موقع، وطوَّر موقفًا وسطًا ناضجًا(15).
فالتراث الثقافي كان يصوغه المفكر العربي الإسلامي الذي انطلق من الوحي (القرآن والسنة)، لتأسيس فكره ونظريته المعرفية، فلقد سعى المفكر الإسلامي إلى المعرفة، وارتحل من أجلها، واتسعت دائرة معارفه من مجرَّد الرغبة في جمع الأحاديث النبوية وتحقيقها إلى البحث عن المعرفة بمجالاته كافة وأنواعها المختلفة، كالمعرفة التاريخية، والمعرفة الفلسـفية، والمعـرفة الدينية، والمعرفة الصوفية… إلخ، وفي ذلك وصل نضجه العقلي إلى درجة اقتدر بها على إنتاج نظرية خاصة عن المعرفة (Epistemology)، لم تهمل المعرفة الحسية أو التجريبية -كما فعل الفكر الديني المسيحي- ومن ثَمَّ لم يجد الفكر الإسلامي نفسَه مضطرًا إلى مشاركة أفلاطون شكَّه في المعرفة المكتسبة عن طريق الحواس ورفضه لها، كما يكتب (د.حمودة) معتمدًا على المستشرق الإنجليزي إيان رتشارد نتون(16).
وهذا الكلام صحيح إلى حدِّ ما؛ إذ إنّ الرؤية الكلية الإسلامية أقرَّتْ بأن المعرفة ممكنة وصحيحة من ثلاثة مصادر معرفية، وهي: العقل، والحِسُّ أو التجربة، والوحي، ولا يشكِّك أحدها بمعرفة الآخر أو ينفيها وينقضها، بل يكمِّل أحدها معرفة الآخر، فهي علاقة تكاملية بين مصادر المعرفة، وهذا الموقف من المعرفة منطلق في أصله من موقف من الوجود؛ إذ إنّ الرؤية الكلية الإسلامية تنطلق من الوجود إلى المعرفة, وليس العكس, فالنظرة التي تحكم الوجود هي نفسها التي تحكم المعرفة, فليس هناك بحث مجرَّدٌ، ينطلق من الفراغ ليؤسِّس مذهبًا في الوجود, فالوجود أسبق زمنًًا من الفكر والعلم الإنساني(17), والوجود لا يتوقف على الإدراك؛ فمن الأشياء الموجودة ما يُدرِكُها مُدرِكٌ ويعجز عن إدراكها مدرك آخر, ولا يكون ذلك قادحًا في وجودها, بل هي موجودة سواءً أدركها أم لم يدركها, فالإدراك ليس شرطًا في الوجود و إنما الوجود شرط الإدراك(18). فالحقائق و الأشياء لابدّ من وجودها أوَّلًا مستقلة عن الإنسان وعقله وحواسِّه, لكي يمكننا معرفتها وإثباتها والتسليم لها ثانيًا, أي إن هناك علاقة اعتمادية بينهما, وأول تلك الحقائق وجود هذا الوجود بما فيه الإنسان, والإقرار بقدرته على المعرفة بما ركب فيه الله سبحانه وتعالى من قدرات عقلية وحسية, ووجود واجب الوجود خالق هذا الوجود والإنسان, فإثبات الواضح تحصيل حاصل لا قيمة له, بل هو امتهان للعقول البشرية, والتشكيك في ذلك إنما هو مجارات للشكَّاكين واللاأدريين في منهجهم, الذين ينكرون الحسيات والبديهيات عنادًا, ولا يبتغون الحق(19). فالرؤية الإسلامية تدور حول ثلاثة محاور رئيسة، وهي: الله، والإنسان، والوجود (عالمي الشهادة والغيب), وهي من ثوابت الفكر الإسلامي, التي تميزه عن الفكر الغربي ومنظوره(20), أي إن هناك هرمية وجودية حقيقية بالغة الاختلاف وهي (الله، والإنسان، والوجود) وهذا يقتضي تعدُّدَ مصادر المعرفة, لا أحادية المصدر – إمَّا العقل وإمَّا الحس والتجربة -، وإنما تبلغ مصادر المعرفة ثلاثة مصادر، وهي, العقل الإنساني, والحسُّ أو التجربة، والوحي (أي القرآن والسنة) من الله عز وجل(21).
