أ.د. عبدالله حسين البار
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 21 .. ص 65
رابط العدد 21 : اضغط هنا
(1)
من المخاطَب في القصيدة؟
أهو المُرْسَلُ إليه الذي يتلقّى (الرسالة) من مُرْسِلِها؟
أهو كائنٌ حيٌّ ذو وجودٍ متعيّنٍ ومحدّدٍ؟
أهو كائنٌ ورقيٌّ اصطنعه الشاعر ليضع تجربته في إطارٍ يتفاعل معه الآخرون؟
وكيف يتجلّى في القصيدة؟
أباسمه العلم؟ أم بصفاته؟ أم بضمائره التي منحتها إياه اللغة؟
وهل من المقدور تعيينه إن لم ينصّ الشاعر على ذلك ويعيّنه؟
لقد درج شعراء العربية على المدح والرثاء والعتاب والهجاء. ولا مناص في مثل تلك السياقات من ذكر الممدوحِ والمرثيِّ والمعاتَبِ والمهجوِّ. ومن هنا قالوا في مفتتح قصائدهم _ كما أنبأت دواوينهم _ : وقال يمدح فلانًا، أو يرثي فلانًا، أو يعاتب فلانًا، أو يهجو فلانًا. وكلُّ (فلان) من هؤلاء مختلفٌ عن سواه من أمثاله. فهو إذًا كائنٌ حيٌّ ذو وجودٍ متعيّنٍ.
لكن
أنستطيع أن نعيّن مَنْ أمرهما امرؤ القيس في معلقته بالوقوف والبكاء معه، فقال:
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ بسقط اللوى الدَخول فحوملِ
وهو ما راق علماء العربية من حسن صياغة امرئ القيس حتى قالوا: لقد وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في شطرٍ واحدٍ.
وهل في مقدورنا أن نقع على هُوُيّة صاحبَيْ رحل مالك بن الريب اللذين خاطبهما قائلًا:
فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا برابيةٍ إنّي مقيمٌ لياليا
أقيما عليَّ اليومَ أو بعض ليلةٍ ولا تعجلاني قد تبيّن ما بيا
وقوما إذا ما استلّ روحي فهيئا لي السِّدرَ والأكفانَ ثم ابكيا ليا
وخُطّا بأطراف الأسنّة مضجعي ورُدّا على عيني فضل ردائيا
ولا تحسداني بارك الله فيكما من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
خذاني فجرّاني ببرديّ إليكما فقد كنتُ قبل اليوم صعبًا قياديا
ومَنِ الخليلان اللذان ناجاهما النابغة الجعديّ بقوله:
خليليَّ عوجا ساعةً وتهجّرا ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا
ولا تجزعا أنّ الحياةَ قصيرةٌ فخفّا لروعات الحوادث أو قرا
وإن جاء أمرٌ لا تطيقان دفعه فلا تجزعا ممّا قضى الله واصبرا؟
ومَنْ هما ذانك المجهولان اللذان يخاطبهما أبو العلاء المعريّ في نونيّته المشهورة:
علِّلاني فإنّ بيضَ الأماني فنيت، والظلام ليس بفاني؟
وهذا مطلع قصيدة هي من أبدع قصائده في ديوانه المسمى (سِقْط الزّند). وفيها يصف الليل ويجسد ظلامه في خيالٍ رشيقٍ خفيفٍ ماتعٍ بقوله:
رب ليلٍ كأنّه الصبحُ في الحســـــــــنِ وإن كان أسودَ الطيلسانِ
قد ركضنا فيه إلى اللهو لمّا وقف النجمُ وقفةَ الحيرانِ
فكأنّي ما قلتُ والبدرُ طفلٌ وشبابُ الظلماءِ في عنفوانِ
ليلتي هذه عروسٌ من الزنــــــــجِ عليها قلائدٌ من جمانِ.
وفيها بيته الذي يشكو فيه الزمان وصروفه، وعَدْوَه على أفراح قلبه وقلوب آخرين من امثاله:
كم أردنا ذاك الزمانَ بمدحٍ فَشُغِلْنا بذمِّ هذا الزمانِ.
وإني لأحسب أن الإجابة عن هذه الأسئلة وأمثالها ستثبت عجز من رام تعيين أولئك المخاطبين في مطالع قصائد هؤلاء الشعراء أو في طيَّاتها ودواخلها. وهذا يقوّي من افتراض أن (المخاطَب) في الشعر كائنٌ ورقيٌّ كما يقول البنيويّون عند حديثهم عن الشخصية في العمل السردي. أو كما نقول إن المتكلم في القصيدة ليس هو الذات الشاعرة ولكنه ذاتٌ أخرى زرعها الشاعر في النص لتتسرّب من خلالها قيم النص وأفكاره إلى المتلقّي حيث هو، وفي أي زمن كان. ولهذا اعتنى نقّاد الحداثة على اختلاف مناهجهم ورؤاهم النقدية بهذا المتلقّي فتحدثّوا عن متلقٍ ضمنيٍّ، وعن متلقٍ مثاليٍّ، وقالوا بمقولة “موت المؤلف”؛ لأنّ في موته حياةَ القارئ.
و(المخاطَب) في النصّ غير المتلقّي. وإن بينهما لفرقًا في الهُوُيّة والوجود والغاية من التوظيف الفني. وأنت تدرك ذلك من تأملك في قصائد شعراء الحداثة العرب. فقد شاع في حقبةٍ من حقب شعر الحداثة استمراء شعرائها افتتاح قصائدهم بمخاطبة (الأنثى) في سياق لا يخلو من لبس وغموض، كما في قول بدر شاكر السياب:
عيناكِ غابة نخيل سلعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناكِ حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء كالأقمار في نهر
فإلى مَنْ يحيل ضمير المخاطَبة؟ أ إلى إمرأةٍ، وما صفتها؟ أم إلى أرضٍ، وما تكون؟ كل ذلك يدخل مطلع القصيدة في دائرة اللبس والغموض، وفي هذا بعض شعريتها؛ لأنّ القول فيها لا يحيل إلى مرجع.
