كتابات
د. حسين أبوبكر العيدروس
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 19 .. ص 101
رابط العدد 19 : اضغط هنا
قد تتعجب وأنت تتهجى عنوان هذه المقالة، وتستغرب من مصطلحاته، وتقول في خاطرك بأن المبالغة هي التي تسيطر على العنوان وربما على المقالة بأكملها، فأقول: ربما ليس الأمر كما تتخيل مطلقًا، وربما أشد وأدهى من ذلك، فحينما أعود مجددًا وأحلق بذاكرتي هنا وهناك في شتى ربوع بلدنا الحبيب، وأتابع ما جرى خلال ما يزيد عن عقدين كاملين من الزمن، فإنني لم أر غير ما يدعم هذا العنوان وتلك الكلمات التي كتبتها وقلمي يئن ويتألم. لم أجد غير تفريط في أسس الثقافة التي بُنيت خلال قرون طويلة من المجد والرفعة، حتى بدأ يتهاوى المبنى بأكمله.
لن أتجرأ –الآن- وأقول بأن ذلك مُبرمج أم غير مبرمج من جهة ما، إلا أن كل الدلائل تُشير إلى أن قبولنا بالتنازل عن ثقافتنا الموروثة ذات الخصوصية، وأقصد بها مجمل العادات والتقاليد والمعتقدات والاتجاهات وما ينتج عنها من ابتكارات مادية وغير مادية نتيجة حتمية سواءً بالممارسة أو بالتعلم أو بالمشاهدة أو بأية وسيلة نقل أخرى، كل ذلك جعلها تذوب وتتشتت وتفقد ألقها تدريجيًا وتتحول وتتبدل في طريقها للتغير والزوال وسيطرة الآخر المستجد عليها، ومن ثم جعل الوطن المنتج لها وأحفاد منتجي تلك الثقافة خاويي الوعاء الذي كان يتلقى تلك الأصول والأسس ويرعاها أولًا بأول، وهو المرجع الدائم الذي ترتبط به كل الإنتاجات البشرية، وهو أيضًا بمثابة (المُعرِّف عن الهوية)، ففيه تكمن الصبغة الخاصة لكل شعب من الشعوب.
حتى لا أذهب بعيدًا عن موضوع المقال، فإنني وبحكم تخصصي في علم الآثار، وبشكل أكثر دقة في الفنون القديمة واهتمامي بالميثولوجيا والأنثروبولوجيا، ونظرًا لارتباط معظم الموروث الثقافي الشديد بالمعتقدات وبالميثولوجيا القديمة، فإنني أؤكد على أن ثمة حربًا قديمة كانت قد بدأت مع العصور الحجرية القديمة، كان عمودها الأساس هو المُعتقد، وقد تحول وتبدل بأشكال متعددة جدًّا بحسب كثافة الثقافة، إلا أنه لم يختف ولم يتلاش رغم بُعد الشقة بيننا وبينه. لقد ظلت المعتقدات في الشعوب ذات الأصول القديمة -وهي جزء من تكوينها- رغم تقدم العلوم وتطور كل وسائل المعيشة، وكان لها دور واضح فيها أيضًا، ولم يقتصر ذلك على الشعوب العربية فحسب؛ بل عند الشعوب الأخرى التي تُحسب ضمن الشعوب المتقدمة في عصرنا الحديث. وعودة إلى بلادنا (العربية السعيدة) كما أسماها بذلك الرومان قديمًا حينما كانوا يرون خيراتها الزاخرة التي تصلهم ولم يتمكنوا من السيطرة عليها.
