أ.م.د/ عبدالله عبدالرحمن بكير
أ.م.د/ عبدالله عبدالرحمن بكير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 21 .. ص 38
رابط العدد 21 : اضغط هنا
عميد كلية الآداب والعلوم الانسانية .. مدير مركز الأندلس للبحوث والاستشارات والترجمة (جامعة الأندلس للعلوم والتقنية) .. – صنعاء-
هذا بحث سبق نشره باللغة الإنجليزية في أحد أعداد المجلة العلمية للأكاديمية اليمنية للدراسات العليا، حرصت على إعادة كتابته باللغة العربية، مع الاحتفاظ بجوهر النسخة الإنجليزية ومضمونها، والتي هي أساس البحث.
ويهدف البحث بشكل أساس إلى إبراز فكرة رثاء انهيار الإمبراطورية البريطانية كفكرة أساسية كامنة ضمناً في فكرة الغضب والاستياء التي تشكل موضوعاً طافياً على السطح، يغمر كل جوانب مسرحية: (انظر إلى الخلف بغضب) Look Back in Anger، للكاتب المسرحي البريطاني: (جون أوزبورن) John Osborne، (1929م – 1994م).
فموضوع رثاء الإمبراطورية البريطانية نلاحظه بوضوح في أحاديث كل من بطل المسرحية (جيمي بورتر) Jimmy Porter وشخصية: (الكولونيل ردفيرن)Colonel Redfern ، وحنينهما إلى الماضي Nostalgia، وتحسرهما عليه.
ويعد (أوزبورن) أحد رواد الشباب الغاضب في المسرح البريطاني في منتصف القرن العشرين، الذين منهم أيضاً وعلى سبيل المثال لا الحصر: (جون آردن) John Arden (1930م – 2012م)، و(آرنولد ويسكر) Arnold Wesker (1932م – 2016م).
ويحتوي البحث على فصلين رئيسين وخاتمة:
أما الفصل الأول فهو عبارة عن مقدمة تمهيدية بعنوان: (نحو أفول امبراطورية) Twards a Fading Empire، وينقسم إلى جزأين:
أولهما بعنوان: (لمحة تاريخية)، تتعلق بالفترة التاريخية التي بدأت فيها الخطوات الأولى نحو انحدار الإمبراطورية البريطانية؛ كونها إحدى القوى الدولية العظمى – إن لم تكن أولاها – إلى قوة دولية من الدرجة الثانية.
ثانيهما بعنوان: (أوزبورن وهاجس الأفول)، ويضم خلاصة موجزة جداً لبعض الأعمال المسرحية للمؤلف (جون أوزبورن)، والتي لها علاقة بشكل أو بآخر بموضوع الانحدار التدريجي وفكرته للإمبراطورية البريطانية.
وأما الفصل الثاني من البحث – وهو الأساس – فهو بعنوان (رثاء إمبراطورية عجوز) Lamenting a Senile Empire، وينقسم أيضاً إلى جزأين:
الجزء الأول بعنوان: (من السيادة إلى التبعية)، وعُنِيَ بتحليل موضوع رثاء انهيار الإمبراطورية العجوز، من خلال الشعور بالحنين إلى الماضي Nostalgia؛ إذْ كانت بريطانيا العظمى تنعم بالاستقرار والمنعة، مقارنة بمشاعر الإحباط والغضب والاستياء، بسبب ما تواجهه اليوم من أزمات ومشكلات في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا الشعور، بل وهذه الأفكار تبرز جلياً من خلال المعاناة التي يعيشها (جيمي بورتر)، الشخصية المحورية في المسرحية، ومن خلال الشعور بالغربة والعزلة الذي يسيطر على شخصية (الكولونيل ردفيرن).
الجزء الثاني بعنوان: (الإمبراطورية العجوز والتمايز الاجتماعي)، وركَّزَ على التمايز الاجتماعي بوصفه عارضًا مرضيًّا، يشكل قلقاً للمواطن البريطاني، ويلقي بظلاله مهدِّداً وحدة النسيج الاجتماعي.
ويصل البحث في الختام إلى خلاصة مفادها:
عندما عُرِضَت مسرحية: (انظر إلى الخلف بغضب) لأول مرة على خشبة مسرح (رويال كورت) Royal Court Theatre، في مايو من العام (1956م)، كانت بريطانيا في ذلك الوقت ولا تزال واقعة تحت تأثير صدمة نتائج ويلات الحرب العالمية الثانية ومآسيها، وكان الجو السياسي العام ملبَّد بغيوم تقهقر الإمبراطورية من قوة دولية عظمى من الدرجة الأولى إلى قوة دولية من الدرجة الثانية مكسورة الجناح، تواجه أزمات خطيرة متنوعة داخل البلاد وخارجها.
وربما كانت حالات المرض التي ألمَّت ببعض قادة الدولة في البلاط الملكي وفي أعضاء الحكومة وأعضاء مجلس العموم بمثابة انعكاس لمرض الإمبراطورية العجوز ذاتها، ففي العائلة المالكة تعرض الملك (جورج السادس) King George VI (1895م – 1952م) لمرض فجائي أنهى حياته في عام: (1952م)، أي: بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بستة أعوام تقريباً؛ لتتسلم العرش من بعده ابنته الملكة (إليزابيث الثانية) Queen Elizabeth II (1926م)، وعلى مستوى مجلس الوزراء، فقد تعرض رئيس الوزراء السير: (ونستون تشرشل) Sir. Winston Churchill (1879م – 1965م)، الشخصية المتميزة التي قادت بريطانيا نحو النصر في الحرب العالمية الثانية لنوبة قلبية حادة؛ ليخلفه من بعده السير: (آنتوني أيدن) Sir. Antony Eden (1897م – 1977م) كرئيس وزراء مؤقت، وكان هو الآخر يعاني من المرض، يقول (دافيد تومسون) David Thomson في كتابه: (إنجلترا في القرن العشرين) England in the Twentieth Century عن ظاهرة المرض بين أعضاء الحكومة، إضافة إلى من أشرنا إليهما: “إن الحكومة كانت تعاني من اعتلال في الصحة، فهناك بيفن وكريبس وآتلي ذاته الذي ألم بهم المرض” [1965م: 228].
(وبيفن) هو: (أيرنست بيفن) Ernest Bevin (1881م – 1951م)، وزير الخارجية في العام: (1951م)، وهو غير (أينورين بيفان) Aneurin Bevan (1897م – 1960م) وزير الصحة.
و(السير ستافورد كريبس) Sir. Stafford R. Cripps (1889م – 1952م) كان عضواً بارزاً في البرلمان البريطاني.
و(السير سي. آر. آتلي) Sir C. R. Attlee (1883م – 1967م) كان رئيساً للوزراء في العام: (1951م).