ومن ذلك الوادي قول البردوني:
حان لي أن أطيق عنكِ ابتعاد … والتهابي سيستحيل رمادا
وتجيئين تسألين كلهفى … عن غيابي وتدّعين السهادا
وتقولين أين أنت؟ اتنسى؟ … وتعيدين لي زمانًا مبادا
فهنا (المخاطَبة) مجهولةٌ لا ينبئ عن هُوُيتها النصّ، وكأنها كائنٌ من ورقٍ زرعه الشاعر في قصيدته لغايةٍ يقصدها.
وشبيهٌ بهذا الصنيع صنيع نزار في مفتتح ديوانه (قصائد)؛ إذ قال:
حبيبتي لديَّ شيءٌ كثير … أقوله لديَّ شيءٌ كثير
من اين يا غاليتي أبتدي … وكلُّ ما فيك أميرٌ أمير
يا أنت يا جاعلةً أحرفي … ممّا بها شرانقًا للحرير
وليس ببعيدٍ عنهم ما جاء في ديوان (عنواين لرحلة الغيوم) للشاعر المرحوم عوض ناصر الشقاع في قصيدته (التفاحة):
دعيني لشحذ المعاني دعيني … لهذا الغناء الذي يحتويني
لهذا الخروج الصريح الشجيِّ … لهذا الدخول البهيج الحزينِ
لهذي الشموس التي عن يساري … لهذي المرايا التي عن يميني
لهمٍّ يطاردني كل يوم … لهمٍّ أطارده كل حينِ
فهنا مخاطَبةٌ لا وجودَ متعيّنًا لها، وإنما وجدت في اللغة, صفةً, أو ضميرًا، وادّعى الشعر مخاطبتها مناجيًا لخلقِ نوعٍ من التفاعل بين الذوات وتكاملها على مستوى التجربة والوصف الشعري.
والمخاطَب هنا، ذكرًا كان أم أنثى، عَلَمًا أم صفةً أم ضميرًا يختلف عن المخاطَب المجازيّ في قول امرئ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله … علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه … وأردف أعجاز وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ … بصبحٍ، وما الإصباح منك بأمثل.
فهو مخاطَبٌ مدركٌ بالحواس وتحيط به الصفة. ومثله كثيرٌ في الشعر العربي قديمه وحديثه. وإن من شعراء العرب من يخاطب معلومًا له لكنه يدثّره بشيءٍ من الغموض، ويدرجه في ثوبٍ ملبسٍ فيعمّي هُوُيّته على القارئ، ويدخله في دائرة العموم وقد ثوى في الأصل في دائرة الخصوص. اسمع نزارًا يقول:
ثرثرتِ جدًّا فتركيني … شيءٌ يمزِّق لي جبيني
أنا في الجحيم وأنت … لا تدرين ماذا يعتريني
لم تفهمي معنى العذاب … بريشتي لن تفهميني
فهذا الخطاب متوجهٌ إلى إمرأةٍ بعينها يعرفها نزارٌ حقَّ المعرفة، وهي تدرك حقَّ الإدراك أنها المقصودة بهذا القول، لكنه لأمرٍ ما عمّى على القارئ، فلم يحددها باسم أو صفة أو ما يدنو من ذلك ويتصل به.
ومثله قول الشاعر حسين عمر شيخان في (المستقية):
عرّاك غيمٌ شفّ منه رداءُ … شهقت له سحب فساح فضاءُ
وتلملم الغيمُ المبعثرُ وارتمى … خلف الرداء يصول حيث يشاءُ
عبر المضيق وفيه لامس ما اشتهت … أرضٌ وما اجترأت عليه سماءُ
وقوله:
احراق جسمك واحتراق صباكِ … رسما على مرآكِ رمز وفاكِ
أذكيتِ من جزعي عليكِ صبابةً … فكأن في صدري جراحَ هواكِ
وأثرتِ من بين الضلوعِ كرامتي … وأهجتِ قلبًا كاد أن ينساكِ
ومثلهما (حتى أنت يا جالاتيا، والبرنسيسة، وما وراء البريق) ومطلعها:
اخنقيه أن شئتِ أو ربيه … فحديث الأيام فيكِ وفيه.
وكثيرةٌ هي النصوص التي تقاربت مع ما ذكرنا من نصوصٍ لشعراء مختلفين رؤيةً وأداءً، وكلّها تثبت أن (المخاطَب) في القصيدة ذكرًا كان أم أنثى قد يكون كائنًا من ورق يخلقه الشاعر بوساطة اللغة، وقد يكون متعينًا يجسده الشاعر باللغة دون أن يجهر بهُوُيته أو يحدد معالمه الفيزيائية ليُستدَلَّ عليه. ولعل شعرية القول تتجلى حين يعمِّي الشاعر وجه المقصود بالقول فيدخله دائرة العمى، ويوغل به في الغموض أكثر من تجليه في شعرٍ يصرّح فيه الشاعر بمقاصد قوله ومراميه. حينها تنحصر التجربة في ذاتٍ بعينها محدودة بصفة وتكوين فلا تنفسح الرؤية أمام المتلقي ليؤوّل النص كما تقوده ثقافته وشخصيته وتجاربه في تحليل النصوص. أتراهم لهذا فرّقوا بين نص اللذة ونص المتعة؟ ربما كانت الاجابة بالإيجاب عند مَنْ وعى ابعاد النظرية الحداثية في النقد أو ألقى إليها السمع وهو شهيد.