ب- موقفه من الواقع الغربي ورؤيته للدِّين:
ثم إنّ رؤية (د.حمودة) للواقع والعالم الغربي الأوروبي وفكره، وموقف هذا الفكر من الدِّين، تؤكد انطلاقه من رؤية معرفية لا تفصل بين الدين والمعرفة والثقافة؛ إذ يرى أنّ ذلك الواقع أصابته تغيُّرات اقتصادية واجتماعية وسياسية وفكرية فلسفية لم تصب الواقع العربي، تغيرات أسَّستْ عصر نهضته، الذي وصل إلى ذروته في القرن السابع عشر، والذي بثَّ روح المغامرة الفردية والمخاطرة والمبادرة، والرغبة في اكتشاف المجهول ومعرفة غير المألوف والغريب، أي إنّ تلك النهضة ارتبطت برحلات الاستكشاف، التي أدت في النهاية إلى الفتوحات والغزو الأوروبي لمناطق عدَّة من العالم واستعماره، وإلى ظهور الثورة الصناعية التي جعلت الإنسان الغربي في القرن التاسع عشر يؤمن بقدرته على صناعة عالمه، ويتوقع السيطرة على العالم أجمع أو التحكم فيه؛ إذ بعد اكتشافه كيفية صنع القطارات والآلات الأخرى- كما يذهب (د.حمودة) مستشهدًا بكلام جريجوري بيتسون – رأى الإنسان الغربي نفسه بوصفه أوتوقراطيًا يملك قوة السيطرة على عالم مكوَّن من الفيزياء والكيمياء، بحيث ظن أنَّه من الممكن التحكم بالظواهر البيولوجية، مثل عمليات في أنبوبة اختبار؛ لأنّ مفهوم التطور العلمي في ذلك الوقت كان يدور حول هذا المعنى، فهذه الثورة الصناعية غيَّرت الكثير من الثوابت في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العالم الغربي(22)، وهذا يقتضي تغير العديد من الثوابت السابقة في العلاقات الفكرية الفلسفية الغربية، مُحدِثَةً قطيعةً معرفية معها؛ إذ يَعُدُّ (د.حمودة) القرن السابع عشر هو المحطة “الوحيدة التي يمكن أن تمثل قطيعة معرفية واضحة، فهي بداية التفكير العلمي بتجريبيته، وهي أيضًا بداية فاصلة تبعدنا عن الفكر الغيبي للعصور الوسطى. وما حدث بعد ذلك من تحوُّلات جذرية، بل متعارضة في أحيان كثيرة داخل الفكر الفلسفي الغربي لا تعدو أن تكون ردود فعل للتحولات أو النقلات العلمية، وهي ردود فعل قد تتفق مع المادية الجديدة للعلم وقد تختلف معها وترفضها. وفي كلتا الحالتين يولد الفكر الفلسفي موقفه الذي يتفق أو يختلف مع الفكر العلمي الجديد”(23).
ومن أهم التغيرات التي يَعُدُّها (د.حمودة) من الاختلافات الجوهرية والثابتة بين الثقافة الغربية والثقافة العربية، وهي أيضًا المنطلق الحقيقي والأساس الفلسفي للحداثة الغربية ومـا قبلها ومـا بعد الحداثة، وتوابعها أيضًا من مشاريع ومـدارس اجتماعية ونفسية ولغوية وأدبية ونقدية…وغير ذلك، هي التغيرات الجذرية التي أصابت “أضلاع المربع الأربعة: عالم الميتافيزيقا (الله)، والإنسان، والعالم المادي الفيزيقي من حوله (الطبيعة)، ثم اللغة باعتبارها أداة التعبير عن المعرفة التي تولدها تلك العلاقات المتشابكة”(24)، أي حدثت تغيرات أصابت إطارهم المرجعي أو رؤيتهم الوجودية الفلسفية (لله والإنسان والعالم)، ومن ثم رؤيتهم المعرفية العلمية ومصادر المعرفة التي ينطلقون منها، وهذه التغيرات أو الانشطارات أو الانفصامات – كما يصفها – هي التي أدت إلى توالد “المذاهب الفلسفية من واقعية أو تجريبية إلى مثالية إلى وجودية …إلخ، وهي مذاهب أحدثت تغيرات في العلاقة بين تلك الأضلاع بدرجات متفاوتة، مما ترتب عليها تغيرات مقابلة في استخدام الإنسان للغة ونظرته إليها “(25)، ونظرته للأدب تبعًا لذلك.
