نقاش
د.عبدالقادر علي باعيسى
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 19 .. ص 93
رابط العدد 19 : اضغط هنا
يسعدني أن أناقش الأخ د. صادق عمر مكنون أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر المشارك، وأن أشكر له مبادرته بالنقاش الذي تظل المعرفة بدونه في حال من الركود والتيبس، مستعينًا بالله، ومبتدئًا بالقول:
إن من أسباب نجاح أي مقال هي وحدته الموضوعية التي تجعل بين قضاياه ترابطـًا يرى من خلاله القارئ استمراريته في اتجاه واحد، لا اتجاهات مختلفة تبدو من خلالها عناصر الترابـط التي يتوخاهـا الكاتـب عناصر اضطراب، وقد بدت موضوعات مقال د. صادق عمر مكنون (ملاحظات على بحث د. عبدالقادر باعيسى الموسوم بــ (كتاب المشرع الروي في مناقب السادة الكرام آل أبي علوي- قراءة تحليلية)(1) معزولاً بعضها عن بعضها الآخر، تقدم تفاعلاً يبديه الكاتب مع الموضوعات التي ذكرها بحيث لا تتفاعل علميًا في ذاتها من أجل مقاله، بل هو يتفاعل معها ذاتيًا، وينفعل بها، ليوجهها في خدمة فكرته، فبدا لذلك الربط الداخلي بين قضايا مقاله مفككًا، فليس ثمة علاقات تفضي بكل موضوع إلى الآخر، وإنما يهتم د. مكنون بانسجام مدركاته الذهنية والنفسية كما يراها ويتصورهـا، فيدافـع عن فكرتـه مرة باستعـراض مقولات منظري الحداثة من مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا ورولان بارت، وفي أثناء ذلك يهاجمها، ومرة بالدعوة إلى تبني منهج حداثي في الهجنة، ومرة بإيراد أقوال علماء الدين في الكرامات من مثل ابن تيمية وابن القيم الجوزية والشوكاني، ومرة بالدفاع عن آل باعلوي، ومآثرهم في مواقع مختلفة من العالم، معرجا على السيد عبدالله محفوظ الحداد وأن د. باعيسى تتلمذ على يديه في سانحة تذكيرية لطيفة به رحمه الله، وغير ذلك، فمقال د.مكنون (الرد) يتمظهر في ذاتية المؤلف، وفي مرجعية الموقف الذي يراه، وقد توحدت البنى الفكرية المتضادة والمختلفة في رده بهذه الفاعلية الذاتية، وأي مقال أو بحث خاصة لأستاذ أكاديمي يقوم على نظام من التسلسل والتناسق يكمن فيه جزء من قيمته العلمية، ومن خلاله يتواصل باتساق من بدايته إلى نهايته.
فما هي الذات المحورية في إنتاج مقال د. مكنون؟ هل هي ذات علمية، أو صوفية، أو اجتماعية، أو مهتمة بشؤون التاريخ، أو مهتمة بشؤون الحداثة؟ إن اختلاف الموضوعات يعني اختلاف خصوصياتها ومنطلقاتها ومستوياتها العلمية، الأمر الذي أربك عملية التواصل المتسق علميا معها إذ لم تقم على بناء استراتيجي متماسك، وإنما جاءت في إطار تحشيدي أولاه الكاتب اهتمامًا كبيرًا، فهل يمكن أن نعد كل موضـوع من هذه الموضوعـات المختلفة مقدمـة لموضـوع آخر أو شرطـًا لوجـوده؟ لا أظن الإجـابـة بالإيجاب، إذ لا يمكن أن يتوحد المنهج العلمي التحليلي كما يورده د. مكنون والميتافيزيقا، ولا رؤية المنهج العلمي التقليدي والتفكيكية، وكيف يمكن أن تتسق تفاصيل مثل هذا النوع من الكتابة المتفاوتة الاتجاهات والمستويات؟.