*
كل ذلك، وقد طال طوافنا فيه حتى رضينا من الغنيمة بالإياب، كان تمهيدًا لحديثنا عن (المخاطَب في شعر المحضار) لنتبيّن طرائقه في تشكيله وتوظيفه في قصائده، ورسم ملامحه بالكلمات.
(2)
يذهب علماء التواصل اللساني إلى أن لكلِّ عمليةِ اتصالٍ كلاميٍّ ستةَ عناصر أساسيّة هي: المرسِل المرسَل إليه الرسالة (السياق أو المرجع) و(السنن أو القوانين اللغوية التي يحتكم إليها الكلام)، والقناة التي من خلالها يصل الكلام من المرسل إلى المرسل إليه. وذكروا أن لكلِّ عنصرٍ من تلك العناصر وظيفةً، فوظيفةٌ هي التعبيرية ويختصُّ بها المرسل، وأخرى هي الإفهامية ويختصُّ بها المرسل إليه، وثالثة هي الشعرية ويختصُّ بها عنصر الرسالة، ورابعةٌ هي المرجعية ويختصُّ بها السياق، وخامسةٌ هي (ميتالسانية) وتختصُّ بها السنن، وسادسةٌ هي إقامة التواصل أو الانتباهية ويختصُّ بها عنصر القناة.
وللقناة أهميتها في عملية التواصل اللساني أيًّا كان شكله، أدبًا مكتوبًا أو كلامًا متداولًا أو ما شئت من ذلك التواصل. وعليه فليس بصحيحٍ ما ذهب إليه (رامان سلدن) حين قرّر حذف هذا العنصر من دائرة اهتمامه بهذه العناصر بحجّة أنه ليست له أهمية خاصة عند منظّري الأدب، وذلك في كتابه (النظرية الأدبية المعاصرة – ترجمة جابر عصفور). فإن تشكيل الكلام يخضع لطبيعة القناة التي يتواصل المرسل عبرها بالمرسل إليه، وتبلغه عن طريقها الرسالةُ التي يبتغي إيصالها إليه. وخذ على ذلك مثلا. هذا الاستاذ الجامعي يلجأ إلى المشافهة والمحاورة مع طلابه ومريديه، أو إلى المحاضرة أو إلى المقالة في الصحيفة أو المجلة العلمية أو إلى الكتاب المطبوع أو إلى الحديث الشفاهيّ في الإذاعة المسموعة أو المرئية أو إلى وسائط التواصل في الفضاء الإلكتروني. فكلّها قنواتٌ تحقّق له التواصل مع طلابه ومريديه وإيصال أفكاره ورؤاه وقيمه إلى من شاء حيث هم وفي أي زمانٍ هم. وقس عليه حال أمثاله من أصحاب الرؤى وذوي الفكرة والرأي.
هذه القنوات بتعددها الملحوظ تترك آثارًا على طرائق المرسل في استخدام اللغة من حيث الوضوح والغموض ودقة التعبير وحسن العرض واجتذاب انتباه المرسل إليه حتى يكتمل التواصل بين الطرفين على أصفى ما يكون التواصل.
ومن هنا يجيء التأكيد على أهمية القناة بوصفها عنصرًا من عناصر عملية التواصل اللساني في الحياة العامة وفي الابداع الثقافيّ والمعرفيّ الأدبيّ بكلّ صوره.
والشاعر الكبير حسين أبوبكر المحضار ممن ارتضى (الأغنية) قناةً يتواصل عبرها مع مستمعيه ومتذوقي فنّه شعرًا ولحنًا، ووسيلةً ينقل من خلالها رؤاه ومواقفه ووجهات نظره إلى كل من يتلقون إبداعه شعرًا ولحنًا، حيث هم وفي أي زمانٍ هم. ولقد أفضى ارتضاؤه هذه القناة وسيلةً للتواصل والاتصال إلى طبع شعره بخصائص (الشفاهية) دون (الكتابية). والشفاهية من مستلزمات الغناء ومتطلباته حتى يسهل أداء الشعر بمدِّ الصوت إلى أعلاه وضبط مخارج الحروف على أصولها. ولهذه الشفاهية في شعره صورٌ أيسرُها منالًا شيوعُ الأصوات الصائتة الطويلة في شعره لتتيسّر عملية الغناء بها. وبقليلٍ من العد الحسابي يتضح لنا مقدارُ ما يستخدم المحضار في شعره من حروف المد الطويلة (ألفًا) و(واوًا) و(ياءً) لغرض مثل الذي ذُكِرَ أعلاه. هذه واحدة وأخرى قريبةٌ منها تتعلّق باستلهامه صورًا من الثقافة الشفاهية المكرورة على أفواه الناس شعراء وغير شعراء دون اتكاءٍ على مرجعٍ مكتوبٍ. ومن أمثله ذلك:
با تسلب سلوبة بن غرامة … ضربها با يبلغنا مرامي
عادها لم تزل عيني طويلة… في يا ظبي ترعى شعب عيديد.
حسبنا يا جماعة صاحبي سوم واطي
يمر عندي وراسه في السماء ما يوطي
بغانا دوب دِنْ له راسي ووطيه.
فقال:
ما تنزل الزهرة … والجوهرة لي ببطن الحوت
وقس عليها أشباهًا لها ونظائر في شعره. وهي صورٌ تحوّلت من المرئي وغدت مسموعًا في القول، بسبب من هذه الشفاهية الطاغية على الثقافة والإبداع.