وفي هذه الفترة تعرضت بريطانيا لأزمات خطيرة اقتصادية ومالية أجبرتها على رفع الأسعار، ورفع نسبة الضرائب، ويفيد (دافيد تومسون) في هذا الصدد أن “زحف التضخم قد شجع على وقف الدعم عن المواد الغذائية مما تسبب بالتأكيد في غلاء المعيشة” [1965م: 244].
زيادةً إلى ذلك: تزايد المشكلات بين أعضاء الحكومة، وبين الحكومة وأعضاء البرلمان، وكان على بريطانيا أن تعمل على مواجهتها وإيجاد الحلول لها.
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل تعداه ليشمل علاقة الإمبراطورية البريطانية بمستعمراتها فيما وراء البحار؛ إذْ بدأت شعوب هذه المستعمرات في آسيا وأفريقيا تستيقظ، مطالبةً بالحرية والاستقلال، ورفض السيطرة الاستعمارية البريطانية، وكان على الحكومة في لندن الإذعان إلى هذه المطالب وإلى الإرادة الوطنية لهذه الشعوب، وكانت الهند في مقدمة هذه المستعمرات المناهضة للوجود الاستعماري البريطاني، مطالبة بالحرية والاستقلال الذي نالته في عام: (1947م).
لقد عُدَّ خروج بريطانيا من الهند خسارة كبيرة للإمبراطورية، ومنذ ذلك الحين أخذت مستعمراتٌ عِدَّةٌ في آسيا وأفريقيا تطالب بحريتها واستقلالها.
كما واجهت بريطانيا مشكلاتٍ أخرى مع السوق الأوروبية المشتركة، وكذا مع دول الكومنولث البريطاني في العقدين الخامس والسادس من القرن العشرين، كان ذلك سببًا في كثير من الأزمات الاقتصادية والسياسية.
أمام هذه السلسلة من المعضلات والأزمات كما يصفها (دافيد تومسون) لم تجد بريطانيا بُدًّا من “الاتجاه نحو الحلف الأطلنطي وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة، أو إلى دول الكومنولث الناشئ الجديد بكل دوله المنضوية في كتلة عدم الانحياز الذي تقوده الآن الهند” [1965م: 241].
وفيما كانت بريطانيا العظمى تتقهقر إلى قوة دولية من الدرجة الثانية، كانت الولايات المتحدة تشق طريقها نحو الصعود؛ لتعتلي قمة الهرم، كقوة دولية أولى بلا منازع، في الأقل ضمن المعسكر الغربي، ولم تجد بريطانيا بُدًّا من الدوران في فلك السياسة والدبلوماسية الأمريكية.
وأمام هذا المد الأمريكي والتراجع البريطاني قال (أينورين بيفان) عضو حزب العمال ووزير الصحة حينها قال مقولته المشهورة: “لقد سمحنا لأنفسنا … لأن نُجَرَّ بعيداً جداً خلف عجلات الدبلوماسية الأمريكية” [تومسون: 1965م: 240].
وتستمر حالة الانهيار في الإمبراطورية البريطانية عندما تورطت حكومتها في إعلان الحرب على مصر بالتحالف مع فرنسا والكيان الصهيوني في فلسطين، وذلك رداً على قرار الحكومة المصرية في يوليو من عام: (1956م)، بتأميم شركة قناة السويس، كشركة وطنية مصرية.
هذا القرار أثار حفيظة الحكومة البريطانية إلى أقصى حدود الغضب، ودفعها إلى اتخاذ هذا القرار اللاأخلاقي بغزو مصر في أكتوبر عام: (1956م).
لقد أدان المجتمع الدولي هذا الغزو بوصفه عدواناً عسكرياً، وعملاً غير قانوني، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية “التي أيَّدت قرار الأمم المتحدة بإدانة العدوان البريطاني، وأجبرت بريطانيا على فقدان كل من كرامتها والقناة” على حد تعبير البروفيسور (براساد)، [2006م: XXV].
وهذا ما عدَّهُ (جون أوزبورن) John Osborne مؤلف مسرحية: (انظر إلى الخلف بغضب)، وعلى لسان بطل المسرحية: (جيمي بورتر) Jimmy Porter سقوطًا أخلاقيًّا لبريطانيا العظمى الذي سنأتي على الإشارة إليه لاحقاً.
لقد شعرت بريطانيا أنها قد أُهِينَتْ، وأن كرامتها قد خُدِشَت، وأن مكانتها ومنزلتها في المجتمع الدولي قد اهتزت وضَعُفت، وفي حقيقة الأمر فإن هذا الموقف قد أحدث جرحاً عميقاً في الجسد المتهالك للإمبراطورية البريطانية العجوز.
ولم يكن الموقف المناهض للغزو العسكري البريطاني لمصر مقتصراً على المجتمع الدولي ممثلاً في الأمم المتحدة، بل كانت هناك معارضة من قبل بعض أعضاء مجلس العموم وبعض الأعضاء في الحكومة ذاتها، وهو أمر يبين ضعف القرار السياسي للدولة ذاتها.
أما (ديفيد تومسون) فقد عدَّ هذا العدوان غيرَ المبرَّرِ “تخبطاً دبلوماسياً للنظام السامي” مضيفاً: إن كل هذه الفترة التاريخية في بريطانيا ترتبط “بالضمير الوطني المضطرب، والشكوك الأخلاقية: شكوك حول النزاع الصناعي في الداخل، والقمع الاستعماري والطاقة النووية، وأخيراً السويس” [1965م: 257].
وفي هذه الفترة التاريخية الحرجة ظلت الدولة البريطانية، بل وكل المجتمع البريطاني يواجهون ما وصفه (تومسون): “المشكلات الاقتصادية، والتحولات الاجتماعية المتسارعة، والمعضلات الثقافية والفكرية” [1965م: 288].
في ظل هذه الأجواء المربكة والمضطربة، وفي هذه الفترة الحرجة من تاريخ بريطانيا العظمى، عُرِضَت على خشبة مسرح (الرويال) مسرحية: (انظر إلى الخلف بغضب)؛ لتبكي ألماً وحسرة ماضي الأيام المشرقة والزاهية للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
تلت هذه المسرحية مسرحية أخرى بعنوان: (المهرِّج) The Entertainer (1959م)، المشحونة بمشاعر الحنين إلى الماضي (النوستالجيا)، وإلى فترة العصر (الإدواردي)، نسبة إلى فترة تولي عرش بريطانيا الملك (إدوارد السابع) King Edward VII، (1841م – 1910م)، وهي الفترة من عام: (1901م)، حتى عام: (1910م)، وكانت فترة أمن واستقرار وازدهار، فترة بريطانية أصيلة بكل المقاييس كما يعتقد البريطانيون.
في هذه المسرحية يقف (آرشي رايس) Archie Rice مثالاً لفترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين .. فترة الضعف والوهن في جسد الإمبراطورية البريطانية .. فترة تهاوي بريطانيا العظمى نحو الانهيار والانحدار.