ونحن نتفق معه في ذلك؛ إذ إنّ الفكر الغربي انشطر إلى رؤيتين كليتين، انطلقتا من موقفين اثنين إزاء العالم والمعرفة، الرؤية الأولى، بدأت من الفكر أو المعرفة إلى الوجود، وهي رؤية الاتجاهات الذاتية، أما الرؤية الثانية، فبدأت من الوجود إلى المعرفة أو الفكر، وهي رؤية الاتجاهات التجريبية، ممَّا أدَّى إلى اختلاف مفهوم طبيعة العالم أو الوجود لديها، ومن ثم مصدر المعرفة وطبيعتها ومعاييرها. إنّ هذه التغيرات التي أصابت الأضلاع الأربعة في الفكر الغربي، جعلت العلاقات داخل العقل والفكر الغربي تتمحور حول قطبين اثنين هما: الإنسان والطبيعة، وعليه فإنّ الاتجاهات الفلسفية المتزامنة التي انبثقت عن ذلك المناخ الفكري المتغير، هي إمّا اتجاهات تجريبية وإمَّا اتجاهات ذاتية. وبهذا فإنّ الفكر الغربي بعد أن كان يرى الوجود وحدة متكاملة تجمع بين الله والوجود والإنسان والمعرفة لمدة طويلة، حلَّ التفتت والشرذمة، وحلَّ عصر الإزاحات المعرفية؛ إذْ يزيح عصرٌ معرفيُّ -كما يذهب د.حمودة معتمدًا على ميشيل فوكو – عصرًا آخرَ، مُولِّدًا فراغًا في المنطقة المفصلية، فالعقل مثلاً بالمفهوم الكانتي أزاح العالم الخارجي في حقبة معرفية، ثم أزاح الاقتصاد والمادية الله في حقبة أخرى، ثم أزاحت اللغة العقل والاقتصاد…وهكذا(26).
وعليه فإنّ الشرذمة أو التِّيه أو الانشطارات أو الانفصامات التي أصابت الثقافة الغربية وإطارها المرجعي، والتي ولَّدتْ أزمة الإنسان الغربي المعاصر، هي غريبة عن الثقافة العربية الإسلامية(27)، التي ظلت العلاقات تتمحور داخلها حول ثلاثة أقطاب، هي: الله، والإنسان، والطبيعة، وهي من ثوابتها الفكرية(28)، بخلاف الثقافة الغربية.
لذلك نجد أنّ الاتجاهين الفلسفيين (التجريبي والذاتي) وقفا ضد سلطة الكنيسة القديمة والجديدة، وأقصيا من رؤيتهم التأثير الفاعل للإله في الوجود؛ إذْ لم يعد (الله-تعالى-) لديهم كما تؤمن الأديان السماوية، قادرًا على الثواب والعقاب، والعفو والمغفرة، بل صار عاجزًا عن التدخل لإثابة المفضلين من عباده(29)؛ إذ إنّ الفكر الأوربي عمومًا غربه وشرقه، اتخذ العلم المادي بعد صعود نجمه إلهًا جديدًا للثقافة الغربية، بعد أن أزاحوا الإله بمفهومه الميتافيزيقي وأعلنوا موته، وهذا ما حصل مثلاً في روسيا عام 1917، التي كانت نقطة الانفجار الأخيرة التي سبقتها عمليات غليان مستمرة ضد نظام حكم القياصرة والانحطاط السياسي والتخلف الحضاري منذ بداية القرن العشرين على الأقل، ولهذا لم يكن غريبًا احتضان المثقفين الروس العلم الجديد بوصفه الإله والمنقذ الجديد والاختيار القادر على إخراج البلاد من عصر الانحطاط قبل الثورة النهائية بسنوات طويلة(30)، فضلاً عن أنّ الكنيسة الأوربية كانت عائقًا أمام التطورات العلمية، فتحت ضغوطها أعلنت القطيعة المعرفية مع التراث اليوناني- الروماني، وطمسه ونسيانه، أي إنها أوقفت حركة التطور المنطقي لهذا التراث، في حين أنّ النهضة الأوربية قامت في انطلاقتها الثقافية على وصل ما انقطع مع التراث الغربي القديم، وإعادة الاكتشاف لإنجازات الحضارة اليونانية – الرومانية(31).