ويتصل بذلك أن السمات النصية في مقال د. مكنون متفاوتة اللغة، فالمنطوق غير موحد يشير إلى فروق أسلوبية جاءت نتيجة للفروق الفكرية التي اتخذها في مقاله، فنحن أمام صيغ حداثية، وصيغ تقليدية، وصيغ دينية، وصيغ علمية، وصيغ انفعالية، وحتى مفهومه لما بعد الحداثة يقدمه بتعبيرات مختلفة، فمرة هو (أسلوب فكري)(2) ومرة هو (تيار ما بعد الحداثة)(3) ومرة هو (الفلسفة ما بعد الحداثية)(4) وقد جاء هذا التنويع لأنه ينقل عن مراجع مختلفة الاتجاهات في نظرتها لما بعد الحداثة، ولم يتمكن من التمييز بينها في ذلك، بل لم يتمكن من ترشيد قوله نفسه، عندما يقول: “وقد أوكلت إلي إدارة الجلسة التي قدم فيها د.باعيسى ملخص بحثه، وبعد انتهائه من قراءة الملخص أبديت بعض الملاحظات المنهجية على ملخص البحث”(5) فكيف يمكن أن تكون ملاحظات (منهجية) وهو لم يقرأ البحث في تلك اللحظة وإنما سمع ملخصه في مؤتمر علمي؟ ثم كيف ستتضح المنهجية وملاحظته (وليست ملاحظاته كما ذكر) شديدة الاختزال عبارة عن جملة استفهامية مكونة من كلمتين هما: أين الاستلاب؟(6) وفي هذا السياق يشير إلى أن د. محمد أبوبكر باذيب كتب “ملاحظات منهجية على هذا البحث نشرها على بعض مواقع التواصل الاجتماعي”(7) فكيف اكتسبت منهجيتها في بعض مواقع التواصل الاجتماعي؟ أليس الأولى أن يضمها مقال متكامل؟ وألا يقتضي ذلك من د. مكنون أن يورد ملاحظات د.باذيب في هامش مقاله ليطلع عليها القارئ حيث الهامش هو المجال المناسب لإيراد التفصيلات؟.
ويقول متابعًا: “ومع أن د. باعيسى لم يفصح عن المنهج الذي استخدمه في كتابة بحثه، إلا أنه طالب في افتتاحية مجلة (حضرموت الثقافية) العدد (الخامس عشر) بقراءات للتاريخ وفقا لتحليلات مناهج الحداثة وما بعد الحداثة، ويبدو أنه بهذا يرد على الملاحظات المنهجية على البحث التي أبديتها وأبداها آخرون، لهذا رأيت أنه يلزم علي أن أستعرض بإيجاز شديد منهج ما بعد الحداثة لمعرفة مدى استخدام د. باعيسى لهذا المنهج”(8).
أولاً: يفترض د. مكنون أنني بقولي الذي أشار إليه، ولم يورده نصًا، ومفاده “مازال التاريخ بوصفه كتابة كيانا مغلقا على نفسه، لا يريد أكثر المتخصصين فيه والمهتمين به من غيرهم المساس به، أو التدخل في شؤونه، باستثناء أولئك الذين ينظرون إلى التاريخ بنفس ثقافي أعمق، فيرحبون بمختلف الدراسات والآراء فيه، شريطة أن تكون مبنية على أسس منهجية من العلم فالقراءات غير التاريخية (التفكيكية، والسيميائية، والثقافية، وحتى الفلسفية) للتاريخ مازالت قليلة”(9) يفترض أنني أشير إليه شخصيًا، وتحديدًا في ملاحظته التي أبداها على قراءتي لكتاب المشرع الروي للشلي وملاحظات أبداها آخرون (لعله يقصد د. محمد أبوبكر باذيب) وما أوردته يتحدث عن مشكل عام تنوء به ثقافة حضرموت المعاصرة، ولا يعنيه شخصيا إلا إذا كان يرى أن ثقافة حضرموت متمحورة فيه، ولو في ملاحظة وجيزة يقولها.