يصف (تشيري) J.Chiari في كتابه: (علامات للمسرحية المعاصرة) Landmarks of Contemporary Drama (1971) شخصية (آرشي رايس) بأنه: “الكوميدي المعتل السخيف الواهن، الذي هو بكل وضوح الصورة المصغرة للمجتمع المتهالك، وعالم التسلية المبتذل الذي يعيشه”، بينما يصف شخصية والده (بيلي رايس) Billy Rice بأنه “يمثل العصر الإدواردي” [1971م: 111].
أما الناقد المسرحي (جون إيلسوم) John Elsom فيصف (آرشي رايس) في كتابه: (المسرح البريطاني بعد الحرب) Post–War British Theatre (1976م) بأنه مثال للجيل المحبط لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، جيل الدولة والمجتمع المنهار، ويضيف أن الكاتب المسرحي (جون أوزبورن) صوَّر “انهيار بريطانيا من خلال الرؤية الواهية لكوميدي واعد: آرشي رايس، ومن خلال ضياع كرامة مألوفة في الحياة الخاصة والعامة تتجه نحو خيبة أمل شخصية” [1976م: 78].
وفي عام: (1961م) أطلق (جون أوزبورن) مسرحيته المعنونة: (لوثر) Luther التي يرى فيها النقاد شيئاً من ملامح الغضب والسخط التي غمرت مسرحية: (انظر إلى الخلف بغضب)، وفي تعليقه على هذه المسرحية يرى (تشيري) أن المسرحية وإن كانت تأخذ بُعداً تاريخياً “إلا أنها تحمل في ثناياها قدراً لا بأس به من الغضب ضد النظام المؤسسي الذي نجده في: انظر إلى الخلف بغضب”، [1971م: 210].
وبظهور مسرحية: (الدليل غير المقبول) Inadmissible Evidence في عام: (1964)، والتي عدَّها عدد من النقاد أكثر المسرحيات نجاحاً بعدُ: (انظر إلى الخلف بغضب)، يعود (أوزبورن) من جديد لطرح القضية السياسية بشكل حماسي أكثر، وبالذات موضوع أفول الإمبراطورية البريطانية، وهناك كما يقول نقاد المسرح كثير من أوجه الشبه التي تجمع بين بطل هذه المسرحية (ميتلاند) Maitland وبين شخصية (جيمي بورتر) بطل مسرحية: (انظر إلى الخلف بغضب)، ويؤكد هذه الحقيقة الكاتب (هارولد كليرمان) Harold Clurman في كتابه: (الصورة العارية) The Naked Image (1958م / 1966م)، بالقول: إن (جيمي بورتر) “كان متألماً على إنجلترا بعد الحرب، حيث كانت قد فقدت مكانتها التقليدية”، كما أن (ميتلاند) هو أيضاً من الشباب البريطاني الغاضب بعد الحرب، والذي من خلاله يرى كثير من الشباب البريطاني أنفسهم، فهو شاب تائه كما هي بلادُه تائهة، ويضيف (كليرمان) أن الشعب الإنجليزي: “يجل أوزبورن ويحترمه، كونه يعبر بوضوح عن همومهم الداخلية (…)، وعن جراحهم الغائرة، وعن أمراضهم النفسية”، ويختتم قوله بأن “ميتلاند هو صورة إنجلترا المتقيحة” [1958م / 1966م: 102 – 103].
ومن أنجح مسرحيات (جون أوزبورن) في مطلع سبعينيات القرن العشرين: (غرب السويس) West of Suez (1971م) التي تعرضت لموضوع انهيار الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية، التي لم يعد بمقدور (جون أوزبورن) أن يرى بلاده بريطانيا العظمى تتهالك أمام عينيه؛ فما كان منه إلَّا أن ينظر إلى ماضي الأيام المشرقة للفترة (الإدواردية) “ليجلد ذاته” كما يقول الناقد (جون أيلسوم)، مؤكداً أن هذه المسرحية تتحدث عن “الإرث الاستعماري المنهار لبريطانيا” [1971م: 80].
تلت مسرحية (غرب السويس) في العام نفسِه مسرحية: (شبيه جداً بالحوت) Very Like A Whale (1971م)، وهي كما يرى الناقد (مايكل أندرسون) Michael Andersonفي كتابه: (الغضب والانعزال) Anger and Detachment (1976م) أن هذه المسرحية مثال جيد يعالج موضوع البطولة، وانهيار الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب، خاصة في “مناهضتها للأمركة، وإحـساسـها بأن أفضـل ما في الحـياة الإنجلـيزية قـد انتهى” [1976م: 32].
وعليه؛ فإن موضوع انهيار الإمبراطورية البريطانية وإن كان يشكل مرثاة بامتياز في مسرحية: (انظر إلى الخلف بغضب)؛ بوصفها نقطة تحوُّل في تاريخ المسرحية البريطانية في منتصف القرن العشرين، وهي التي على حد قول (إيميل روي) Emil Roy في كتابه: (المسرحية البريطانية منذ شو) British Drama Since Shaw (1972م) قد جاءت لتفتح “بوابات التحكم لظهور مجموعة من كتاب المسرح الشباب المتنوعين” [1972م: 99]، فإن (جون أوزبورن) لم يغفل هذه الفكرة في غيرها من مسرحياته ولو بالإشارة إليها؛ لأنها تمثل قلقاً وهاجساً مزعجاً لكل شرائح المجتمع البريطاني، وبالذات الأوساط الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والمالية والسياسية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم في فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي.
تجري أحداث مسرحية: (انظر إلى الخلف بغضب) في شقة صغيرة جداً .. في مبنى إحدى مدن (ميدلاند) Midland البريطانية، وأما الزمان ففي منتصف خمسينيات القرن العشرين، بعد حوالي عشر سنوات منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكل أحداث المسرحية تجري في فترة لا تتجاوز بضعة أشهر.
من كل ذلك نلاحظ: أن المشهد المسرحي يوحي بضيق في المكان، وضيق في الزمان، وعليه فإذا كانت هذه الشقة الضيقة المتواضعة في أثاثها تمثل مساحة بريطانيا كُلَّها – كما يحاول بعض النقاد الإيحاء به – فهذا يعني أن المسافات الشاسعة للإمبراطورية البريطانية قد تقلصت إلى أدنى مستوياتها، خاصة بعد أن فقدت بريطانيا العظمى عددًا من أهمِّ مستعمراتها في آسيا وأفريقيا، هذا من جانب، ومن جانب آخر فقد فقدت بريطانيا العظمى كثيرًا من وزنها وثقلها ومكانتها كقوة دولية عظمى؛ لتعطي المجال مكرهة لقوى دولية أخرى تظهر على ساحة النفوذ الدولي.
ليس هذا فحسب، بل إن هذه الشقة الضيقة المتواضعة كما يصفها مشهد الأحداث، تغطِّيها من الداخل سحب من الدخان المنبعث من غليون (جيمي بورتر)، “يغطي الدخان الغرفة (…)، الغرفة لا تزال مغطاة بالدخان (…)، سحب من الدخان في كل مكان” [المسرحية، ص: 10].