ومن ثَمَّ أقصيا كذلك الدين المسيحي عن التأثير الفاعل في المعرفة، فوقفا ضد الحق الإلهي للملوك والخرافة أو التفكير الغيبي المسيحي للعصور الوسطى بمذاهبه المختلفة والمتناقضة، الكاثوليكية والأورثوذكسية والبروتستانتية وأخيرًا البيوريتانية أو التطهيرية (Pritanism)، ومن ثم نبذوا القيم الروحية التقليدية المسيحية، فلا منقذ أو مخلِّص، ولا حقيقة أو مُثُل، وفتحوا الطريق أمام المعرفة القائمة على التفكير المنطقي من ناحية – وهو فكر عقلاني بالدرجة الأولى – والتفكير العلمي القائم على التجربة الحسية والمادية من ناحية أخرى(32)، وهذان الاتجاهان اتفقا على أسطرة الإنسان سواء بمفهومه المادي أو المثالي، وأنسنة الدين المسيحي، فالثقافة الغربية وضعت “العلمية أو العقلانية والدين على طرفي نقيض على أساس أنَّ الدين فكر غيبي يتعارض مع التفكير العلمي والعقلانية”(33)، وعليه لا يمكن عدُّه مصدرًا معرفيًّا مستقلاًّ، يسهم في المعرفة أو العلم، مما أدى إلى ظهور تلك الأنسنة أو العقلنة، التي تعني عند (د.حمودة) معتمدًا على د. شكري عيَّاد “إرجاع الدين إلى الإنسان وإحلال الأساطير محل الدين”(34)، حتى أمكن أن يفهم اللاهوت المسيحي حول صلب المسيح وقيامته فهمًا أسطوريًا غير حقيقي على أنه يرمز إلى تجديد الحياة، أو اقتران الموت بالحياة، بل إنّ هذه التحولات الفكرية الخطيرة، أو التصدعات الحداثية والانزياحات المعرفية، في الثقافة الغربية، وبتأثير التقدُّم في العلوم البيولوجية، نقلت حقل المقدس والأسراري والغيبي في مجال العلاقات والقيم الدينية والماضوية إلى مجال الإنسان والتجربة والمعيش، كما يذهب (د.حمودة) مستشهدًا بكلام د.شكري عياد وخالدة سعيد(35)، و(د.حمودة) يرفض هذا التوجه ويجعل للدين الإسلامي دورًا أساسيًا في الثقافة العربية، ولذلك فإن كلمتَيْ حديث وحداثة في الثقافة الغربية من المستحيل أن تطلق، كما يذهب (د.حمودة) مستشهدًا بكلام (ألان تورين)، على مجتمع يسعى قبل كل شيءٍ لِأَنْ ينتظم ويعمل طبقًا لوحي إلهي أو جوهر قومي، أي إنّ الحداثة تستبعد أي غائية، فهي ليست مجرد تغيير أو تتابع أحداث: إنها انتشار لمنتجات النشاط العقلي، العلمية، التكنولوجية، الإدارية، فالعلمنة وإزالة سحر الأوهام، اللتان تحدِّدان الحداثة بوصفها عقلنة، تبرزان القطيعة الضرورية مع الغائية الدينية التي تنادي دومًا بنهاية التاريخ، سواء عن طريق تحقيق تام لمشروع إلهي أو اختفاء لإنسانية منحرفة لم تخلص لرسالتها، فالحداثة الغربية الفلسفية كما يقول تورين: أحلت فكرة العلم – أي العلم المادي – محلَّ فكرة الله في قلب المجتمع، وقصرت الاعتقادات الدينية على الحياة الخاصة بكل فرد فحسب(36).
