د. سعيد الجريري
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 19 .. ص 104
رابط العدد 19 : اضغط هنا
إبداء الرأي مفتاح الحرية الذهبي الذي يتاح للطفل، فيسأل عما يشاء، بلا حدود. وفي المدرسة لا يُثقل دماغه بمعلومات الحشو واليقينيات. بل يتعلم فن السؤال، وتحفزه مناهج التعليم على التعلم والثقة بذاته، فيدرج على عتبات الحرية والمعرفة في آنٍ معاً، يسأل، ويبحث عن الحقيقة، ولا يتلقاها كمسلمات متوارثة، فينضج عقليًا وفكريًا منذ وقت مبكر .
(1)
تقول الفيلسوفة الهولندية ستاين جنسن: “يتبوأ الأطفال الهولنديون المرتبة الأولى في مؤشر الطفل السعيد. فإذا ما سألتَ عن السبب، فإنهم هم أنفسهم يقولون: “لأننا نستطيع إبداء آرائنا”؛ لذا، لا يفجؤك أن تحاور طفل أو طفلة، أو فتى أو فتاة، أو شاباً أو شابة في العشرين، فتقف على خلفية جدلية، تسم المحاورة بينكما بشغف معرفي وقدرة على اجتراح السؤال من السؤال. إنها التنشئة على إبداء الرأي، وحرية التفكير.
من هنـا يـبـدأ المجتمـع خطواتـه الأولى، بمتواليـة إنسانيـة، باتجـاه الحريـة باعتبارهـا الوجـه الآخـر للديمقراطية، ليس في المجال السياسي ولكن في مختلف المجالات الفردية، والاجتماعية والثقافية. وفي هذا السيـاق أود أن أركـز على جزئيـة في بنـيـة بنـاء الإنسان الحر، أعني التفلسف مع الأطفال.
(2)
بصفته فيلسوف أطفال في إحدى مدارس روتردام، يتبنى فرِد دلهاس الموقف السقراطي الأساسي المتمثل في عدم المعرفة: “الشيء الوحيد الذي أعرفه أنني لا أعرف شيئًا”.
يقول في مقال له على موقع مركز فلسفة الأطفال الهولندي: “أنا لا أقدم إجابات أو أصحح أقوال الأطفال. فقط أطرح الأسئلة وألخصها وأستمع إليها وأواصل طرح الأسئلة. كما أنني أسمح -متحدياً نفسي- بأن يتفاعل الأطفال ويتخيلون بحرية. فمن الواضح أن مهمة تختلف عما لو كنت أقف أمام المجموعة نفسها بصفتي معلماً أقوم، من بين أمور أخرى، بنقل المعرفة. في هذا الدور يمكن للأطفال أن يتفاعلوا معي بحرية أقل، فأنا المعلم الذي لديه ما يقوله. ولجعل الفرق في الأدوار واضحًا للأطفال فور دخول الفصل الدراسي أحمل حقيبتي معي لكل حصة تفلسف”. و “يتم تقديم الفلسفة لطلاب المدرسة كافة – يضيف دلهاس – لأن الفريق لديه رؤية مفادها أن التعليم الجيد يتكون من عرض واسع في ثلاثة مجالات: التأهيل والتنشئة الاجتماعية وتكوين الذات، انطلاقاً من منهج ماثيو ليبمان (1923- 2010) – مؤسس فلسفة الأطفال – ولاسيما مقولته: “أن على المجتمع الديمقراطي أن يبذل قصارى جهده لتثقيف مواطنيه ليكونوا أفرادًا عاقلين. إن جوهر منهجي هو تطوير الأفراد المنطقيين الذين يمكنهم استخدام الكلمات بدلاً من اللكمات”.
ويخلص دلهاس إلى أنه وفقاً لمنهج ليبمان، يمكن أن يساهم التفلسف مع الأطفال في ذلك من خلال إذكاء التفكير النقدي والتفكير الإبداعي، وتنشيط مفاعيل الدهشة، جذوة الفلسفة التي تشتعل أسئلة، لا تنطفئ دهشتها، فالفلسفة المنطفئة الدهشة – يقول باول فان تونجيرن – مثل ممارسة الحب بدون حب.
(3)
تشيع في معجم الشتيمة والتسفيه الدارج في مجتمعاتنا دلالات الانتقاص من الفلسفة، فهي زندقة وهرطقة، وفي أحسن الأحوال استعلاء يمارسه متفلسفون ينظرون إلى المجتمع من علٍ، ولا دور لتفلسفهم ولا قيمة، إن لم يكن له ضرر يحذّر منه وممن يمارسه أو يدعو إليه. فإذا ما أراد أحدهم استهجان رأيك قال لك بعامية واثقة من خواء لا يخفى: “لا تتفلسف علينا”، كأن الفلسفة والتفلسف مما يُخجَل منه، وهما كذلك – واقعاً – لأن هناك من تستفزه الأسئلة، وتريه ذاته في مرآة الدهشة التي لا تشيخ. فهل إلى ردم الهوة بين مجتمعاتنا والفلسفة من سبيل؟ إلى حين نرى الإجابة واقعاً ستظل ثقافة الاستبداد مهيمنة بتمظهرات متعددة، تحول بين الإنسان وألف باء الحرية والسعادة.