ثانيًا: يفترض لقراءتي في كتاب المشرع الروي منهج ما بعد الحداثة، وما قدمه عبارة عن مقدمات في فكر ما بعد الحداثة، وليست منهج ما بعد الحداثة (التفكيكية) وكان عليه أن يورد ملاحظاته وفق مفاهيم هذا المنهج وآلياته كالحضور والغياب، والإرجاء، والاختلاف، وعلاقة الدال بالمدلول… وكيف اعتمد عليها د. باعيسى في قراءته؟ وما الخلل الذي وقع فيه؟ حتى تكون نقوداته دقيقة، لكنه دخل إلى قضايا أخرى متنوعة لا علاقة لها بالتفكيكية سنعرض لها في حينه.
وفي أثناء استعراضه لمقدمات ما بعد الحداثة وقع في اضطراب آخر حين أخذ علي أنني ذكرت اسم المؤلف الشلي وذلك كما يقول: “يتنافى مع أهم مبدأ للتحليل ما بعد الحداثي وهو موت المؤلف”(10) وهنا يدعوني د. مكنون لأن أنفي الشلي تماما، ولا أعتد بوجوده معتمدًا على النص فقط، وهذه الفكرة تغبن مقاله الذي يدافع فيه عن الشلي وشخصيته وعلمه، فقد أعطاني بحماسه لموت المؤلف شيئًا ضد ما يدعو إليه، لأن في إماتة المؤلف ما يعطي القارئ الحق لأن يستنتج من الدلالات ما تمليه عليه لغة النص، فيغدو المؤلف مستنتجا من خلال كلماته، بوصف الكاتب –في هذه الحالة- جزءًا من سياق الكتاب، أعني جزءا من طبيعة الكلمات فيه، وكلما غاب المؤلف أمكن انفتاح النص على دلالات متنوعة بصورة أوسع، وهذا حق لي لم أستغله وفق ما قرره لي د. مكنون من منهج، يقول ناقلاً عن بدر الدين مصطفى: “لقد وجد بارت أن ميلاد القارئ رهين بإعلان موت المؤلف، وللقارئ الحرية الكاملة في تأويل النصوص حتى لو جاوز البنية الدلالية الواضحة للنص، لذلك فإن وظيفة القارئ إغلاق النص دون ذات المؤلف، وانفتاحه على موضوعه وفضائه الدلالي”(11) علما أن بارت يتحدث عن النص الأدبي، وليس عن النص عمومًا، إذ ينقل عن بدر الدين مصطفى أيضًا: “لقد أسس رولان بارت قواعد جديدة للتعامل مع النص الأدبي، محل القواعد التي كان معمولا بها من قبل في حقل النقد الأدبي. ويرى بارت أن نسبة النص إلى مؤلفه معناه إيقاف النص، وحصـره، وإعطـاؤه مدلولاً نهائيًا، إنه إغـلاق للكتابة”(12) وهنا نود الإفادة بأن التفكيكيين تبنوا فكرة موت المؤلف، وعملوا على تأكيدها، لكنهم ليسوا أول من قال بها، فأول من قال بها البنيويون، وقد بدأت إرهاصاتها منذ الشكلانيين الروس.
كما يورد د. مكنون نتيجتين أخريين توصل إليهما فيما يتعلق بالتفكيكية، وهما حسب قوله:
– “وجود الفكرة المسبقة التي تسيطر على البحث من بدايته إلى نهايته –كما سنبين ذلك لاحقا- وهذا يتنافى كذلك مع التحليل ما بعد الحداثي”(13).
– “إصدار نتائج وأحكام نهائية، بوصفها حقائق توصل إليها الباحث، وهذا يتعارض مع أهم مفهومات ما بعد الحداثة”(14).
واللافت أنه لا يفصح عن تفاصيل هاتين النتيجتين في هذا الموضع عند حديثه عن التفكيكية، وإنما في مواضع أخرى من مقاله لا علاقة لها بالتفكيكية، لسبب بسيط هو أن تفاصيل هاتين النتيجتين تنوء بحمولات ذاتية واجتماعية لا علاقة لها بالتفكيكية، وهو اضطراب آخر مما وقع فيه.