ونحن نتفق مع (د.حمودة) في مسألة أنّ الدين الإسلامي له دور رئيس في الثقافة العربية، وهو غير متناقض بوصفه مصدرًا معرفيًا مع المصدرين الآخرين الحس أو التجربة والعقل، والتناقض وإن كان يصدق على الدين والوحي بمفهومه المسيحي، فإنّه لا يصدق على الدين والوحي بمفهومه الإسلامي، وذلك لأنّ هذا الرأي يكسب شرعيته من غموض مفهوم الوحي لدى الفكر الغربي، فعلمنة المعرفة هي نتيجة تاريخية ومنطقية في سياقها الغربي، الذي عرف الغموض والتعقيد في مفهوم الوحي ومحاولة عقلنته وأنسنته مشروعة، ولهذا نجد الغموض لديهم قرين الميتافيزيقا والوضوح قرين الفيزيقا(37). ولقد حاولت الاتجاهات الذاتية سواء التي انتهجت نهجًا شكيًّا أو نقديًّا أو جدليًّا التوفيق بين معتقداتها وقيمها وبين المعارف الجديدة المكتشفة، فذهبت إلى القول بوجود مبادئ عليا حدسية، ضرورية وكلية، سواء كانت نتيجة العلاقة الحدسية الخالصة بين العقل الإنساني والعقل الكلي الإلهي، يضمن هذا الأخير يقينها، أو لم تكن كذلك، إلاَّ أنَّ الاتجاهات التجريبية انتقدت ذلك ولم تسلم به، حتى ساوى (برتراندرسل) في الدلالة بين مفاهيم (الوحي والبصيرة والحدس)، ثم جعلها جميعًا طرائق تؤدي إلى الأضاليل والأوهام الخادعة، ومقابلاً نقيضًا للعلم والتحليل المنطقي، وقاموا بتفسير الدين والتدين تفسيرًا حسيًا؛ إذ عدَّ (دور كايم) التديُّنَ محاولةً إنسانية يعبِّر المتديِّنُ بها عن إخلاصه للنظام الاجتماعي، وجعل بعضهم الدين انعكاسات لإسقاطات نفسية شتى ومتنوعة، كأن يكون إسقاطًا لتصوُّر أب كوني للعالم حسب التصور اللاهوتي المسيحي، أو إسقاطًا لرغبة اختلاق رمز يشكل قوة ربط جامعة في المجتمع، أو إسقاطًا لمصالح السلطات الحاكمة في الكهنوت والملوك، أو تعبيرًا عن الاغتراب، أو أداة للسيطرة الاقتصادية واستغلالاً لجهد لعمال من الرأسماليين، كما يذهب إليه الماركسيون عامة(38)، ومنهم من تبنَّى موقفًا لا أدريًّا تجاه قضايا ما بعد الطبيعيات أو الميتافيزيقا، وذهبوا إلى أنَّ هذه القضايا لا يستطيعون إثباتها ولا نفيها، لأنَّ التحقيقات التجريبية والاستدلالات العقلية لا تستطيع التطرق إلى خارج الوقائع وظواهر الأشياء. ثم إنّ هذه السمة الانفصالية أو الإقصائية أضحتْ من سمات الفكر الغربي؛ إذ إنّ الاتجاهات الذاتية والتجريبية عمومًا، أقصتا الإله على صعيد الوجود والمعرفة معًا؛ إذ لم يعد ذاتًا مستقلة بنفسها عن الوجود والإنسان، ولم يَعُدِ (الوحيُ) مصدرًا معرفيًّا مستقلاًّ بنفسه عن العقل والحس أو التجربة، ولم يَعُدْ له دور في المعرفة والعلم.