هذا الوصف يرمز إلى الجو العام القاتم الذي يخيم على أرجاء الإمبراطورية، أو بالأصح ما بقي من الإمبراطورية، ضبابية في الموقف السياسي، وتخبط في الواقع الدبلوماسي، واختناقات في الوضع الاجتماعي والاقتصادي.
كما تعكس العلاقة الاجتماعية والإنسانية بين أبطال المسرحية المقيمين في هذه الشقة، وهم: (جيمي بورتر)، وزوجته (أليسون) Alison، وصديقهما (كليف) Cliff، واقعاً إنسانياً واجتماعياً، أقل ما يمكن أن يُقال عنه: إنه يفتقد إلى روح الانسجام، وتلفُّه حالة من التأزم النفسي المفرط، وهو انعكاس للواقع الاجتماعي والسياسي والمزاج النفسي العام، الذي يعانيه أفراد المجتمع البريطاني، ليس هناك إحساس “بحماس إنساني طبيعي”، كما يصف ذلك (جيمي بورتر) الشخصية المحورية في المسرحية.
هناك حياة وعلاقات إنسانية واجتماعية رتيبة مصحوبة بالقلق والاضطراب، وهذا ما نلاحظه في العبارات التهكمية التي يطلقها (جيمي)، طالباً من زوجته (أليسون) ومن صديقه (كليف) أن يشاركاه التظاهر بأنهم من بني البشر، وأنهم يعيشون حياة إنسانية طبيعية وحقيقية، ولو لفترة وجيزة، يخاطبهم (جيمي) بالقول: “لماذا لا نلعب لعبة بسيطة؟ دعونا نتظاهر بأننا بشر، وأننا حقيقة أحياء. فقط لبعض الوقت، ماذا تقولون؟! لنتظاهر بأننا بشر.” [المسرحية، ص: 15].
هذه العبارة التهكمية تنتقد بمرارة الواقع الاجتماعي الإنساني في بريطانيا، الذي فقد ما بقي من إنسانيته، فإذا فقد الإنسان إنسانيته فليس هناك معنى للحياة، ولا لوجوده؛ لذلك فلا أقل من أنْ يتظاهر بأنه إنسان، وأنه – فعلاً – كائنٌ حَيٌّ، كما يقول (جيمي)، وجيل الشباب الغاضب الساخط الذي يمثله (جيمي) يعاني الأمرَّيْنِ من حالات الحزن والاكتئاب والتأزم النفسي بسبب الظروف المأساوية التي يعيشها المجتمع سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، كما يعاني الجيل القديم شعوراً بالعزلة والغربة للأسباب نفسها، ويبدو أن المجتمع ككل أخذ يفقد الأمل في كل شيء، بعد أن بدأت بريطانيا تفقد بريقها ووهجها كقوة دولية عظمى.
كما تؤكد المسرحية على قضية أخرى مهمة يعانيها الجميع، ألا وهي: ضياع الهوية الوطنية البريطانية التي هي أحد أعراض مرض الشيخوخة، الذي بدأ يدبُّ في أوصال الإمبراطورية العجوز.
لقد كانت بصمات بريطانيا العظمى منذ عقود مضت واضحة جلية في كل قضايا العالم تقريباً: في السياسة، في الاقتصاد، في الفكر، في الثقافة، هكذا يرى المواطن البريطاني بلاده، أما اليـوم فكـل شيء داخـل الوطـن الإنجـليـزي أصـبـح أجنبياً، ونادراً ما يجد المرء شيئاً بريطانياً أصيلاً، فالثقافة والأدب كما يتضح من خلال حديث (جيمي) ليس أكثر من صدى للثقافة الفرنسية والأدب الفرنسي، يقول: “لقد قرأتُ للتو ثلاثة أعمدة عن الرواية الإنجليزية، نصفه باللغة الفرنسية” [المسرحية، ص: 11].
ولم يعد لدى الكُتَّاب الإنجليز أي عمل إبداعي أصيل لتقديمه إلى قرائهم عدا ترديد ما سبق ما كتبوه من قبل، يقول (جيمي): “حتى استعراضات الكتب تبدو وكأنها نفس استعراضات الأسبوع الماضي، الكتب مختلفة غير أن الاستعراضات هي نفسها” [المسرحية، ص: 10].
إن إحدى الوسائل في تقييم ثقافة مجتمع ما تتم من خلال الإنتاج الثقافي والفكري والأدبي، وما تقدمه الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة، ولعقود مضت كان لبريطانيا ثقافتها وصحافتها المتميزة، هذه الحقيقة في نظر (جيمي بورتر) أصبحت من الماضي، ومع ذلك فإن مما يدخل البهجة والسرور في نفس (جيمي)، هو سماعه لموسيقى (فون ويليامز) Vaughn Williams، (1872م – 1958م)، أحد أشهر الموسيقيين الإنجليز في مطلع القرن العشرين، ومن أبرز من ألف موسيقى ذات أصالة ونكهة إنجليزية، وهنا نرى (جيمي) يبدو متحمساً لسماع موسيقى (فون ويليامز)، التي تعيده إلى ماضي الإمبراطورية وثقافتها الأصيلة، يقول (جيمي) منتشياً “آه، نعم، تلك هي موسيقى فون ويليامز، حسناً، هناك شيء ما ذو شأن، على كل حال! شيء قوي .. شيء أصيل .. شيء إنجليزي، أعتقد أن أناساً مثلي لا يفترض أن يكونوا أكثر وطنية” [المسرحية، ص: 17].
يشير (جون أوزبورن) إلى ذلك ليلقي الضوء أكثر على فكرة ضياع الهوية الوطنية البريطانية، أن تفقد هويتك الوطنية يعني: أن تفقد أساس وجودك الوطني، وما يجري في بريطانيا في خمسينيات القرن العشرين وستينياته، أنَّه – كما يراه (جون أيلسوم) – “عارض من أعراض الانهيار، من أعراض فقدان الهدف الوطني الذي يتسبب في انهيار النسيج الأخلاقي” [1976م: 73].
ويزداد موضوع ضياع الهوية الوطنية وضوحاً من خلال استمرار النقد اللاذع لـ (جيمي بورتر) للواقع البريطاني، فنجده مرة أخرى في وقفة تهكمية أخرى، نستشف منها شعوراً بالمرارة والاستياء وعدم الرضاء، يقول فيها: “أحدهم قال – ماذا قال – نستورد طباختنا من باريس (تلك مزحة) وسياستنا من موسكو، وأخلاقنا من بورسعيد” [المسرحية، ص: 17].
أما موضوع الطباخة الفرنسية والسياسة الروسية فقد قالها بالفعل الكاتب الروائي (جورج أورويل) George Orwell (1903م – 1950م) عندما تحدث عن إفلاس المفكرين الإنجليز، فأصبحوا متلقين غير مبدعين.
