أضواء
أ. عوض عمر حسان
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 21 .. ص 15
رابط العدد 21 : اضغط هنا
مدينة شبام جميلة ورائعة عند كل من يشاهدها؛ إذْ تُبهره بمبانيها الشاهقة ، التي تبدو كأنها قلعة حصينة جميلة ، ولكن عندما تقترب منها تقف أمامها مُنبهِرًا ، فهي عبارة عن بيوت عدَّةٍ شاهقة متلاصقة، في نظام وتنسيق بديع، يعكس فنَّ هندسة البناء الحضرمي وعبقريَّته منذ مئات السنين.
لقد تجلَّى ذكاءُ البناءِ الشباميِّ ومهارتُه في روعة ناطحات السحاب الحضرمية؛ إذِ اسْتُخْدِم في بنائها موادُّ محليَّةٌ بسيطةٌ .. جاء في مجلة العربي ” فمن أين للعرب الأقدمين الحديد والإسمنت لبناء مثل هذه المنازل، ذات الستة الطوابق والسبعة، والتي يخالها الناظر وكأنها 14 طابقًا .. وتزداد دهشة واستغرابًا عندما تعلم أنَّ بناء هذه العمارات العالية لم يدخله شيءٌ من الحديد أو الإسمنت، إنَّما هي مبنية من طين مخلوط بالتبن، ويجفَّف بأشعة الشمس ، أمَّا الأعمدة التي يظنها خرسانية فما هي سوى جذوع نخيل أو جذوع أشجار الحمر المغطَّاة بالطين ، ولقد استطاعت هذه المواد البسيطة أنْ تتحدَّى الأمطار والزوابع ([1]). لا توجد مدينة في حضرموت مصمَّمة بمثل هذا الإحكام، وبهذه المنازل العالية مثل شبام .
كل المنازل تقريبًا لها طابق في السطح مطلي بالجير الأبيض ، ممَّا يعطي ذلك الإحساس الرائع بأنها تشبه الكيكة البنية المحلَّاة بالسكر([2])، كما استطاع الإنسان الشباميُّ أن يتكيَّف مع هذه البيوت العالية، وأنْ يُبدِعَ في توظيفها لتلائم معيشته وحياته ، وقد تجلَّى إبداعه في توظيف طوابق هذا البيت على النحو الآتي : الطابق الأول يرى الناظر في الطابق الأول من البيت الشباميِّ من الخارج مدخلًا أو مدخلين ، أحدهما هو المدخل الرئيس للبيت . وأما الآخر وبحكم مكانة المدينة التجارية فيستغل دكانًا تجاريًّا أو مستودعًا تجاريًّا، خاصًّا بمالك البيت، أو يؤجَّر لغيره. كما توجد داخل الطابق الأول بعض المستودعات الصغيرة، يستفيد منها ربُّ البيت كمستودعات خاصة به .. فتوجد بأحدها الرَّحى، وفي الأخرى المرضاح .
وأمَّا الطابق الثاني فيطلق عليه أهل شبام السطح، وهو عبارة عن غرف صغيرة عدَّة، لا تسكن إلَّا في النادر ، وتستغل لتخزين مؤونة الأسرة وحاجتها من المواد الغذائية، كالقمح، وأزيار التمر، وغير ذلك ، بينما تخصص غرفة منها للأغنام، التي يأتي الراعي لأخذهن كل يوم قبل الشروق لرعيهن، ثمَّ يعيدهن قريب أذان المغرب . وربما يتبادر سؤال لدى البعض : لماذا الأغنام بهذا الطابق لا بالطابق الأول ؟ إنَّ غرف الطابق الثاني تكون أكثر وأحسن تهويةً وإضاءةً من غرف الطابق الأول، التي تندر بها النوافذ، إلا من فتحات مرتفعة، والتي صممت كمحلات تجارية ، أمَّا غرف الطابق الثاني فتكثر به الإضاءة والتهوية من الفتحات المرتفعة والنوافذ الصغيرة الموجودة به، لذا وُضِعَتِ الأغنامُ في هذا الطَّابقِ ، وقد اضطر أهالي شبام تخصيص هذه الغرفة للأغنام لعدم وجود الأحواش في بيوت المدينة القديمة . وحرصَ أهالي شبام على امتلاكِ الأغنام؛ إذ يملك رب الأسره رأسًا من الغنم، أو راسين من أجل غذاء طفله، وخاصة في الفترة ما قبل ظهور عُلَبِ الحليب المسحوق، واستغنى البعضُ اليومَ عن الأغنامِ لتوفر هذا الحليب المسحوق . كما يوجد بهذا الطابق حمَّام يطلق عليه ( الزريبة )، كان في زمان الأوَّلِ قديمًا يُخصَّص أيضًا لذبح ذبيحة العيد أو المناسبات .