لهذا نجد أنّ (د.حمودة) ينتقد موقف الحداثة أو الفكر الغربي من الدِّين؛ إذ إنَّه لا يعدُّ الدين والتفكير الغيبي – بوصفه عربيًا مسلمًا – مناقضًا للعقل والعلم، ولا يرى من الضروري إحلال العلم محل الله في قلب المجتمع، وقصر الاعتقادات الدينية الإسلامية على الحياة الخاصة بكل فرد، فضلاً عن أنّ العلمية والفكر الديني لا يمكن أن يكونا على طرفي نقيض – كما في الفكر الغربي – على أساس أنّ الدين فكر غيبي يتعارض مع التفكير العلمي والعقلانية(39)، بل هو يعد الدين عنصرًا مؤثّرًا في إنتاج الثقافة العربية، وينتقد رأي ألان تورين في المجتمع الحديث، ويرفض كذلك أسطرة الإنسان وذاته وجعله مصدر جميع القيم، وفي الوقت نفسه ينتقد موقف ما بعد الحداثة في رفضها للثالوث العقل والعلم والقانون، ودعوتها لتفكيك المؤسسات بجميع أشكالها بوصفها سلطات قمعية تقهر الذات وتكبل حريتها(40). يضاف إلى ذلك أنّه يرفض أنسنة الدين الإسلامي من خلال كتابه السماوي (القرآن الكريم)، التي تجسَّدت في محاولة بعض الحداثيين العرب، بأنسنة الدين الإسلامي وعقلنته، بوصفه الإطار المرجعي الذي تأسس عليه التراث، من خلال محاولة قراءة النص القرآني باستخدام بعض المناهج النقدية الغربية المنحازة لثقافتها، أو تطبيق عليه مقولات نقدية بنيوية أو تفكيكية…إلخ، منحازة لمرجعيتها الفكـرية الفلسفية الغربية، وإنّ هـذه الأنسنة لتـعد تـرفًًا فكـريًّا – كمـا يصفها(د.حمودة) – يرفضه الواقع العربي والثقافة العربية، وإذا كانت الثقافة الغربية، بتطوراتها الفكرية المتلاحقة عبر مئات السنين، قد قدمت شرعية ثقافية لهذه المحاولات، فإنَّ واقعنا الثقافي غير مستعد للتعايش مع هذه المحاولات(41)، ثم إنَّ هذا الأمر سوف “يوقعنا في محاذير ربما لا نقصدها. ربما يحدث ذلك – وقد حدث مؤخرًا – عن خطأ في تطبيق المنهج النقدي، وليس عن إلحاد أو تجديف، لكنه يمثل خطأ منهجيًّا في استخدام أدوات نقدية مثيرة للجدل في تحليل نصوص غير أدبية، وفي مثل هذه الحالات فان الرد يجب أن يكون داخل نفس الإطار الفكري، وعلى تلك الأسس”(42)، والإشارة واضحة إلى كتابات د.نصر حامد أبو زيد، في كتابه، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، أو غيره من الكتاب من أمثال محمد شحرور، في كتابه، الكتاب والقرآن.