إذن: فهذه العبارة التي يعيد تكرارها (جيمي بورتر) لم تترك شيئاً أصيلاً وطنياً في الفكر والثقافة الإنجليزية؛ إذْ يبدو كلُّ شيء مستورداً، أما الإشارة إلى بورسعيد المدينة المصرية، فهي إشارة إلى قرار بريطانيا بغزو بورسعيد، ومحاولة استعادة سلطتها الاستعمارية على شركة قناة السويس.
فمصر استعادت شركة قناة السويس كشركة وطنية مصرية، أما بريطانيا فقد فقدت بهذا الفعل ما بقي لها من أخلاق في عالم السياسة والأخلاق الدولية والإنسانية، وهنا يرثي (جيمي بورتر) انهيار بريطانيا كقوة دولية عظمى، وضياع هيبتها المعنوية الدولية، بل إن في حديثه ما يوحي إلى أن بريطانيا العظمى قد قبلت مكرهة بسيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وقبلت أيضاً بسياسة الأمركة Americanisation.
ويؤكد (جيمي) هذه الحقيقة التاريخية من خلال استمراره في الحديث المعبر بالفعل عن مرارة وسخط متزايدَيْنِ “عليَّ أن أقول: إنه من المحزن حقاً العيش في العصر الأمريكي –ما لم تكن بالطبع أمريكيا–، ربما سيكون كل أطفالنا أمريكان” [المسرحية، ص: 17].
قمة التهكم بضياع الهوية الوطنية، وشعورٌ واضحٌ بالقلق من الغزو الثقافي الأمريكي، وربما أيضاً النفوذ السياسي الأمريكي.
هذه الحقيقة الجديدة فيما يسمى بالأمركة سبَّبت قلقاً كبيراً في الأوساط الفكرية والثقافية، بل وفي الأوساط السياسية والاقتصادية، وهذا ما دفع الكاتب المسرحي البريطاني: (جون أوزبورن) إلى الإشارة إليها، ومن خلالها انتقاد الواقع البريطاني الآيل إلى الانحدار، وهو في الوقت ذاته تحذير من اتساع رقعة الأمركة، وخطورتها على الهوية الوطنية، وفي هذا الصدد يرى (ساوغاتا موكيرجي) Saughata Mukherjee المحاضر السابق للدراسات العليا في جامعة دلهي في مقالته: (في الغضب وعدم التفويض) Of Anger and Disempowerment أن “الدور قد انعكس في عالم السياسة؛ إذ أن الشعب البريطاني أصبح يتراجع من كونه المستعمِر، فأصبح واقعياً الشعب المستعمَر ثقافياً، وربما أيضاً اقتصادياً” [ براساد: انظر إلى الخلف بغضب، ص: 133].
ويبلور (موكيرجي) فكرته هذه بشكل أوضح حول ضياع الهوية الوطنية البريطانية، وتقهقر بريطانيا على مستوى النفوذ الدولي، فيقول: “يعتقد جيمي جازماً أن الإنجليز هم جنس راقي، ولكنه يصعق عندما يدرك أن أمريكا قريباً ربما ستقرر طبيعة الثقافة الإنجليزية، هذا الإحساس بضياع كل من الهوية والسلطة جـعـلـت مـن بورتـر نفـسـية غـير واثقـة مـن ذاتـها” [المـصـدر السـابـق: 134].
والجدير بالملاحظة هنا: أن الدموع التي تذرفها المسرحية على خطورة الوضع البريطاني تمجد – بالمقابل – الاستعمار الأوروبي من خلال الاستعمار البريطاني للهند، وهذا يبدو جلياً من خلال ما يثيره (جيمي بورتر) عن الأيام المشرقة للإمبراطورية البريطانية في الهند، فعندما يتحدث (جيمي) عن (الكولونيل ردفيرن) والأيام الجميلة التي قضاها في الهند قائداً لأحد الألوية العسكرية، وإن كان فيه تهكُّمٌ بالطبقة الاجتماعية العليا المتوسطة غير أن هذا الحديث لا يخلو من تمجيد لتلك الأيام الزاهية في الهند.
يخاطب (جيمي) زوجته (أليسون) بأسلوبه التهكمي المعهود عن تلك الأيام بالقول: “اللواء الإدواردي القديم يجعل عالمهم الصغير يبدو مغرٍ للغاية، كل شيء صناعة وطنية، الكيك ولعبة الكركيت، أفكار متألقة، بزات نظامية زاهية، نفس الصورة دائماً: صيف بهيج، الأيام الطويلة في الشمس، مجلدات شعر أنيقة، ملابس كتانية رقيقة، رائحة النشأ، يا لها من صورة رومانسية” [المسرحية، ص: 17].
إن (جيمي بورتر) الناطق بلسان حال (جون أوزبورن)، وربما بلسان حال الأمة البريطانية بأسرها كما يرى بعض النقاد، وهو يندب ما يعتقده (الأيام المشرقة) في تاريخ الإمبراطورية البريطانية، فهو لا يعبأ بمعاناة الشعب الهندي وآلامه في تلك الفترة من السيطرة الاستعمارية البريطانية للهند، بل هو على العكس: إذ هناك شيء من التمجيد لماضي الإمبراطورية وأيامها المشرقة في الهند.
ولا يقتصر رثاء انهيار الإمبراطورية البريطانية على ما يتفوه به (جيمي)، ولكنه يظهر أيضاً وبوضوح أكثر في حديث (الكولونيل ردفيرن)، وحنينه إلى الماضي، حيث أمضى زهرة شبابه في الهند ضابطًا في الجيش الإمبراطوري، غادر (ردفيرن) – كما يفيد من حديثه – إنجلترا متوجِّهًا إلى الهند في عام: (1914م) في زهوٍّ بنفسه وببلاده التي كانت في أوج مجدها وكبريائها.
كان شديد الفخر بنفسه، أما اليوم فيقدمه (أوزبورن) على خشبة المسرح بعد خروج بريطانيا من الهند منهكة، بعد أن فقدت ما كان يسمى درة التاج البريطاني الاستعماري، فيصفه (أوزبورن)، وهو يدخل على خشبة المسرح: “متراجعاً قليلاً في مشيته، ومضطرباً قلقاً؛ إذ بجد نفسه في عالم حيث أصبحت سلطته أخيراً ومن دون شك تضعف شيئاً فشيئاً” [المسرحية، ص: 63].
