أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 19 .. ص 113
رابط العدد 19 : اضغط هنا
لا تحتاج هذه المقولة إلى قراءة تفكيكية, أو النظر إليها بمنهجية ما بعد الحداثة، والنصيحة في هذه المقولة -أو إن شئت قل الحكمة- واضحة وضوح الشمس الشارقة في كبد السماء، فكم ردَّدها الناس وهم ينصحون غيرهم، وكم سمعوها وهم يتقبلونها بقبول حسن، ومع هذا يدخل الناس في أمور كثيرة دون أن يتدبروا أو ينتبهوا لعواقب الأمور، ولهذا فالمشكلة في تجاوب الناس مع المقولة وليس في نصها.
وتتقارب هذه المقولة في بعض نواحيها مع لفظة (المغامرة)، التي هي تحرُّك شجاع، محسوب بتوقعات ظهور مفاجئات خطيرة خارج الحساب، والمغامرة في كل الثقافات الإنسانية فعل يُحمَد صاحبها عليه مهما كانت النتيجة، ففي حالة تحقيق الأهداف يُوصَف المغامر بالبطل، وإذا تعثَّر ينال وسام شرف المحاولة، ولهذا فالمغامرة أقرب ما تكون إلى مشاهد البطولة وملاحمها.
أمَّا قصة الدخول والخروج -بحسب المقولة أعلاه- فلها أبعاد متعدِّدة، منها ما هو إيجابيٌّ، وبعضه سلبيٌّ، ففي جانبها الإيجابي تحضر المقولة على سبيل المثال في لحظة دخول الفرد في (ورطة) اجتماعية بخاصة عندما يزور شخص ما بيت صديقه المقرَّب، أو أن يكون عابرًا بالقرب من بيوت معارفه لغرض معيَّن سريع، حينها تُرَدَّدُ المقولة في داخل المكان من باب الدُّعَابة، وتحت التهديد بالحَلِفِ المغلَّظ، وبحسب عادات الكرم العربـيِّ لا يُسمَح (للغريم) بالخروج من البيت إلَّا بعد استكمال واجبات الضيافة، التي في أدناها فنجان شاي، وفي أعلاها ذبح (خروف بريء)، يكون الأتعس حظًّا، أو الخاسر الوحيد في قصة مشهد المأزق الكريم لاسيما عندما تُشهَر عليه السكاكين، وتتقطع الشرايين.
وفي ثنائية عربية تشبه قصة الدخول والخروج بحسب المقالة نجدها عند إخواننا المصريين عندما يقولون: “دخول الحمام مش زَيِ خروجه”، وتحيل التخريجة المصرية من أول وهلة إلى الخروج من وضع سلبي إلى آخر إيجابي منعش، لكن هذا المعنى الجميل يواري الغرض الأساسَ من المقولة المصرية؛ فغالبًا ما تكون حاضرة بقوة عند أولئك الذين فُرِضَت عليهم شروط الخروج القاسية أو المُذِلَّة بعد أن تساهلوا أول أمرهم في حساب احتمالات العواقب الوخيمة، وغفلوا عن متطلبات الاحتياطات.
وفي سياق مقارب يحضرنا التناص لهذه المقولة في قصيدة مُغَنَّاةٍ للشاعر حسين المحضار، يدعو فيها إلى الاحتراز قبل ركوب البحر، من أشهر أبياتها: “قايس وعادك في النَّفَسْ ماشي في الغبة مقاييس”، ففي أعالي البحار (الغبب) إذا لم تكن مُستَعِدًّا بوسائل النجاة وتتوقع تقلبات أحوال البحار سيجرفك المحيط أنَّى شاء.
عند الدخول في تجربة شخصية لم يحالفها النجاح، فمهما كانت مرارة الخروج وتبعاته فإنَّ الخطب يظل محدودًا في الفرد ذاته، وربما على أفراد أسرته، ثمَّ إنَّ الحياة ـ كما يقال ـ تجارب، وفي خضمِّ المحاولات يتعلم الإنسان، ويكتسب الخبرة، وينضج تقديرُه لفهم حجم المصاعب والمآلات والمكاسب والخسائر، “وكُلْ سَقْطَهْ بْتَعْلُومَهْ”، لكن الخَطْبَ يصير جَلَلًا، والمصيبة كبيرة عندما يَزجُّ قادة متهوِّرُون بالشعوبِ في مهاوٍ سحيقة وذلك باتخاذ قرارات انفعالية غير محسوبة، ونابعة من تركيبتهم النفسية المريضة، وفهمهم المحدود، ولا داعي لذكر نماذج من هؤلاء (القادة)، وحسبك النظر في حال الشعوب المنكوبة ستجدُ ضالَّتك في حضرة جناب (القائد الملهم الرمز الضرورة)، فإنْ كان في بلاده حيًّا فهو ينعم في قصر مشيد، وإذا هرب خارجها فوضعه الاقتصادي من حديد، وهو الأمر الوحيد الذي نجحُوا في حسابه.
ومن قصة البدايات العجولة والنهايات التي تشبهها بالضرورة نستطيع معرفة أسباب فشل نماذج من تجارب الوحدة بين بعض الدولة العربية، والحديث في هذا الباب يطول لكننا نفضِّل الإشارة ولو بعجالة إلى تجارب اتحادية ناجحة استعدَّتْ للبدايات، وحسبت للنهايات، فعلى الصعيد العربي تبرز دولة الإمارات العربية المتحدة التي تشكل – حتى الآن – حالة عربية معقولة لحكم اتحادي مستقر. ومن النماذج الاتحادية الدولية الاتحاد الأوربي، الذي يقوم على المصالح المشتركة، والمؤسَّس على الخيارات المفتوحة بتقديرهم للحظة الدخول الأولى، واحترامهم لخيار إرادة الشعوب بالخروج بوصفه حقًّا وشرطـًا ترسخ في بداياتهم الصحيحة.
بقي أنْ نقول ما تقوله العرب: “إذا حسبت للدخول مرة فاحسب للخروج عشـرًا”، لكنهم لا يفعلون ما يقولون، لهذا تجدُ أكثرَهم يقع فريسة سهلة للمكائد والكمائن، ثم يدندن بعضُ هؤلاء بندم:
” لوْ كنت أعرف خاتمتي ما كنت بدأت”