وثالثةٌ هي أمارةٌ من أمارات الشفاهية، وهي الإكثار من استخدام الصيغ المتكررة في شعره. وهاك نماذج منها: (ما افتهم لي) تكررت ثمانيَ مرات حسب رواية الديوان، وعشرًا حسب غناء بعض المغنيين. (ذلا ذلحين) تكررت عشر مرات. (ذلا كان أول) تكررت ست عشرة مرة. و (أنت ولا أنا) تكررت أربع مرات في النص. و(ما يحتاج) وقد تكررت تسع مرات في الأغنية بعدد أبياتها. وقوله (قدها مقالة) وتكررت أربع مرات متلوة بأمثالٍ متنوعة. وتكراراها في متن القصيدة غير تكرار (الشلة) فيها. فهذه الصيغ تتكرّر في مطالع الأبيات، أما (الشلة) فيختم بها البيت كاملًا. هذه الصيغ تختلف إيقاعًا يتكرر على نحو معلوم يتراسل مع منزع الشفاهية في شعر المحضار.
ورابعةٌ وبها أختم هذه الفقرة هي استخدام الأمثال المتداولة على شفاه العامة والخاصة وتوظيفها في شعره. وهي كثيرة، حسبي أن أذكر لك منها نُتَفًا: (القوت بالغصب ما هو قوت/ قلبت لي ظهر المجن/ ما تجي عينه الأصابع/ شرب النغص يتعب الإنسان/ الصبر من قوة الإيمان/ ما حد يتمي على ما كان/ ما تنقطع رحمة الرحمن)، ناهيك باستخدام التجنيس والترصيع، ورد الأعجاز على الصدور، وما أشبهها من عناصر إيقاعية تمثلها الدارسون في علم البديع العربي.
على أن هذا لا ينفي صورًا كتابيّةً لا يدركها العقل إلا حين يطالع القصيدة مكتوبة على صفحات ديوانه، ولعل أبرزها ظاهرتا (التشعيب والتشريع) كما في قصائده: دار الفلك دار، يا حامل الأثقال، قَلَّ فهم الناس، وغيرها أخريات.
(3)
لم يكن حضور ضمير المخاطَب – ذكرًا كان أم أنثى – في شعر المحضار بدعًا في الشعر لم يسبقه إليه من قبله أحدٌ حتّى يُفرد بحديثٍ عنه. فقد جرى استخدامه في أشعار شعراء نظموا بالفصيحة والعامية كثيرًا، وفي سياقاتٍ شتّى.
هذا امرؤ القيس يهتف بفاطمة في سياق العتاب واللوم قائلًا:
أفاطمَ مهلًا بعضَ هذا التدللِ وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
أغرّك مني أن حبك قاتلي وأنك مهما تأمري القلب يفعلِ
فإن تك قد ساءتك مني خليقةٌ فسُلّي ثيابي من ثيابك تنسلِ
وما ذرفت عيناكِ إلا لتضربي بسهميكِ في أعشار قلبٍ مقتّلِ.
وهذا عنترة بن شدّاد يخاطب ابنة عمّه في مظانّ متفرقة من معلقته، وفي سياقات متنوعة، منها سياق الاستنكار:
إن تغدفي دوني القناع فإنني طبّ بأخذ الفارس المستلئمِ
ومنها سياق الفخر والازدهاء:
أثني عليَّ بما علمتِ فإنني سمحٌ مخالطتي إذا لم أُظلَمِ.
ومنه قوله:
وإذا صحوتُ فما أقصّر عن ندًى وكما علمتِ شمائلي وتكرّمي
ومنه قوله:
هلا سألتِ الخيل يا ابنة مالكٍ إن كنت جاهلةً بما لم تعلمي
يخبرك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى وأعفّ عند المغنمِ.
وغير هذا وذاك جرى ضمير المخاطَب في كلمة عمرو بن كلثوم، وهي من القصائد ذات الشأن الرفيع السامي، وذلك في سياق الحثّ والتمني:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمر الأندرينا
مشعشعة كأن الحص فيها إذا ما الماء خالطها سخينا
وفي سياق الترجّي والاستعطاف:
قفي قبل التفرق يا ظعينا نخبرك اليقين وتخبرينا
إلى آخر ما هنالك من ذلك.
وحضور هذا الضمير في مقام الغزل والمدح والهجاء وما إلى ذلك كثير يعز حسابه عددًا. والملاحظ أن ضمير المخاطب في هذه النصوص وأشباهها يأتي متفرقًا. وعلى صورةٍ جزئية تنقصها البنية الواحدة المكتملة، ومن هنا تعددت الضمائر في بنية القصيدة بين خطابٍ وغيبةٍ وتكلّمٍ، وتنوّعت سياقاتها الدلاليّة وأنساقها اللغويّة في إنشاء الكلام. وهذا نسيجٌ شعريٌّ يغاير ما نجده في شعر المحضار، وسنراه.
ولعلّ حضور ضمير المخاطب في قصيدة حدّاد بن حسن الكاف، وعنوانها كما في ديوانه، (يا عظيم الرجاء) أدنى صلةً بصنيع المحضار في استخدام ضمير المخاطب في شعره على شيءٍ من الاختلاف. فقد شاع هذا الضمير في ذلك النص حتّى شمل كل أبيات القصيدة، وعددها ستة عشر بيتًا من نظام (المسمطة).
والقصيدة محكومة في بثها الشعري بأسلوب النداء، ولذلك تقسّمت أقسامًا ثلاثة:
قسم للمناجاة الربانية ومطلعها:
يا عظيم الرجا تخت بابك عبد يطلبك يا ذا الجود راجيك
ماد كفه ومسهن ثوابك ما لعبدك سوى فضلك وجودك ورجواك
وتتدفّق في أربعة أبيات كاملة على النسق ذاته.
وقسم يختص بنجوى الرسول عليه الصلاة والسلام، ويبدأ بقوله:
يا رسول الشفاعة لنا بك تِعْلِقَة ماكنة.. ولْنا أمل فيك
يا وسيلتي با نلتجي بك واسطة بيننا عظمى إلى الرب مولاك
وتستمر في أربعة أبيات متوالية.