وأمَّا الطابق الثالث : فيتكون من غرفة أو غرفتين، وفي البعض ثلاث غرف ، تمتاز هذه الغرف بكبرها، وبفن زخرفة أبوابها، ونوافذها، وأسهمها، وهذا الطابق يطلق عليه (الهابطيات)، ويُخصَّص للرجال ، ففيه غرفة خاصة برب الأسرة، يمارس بها بعض نشاطه المكتبي التجاري وغير ذلك، ويوجَد بها غالبَ وقته . وبقيَّة الغرف لتجمُّع الرجال في الأعياد والمناسبات ، ولا تنزل المرأة إلى هذا الطابق إلا للكنس في الصباح .
وأمَّا الطابق الرابع : فيطلق عليه طبقة (الطالعيات)، ولا تختلف غرفُه عن غُرَفِ الطابق الثالث إلَّا نادرًا ، وصُمِّمت إحدى غرفه مطبخًا، وقديمًا كانت غرف هذا الطابق لأولئك اللاتي يُستَـأْجَرْنَ للطبخ أو تربية الأبناء ورعايتهم، أمَّا حاليًّا فهو لتجمُّع الأسرة أمام عدَّة الشاي ومائدة الطعام .
وأمَّا الطابق الخامس : فيُسَمَّى طبقة (المراويح) ، وتوجد به غالبًا (المرواح)، وهو غرفة كبيرة، ذات أربعة أسهم، تزدان أبوابه وأسهمه ونوافذه بزخرفة جميلة ، وبه باب أو بابان للدخول إلى السَّطْحِ (الرَّيْم) الملاصق به، وكذا يوجد مرواح صغيرة أخرى بالطابقِ نفسِه . وهذا الطابق خاصٌّ بأفراح النِّساءِ واحتفالاتهنَّ في المناسبات .
وأمَّا الطابق السادس : فتوجد به غرف صغيرة، اثنتان أو ثلاث، وبكل غرفة باب أو بابان، تفتح على سطحٍ (رَيْم) صغير ملاصق بها يُسَمَّى (طيرمة)، تخصص كل غرفة وطيرمتها للأبناء المتزوِّجين ؛ إذْ لكل ابْنٍ غرفتُه الخاصَّة به في الطابق السادس؛ حيثُ الهواء النقي، والنسيم العليل .
بكل طابق ممَّا أسلفنا ذكرَها حمَّامٌ ونافذة تطلُّ على الشمس . وقد صمِّمت الشمسة في البيت الشبامي للتهوية والإضاءة ، والمحادثة السريعة فتوفّر طلوع المرأة الى الطابق الرابع أو الخامس لإشعارهم بأمرٍ ما؛ إذ تصفق المرأة بوقع خاص متعارف عليه، فتطلُّ المرأة الأخرى من طابقها، فتتحدَّثان معًا . كما توفر الشمسة صعود ربِّ الأسرة أو أحد الأبناء إلى أعلى؛ لتوصيل بعض حاجة البيت كالخُضَر أو الفاكهة أو غيرها مما يجلبه لهم من السوق ، وذلك برفعه عبر (الدلدال) وهو خيط مربوط به كيس أو وعاء قد تدلَّى من الطابق الرابع أو الخامس، ويتم وضع الحاجة به فيرفع أو ربما طلب رب الأسرة أو غيره من أفراد الأسرة بعض حاجته، فتوضع في الكيس ويتدلَّى إلى أسفل فيأخذه .
هناك بعض البيوت وخاصة تلك التي في جوانب المدينة وتطل على المسيال أو الجروب، يوجد بها طابق أو طابقان أرضيَّان، يطلق عليه (الخَنُّ)، لا يستفاد منهما حاليًّا للسكن، وربما استفادوا منهما كمستودعات فقط.
هذه هي العناصر الوظيفية للبيت الشبامي، التي استخدمت ببراعة، وتكيفت على وَفْقِ حاجة الأسرة؛ لتعطي المدينة جمالًا إضافيًّا إلى جمال هندسة البناء وروعته .
[1])) مجلة العربي، استطلاع سليم زبال، العدد ٨٥ دبسمبر ١٩٦٥م، ص ٨٣.
[2])) حضرموت إزاحة النقاب عن بعض غموضها، تأليف دانيال فان در ميولين والدكتور .ه. فون فسيمان، ترجمة وتقديم وتعليق الدكتور محمد سعيد القدال، ص ١٣٥.