لقد وصّف د. مكنون قراءتي بأنها تنتمي إلى ما بعد الحداثة، ثم اضطرب في توصيفاته لها، ثم نفى ذلك عني بأنني لم ألتزم “بأسس فلسفة ما بعد الحداثة”(15) دون أن يخوض منهجيا في تحليل قراءتي تفكيكيا، ليناقشها بعد ذلك بمنهج آخر مختلف عن التفكيكية، هو منهج البحث العلمي الأكاديمي، يقول: “بما أن د. باعيسى لم يلتزم بأسس فلسفة ما بعد الحداثة، فإننا سوف نضع ملاحظاتنا وفقا لمناهج البحث العلمي الأكاديمي”(16).
إن أول ما يمكن إيراده في سياق (منهج البحث العلمي الأكاديمي) الذي تحدث عنه، هو أن د. مكنون يحدد مشكلة قراءة د. باعيسى افتراضًا من عنده، يقول: “والقراءة المتعمقة للبحث تكتشف أن مشكلة البحث عند الباحث اجتماعية وليست تاريخية أو معرفية”(17) فقراءة د. باعيسى متعلقة الآن بعلم الاجتماع، ولم تعد تفكيكية، وهذا يتناقض مع ما سبق تمامًا، ويقول في موضع آخر “وكما بينا سابقًا مشكلة البحث عند د. باعيسى اجتماعية”(18) بل يحدد نوع المشكلة الاجتماعية بقوله: “ويمكن أن تحدد في السؤالين الآتيين: كيف حصل آل باعلوي على المكانة الاجتماعية في مجتمع حضرموت؟ وكيف حافظوا عليها؟”(19) هكذا يحدد د. مكنون، مشكلة البحث من عنده بصورة افتراضية، وهي من أولويات مهام كاتب البحث، لكي يبني التصورات التي يريد عليها، ثم يزعم بأنها من قراءة د. باعيسى، والحقيقة أن قراءتي لم تخل من إشارات اجتماعية، لكنها جاءت عرضية في إطار التعليل والتفسير لما ورد في كتاب المشرع الروي من كرامات، فوصف أي ظاهرة يقتضي تعليلها، ولم يكن التعليل غاية أساسية بذاتها قصدت إليه القراءة، بحيث يشكل (مشكلة البحث) أي السبب الرئيس الذي أنشئ من أجله، والنقطة الجوهرية في قراءتي لكتاب المشرع الروي هي الكرامات من حيث تشكيلها للوعي في حضرموت في القرن الحادي عشر الهجري.
ويرى د. مكنون أن قراءة د. باعيسى وفق منهج البحث العلمي الأكاديمي شابها بعض الأخطاء، ويقدم لذلك بقوله: “عنوان البحث يدل على أن الباحث استخدم منهج البحث التحليلي لدراسة الكتاب، ولكي نتعرف على مدى استخدام الباحث هذا المنهج، نستعرض بإيجاز مفهوم هذا المنهج عند علماء مناهج البحث العلمي، ومدى استخدام د.باعيسى لهذا المنهج”(20) ثم يستعرض ما يراه من أخطاء من وجهة نظره، وقبل أن نناقشه في ذلك، سنقف عند مقولته هذه في نقطتين:
أولاً: يسمي د. مكنون التحليل منهجا، والتحليل -كما هو معروف بدهيا عند الأكاديميين- إجراء وليس منهجًا، ذلك لأن كل المناهج تقوم بعملية التحليل، حتى تلك التي تهتم بالوصف بصورة أساسية.