ثم قسم ثالث وأخير، وهو الجزء الأكبر من القصيدة كونه يمثل جوهر التجربة، وعمق الموقف الشعوري فيها، وأول بيت فيها هو:
يا حسين النظر في طلابك لي ليالي ونا سهران وديك
مر شبابي وعدّى شبابي وانت ما طعت ترحم قلب له وقت يهواك.
والملاحظ أن هيمنة أسلوب النداء في القصيدة كان سببًا في شيوع ضمير المخاطب على حسب الأقسام الثلاثة التي سلف ذكرها. فلو أنَّ (حدادًا) افتتح القصيدة بأسلوبٍ خبريّ لتغيّر الضمير المهيمن في النصّ، واتخذ هيئةً لُغويّةً أخرى قد تكون محكومة بنظام التكلّم أو الغياب.
تلك واحدةٌ. والثانية أن المخاطَب في أبيات القصيدة هذه – وهو كذلك في نظائرها – هو غير المتلقي (قارئًا كان أم مستمعًا)، وإنّما المخاطب فيها هو (المنادى) المخصوص بالخطاب دون سواه. وفي هذا دحضٌ لما ذهب إليه بعض الدارسين من أن ضمير المخاطب في النص يحيل إلى (القارئ) في شكله المباشر. والأدقُّ صوابًا أن (المخاطب) هنا ذاتٌ محوريّة في التجربة التي يشكلها الشاعر من حيث هو ذاتٌ أخرى تقابل الذات المخاطبة. ففي قول حداد: (يا عظيم الرجا تحت بابك عبد يطلبك يا بلجود راجيك) تتمثّل علاقة الخطاب بين راجٍ ومرجوٍّ منه، بين آملٍ ومأمولٍ فيه، فيتجاوز حضور المخاطب حدّ التلقي إلى فاعليّة الحدث والمشاركة في إنشائه. ومثله مخاطبة حداد الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: (يا رسول الشفاعة لنا بك تِعْلِقة ماكنة ولْنا أمل فيك) فليس مضمون الجملة الاسمية هنا عام يتعلق بكل متلقٍ ولكنه مخصوص بالمنادى الذي افتتح به القسم الخاص بنجوى الرسول. وقل مثل ذلك في ندائه ( ياحسين النظر…) الذي خصّه بالغزل في القسم الثالث من أقسام قصيدته. فهو لم يقصد كلّ حسناء تتلقّى خطابه الغزليّ ولا كلّ قارئٍ يقع النص بين يديه، أو يُنشَد له فيسمعه، وإنّما خصّ به معشوقًا بعينه، ولهذا غدت لتفاصيل الغزل دلالةٌ على ذوبان القلب في وجده، واضطراب العاشق في حبّه الطاغي لذلك المعشوق.
على أن حضور المتلقّي قارئًا أو مستمعًا يجيء لاحقًا لاكتمال التجربة في النص وتمام تكوينها نصًّا يُقرأ أو أغنية ترددها الشفاه. وهنا يغدو المتلقي – قارئًا أو مستمعًا – شاهدًا على طبيعة العلاقة بين (الذات المتكلمة) و(الذات المخاطبة)، ويمتلك الحق في تأويل النص كما أسعفته ثقافته ومَلَكَتُه في التحليل والتعليل والتأويل.
وفي هذه النقطة يتماهى صنيع حداد مع ما سيصنعه المحضار من بعد مع فارق يتمثل في سعة التجربة المحضارية التي تجاوزت حدّ العشق فتنوّعت المواقف، وتعددت اتجاهاتها الأيديولوجية كما أوحت بها الحياة التي عاشها المحضار.
(4)
وهنا تكون المقدّمات على طولها قد قاربت بيننا وبين صورة المخاطب في شعر المحضار. وهي صورةٌ كثيرٌ عددُها إن حسبها حاسبٌ وعدها عادٌّ، ولكننا سنتلقط من ذلك نماذج شواهد، وللقارئ أن يقيس أشباهًا لها على ما جاء في تحليلها فيما يأتي. ولنبدأ بقصيدته:
أ/ (ما افتهم لي).
تنفتح القصيدة على عالم من الحيرة وعدم القدرة على الإدراك تدل عليه اللازمة المتكررة في مفتتح كل بيتٍ من أبياتها (ما افتهم لي)، وهي جملةٌ تقوم على النفي الذي تتولّد عنه جملٌ استفهامية تزيد من وقع الحيرة على النفس لعدم وقوعها على جواب شافٍ قاطعٍ مانعٍ. ومن تلك الجمل ما تصدرتها أداة استفهام كقوله:
ليش تقصد تعدي في الملاوي وهي قدامك الجادة؟
ليش تترك طريق الناس وتمر في عصرات متباعدة؟
ليش تنده كذا وانت عروقك قوى في المضلعة مادة؟
وكلّها تبحث عن العلّة في التزام المخاطَب ذلك السلوك على شذوذه ومخالفته للعرف القويم.
ومنها قوله:
أيش كلمتي عندك عادها مثل ما كانت زمن نافذة؟
وفيها دلالةٌ على خوفٍ باطنيٍّ في أعماق المتكلم ينبئ عن تحول المخاطب وتغير حاله مع المتكلم. وهي تزيد من دلالة الحيرة عمقًا وتوكيدًا.
على أنه يلجأ إلى الاستفهام في بعض أبيات القصيدة دون استخدام اداة من أدواته، وإنما يعتمد على التنغيم، وهو ظاهرةٌ صوتيةٌ تتجاوز حدَّ استواء الصوت في الجملة الخبرية الدالة على اليقين وثبوت المعرفة إلى مستوى صعود النغمة وعلوّها لتتلاءم مع سياقاتٍ ينتجها الاستفهام من حيث هو مكوّنٌ أسلوبيٌّ ينتقيه المتكلم ليشكل به عوالم شعره. ومن ذلك قوله:
ذي سياسة حكيمة منك ولا سخافة عقل ومعاندة؟
أي أهذه؟ وقام حرف العطف (الواو) مع أداة الاستثناء بدور (أم) في تعيين طبيعة الاستفهام. وقريب منه قوله:
أنت مثل البشر أم عاد شيء فيك طلعة عالبشر زايده؟
وهنا تخفى أداة الاستفهام لكنّ وهجها يتألق من خلال التنغيم الذي يؤكد وجود الاستفهام وينفي الخبرية عن الجملة. وهذا فعٌ في الكلام مقصودٌ، إذ ما تزال الحيرة سيدة الموقف وجوهر التجربة.