ولهذا نجد (د.حمودة) يعدُّ الدعوة التي تنادي بتطوير حداثة لا تفصل بين سيادة العقل أو الفكر العلمي وبين الدين، هي من الدعوات القوية والأكثر معاصرة في الوقت الحالي، إذ ارتفعت دعوة “في قلب الحضارة الغربية ذاتها إلى تصفية المشروع التنويري بعد أن أوصلت سيادة العقل والعلم هذه الحضارة إلى طريق مسدود أبرز علاماته كبت الذات، التي قام المشروع التنويري لتحريرها أصلاً، فضلاً عن سيادة القيم المادية، قيم السوق ورأس المال، والتفتت والتشرذم والتراجع المؤسي للقيم الروحية، من أبرز ملامح الدعوات لتصفية المشروع التنويري الغربي تلك الدعوة القوية التي ظهرت في السنوات الأخيرة من القرن العشرين للعودة إلى القيم الروحية التقليدية، أو لضرورة تطوير حداثة لا تفصل بالضرورة بين سيادة العقل والفكر العلمي وبين الدين، وهذا اختيار ما زال، لحسن الحظ، قائمًا بالنسبة لنا، مشروع التنوير الغربي استغرق أكثر من ثلاثة قرون في تاريخ الفكر الغربي قبل أن يدرك العقل الغربي صلابة الحائط الذي يواجه الحضارة الغربية في نهاية الطريق، أما نحن فما زال أمامنا حرية الاختيار والانتقاء”(43)، ويضيف قائلاً: إنّ العالم “الغربي اليوم، الذي ينبهر بعضنا بإنجازاته الحداثية وما بعد الحداثية إلـى درجة العمى عن إدراك الاختلاف، هذا العالم قد بدأ مرحلة الحنين إلى الماضي: ماضي التقاليد والنظام والتوازن الصريح بين منجزات العقل وتحقيق الذات والقيم الدينية، بعد أن اقترب العالم الغربي نفسه من حالة الهمجية والفوضى، ويزداد الحنين حدة في الثقافات التي فرضت عليها الحداثة وما بعد الحداثة مـن الخارج عن طريق قوة استعمار قاهرة (…) فإذا كان أصحاب الحداثة الغربية أنفسهم يشعرون بالحنين(nostalgia) إلى الماضي بمراتبيته وطقوسه فكيف بنا، بكامل إرادتنا، ندخل السباق المهلك للتغيير القائم بالدرجة الأولى على تحقيق قطيعة معرفية مع الماضي”(44)، فهذه الإشارات لهي دليل قوي على وجهة نظرنا بأنّ (د.حمودة) ينطلق من رؤية معرفية لا تفصل بين الثقافة والدين.
(1) ينظر: الخروج من التيه، مطابع السياسة، الكويت، 1424هـ-2003م: 102- 105.
(2) ينظر: ما وراء المنهج: تحيزات النقد الأدبي الغربي، د.سعد عبدالرحمن البازعي، ضمن كتاب، إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، تحرير: د.عبد الوهاب المسيري، الجزء1، مؤسسة انترناشيونال جرافيكس، الولايات المتحدة الأمريكية، ط2، 1417هـ-1996م: 267، 273. تأملات حول إشكالية المنهج في نقد الشعر الحديث، د.صلاح فضل، مجلة الأقلام، بغداد، العدد1، 1986م: 108- 109.
(3) ينظر: ما وراء المنهج: 268، 271، 275- 276.
(4)المرايا المحدبة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1418هـ-1998م: 62-63. وينظر: المرايا المقعرة، مطابع الوطن، الكويت، 1422هـ-2001م: 154.
(5)ينظر: المرايا المحدبة:61، 63- 64.
(6) ينظر: المصدر نفسه: 29، 41- 43، 63- 64، 161. المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين، شكري عياد، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1993م: 15.
(7) ينظر: المرايا المقعرة: 20-24.
(8) الخطاب النقدي وإشكالية العلاقة بين الذات والآخر، أ.د.شكري عزيز الماضي، مجلة الموقف الثقافي، بغداد، العدد9، 1997م: 16.
(11) ينظر: المرايا المقعرة: ولاسيما العنوان الفرعي للكتاب وهو (نحو نظرية نقدية عربية)، فضلا عن أنّ مطالعة الفهرسة تُشير إلى أنّ الجزء الثاني من الكتاب، يسمه بـ (وصل ما انقطع: نحو نظرية نقدية عربية)، والذي ضم فصلين، الأول معنون (بالنظرية اللغوية العربية) والثاني (بالنظرية الأدبية العربية). الخروج من التيه: 8، 11، 287، 321، 352.
(12) ينظر: إشاراته المتكررة في المرايا المقعرة، لهاتين النظرتين: 11، 12، 13، 184، 186، 189، 190، 193، 194، 195، 197، 198، 200، 209، 211، 213، 214، 215، 218، 219، 220، 221، 222، 233، 243، 244، 251، 252، 257، 261، 262، 264، 269، 270، 273، 275، 288، 289، 304، 305، 306، 307، 308، 309، 310، 312، 313، 314، 316، 319، 320، 324، 325، 326، 328، 331، 332، 333، 334، 335، 336، 341، 344، 346، 347، 350، 351، 352، 353، 354، 365، 372، 374، 378، 381، 382، 385-386، 391، 392، 403، 410، 415، 416، 436، 443، 446، 458، 461، 465، 466، 467، 471، 476، 489، 490، 491.