ثانياً: تعبير (منهج البحث التحليلي) الذي استخدمه فضفاض، ذلك أن عددا كبيرا من المناهج العلمية يندرج تحت هذه التسمية، كالمنهج التاريخي والاجتماعي والنفسي… وقد حشد د. مكنون تحليلاته تحت هذا المسمى الواسع أو غير المحدد، بل إنه يصرح بأنه سيتخذ عدة مناهج بقوله: “فإننا سوف نضع ملاحظاتنا وفقًا لمناهج البحث العلمي الأكاديمي”(21) هكذا بعموم (وفقًا لمناهج) فكيف ستكون منهجية تلك الملاحظات واتساقها؟ إنه ينفي بهذا التعميم دقة التزامه بمنهجية البحث العلمي، سواء في اتخاذه ما سماه منهج البحث التحليلي في صيغة عامة مفتوحة، أو في اتخاذه عددا من المناهج في إيراد ملاحظات متفرقة متعددة لا يوحدها جامع منهجي، وهنا يضع سؤال نفسه: إذا كان ذلك هو منهج د. باعيسى كما افترضه لقراءته، فما هو منهجك الآن في هذه القراءة التي تقدمها؟ وإذا كانت المقولات التي قدمتها في مقالك فلسفية، فما هي فلسفة النقد الإجرائي الذي قمت به؟ وما هو الرابط الجامع بين الفلسفة والمنهج في مقالك؟ وهل التزمت في مقالك بمنهجية البحث العلمي الموضوعي من حيث إنه يعني في أحد معانيه “الطريقة العلمية المنظمة لدراسة أي موضوع، أو أي ظاهرة بشكل حيادي من دون ما تدخل من الباحث بإضفاء بعض معتقداته ومشاعره الخاصة، أو قهر النتائج للخروج باستنتاجات ليست بالضرورة متعلقة بالظاهرة موضوع الدراسة الموضوعية”(22) ذلك ما يمكن توضيحه ومناقشته مستقبلاً.
وفي هذا السياق المتصل بمنهجية البحث التحليلي العام يعامل د. مكنون د. باعيسى كما لو كان باحثًا في التاريخ -وكان قد أشار، كما أسلفنا، إلى أن مشكلة البحث اجتماعية وليست تاريخية- فيورد قول د. حسن عثمان من كتابه (منهج البحث التاريخي) مكررا كلمة (الباحث في التاريخ) عدة مرات منها قوله: “ولكي يستخدم الباحث في التاريخ كلية عامة ويطبقها على التفصيلات الجزئية ينبغي أن يكون وطيد المعرفة بالمسألة التاريخية المعينة”(23) وقوله: “كما أن من الخطأ أن يبني الباحث في التاريخ اجتهاده على تفصيل جزئي مستقل بذاته دون أن يدرس كل ظروفه المتعلقة به”(24) وقوله: “بعض الباحثين في التاريخ يقومون ببحوثهم وهم تسيطر عليهم فكرة معينة”(25) وينقل قول د. سعيد إسماعيل صيني: “وقد يستخدم الباحث في التاريخ اتجاهات علم الاجتماع على غير تثبت منه”(26) وهناك فرق بين الباحث في التاريخ، والقارئ لنص من التاريخ اجتماعيا كان أو فلسفيا أو كراميا، وما يقوم به د. باعيسى هو أنه يقرأ نصا من التاريخ، وليس نصا في التاريخ من حيث هو مدونات معروفة في أحوال الدول والجماعات والأحداث السياسية، فليس كتاب المشرع الروي من كتب التاريخ الصرف، وليس د. باعيسى باحثا متخصصًا في التاريخ، كما يعرف ذلك د. مكنون جيدًا، وليست قراءته تاريخية صرفة حتى ينظر إليها من زوايا لا علاقة لها بها.
ويتحدث د. مكنون عن رسالة الدكتوراه لبندر محمد رشيد الهمزاني (المنهـج التاريخي لمؤرخـي مكة المكرمـة في القرن الحادي عشر الهجري) يقول: “ويصف الباحث السعودي د. بندر الهمزاني كتاب المشرع الروي بقوله: “إن الكتاب يعد موسوعة علمية تاريخية للدارس في تاريخ اليمن من حيث تراجم أهلها، ودراسة حضارية وتاريخية لمدنه ووصفها، وما بها من مدارس ومساجد وأودية وقبور وشعاب، فهو عند ترجمته لشخص ما يعرض لنا وصفا للمدينة التي عاش فيها، وأهم ما جرى بها من أحداث سياسية تاريخية، كما أننا نجده لا يغفل الجانب الحضاري فيصف لنا ما بهذه المدن من عمارات ومنشآت دينية ومدنية وعسكرية، كما أن الدارس للكتاب يستفيد كثيرًا فيما يتعلق بالحياة الثقافية والعلمية”(27) وهذا البحث في (المنهج التاريخي) وللباحث طريقته في البحث، وزاوية نظره العلمية المختلفة عما ذهبنا إليه في قراءتنا، فكيف تقارن قراءة د. باعيسى بموضوع آخر لا علاقة له به؟.