وجاءت حملة الاستفهام في اخر البيت الثالث للدلالة على الاستعظام، والتعجب من محتوى الجملة. (ليه يتصيدونك وأنت لي كنت في كل المغازي تصيد)؟.
هذه الحيرة من طبيعة السلوك الشاذ الذي انتهجه المخاطب – كما انبأت عنه القصيدة – قاد إلى استخدام (الكناية) للكشف عن حالٍ من الغضب وعدم الرضى كامنٍ في أعماق المتكلم، هدهده حتى لا يستحيل هجاءً مرًّا فاكتفى بالإشارة إليه من خلال الكناية. فقوله: (ليش تقصد تعدي في الملاوي وهي قدامك الجادة؟) كناية على التخبط وسوء تقدير المواقف. ﭽﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﭼ وقولُ المحضار منبثقٌ من تلك الآية. ومثلها قوله: (ليش تترك طريق الناس وتمر في عصرات متباعدة؟)، وهي كناية عن تكلف ما لا يجوز تكلفه من أمور الحياة لوعورته.
وتأتي الكناية متدثرة بالمفارقة في قوله: (ساس مبناك ماكن أو سواسك مالها قاعدة؟) فتمكين الاساس كنايةٌ على القوة والثبات على الأرض, يقابلها قوله:(ليش تنده كذا وأنت عروقك قوى في المضلعة مادة؟) فيستحيل الثبات اضطرابًا، وتتحول القوة ضعفًا وتخاذلًا. ومن هنا يأتي الاستفهام الدال على الاستعظام والتعجب من ذلك الحال. وهو يعتمد على التقابل الضدي (ليش يتصيدونك وأنت لي كنت في كل المغازي تصيد)، صار الصائدُ فريسةً، وخار الفارسُ المغوار، وذلك ليؤكد مدلول المفارقة في النص.
وعلى الرغم من شيوع جوّ الحيرة في القصيدة كما دلت عليه جملة النفي اللازمة (ما افتهم لي)، وجمل الاستفهام على تنوع اشكالها اللغوية، فإن الشاعر لا يفتأ يظهر شخصيته في صورة الحكيم الناصح الحريص على مودّة من يخاطبه حتى لا يزيد علاقته به خسرانًا مبينًا. قال:
ما تفيدك سخافتك أو عنادك … في الملاوي إذا خلصت زادك …
الملاوي تشل كل ما كسبته لها وتقول هل من مزيد.
لا تكيد الذي ما يوم كادك … رد نفسك وقصر في بعادك .
لأنته ناصح بود أظهر ودادك … واذكر القلب لي حبك ورادك …
واستمع لا تخلي كلمتي واقفه في الحنجرة والوريد.
وهذا وأمثاله ذو صلةٍ ببناء النصّ كاملًا؛ إذْ يختص (الدوران) الأول والثاني بجملٍ استفهامية بعد افتتاحها باللازمة ( ما افتهم لي). أما (الخانة) فتتشكل من شطرين متقابلين يتضمنان جملًا خبرية أبرزت صورة الحكيم المحب الناصح الواثق مما يصنع ويقول. ليختم البيت (بقفلٍ) يمتد في تفعيلاته على عدد تفعيلات الدورين الأول والثاني. وتتنوع الجمل فيه بين خبرية وشرطية واستفهامية، وكلها ينبئ عن تقابل في الرؤية والموقف بين المتكلم والمخاطب تتنوع صوره وطرائق تشكليه في النص.
هذا المخاطَب ليس هو المرسل إليه أو المتلقي للنص عامة ولكنه مخاطَبٌ مخصوصٌ يعرفه الشاعر ويحتفظ بسرِّه لنفسه، ويحدس باسمه من يشغفون بتعيين أسماء الأشخاص إذا عمّاها الشاعر ولم يحرص على إبانة غامضها، وقد يصدقون وقد لا يصدقون في ما حدسوا به. وأيًّا كان الحال فالمخاطَب يمثل موقفًا شعوريًّا استجاب له الشاعر على ذلك النحو من التشكيل اللغوي الذي يتجاوز الهجاء إلى حال من الحيرة، والإيماء بالعبارة عن سوء سلوكه لشذوذه.
ب/ (تغيّرت)
في قصيدة (تغيرت) لا يبدو المخاطَب جحيمًا يتأذّى منه المتكلم ولكنه نعيمٌ حُرِمَ منه، وقد تحولت به الاحوال عما كان معهودًا فيه. وهو ما تنبئ عنه الجملة الفعلية التي افتتحت بها القصيدة (تغيرت)، وصارت عنوانًا للنص تتدلى من اعلاه كالثرية في البهو الفسيح.
يتلاقى معها كل مشتقات التغير والتحول من زوال الحب، وانطفاء الغيرة، وخيانة العهد، ونقضه بالجفوة، واستبدال الوعد بالغدر، ومن هنا كان ولوج المتكلم الى دائرة الفخر أمرًا متسقًا (ونا من ناس لاقد عاهدوا ما يغدرون).