يعود (الكولونيل) إلى موطنه إنجلترا في عام: (1947م) خاسراً متهالكاً كما هي بلاده خاسرة متهالكة، لم يعد لديه ما يمتلكه سوى ذكريات “الماضي الجميل”، الذي يسبب له إحساساً كبيراً بالعزلة والغربة، نقتطف هنا جزءًا من حديث مطول عن ذكرياته، يقول فيه: “إنجلترا التي أتذكرها هي تلك التي غادرتها في العام: 1914م، وكنت سعيداً أن أتذكرها على تلك الطريقة، إلى جانب أنني كنت قائداً لجيش الماهاراجا، ذلك كان عالمي الذي أحببته كله، في ذلك الوقت كنت أظن أنه سيستمر إلى الأبد، وعندما أفكر فيه اليوم يبدو لي وكأنه حلم، يا ليته يستمر إلى الأبد، تلك الليالي الطويلة الباردة على قمم التلال، كل شيء أرجواني وذهبي” [المسرحية، ص: 68].
في هذا القول يبدو (الكولونيل) صدًى لآهات (جيمي بورتر) لخسارة “الأيام الأرجوانية الذهبية” لبريطانيا العظمى في الهند، التنهدات نفسها، ومشاعر الحنين نفسها إلى الماضي، ومشاعر العز والكبرياء نفسها.
ومرة أخرى – كما هو جيمي – يمجِّد (الكولونيل) بإفراط القوة الاستعمارية البريطانية، ويبكي زوالها اليوم، من غير اعتبار لمعاناة الشعب الهندي؛ لذلك فإن حديث (الكولونيل) – كما هي أحاديث جيمي – يمثل مرثاة تندب وتبكي انهيار الإمبراطورية البريطانية، ويعبر حديث (الكولونيل) عن روح المرارة التي يعانيها، بما يمكن أن يعدَّه الخسارة الفجائية للنفوذ الاستعماري البريطاني.
تأسيساً على ذلك يمكن القول: إن شخصية (الكولونيل) العجوز هي صورة مصغرة للإمبراطورية العجوز في نظام عالمي جديد، لم تعد تمتلك كل ذلك النفوذ الاستعماري السابق، ولا كل تلك القوة الدولية.
أما البروفيسور (إيميل روي) Emil Roy في كتابه: (المسرحية البريطانية منذ شو)، (1972م)، فإنه يرى في شخصية (الكولونيل ردفيرن) ذلك الإنسان العاطفي الوديع “الحزين على ضياع عالمه” [1972م: 102]، وبعكسه: (ناندي باتيا) Nandi Bhatia في مقال لها بعنوان: (الغضب، الحنين إلى الماضي، ونهاية إمبراطورية) Anger, Nostalgia and the End of Empire (1999م)، فتفسر الإحساس بالحنين إلى الماضي بالنسبة (للكولونيل): “في العلاقـة بين المستعـمِر البريطـاني الأبيـض والمستعـمَر” [1999م: 394].
أما (جيمي بورتر) المتعاطف مع (الكولونيل ردفيرن)، فيجد في شخصيته “مجرد واحدة من تلك النبتات الراسخة القديمة المتروكة من البرية الإدواردية، والتي لا تدرك لماذا لم تعد الشمس مشرقة” [المسرحية، ص: 66].
واستطراداً لفكرة الحنين إلى الماضي، والعودة إلى الفترة الإدواردية، يعلق (جيمي بورتر) ضمن تعليقاته على مفكري حاضره المضطرب ومثـقَّـفيهم، على مقالات (جي. بي. بريستلي) المنشورة في صحافة أيام الآحاد المملَّة – كما يصف –؛ فإن كل الاهتمام فيها يتعلق بماضي الإمبراطورية المتألق، وأن (بريستلي) J.B. Priestley، الكاتب البريطاني المعروف شبيه بـ (الكولونيل)، الذي “لا يزال يلقي لمحات مترعة إلى الماضي، إلى الشفق الأحمر الإدواردي مـن عـلى بريـته المـريحة غـير المحـصنة” [المسرحية، ص: 15].
كما يكـرر (الكولونيل) ما سبـق وأن ما قالـه عنـه (جيمي)، مقـراً بأنه “نبتة قديمة تركت من البرية الإدواردية” [المسرحية، ص: 67].
وهذا ما يؤكد أن كل من جيل الشباب الغاضب الساخط في بريطانيا وجيل الشيوخ الحائر المُربَك، كل منهما يعي خطورة الأعراض الواضحة لانهيار بريطانيا العظمى، والكل يشعر بالمعاناة، ولكن ليس بمقدور أي منهما مواجهة الموقف.
تلخص هذه الحقيقة المرة (أليسون) في حديثها إلى والدها (الكولونيل) بالقول: “أنت متألم؛ لأن كل شيء تغير، جيمي متألم؛ لأن شيئاً لم يتغير، وليس بإمكان أي منكما مواجهته” [المسرحية، ص: 68].
لقد وضعت (أليسون) أصبعها على موضع الألم، فلا والدها المصدوم بحقيقة أن بريطانيا لم تعد كما تركها في بداية القرن العشرين، ولا (جيمي) قادر على استيعاب أن التغيير الذي يتوق إليه بعد الحرب بحاجة إلى وقت طويل بعد أن خرجت بلاده منهكة من الحرب، وبعد أن فقدت موقعها كقوة دولية عظمى، فلقد مرت عشر سنوات تقريباً على انتهاء الحرب ولم يجد جيل الشباب ما كان يحلم به من شعار دولة الرفاهة Welfare State كما وعدت بها الأحزاب السياسية.
وعليه؛ فلم يعد أمام الجميع سوى العودة إلى الماضي، وتذكر أيامه المشرقة، يقول (جيمي) متحسراً “إذا لم يكن لك عالمك الخاص بك، فمن الأحسن بلا شك أن تندم على زوال عالم شخص آخر” [المسرحية، ص: 17].
وفي مقدمته المطولة الرائعة لنسخة (لونجمان) Longman Study Edition (2006م)، يعلق (براساد) G. J. V. Prasad، البروفيسور بجامعة (جواهر لال نهرو)، على العلاقة التعاطفية المتبادلة بين (جيمي بورتر) الذي يمثل جيل الشباب الطموح الغاضب، و(الكولونيل ردفيرن) الذي يمثل الجيل القديم الذي يعاني الإحساس بالعزلة والغربة، أن هذه العلاقة “حدثت بسبب الإحساس بالخسارة لما كان يمتلكه الرجل العجوز، والتي لا يمكن للرجل الشاب أن يحصل عليها مطلقاً” [2006م: XV].
ولدى (ناندي باتيا) وجهة نظر شبيهة بوجهة نظر (براساد)؛ إذْ ترى أن (جيمي) “يبدي تعاطفاً مع الكولونيل؛ لأنه يبكي نهاية الحكم الإمبراطوري” [1999م: 391].
إذن: فإن موضوع البكاء على انهيار الإمبراطورية البريطانية يكاد يغمر عالم المسرحية كُلَّه من خلال الشكوى المُرَّة المستمرة لـ (جيمي بورتر)، وأن “القضايا الشجاعة الجيدة” the brave good causes، التي لم يعد لها وجود في عالم الإمبراطورية اليوم، هي في حقيقة الأمر صدى للشعار الذي كان الاستعمار الأوروبي يتستَّر خلفه، فيما يصفه الشاعر الإنجليزي (روديارد كبلنج) Rudyard Kipling، (1865م – 1936م)، في إحدى قصائده بـ: “عبء الرجل الأبيض” white mans’ burden في تنوير “البدائيين” وتثقيفهم the primitives – في حدِّ زعمهم – في آسيا وأفريقيا، وهذه العبارة يضعها (كبلنج) عنواناً لقصيدته.