إن مثل هذه الطريقة غير العلمية من الدلائل والمقارنات أدت بمقال د. مكنون إلى نتائج لا علاقة لقراءة د. باعيسى بها، كنتيجته التي وصل إليها بعد عرضه السابق لقول د. الهمزانـي، وهي “وعليه، فوصف د. باعيسـى كتـاب (المشرع الروي) بأنه كتاب يقوم على الغيبيات والكرامات وصف مبالغ فيه جدًا وغير دقيق”(28) أفيمكن أن يقال للدكتور الهمزاني، أو لغيره لو تناول جانبًا محددًا من كتاب المشرع الروي من غير الكرامات، إن وصفك مبالغ فيه وغير دقيق لأنك ركزت على ناحية بذاتها في بحثك وأهملت الكرامات وهي موجودة بالكتاب؟ ومعلوم أن قراءة د. باعيسى تنظر في الكرامات من حيث تشكيلها للوعي في حضرموت، لا في أي موضوع آخر خارج هذا الإطار المحدد لمسارها.
وثمة نتيجة أو بالأصح فكرة سيطرت على د. مكنون في أنحاء مختلفة من مقاله، فحواها أن قراءة د. باعيسى أرادت أن تنال من آل باعلوي، فاتخذت من كتاب المشرع الروي وسيلة للتعريض بهم، وأن هذه الفكرة موجودة في ذهن د.باعيسى مسبقًا قبل أن ينظر في كتاب المشرع الروي، وقد عبر عنها بعدة تعبيرات منها قوله: “وجود الفكرة المسبقة التي تسيطر على البحث من بدايته إلى نهايته”(29) وقوله: “ومن خلال السياق العام للبحث يتضح أن الفرضية الوحيدة لحل هذه الإشكالية موجودة مسبقا عند الباحث حاول أن يثبتها من خلال كتاب المشرع الروي”(30) وقوله: “إن تركيز د. باعيسى على جزئيات من الجزئية التي انتقاها من كتاب المشرع الروي يدل على أن لديه فكرة مسبقة، يريد أن يجد لها دليلا من الكتاب، وهو خطأ منهجي كبير”(31) وقوله: “وكما بينا سابقا مشكلة البحث عند د. باعيسى اجتماعية، وهي كما يبدو تستند إلى تصورات واتجاهات عامة”(32) وقوله: “ويدخل إلى موضوع الكرامات دون مقدمات ليفرض على القارئ من البداية التصورات والانطباعات المسبقة التي لديه عن الكتاب”(33) وقوله: “ويأتي بأوصاف تخيلية لا علاقة لها بما ورد في الكتاب هي من الأفكار العامة المسبقة لديه”(34) وقوله: “رغم أن د. باعيسى يرى أن الكرامات غير منكورة في مستواها المعقول، لاسيما أن نموذج الولي الصالح ظهر في التاريخ الإسلامي، لكنه يعود ليخصصها في آل أبي علوي، ويبترها عن سياقها المعرفي الإسلامي ليوظفها في إثبات فكرته المسبقة عن أثرها في مكانة آل أبي علوي الاجتماعية”(35) وقوله: “ربط د. باعيسى المكانة الاجتماعية لآل باعلوي بالكرامات، وجعل من كتاب المشرع الروي دليله على ذلك، والسياق والمضمون العام للبحث يعبر عن هذه الفكرة”(36) وقوله: “إن إسناد سبب مكانة آل أبي علوي الاجتماعية إلى الكرامات، تبسيط مخل في تفسير وفهم سنن وقوانين حركة الحياة الاجتماعية، وخطأ منهجي بتعميم نتائج جزئية، وتحليـل يتـنـافى مع معطيـات الواقـع”(37) ويستدل بقول د. حسن عثمان “بعض الباحثين في التاريخ يقومون ببحثهم وهم تسيطر عليهم فكرة معينة عن حادث ما، أو عن اتجاه خاص في الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الدينية… ويدرسون تحت تأثيرها الأصول التاريخية التي تقع تحت أيديهم، وبذلك ربما يفهمون هذه الأصول فهما خاطئا، أو لا يفهمونها على الإطلاق… وبذلك يتكيف النص التاريخي ويتشكل بحسب الفكرة المسيطرة على ذهن الباحث”(38).