هذا التبدل في العلاقة بين النشأة والنمو والمآل أفضى إلى عدد من المفارقات الضدية بين السعادة والشقاء، بين الامانة والخيانة، بين حفظ سر الهوى وصيانته والتهاون في فعل ذلك
حفظت الهوى ما بيننا سر ولا جبت للعذال سيره
وخليت اصحابي تدور على قصتي في كل ديرة
ويا ليتك تفكر بما القى وتذكر
زمانك بايزيل الشك من والظنون
ولكن لات ساعة مندم. فزوال الشك يفضي إلى توكيد اليقين، وتوكيده دلالةٌ على صدق المتكلم في ما ادعى. وتداعي المخاطب واضطراب ثباته وتمكنه من العشق يملأُه ندمًا على ما فرط في جنب صاحبه فيندم ولات ساعة مندم.
ولقد غلب الإيقاع على القصيدة فخفت التصوير في أبياتها، وأحسب ذلك عائدًا إلى أن الرغبة في الإفضاء هيمنت على البث الشعري فلم تجد الذات المبدعة سبيلًا للروية في النظم وإعادة تشكيل عوالمها بلغة تشف شعرًا ويفعمنا عبيرها. فنجد إضافة إلى تشكيل الموشح في بناء القصيدة اللجوء إلى رد الأعجاز على صدورها والحرص على مزج ذلك التصدير بالتجنيس.
ولقد تقارب حضور ضميري المخاطب والمتكلم في القصيدة وذلك لاستهدافهما بالمقول الشعريّ الذي يقوم على الاستقطاب الضدي بينهما، وإن طغى ضميرٌ على ضميرٍ في هذا المقطع أو ذاك من مقاطع القصيدة وأبياتها كما نجد في البيت الثاني منها إذ تكرر ضمير المخاطب عشرين مرة عددًا، وكأن المتكلم مد سبابته في وجه المخاطب مندّدًا بصنيعه ومتهمًا إياه بالخيانة والغدر، وهنا يمتزج (المرجعي) (بالشعري) في القصيدة. وتكون للمرجعي وظيفة الاستثارة والتحفيز على النظم، وتكون للشعري وظيفة الولوج بالقصيدة الى دائرة الإيهام والتعمية وشفافية الغموض دون أن يمنع هذا من حصر المخاطب في كائنٍ متعيّنٍ منه انبثق الحديث وإليه سيق الكلام.
ت/ (مجروح)
وفي قصيدة (مجروح) تنفتح القصيدة على حالٍ من الشكوى المرة من الألم الممضّ الدفين في الأعماق، ينبئ عنه عنوان القصيدة كما تجلى أعلاه، وفي منطوق (الشلة) التي ستتكرر من بعد دبر كل مقطع من مقاطعها، (مجروح منك أنا مجروح)، وقد أفضى تكرار الدال فيها على مرارة الشكوى وعمق الألم. وجاء (الحاء) رويًّا ليفيد بعدًا صوتيًّا يعمق هذا التلظي بالألم الخانق الضاغط على حباله الصوتية. يتلو ذلك البيت الأول من أبيات الموشحة لتركيبه الشعريّ واللحنيّ في آن. وفيه تبدو ذات المتكلم غاضبةً محتدمةً منفجرةً يمثلها فعل الأمر (رح) الذي يتكرر في مفتتح ثلاثة اشطار فينبئ عن حال من النبذ والإقصاء لا ينفثأ به الغضب ولا تخفت به الشكوى. فالمخاطَب في حاضره سببٌ في جرحٍ جديدٍ ينزف دمه، وهو باعثٌ على نَكْءِ جرحٍ قديمٍ كاد يندمل (رح منت أول من تحدانا وراح).
والمخاطب هنا يتجلى بضميره المستتر بعد أفعال الأمر (رح/ اطلق/ قل لي)، وبضميره الظاهر المنفصل (أنت)، وبضميره الظاهر المتصل الكاف في (عشقتك/ هواك/ فيك/ مثلك/ لك/ يرضيك/ برايك). وبالنداء (يا هذا). وهو نداء يؤكد دلالة النبذ والاستهانة بالشأن ليطامن من أشجانه، واستخدام اسم الإشارة دون الاسم العَلَم أو الصفة الدالة على الرفعة والتعظيم يؤكد تلك الدلالة، ويدعم حضورها في النص.
ولقد تعاظم حضور المخاطب في البيت الأول من أبيات الموشحة، ثم أخذ يتقاصر حتى انمحى وجوده في آخر بيت من أبياتها، وذلك ينسجم مع حال النبذ التي أشير إليها سلفًا، يقابله هيمنة حضور ضمير المتكلم حتى لا يكاد يخلو منه بيت من أبياتها. وفي هذا ما يدلك على أثر التشكيل اللغوي في إنتاج الدلالة في النص.
ومن هذا يتبين لنا أن النص رسالة موجهة من الذات المتكلمة الى المخاطب حيث هو. وإن تكن الذات الشاعرة قد أغمضت صورته فلم تعينه لقارئ النص وتحدد هُوُيته فلكي يكتسب النص شيئًا من شعريته بوساطة ذلك الغموض الشفاف.
(5)
تلك نماذج من صورة (المخاطب) في شعر المحضار، وهي تنبئ عن خصومةٍ بين المتكلم والمخاطب تمثل جوهر الموقف الشعري الذي يكتنف القصيدة على تنوعه، ومن هنا غلبت دوال اللوم والعتاب والغضب والحيرة وما الى ذلك على لغة النص في تلك النماذج ونظائرها في شعر المحضار.
بيد أن ذلك ليس كلَّ شيءٍ فلقد ظهرت قصائد أخرى، كشفت عن علاقة مودة ومحبة وائتلاف وانسجام بين المخاطب والمتكلم كما نجد في قصيدة
ث/ (مشكلة).