لقد فقدت الإمبراطورية البريطانية سيادتها وهيبتها بعد أن فقدت معظم مناطق نفوذها وأهمَّها، ووجودها الاستعماري في قارتي آسيا وأفريقيا.
إذن: فإن البكاء على فقدان “القضايا الشجاعة الجيدة” هو في حقيقة الأمر رثاء لانهيار السيادة الاستعمارية للإمبراطورية البريطانية، يقول (جيمي) متألماً ومتحسراً “أعتقد أن جيلنا غير قادر أبداً على أن يضحي من أجل قضايا مهمة، كل شيء قد تم إنجازه بالنيابة عنا في الثلاثينيات والأربعينيات عندما كنا أطفالاً (…)، لم تبق هناك أي قضايا شجاعة جيدة” [المسرحية، ص: 84].
وتظل فكرة التمايز الاجتماعي من الموضوعات التي تثيرها مسرحية: (انظر إلى الخلف بغضب)؛ لما لهذا الموضوع من تأثير سلبي على العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد.
وتلقي المسرحية الضوء على هذا الموضوع من خلال بعض الشخصيات، فمثلاً: (جيمي بورتر)، وصديقه: (كليف) Cliff، و(السيدة تانر) Mrs. Tanner، وابنها: (هيو) Hugh، صديق (جيمي) يمثلون الطبقة العمالية؛ بينما أفراد أسرة (الكولونيل ردفيرن)، والأسر الأخرى الصديقة لهم، أمثال عائلة (آركسدن) Arksdens، وعائلة (تارنات) Tarnatts وعائلة (واين) Wains، يمثلون الطبقة الاجتماعية العليا المتوسطة في المجتمع البريطاني.
ويتضح هذا التمايز الاجتماعي من خلال أحاديث (جيمي)، وحبه لـ (السيدة تانر)؛ كونها امرأة تَكِدُّ وتكدح للحصول على لقمة عيش كريمة لها ولابنها، وهي التي ساعدت (جيمي) في أحلك ظروفه المعاشية؛ إذ وفرت له غرفة في بيتها ليلة زفافه وزواجه من (أليسون)، والبقاء معها لأشهرٍ عدَّة، ثم إنها ساعدته وصديقه (كليف) في تدبير مصدر رزق يعيشان من خلاله، فظل يكنُّ لها كل تقدير واحترام حتى ساعة وفاتها.
وبالمقابل فإن (جيمي) ومن خلال أحاديثه أيضاً تتضح لنا مدى كراهيته للطرف الاجتماعي الآخر، فباستثناء (الكولونيل ردفيرن) الذي يكنُّ له (جيمي) بعض مشاعر الود والتعاطف؛ فإن بقية أفراد أسرته بما فيهم زوجته (أليسون) يظلون هدفاً لهجماته اللاذعة. وإن كانت شخصيتا (نايجل) Nigel أخو (أليسون) وأمها لا تظهران على خشبة المسرح، فإنهما على الدوام في ذهن (جيمي) ومحل كراهيته.
ومن البدايات الأولى للمسرحية يشن (جيمي) نقداته اللاذعة على زوجته (أليسون)، ومن خلالها بالتأكيد أفراد أسرتها، وبالذات أمها و(نايجل).
يحاول (جيمي) استفزازها بثرثرته وأقواله، ولكنها غالباً ما تتجنب الرد ببرودة أعصاب متناهية “يمكنك التحدث، أليس كذلك؟ يمكنك التعبير عن فكرة، أم أن عبء المرأة البيضاء يجعل من المستحيل عليك التفكير” [المسرحية، ص: 11].
وما يقصده (جيمي) هنا بـ “عبء المرأة البيضاء” هو في حقيقة الأمر “عبء الرجل الأبيض” الفكرة الاستعمارية الاستعلائية التي سبق الإشارة إليها، وكهدف مباشر لنِبَاله الحادة تكتفي (أليسون) بعدم الرد إلَّا فيما ندر، وبعبارات وجمل مقتضبة توحي بعدم الاكتراث بما يقوله، وذلك ما يفسره (جيمي) بالخوف والجبن، فهي وأخوها (نايجل) – حسب زعمه – ليسا أكثر من “متملقين وخائفين وجبانين” [المسرحية، ص: 21 – 22].
ويظل النظام المؤسسي السياسي والاجتماعي هدفاً لهجمات (جيمي) ونقداته اللاذعة، من خلال تهجمه على شخصية (نايجل)، الذي هو نتاج الطبقة الاجتماعية العليا، فهو الذي يجد الفرصة أكثر من غيره في الالتحاق بكلية (ساندهيرست)Sandhurst لتدريب الضباط وتخريجهم، ومع ذلك فهو يثبت يوماً بعد يوم أنه فاشل بامتياز في حقول المعرفة كلِّها، وهو كما يصفه (جيمي): “التفاهة من الفضاء الخارجي (…)، وليس هناك غموضٌ وإبهامٌ حول (نايجل) أكثر من معارفه (…)، وأكثر ما يمكن أن يفعله هو البحث عن ملاذ في بلاهته” [المسرحية، ص: 20].
كما يصفه أيضاً بأنه السياسي الذي يفتقر إلى الأخلاق، وشخص لا يمكن الوثوق به، وبذلك يمكننا القول: إن (نايجل) هو صورة مصغرة أخرى للواقع السياسي والاجتماعي لبريطانيا العظمى ولأفول مجدها.
أما والدة (أليسون) فهي أكثر شخصيات المجتمع الراقي هدفاً لانتقادات (جيمي)، ونِبَاله المسنونة، وهي وإن كانت لا تظهر على خشبة المسرح، فإنها حاضرة باستمرار من خلال أحاديث (جيمي) عنها، وكراهيته وبغضه لها، ومعظم ما يقال عنها من وصف هو من صنيع (جيمي) ومن وجهة نظره الخاصة. وهو في نظرها، على حد وصفه لنفسه، ليس أكثر من شخص لا يمتلك مالاً، ولا خلفية اجتماعية، ولا مظهراً لائقاً، وهي التي لم تترك وسيلة إلّا استخدمتها لتمنع ابنتها من الزواج منه، بوصفه شخصاً لا يرقى إلى المستوى الاجتماعي للأسرة، فقد جنَّدت متحرِّياً خاصاً لمراقبته على حد زعمه.
يصفها (جيمي) بأنها: “فظة، غليظة القلب، كليلة دهماء من ليالي بيت دعارة في مدينة بومبي، وهي خشنة، قاسية، كذراع سمك المتلوت” [المسرحية، ص: 52].