واضح من خلال الإلحاح على مقولة (الفكرة المسبقة) أن الناحية النفسية اشتغلت عند د. مكنون لأسباب خاصة به، حتى عكست قراءة د. باعيسى رأسا على عقب، فجعلت غايتها النيل من المكانة الاجتماعية لآل باعلوي، وأنها اتخذت من كتاب المشرع الروي وسيلتها للوصول إلى ذلك، بينما نظرت قراءة د. باعيسى في كتاب المشرع الروي بوصفه متنا مشروعا للقراءة في ذاته كأي كتاب، ونظرت في دلالاته وفق المعطيات التي انبثقت عنه سلبًا وإيجابًا في سياق بحثي صرف(39) معتمدة على الاستنتاج من ثناياه الذي يفهم عند د. مكنون على أنه فكرة مسبقة موجودة عند الباحث دون أن يأتي بعبارة واحدة منصصة من قراءة د. باعيسى دالة على أن تلك الفكرة هي المرتكز الأساسي لقراءة د. باعيسى، ومحور كتابتها، سوى افتراضاته الخاصة التي قام على أساسها باستعراض المكانة الاجتماعية لآل باعلوي، وتأثيرهم الذي يمتد إلى خارج حضرموت، وعن بعض أعلامهم، وأهمية الكرامات من الناحية الدينية، مما لا يدخل في مجال قراءة د. باعيسى البتة، وكان يورد في ثنايا استدلالاته الآنفة كلمات لا تلتزم بمنطق البحث العلمي وحصافته بقدر ما تخضع لحالة من الانفعال من مثل (وهو خطأ منهجي كبير) وكان بإمكانه الاكتفاء بالقول (خطأ منهجي) فيما يراه من وجهة نظره دون كلمة (كبير) التي لا مسوغ لوجودها سوى الانفعال، أو (ليفرض على القارئ…) أو (يأتي بأوصاف تخيلية).
والواقع أن حالة من الانفعال سيطرت على مقال د. مكنون من مثل “وصف غير موفق”(40) و”وصف مبالغ فيه جدًا”(41) و”فاستنتاجات د. باعيسى غير صحيحة”(42) و”فيجعل {باعيسى} للكتاب وظيفة تدميرية”(43) و”أما السيد محمد بن أبي بكر الشلي فقد قدمه د. باعيسى بصورة مشوهة”(44) و”فيصور السيد الشلي أنه أحد أبواق الدعاية والتحريض لنشر حكايات الكرامات”(45) إن هذه الأقوال من الشتم والانتقاص كانت قراءة د. باعيسى براء منها ومما يشابهها، أو يدل عليها، وتنزه نفسها عنها تماما، وإنما هي من نتاج انفعال د. مكنون، وتأتي عادة عندما يشعر المحاور أن الأدلة والحجج التي قدمها لم تكن كافية لتوصيل فكرته، أو أنها غير مقنعة لتوصيل فكرته، فيأتي بها لإرضاء نفسه، وإرضاء المتلقي لينحاز إليه من الناحية النفسية في الأقل، ولمخاطبة المتلقي الذي لا يفهم شيئًا في النقاش المطروح، وعندما ننظر إلى طبيعة رد د. مكنون ننظر إلى طبيعته الإنتاجية من مجموع التعبيرات التي استخدمها بوصفها أجزاء منه.