لا أدَّعي أننا الوحيدون في شبه الجزيرة العربية أصحاب ثقافة وحضارة، وهي المبالغة التي روَّج لها بعض الإعلاميين، وصدَّقها فيما بعد حتى بعض من يُحسب على المؤرخين والسياسيين، ليستغلوها كالعادة للتباهي أمام الشعوب الأخرى، ظنًا منهم أنهم لا يبحثون عن الحقائق. وفي الوقت نفسه لا يُنكر أحد مكانة بلادنا التاريخية التي ربما كان سببها في المقام الأول الموقع الجغرافي المتميز، واستغلال ذلك الموقع منذ ما قبل الميلاد في التجارة القديمة، التي كان عمادها البخور واللبان (نفط العالم القديم)، بالإضافة إلى المنتجات الأخرى، فقد بلغت شهرة بلادنا قديمًا مبلغًا لم تصل إليه الممالك التي تحيط بتلك المنطقة، وعلى تلك السُمعة نشأت حضارة وقامت ممالك عظيمة، بُنيت بها قصور ومعابد ما زالت شواهدها ماثلة حتى اليوم. ومع كل ذلك فإن ديدن الممالك عادة ألا تدوم ولا تبقى على حالها، وهذه حكمة الله في خلقه وأرضه. ثم تتابعت عبر العصور دُول وملوك، ونتج عن كل عصر موروث يُعبِّر عن هوية تلك المرحلة، يجسِّد عصارة الثقافة، ويُفصح عن قدرات الأفراد واندماجهم مع محيطهم بشكل عام، ويصّور التواصل مع الآخرين، وهو ما يُطلق عليه (التلاقح الثقافي/ الحضاري)، إنها عملية أخذ وعطاء وتأثير وتأثر ينتج عنها (الابتكار، والإبداع، والتميز).
حصيلة كل تلك المراحل الثقافية/ الحضارية تمثل (الهوية الثقافية)، والبصمة الخاصة لكل شعب من الشعوب، وهي أيضًا حصيلة للتراكمات المعرفية الناتجة عن الثقافة الخاصة الموروثة، بالإضافة إلى التمازج والتلاقح مع الثقافات والحضارات الأخرى. إذن فهي الخصوصية التي تتجسد في أشكال متعددة، مثل التراث العمراني، والفنون بشتى أنواعها وصورها، والكتابة وغيرها. لذلك لا يمكن التفريط في هذه الأسس وذلك الموروث تحت أي ظرف من الظروف (تلك هي القاعدة)، فهو السجل المادي للنشاط الذهني والعقلي الذي يُستفاد منه في بناء المستقبل.
كيف يتم تغريب التراث وتهريبه؟
وأخيرًا؛ أحسب أنني قد وصلت إلى غايتي أو أوشكت، وهي الإجابة عن بعض التساؤلات المهمة، منها على سبيل المثال: كيف للجيل الجديد أن يفرط في تراث أسلافه الذي لم يستوعبه بعد؟ ثم كيف له أن يسمح بالتنازل عن تلك الممتلكات العامة للشعب، وأن يجعلها تصبح سلعة (مهما كانت قيمتها المادية) تعرض في الأسواق ويتم تداولها للبيع والشراء، أو تُبخس فتذهب لتعرض في منطقة أخرى على أنها ذات صلة ثقافية بها؟ وكيف لنا أن نستبدل طابع حياتنا بسهولة بطابع غريب ومنقول لا يتناسب مع حياتنا الاجتماعية التي تحكمها بعض الحدود والضوابط؟ إنها جريمة لا تغتفر، فقد ازدهرت في زمننا الحاضر المتاجرة بالموروث الثقافي/ الحضاري، وأسهمت الشبكة العنكبوتية في تسهيل تلك المهمة، حيث تلاقي لها رواجًا كبيرًا بين فئة الشباب. وعلى الرغم من أن (البصمة الثقافية) لا يمكن تغييبها أو تزييفها، فهي واضحة وضوح الشمس تنطق بملء الفم إنها تُنسب إلى أرض (العربية السعيدة)، وفي كل ركن من أركانها أيضًا المسحة الخاصة لكل منطقة داخل هذه الأرض، ومع كل ذلك فإن تهريب الموروث ما زال مستمرًا على مسمع ومرأى من أصحاب القرار.
