محمد سالم قطن
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 21 .. ص 61
رابط العدد 21 : اضغط هنا
في ديسمبر عام 1951م جرى تعييني مساعدًا عسكريًّا للمستشار البريطاني المقيم بمحمية عدن الشرقية. وكانت مهمَّةُ القيام بواجب صيانة القانون والنظام بمناطق الصحراء الشمالية لحضرموت جانبًا مهمًّا من جوانب عملي. هذه الصحراء الشمالية التي يحدها من الغرب المملكة المتوكلية اليمنية ومن الشمال رمال الربع الخالي. وتسكنها قبائل الرعاة من البدو الرحَّل. وكانت قوة حفظ السلام لهذه المنطقة الشاسعة ترتكز أساسًا على دوريات الجيش البدوي الحضرمي، الذي تقع قاعدته في مدينة المكلا .
الضابط عبد الهادي حماد، وهو من أصل عراقي، جرى انتدابه للعمل في حضرموت من قبل الجيش العربي الأردني، وكان هو القائد المكلف بإدارة هذه القوة، كما كان أيضًا هو الرجل الثاني في قيادة الجيش البدوي الحضرمي. كانت القبائل التي تعيش بتلك المنطقة هي : الصيعر، الكرب، نهد، العوامر، المناهيل، المهرة. والتي كانت تعيش ضمن علاقات تعاهدية مع سلاطين المنطقة المتعددين. كما كانت لنا أيضًا بعض التعاملات والصفقات من وقت لآخر مع قبائل دهم وعبيدة من المملكة اليمنية. ومع قبيلة يام من العربية السعودية، ومع قبيلة الرواشد التي ليس لها ارتباط خاص بأي من السلطنات والدول القائمة بالمنطقة وقتها. كما كان لنا علاقاتنا مع بيت كثير في سلطنة عمان.
ثمَّ ظهرت فيما بعد أمامنا بعض التعقيدات في الجزء الشرقي من هذا الإقليم؛ إذْ يعيش بعض قبائل المهرة (ولا سيما بيت خوار) داخل سلطنة عمان، فيما يعيش بعض آل كثير بين قبائل المهرة. وعندما جرى فتح طريق (الحج) الصحراوي عبر (العبر) و(نجران) شاهدنا الكثير من (الدواسر) السعوديين الذين كانوا يملكون ويقودون غالب الشاحنات التي تمر في ذلك الطريق.
لقد كان بين هذه القبائل ماض من تاريخ الغارات والصراعات المتبادلة، كما كان بينها أيضًا مع قبائل أخرى بعيدة عن المنطقة. وكان أسوأ ذلك الماضي فيما حدث بين قبيلة (دهم) وبين قبائل المشقاص (المناهيل، المهرة، وسكان المناطق الشرقية). وكانت القطاعات البدوية من قبائل (الصيعر) هي الأسوأ سمعة فيهم؛ إذْ كان جيرانُها كلُّهم ينظرون إليها كخطر ماثل أمام أعينهم.
لقد جرى احتلال القوات القعيطية لـ(العبر) منذ عام 1939م، لكن ذلك لم يكن كافيًا لكبح جماح (الصيعر) والآخرين عن القيام بالغارات المتبادلة وإراقة الدماء. ولهذا تم في عام 1950م تأسيس حصون الجيش البدوي الحضرمي وقلاعه فوق آبار (زمخ) و(منوخ). الأمر الذي ساعد على إيقاف غارات (الصيعر)، لكن (المناهيل) و(المهرة) ما زالوا يضمرون الثأر والانتقام من قبائل (دهم)، التي كانت كثيرًا ما طرقت مثاويهم وغارت عليهم دون رحمة في الماضي. كما كانت لديهم عددٌ من النزاعات مع قبائل (يام) و(عبيدة) لم تسوَّ بعد، على الرغم من أن نزاعات الصيعر والمناهيل والمهرة كانت ناتجة عن أخطائهم هم أكثر من أن تكون أخطاء خصومهم.
وفي نوفمبر عام 1951م، شرع المناهيل والمهرة في تنظيم حملة غزو مشتركة فيما بينهم، انطلقت من (ثمود)، مستفيدة من المياه التي توافرت لديهم من الأمطار والسيول، التي تدفقت على منطقتهم مؤخرًا. وبذلك تفادوا المرور بالآبار المحروسة بالحاميات. وتحركت الحملة إلى (الريَّان) بديار دهم. واستولت على بئر (الماشيناكا)، التي منها أغاروا على(دهم)، و(يام) و(عبيده). ثم عادوا أدراجهم شرقًا. لكن (عبد الهادي) تلقى خبر هذه الغزوة في الوقت المناسب، فشرع في مطاردة الغزاة. ولهذا فاجأ الغزاة في بئر (شقهم) بوادي (ماخية)، ونجح في استرداد بعض الإبل المنهوبة، وقتل أحد الغزاة، وأصاب آخر إصابة شديدة.