ثم يضيف في موضع آخر عنها: “أقول: يجب أن تموت (…)، يا إلهي تلك الديدان بحاجة إلى جرعة من الملح عندما يصلون إليها، آه يا لها من آلام في المعدة ستصابون بها يا صغاري الديدان! والدة (أليسون) في الطريق إليكم (…)، ستمـوت يا أصـدقـائي! تاركـة خلفـها قافـلـة مـن الديـدان باحـثـة عـن ملـين للأمـعـاء – مـن ملـينات الأمـعـاء المطهِـرة إلى المَطْهَر” from purgatives to purgatory [المسرحية، ص: 51].
والمَطْهَركما هو معروف في المعتقد المسيحي هو: المكان الذي تُطَهّر فيه نفوس الأبرار الخاطئين بعد الموت بعذاب محدود الأجل، ثم تدخل الجنة.
هكذا ينظر (جيمي) إلى والدة (أليسون): امرأة متعالية جلفة في تعاملها مع من هم دون مستواها الاجتماعي.
وفي مقال نقدي تحليلي بعنوان: (دور الكولونيل ردفيرن في مسرحية أوزبورن: انظر إلى الخلف بغضب: تحليل نقدي) The Role of Colonel Redfern in Osborene’s Look Back in Anger: a Critical Analysis، تشير (سلمى هاكيو) Salma Haque إلى طبيعة التمايز الاجتماعي في بريطانيا في خمسينيات القرن العشرين بأنه: “يقلق جيمي بشكل كبير، وأنه يريد أن يجتث التنافر الاجتماعي الذي تسبب فيه، ومن وجهة نظر جيمي فإن أفراد الطبقة العليا يمثلون المجتمع الأرستقراطي المزيف الذي يفتقر إلى المشاعر الحقيقية لأي إنسان” [2013م: 23].
أما (رونالد هايمن) Ronald Hayman في كتابه: (المسرح البريطاني منذ 1955م، إعادة تقييم) British Theatre Since 1955, A Reassessment، فيرى أن أحاديث (جيمي بورتر) – الشخص المتحدث بلسان الجيل الساخط خلال كل المسرحية –: “صُمِّمَت للتعبير عن شكوك وشكاوى وتبرم كل واحد مستاء من سلطة وفساد الوالدين والمؤسسة والسياسيين وأي واحد ذو سلطة، وأي واحد ممكن أن يلام في العام 1956 للطريقة التي تنزلق فيها بريطانيا” [1969م: 9 – 10].
لقد أدرك (جون أوزبورن) وبحاسته الأدبية المسرحية وبطريقته الخاصة – كغيره من كُتَّاب مسرح الغضب الشباب – هذه الظاهرة الاجتماعية، والتي عالجها كل منهم بطريقته الخاصة، وتمثل (ثلاثية ويسكر) Wesker’s Trilogy (1957م) نموذجاً متميزاً في مسرح الغضب في تلك الفترة لمعالجة موضوع التمايز الاجتماعي بشكل عام، وظروف الطبقة العمالية بشكل خاص.
نخلص إلى القول: إن مسرحية: (انظر إلى الخلف بغضب)، للكاتب المسرحي البريطاني: (جون أوزبورن)، والتي عدَّها معظمُ نُقَّادِ تلك الفترة نقطةَ تحوُّلٍ في تاريخ المسرحية البريطانية في منتصف القرن العشرين، بقدر ما تحمل من مشاعر الغضب والاستياء التي تطفو على سطح مشهد أحداث المسرحية تجاه الواقع المؤسسي السياسي والاجتماعي البريطاني في خمسينيات القرن العشرين وستينيَّاته، فإنها تكتنز أيضاً الكثير من أحاسيس البكاء والنحيب على فقدان بريطانيا العظمى قدراً كبيراً من سيادتها وقوتها المعنوية والمادية في الأوساط الدولية، وانحسار نفوذها كقوة دولية عظمى من الدرجة الأولى، فشكلت المسرحية ما يمكن عدُّه مرثاةً تنعي انهيار هذه الإمبراطورية.
ويبدو ذلك جلياً من خلال فكرة الحنين إلى الماضي الذي أجاد الكاتب توظيفها على لسان شخصيتي: (جيمي بورتر) و(الكولونيل ردفيرن)، وتحسرهما على ما يعتقدانه الماضي المجيد المشرق للإمبراطورية البريطانية الآيلة إلى الانهيار في منتصف القرن العشرين.
هذا من وجهة نظر المستعمِر، أما من وجهة نظر الطرف المستعمَر فهي فترة مظلمة في حياة الشعوب التي استعمرتها بريطانيا العظمى، وسلبتها سيادتها، ونهبت خيراتها.
وإذا كان (جون أوزبورن) ومن خلال شخصيتي: (جيمي بورتر) و(الكولونيل ردفيرن) يتأسف على زوال ماضٍ يعدُّه مجيداً مشرِّفاً؛ فإن هذه المسرحية تشكل مرثاة يبكي فيها الكاتب ذلك الماضي المجيد، وانهيار إمبراطورية قيل عنها: إن الشمس لا تغيب عنها.
وبالتالي؛ فإننا يمكن أن نصنف هذه المسرحية ضمن أدب ما بعد الفترة الاستعمارية، وإن كان من وجهة نظر المستعمِر، ويدعم وجهة النظر هذه ما يشير إليه البروفيسور (براساد) في مقدمته لنسخة (لونجمان) التي سبقت الإشارة إليها؛ عندما يقول: إنها “مسرحية ما بعد الفترة الاستعمارية، مسرحية نهاية إمبراطورية، فهي دمدمة وأنين الدب الجريح – القوي، إلاَّ أنه الآن واهن القوى، وحيد في قفص حديقة الحيوان الذي نسمعه في المسرحية” [2006م: XXIV].
وهذا بالفعل ما نسمعه من (جيمي) في اللحظات الأخيرة من المسرحية، وهو يتحدث إلى زوجته (أليسون)، وهما يلعبان لعبة: (الدب والسنجاب)، بعد أن عادت المياه إلى مجاريها بينهما، وبعد أن عاد الصفاء إلى حياتهما: “وتساعدينني لكي أحافظ على مخالبي منظمة ومرتبة؛ لأنني أصبحت بقية من دب عاطفي ضعيف” [المسرحية، ص: 96].
أما فكرة (الضياع) أو (الخسارة) فيقدِّمها لنا الكاتب من خلال رؤية استعمارية أنانية استعلائية؛ غير مكترث بما يعانيه البلد أو الشعب المستعمَر، وكل من (جيمي) و(الكولونيل) يأسفان على ما يعتقدان أنه ضياع مجد إمبراطوريتهما بكل “أيامها المشرقة” من دون إبداء أي نوع من التعاطف مع الشعوب المستعمَرة خلال كل عقود السيطرة الاستعمارية الأوروبية.