ولا ننسى أن التأثير الإعلامي المتمثل في (القنوات الفضائية) يقوم هو الآخر بدور مهم في فسخ الهوية ومسخ الأفكار التي تحافظ على بقاء الجذور والمحافظة على العادات والتقاليد والمعتقدات، وتسعى لاستبدالها بالعولمة، وعدم الحرص على القيم والتعاليم التي هي أساس العلاقات، وأساس الدين، فتبيح الكثير من المحظورات في طريقها لخلق مجتمعات مشاعة لا تعرف الحدود ولا تحافظ على الخصوصيات، إنها جزء من (السيطرة على الحقوق والممتلكات الثقافية)، ومن إلقاء نظرة عابرة على حياتنا المعاصرة، سنجد أننا فرطنا في معظم موروثنا الثقافي دون وعي ولا إدراك، وتحت مسمى الحداثة والتطور، استطاع أصحاب تلك الأفكار أن يستميلوا شبابنا شيئًا فشيئًا، ويسلبوهم معظم القرارات التي يمكن أن تكون ذات تأثير على بقاء الموروث كما كان عليه. ما عاد الشباب يعتز لا ببيت جده القديم ولا بآنيته ولا ممتلكاته ولا رقصاته وأهازيجه وأشعاره التي تعبر عن تفاصيل حياته، ولا ملابسه التقليدية التي كان ينسجها من القطن الذي يزرعه، ولا قصة شعره، بل لا يكترث بما يحدث لها، ولا يستشعر تجاهها بأية أحاسيس أو مشاعر تربطه بها، حتى لغته التي ينطق حروفها، وهي التي تنتمي لحروف جعلها الله لكتابه العزيز، وتمثل (اللسان العربي المبين)، أضحت غريبة بين الحروف الأعجمية.
لا نقول إننا حينما نفقد موروثنا الثقافي فإننا نفقد الجانب المادي منه (التحف والتصاميم والألوان والزخرفة وغير ذلك) لكننا نفقد الكثير من القيم، والكثير من المعاني التي تتصل بحياتنا وأرواحنا، في الوقت الذي يسعى غيرنا للبحث عنها من لا شيء، وهو مستعد لأن يمتلك تراثًا أصيلًا غنيًا بالقيم وإن كان لا يربطه به أدنى رابط، فالحياة أضحت مظهرًا ومقامًا ومسخًا لا معنى لها كما كانت قديمًا، وبإمكانك أن تشتري مكانة غير مكانتك الحقيقية وتفعل بها ما تريد في مجتمع لا يعرف القيم، لكنه يعتمد على الوثائق والأوراق التي يمكن تزويرها بسهولة، تمامًا كمن يبحث عن شهادة عبر الإنترنت بأدنى التكاليف وأقصر الطرق، ويكفيه أن يستخدمها بشكل محدود في نطاق ضيق حتى لا ينكشف أمره!!
إنها مأساة الضياع والتشتت والإعجاب بالمظاهر، وعدم الوعي بتاريخنا وهويتنا التي كانت بحاجة إلى مواصلة تطويعها؛ لتناسب حياتنا المستجدة. لقد رأيت من أبناء جيلنا المعاصر ما لا يسر الخاطر ولا يثلج الصدر، وإن كنت هنا أشير إلى الجيل فلا يعني أن الجميع بالقدر نفسه والمستوى نفسه، لكن، للأسف الشديد، السواد الأعظم الذي نأمل أن يقود دفة الحياة في القريب العاجل، ولست متشائمًا بقولي ذلك، إلا أن همي هو الذي حملني على أن أضع النقاط على الحروف (ولقد أسمعت لو ناديت حيًّا).
متى يتوقف هؤلاء الجهلة عن إبادة الهوية، فهي آخر ما يملك الإنسان من متاع يربطه بأسلافه، ويعبِّر عن ثقافته وشخصه، ومتى يُدرك أبناؤنا خطر هذا التفريط في تراث أسلافهم الذي لا يجوز لهم التصرف فيه بأي صورة من الصور؛ لكونهم لا يمتلكونه بمفردهم، لكنه ملك للبشرية جمعاء، ولا يحق لشخص أو جماعة أن يعبثوا به تحت أي ظرف بمقابل أم بغير مقابل. وأوجه رسالتي لتجار الآثار بأن يكفوا عن العبث بتاريخ الأمة وتراثها، فهم محاسبون على أفعالهم تلك، ولا شك سيأتي الوقت الذي سيحاسبون فيه على ما فعلوا، اللهم إني بلغت، اللهم فاشهد.