وتحسُّبًا لغارات مضادة كردِّ فعلٍ لما حدث، قمنا بتسيير دوريات منتظمة بالسيارات على امتداد المنطقة الواقعة ما بين (جبل الثنية) والرمال الشمالية لـ(خشم الجبل). وفي بعض الأحيان كانت دورياتنا هذه تزور (وادي الوديعة) و(تلة الشرورة) اللتين تقعان في نطاق ديار الصيعر، ووقتها لم يكن السعوديون يبدون اهتمامًا ورغبةً في هاتين المنطقتين. كما لم تُـبْـدِ قبيلة (يام) علامة اعتراض على تسيير دورياتنا. وكان هناك قطاع من هذه القبيلة يقوم برعي مواشيه باتجاه الجنوب الشرقي، وكنَّا نحن والصيعر نسمح لهم بذلك، وهؤلاء (الياميون) كانوا في ذلك الزمن يتزوَّدون بالمياه من (العَبْر)، كما كانوا يزورون حضرموت ويتسوَّقون في أسواقها ويتزوَّدون منها.
وفي يوم من أيام يناير عام 1954م، كنت أنا وعبدالهادي على رأس دورية من دوريات جيش البادية الحضرمي نجوبُ تلك المنطقة، فاكتشفنا وجود فرقة جيولوجية تابعه لشركة أرامكو إلى الشمال قليلًا من (الشرورة)، فأشعرْتُ المسؤولين عن تلك الفرقة أنَّ من الضروري عليهم التراجع والانسحاب إلى داخل حدودهم، وهو ما فعلوه.
بعدها بفترة، أخبرني المستشار البريطاني المقيم بالمكلا، أنه يجب عليّ عدمَ اعتبار (الشرورة) داخلةً في حدودنا على الرغم من كونها في ديار الصيعر؛ وذلك لأنها تقع خلف (الخط البنفسجي).
و(الخط البنفسجي) المذكور هو الخط الذي اتفق كل من البريطانيين والأتراك في عام 1913م على اعتباره الحد الفاصل بين منطقتي نفوذ كل منهما؛ وذلك لتجنب أية إشكالات أو اشتباكات قد تحصل بينهما في المستقبل. كان هذا الخط مرسومًا بمسطرة على الخريطة بمداد بنفسجي اللون، ويبدأ من جبل (البلق) شمال حريب ويمتد بزاوية 45 درجة بعرض الجزيرة العربية لينتهي في مكان ما بالقرب من قطر.
وفي عام 1926م بدأت المملكة العربية السعودية تأخذ شكلها الحديث، كما استوعبت قبيلة (مُرَّة) التي نجح الملك عبد العزيز في إقامة أقوى العلاقات الشخصية معها، ومراعي هذه القبيلة كانت تقع إلى الجنوب من الجانب الشرقي لهذا الخط البنفسجي. ولقد انعقدت بمدينة الرياض بعد ذلك سلسلة من المفاوضات بين البريطانيين والسعوديين، نتج عنها إحداث تعديلات للخط البنفسجي ، وهي ما أسماها البريطانيون بـ (خط الرياض)، على الرغم من أن السعوديين لم يُبدُوا أية إشارة على قبولهم إيَّاها. وقد تلقيت التعليمات في أثناء عملي هناك أن اعتبر هذا الخط المعدَّل بمثابة خط الحدود، إلا في حالات مطاردة الدخلاء.
وفي أواخر سبتمبر عام 1955م، أشعرتْنا قبيلة الصيعر بوجود فريق ضخم من (أرامكو) مُزوَّد بآلات، يجري أعمالًا في ديرتهم، وبالتحديد شمال (عيوة الصيعر السفلى). لهذا قمت مصطحبًا معي الرئيس سالم عمر الجوهي، الذي حل محل عبد الهادي، باستطلاع المنطقة المذكورة. وبالفعل وجدْنا آلة حفر تقوم بالعمل في هذه المنطقة التي تقع جنوب خط الرياض، وفيما بعد أسمينا هذه المنطقة بالمخيم A. ولمَّا كان هذا الفريق العامل يبدو كبيرًا، فقبل أن أتصل به قمت بطلب تعزيزات عسكرية حتى لا تطرأ أية مناقشات بعد بدئي في مواجهة الحادث، وبالفعل طارت تلك التعزيزات من (الريَّان) إلى (زمخ) مصحوبة بضابط ارتباط من سلاح الجوِّ تحسُّبًا لإمكانية احتياجنا لدعم جوي. وفي 5 أكتوبر تحرَّكْنا إلى المخيم A، الذي وجدناه يضمُّ فريق حفر تابع لأرامكو مع مرافقين وحرس سعوديين. وفي البداية تحدَّثنا مع رئيس الحرس والمرافقين السعوديين، وطلبْنا منهم أن يغادروا هذه المنطقة. ثم اقتربْنا من فريق أرامكو، الذي كان في تلك اللحظة يجري اتصالات بالراديو مع الظهران. أخبرتهم أنَّ التعليمات التي لديّ تقول إنَّ على الحرس والمرافقين السعوديين مغادرة هذه المنطقة هذا اليوم. وبعد مغادرتهم سوف أجري اتفاقًا مع رئيس فريق أرامكو على مهلة زمنية معقولة تتيح لهم سحب آلاتهم وأجهزتهم ونقلها من هنا إلى داخل المناطق السعودية. أحال رئيس فريق أرامكو ما قلته له إلى رؤسائه في مقر أرامكو بالظهران عبر اتصال الراديو. وكان الرد منهم عبارة عن رسالة تتَّهمنا بنقض القانون الدولي واختراقه وبجرائم أخرى.