بقي أن أشير في آخر هذا الجزء الأول من النقاش مع د. مكنون إلى قوله: “عنوان البحث يدل على أن د. باعيسى سيقدم دراسة تحليلية لكتاب المشرع الروي، لكن القارئ للبحث يتفاجأ أن الدراسة التحليلية تقتصر على جزئية صغيرة من مادة الكتاب، وهي كرامات الأولياء، وعليه فإن عنـوان البحـث لا يعبـر عن متـن البحـث، وهذا خطأ منهجي”(46) ومع د. مكنون الحق في هذه الملاحظة، فالواقع أن عنوان القراءة كان (كتاب المشرع الروي في مناقب السادة الكرام آل أبي علوي- قراءة تحليلية في الكرامات) ثم اقترح علي بعض الزملاء إبعاد كلمة (الكرامات) من العنوان لما تحيل إليه من قضايا دينية، وإشكالات لا علاقة لقراءتي بها، فأبعدتها من العنوان، وتم تقديم ملخص القراءة في المؤتمر العلمي السنوي لمركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر، ثم نشرت كاملة في مجلة (حضرموت الثقافية) والعنوان على شاكلته المعدلة، وهو خطأ أعترف به، أشبه بالهدف الذي يسجله اللاعب في مرمى فريقه، وقد بنى على ذلك د.مكنون بعض ملاحظاته.
الهوامش:
1) نشر المقال في مجلة حضرموت الثقافية الصادرة عن مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر، العدد (18) المكلا، حضرموت، ربيع ثاني 1442- ديسمبر 2020م، ص25- ص39).
2) مقال د. مكنون، ص26.
3) نفسه، ص28.
4) نفسه، والصفحة نفسها.
5) نفسه، ص25.
6) يحتفظ مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر بالتوثيق الصوتي والتصويري الكامل لوقائع جلسات مؤتمره العلمي (التاريخ والمؤرخون الحضارمة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين.
7) مقال د. مكنون، هامش رقم (2) ص38.
8) نفسه، ص25.
9) مجلة حضرموت الثقافية، العدد (15) شعبان1441هـ – مارس 2020م، ص4.
10) مقال د. مكنون، ص28.
11) نفسه، ص27.
12) نفسه، ص26.
13) نفسه، ص28- 29.
14) نفسه، ص29.
15) نفسه، والصفحة نفسها.
16) نفسه، والصفحة نفسها.
17) نفسه، ص29.
18) نفسه، ص30
19) نفسه، ص29.
20) نفسه، والصفحة نفسها.
21) نفسه، والصفحة نفسها.
22) عالم الفكر، العدد4، المجلد41، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت2013م، ص126.
23) مقال د. مكنون، ص30
24) نفسه، والصفحة نفسها.
25) نفسه، والصفحة نفسها، وينطبق هذا على ما ورد في الإحالات الدال عليها الهامشان رقم 35 و 36 من مقال د. مكنون.
26) مقال د. مكنون، ص30
27) نفسه، ص32.
28) نفسه، والصفحة نفسها.
29) نفسه، ص28- 29.
30) نفسه، ص29.
31) نفسه، ص30
32) نفسه، والصفحة نفسها.
33) نفسه، والصفحة نفسها.
34) نفسه، ص32.
35) نفسه، ص35.
36) نفسه، ص36.
37) نفسه، ص37.
38) نفسه، ص30.
39) ينظر كتاب المشرع الروي في مناقب السادة الكرام آل أبي علوي، قراءة تحليلية د. عبدالقادر علي باعيسى، مجلة حضرموت الثقافية، العدد(11) تصدر عن مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر، المكلا، حضرموت يناير-مارس2019م، ص57 و 58.
40) مقال د. مكنون، ص30.
41) نفسه، ص32.
42) نفسه، ص34.
43) نفسه، ص32.
44) نفسه، ص33.
45) نفسه، والصفحة نفسها.
46) نفسه، ص29.