(13) ينظر: المرايا المقعرة: 9- 13.
(14) ينظر: أثر القرآن في تطوير النقد العربي إلى آخر القرن الرابع الهجري، د.محمد زغلول سلام، دار المعارف، القاهرة، ط3، (د.ت): 263- 299. نظرية الإعجاز القرآني وأثرها في النقد العربي القديم، د.أحمد سيد محمد عمار، المطبعة العلمية، دمشق، ط2، 1421هـ-2000م: 175- 280.
(15) ينظر: المرايا المقعرة: 416- 417، 491.
(16) ينظر: المرايا المقعرة: 313.
(17) ينظر: في معنى المنهاجية الإسلامية, أ.د.لؤى الصافي, ضمن كتاب: دورة المنهاجية الإسلامية في العلوم الاجتماعية: حقل العلوم السياسية نموذجا، إعداد وإشراف: أ.د.نادية محمود مصطفى و أ.د.سيف الدين عبد الفتاح، مركز الدراسات المعرفية، القاهرة-مصر، 1423هـ-2002م: 66.
(18) ينظر: نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة, د.راجح عبد الحميد الكردي، الكتاب الثاني، دار الفرقان للنشر والتوزيع، عمان، ط2، 2003م: 75، 116, 234.
(19) ينظر: المصدر نفسه، الكتاب الأول: 92، 157- 159. الكتاب الثاني:74.
(20) ينظر: تكوين العقل العربي، د.محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت-لبنان، ط7، 1998م: 29.
(21) ينظر: تحليل مقارن للنماذج المعرفية الإسلامية والغربية, د.أحمد داود أغلو, ضمن كتاب: نحو نظام معرفي إسلامي(حلقة دراسية)، تحرير د.حسن فتحي ملكاوي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، عمان-الأردن، ط1، 1420هـ-2000م: 119، 122.
(22) ينظر: المرايا المحدبة: 68- 70، 91-92.
(26) ينظر: الكلمات والأشياء، ميشيل فوكو، ترجمة: مجموعة من المترجمين: 292- 293، 294-295. المرايا المحدبة: 245.
(27) ينظر: المرايا المحدبة: 66- 67، 70.
(28) ينظر: تكوين العقل العربي: 28- 29.
(29) ينظر: المرايا المحدبة: 106، 245- 246.
(30) ينظر: الخروج من التيه: 89.
(31) ينظر: المرايا المقعرة: 194- 195.
(32) ينظر: المرايا المحدبة: 38، 74- 75، 92- 93. الخروج من التيه: 15- 16.
(34) المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين: 66-67. وينظر: المرايا المحدبة: 35.
(35) ينظر: المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين: 66-67. المرايا المحدبة: 35، 36، 64. المرايا المقعرة: 54- 55.
(36) ينظر: نقد الحداثة، ألان تورين، ترجمة: أنور مغيث، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، القاهرة، 1997م: 29- 30. المرايا المقعرة: 56.
(37) ينظر: تحليل مقارن للنماذج المعرفية الإسلامية والغربية: 116- 118، 121، ومصادره.
(38) ينظر: تاريخ الفلسفة الغربية: الفلسفة الحديثة، برتراند رسل، الكتاب الثالث، ترجمة: د.محمد فتحي الشنيطي، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1977م: 112. تحليل مقارن للنماذج المعرفية الإسلامية والغربية: 117، 120، 130. معالم نظرية المعرفة في القرآن الكريم، د.عرفان عبدالحميد فتاح، ضمن كتاب: نحو نظام معرفي إسلامي: 160.
(39) ينظر: المرايا المقعرة: 91.
(40) ينظر: نقد الحداثة: 29- 30. المرايا المقعرة: 54- 56.