كرَّرتُ توجيهاتي مرة أخرى، كما أن رئيس فريق أرامكو كرَّر محادثته مع الظهران. أحد الأمريكيين قال لي: أنت لن تطلق النار على مثل هؤلاء الزملاء المساكين، أليس كذلك؟ أجبْتُه قائلًا: أرجو ألَّا أضطرَّ إلى ذلك فيصبح ذلك ضروريًّا بالنسبة لي. أجابت الظهران أخيرًا؛ بأنه إذا توجب مغادرة المرافقين والحرس السعوديين فإنَّ على فريق أرامكو أن يغادر كذلك. أكدت لهم أنَّ هذا جيد. مُضِيفًا، أننا سندخل إلى مخيمهم صباح الغد، وأية آلة أو جهاز سيتركونه سوف يبقى سليمًا طالما بقي الماء الذي يحتفظون به داخل صهريج كبير من قماش (القنب)، وأننا غير قادرين على حماية الآلات والأجهزة بعد نفاد هذا المخزون من الماء. وبعد ظهر اليوم التالي غادروا تاركين خلفهم كلَّ ما لم يُمكِنْهم حمله معهم.
عندما دخلنا المخيم (A) صباح اليوم التالي، رأينا آثار مسارات عربات باتجاه الشرق البعيد، فتتبعنا الأثر، وبعد بضعة أميال وجدنا (بلدوزر D8) على قمة أحد الكثبان الرملية جرى استخدامه لرفع الآليات الثقيلة من فوق الرمال الناعمة. ولمسافة أبعد قليلًا رأينا آلة حفر كبيرة أخرى على حافة سلسلة الكثبان القريبة من كومة الأشجار المنتصبة كعلامة لبداية مجرى سيل وادي (خضراء)، جاهزة للاستخدام لكنها لم تعمل بعد، وعندما تحقَّقنا من انقطاع الأثر بعد ذلك، اتَّفقْنا على تسمية هذه بـ(المخيم B ).
وعندما أخذنا المخيم (A)، تركنا وراءنا بتلك البقعة دورية ثابتة برئاسة الملازم سعيد عمرو الغرابي، على الكثبان الواقعة غربي (خشم الجبل) لاعتراض أية هجمات محتملة. وفي 8 أكتوبر نقل إلينا الملازم سعيد عمرو خبر عودة الحرس السعودي. فلقد تغيَّرت الأمور في السعودية، وسعود بن عبد العزيز أصبح الآن ملكًا، ولهذا اعتقد أولئك الحرس أنه من الأسلم لهم أن يستسلموا لقواتنا بدلًامعن مواصلة طريقهم نحو (نجران). ففي وقت سابق على هذا التاريخ تلقَّى الأمير ألأسبق لنجران (ابن مهدي) غضب الملك سعود، وجرى نقله مقيدًا بالحديد إلى الرياض.
قمنا بنزع سلاح أولئك السعوديين المستسلمين لنا، وقمنا بتوفير الغذاء لهم وأرسلناهم تحت الحراسة إلى سيئون. وقضى هؤلاء أشهرًا عدَّةً بين سيئون والريان وعدن، وقبل أن يتم إعادتهم إلى (جدَّة) في وقت لاحق عندما صار ذلك مناسبًا.
وفي عام 1953م جرى تحصين (ثمود)، و(سناو) عام 1954م، و(حبروت) عام 1956م. وفي الأعوام 1957م و1958م جرت بعض الاختراقات من الجهة الشمالية الشرقية بمناطق الكثبان والسهول القاحلة بين وادي خضراء ووادي شويط، لكنها في هذه المرات كانت من قبل هواة الصيد البرِّي وأغلبهم من قطر.