وهي تفتتح بـ (شلة) تتضمن حكمةً، هي خلاصة خبرة الشاعر بالحياة واحتكاكه بناسها، وعراكه الدائم معهم (مشكلة في الناس إن راضيتهم عادوك وإن عاديتهم طلبوا رضاك). وهذا موقفٌ فكريٌّ لا يصل إليه المرء إلا بعد سنين متطاولة، يكابد فيها صنوفًا من الألم والحيرة والتقلب في الأحوال والمواقف، ولكنه هنا يجمل تلك الخبرة في جملةٍ خبريةٍ قائمةٍ على التقابل الضدِّي بين الرضا والعداء في مكوّن بلاغيّ يعرف بـ(الانعكاس)، وهو شائعٌ في شعر المحضار، ومنه قوله: (زمانك زمانك يعرفك بالناس وبالناس تعرف زمانك). ثم تنفتح القصيدة على الآخر المخاطب الذي يبدو غرًّا، فيهدهد النص من قلقه، ويقف معه موقف الناصح المعلّم، فنجد (النهي) الذي يوجه المخاطب لما ينبغي أن يسلكه وكيف:
لا تواجهم بشيء عنك يقولونه
لا تعاملهم بشدة دوب وليونه
كون بين البين
خذ حصتك من هذا وذاك
والنص يجلو ذلك الموقف في لغةٍ غزليّةٍ تسهم في التعمية على المخاطب، وتلج به إلى دائرة الغموض. وهذه براعة في الأداء عرفها شعر الغناء في حضرموت، أعني نقل لغة اتجاه من اتجاهات الشعر لتحلّ محلَّ لغةٍ اخرى هي لغة المقام، كأن تنقل لغة السياسة إلى لغة الحب، ويجري الحديث عن السياسة بلغة تتكلم عن الحب وقضاياه كما قال المحضار: (الحب مثل البحر)، فإذا استبدلت بالحبّ لفظة (الحكم) مثلًا اتسق لك المعنى وصحت الرؤية، ومثله قوله: (الهوى حاكم مسلط عانفس غصب وقلوب)، وما قرب من أشباه هذه وتلك في شعره. ومنها صنيعه هنا إذ أجرى الحديث عن صاحبٍ ينصحه مجرى الحديث عن معشوق يهواه:
شفت فيك السحر لي هم ما يشوفونه
واللطافه واللدن والحب وفنونه
والجمال الزين
ما هو منّهم الله عطاك
والحق أن المحضار مسبوقٌ بصنيع الشاعر محمد عبد الله باحسن الذي أخرج لغة التصوف من سياقها الديني إلى سياقٍ غزليٍّ ملحوظٍ في عددٍ من قصائده. وقد لحظ المحضار تلك الصنعة في شعر الباحسن فراقته، فاقتنصها وأحكم أداءها فتعددت صورها في شعره.
ج/ (ريم اليمن)
ومن ذلك الوادي جاءت قصيدة (ريم اليمن) وهي تشتمل على علاقةٍ حميمةٍ بين ذاتين مخاطب ومتكلم، لكنها تبدأ بدايةً سرديةً يكون فيها تقرير حال يرفضه المتكلم، فتتاح له الفرصة سانحة ليحيل الغائب إلى مخاطبٍ يبثه شجنه وما ائتلق في اعماقه من حبٍّ وهوًى:
قال لي صاحبي با نفترق … قلت له كيف انا بافارقك
كل شيء يقتبل الا الفراق
ومع انه يتحدث عن (صاحبٍ) فإنه يتجاوز حدَّ الصحبة الى مشارف حدِّ العشق (كيف يقدر يفارق من عشق) الذي يولّد في الأعماق حسًّا بالمخلوق فتدرك عينٌ جماله وتعيه أُذُنٌ واعية
لي يشابهك عاده ما خلق في المخاليق عزك خالقك
صدق ما هو دعاوي واختلاق
وفي هذا وذاك ما ينبئ عن ولع المتكلم بالمخاطب وتمكّن تعلّقه به: (يومنا فيك متولع علق عادنا ما قطعت علايقك). وهنا تتخذ المخاطبة روح المناجاة وهسهستها اللغوية (يارفيق المروة بي رفق…)، وتتداخل تراكيب بين استفهامٍ وأمرٍ ونداءٍ، وخبرٍ يؤكد ما يقرره المتكلم في وصف المخاطب المعشوق. ناهيك بصور شتى من الإيقاع البديعي كالإعنات – وهو لزوم ما لا يلزم -، والتصدير والتجنيس الاشتقاقي في البيت الواحد.
ح/ (أنت وبس زين)
وفيها تتكشّف علاقةُ امتزاجٍ وجدانيٍّ بين الذاتين المتكلم والمخاطب يصل إلى حد الاتحاد بين الذوات كما يقول بعض المتصوفة. فمن مطلع القصيدة يهتف المتكلم: (سروري من سرورك)، وهنا يمنح حرف الجر (من) دلالتين كلتاهما مقبولتان، أما الأولى – وهي أول ما يقع عليه الذهن – فإنها (بعضية)، ويكون المقصد أن سرور المتكلم بعض من سرور المخاطب, وهذا ما يرشّح معنى الامتزاج بين الذوات. وأما الدلالة الثانية فـ (مِنْ) دالةٌ على ابتداء الغاية ويكون المقصد أنّ سرور الذات المتكلمة يبدأ من حيث ابتدأ سرور المخاطب، وفي هذا توكيد لدلالة الامتزاج الذي أشير إليها سلفًا. والامتزاج بين الذاتين حال يفضي الى الاستغراق في الذكر (وذكرك في حضورك وفي غيابك)، ويزيد من حدة الانفعال بالآخر (ويعجبني غرورك بنفسك وإعجابك)، ويجيء المنادى – ياحبيبي – في موضع الاعتراض بين المتبوعين بالعطف ليمنح دلالة الاستلطاف المتلائمة مع وهج الحب المنبعث من اعماق الذات المتكلمة. ثم يكون للاستفهام وظيفته في النص، وقد جاء بدءًا في (الشلة): (إذا فارقتني .. وين بلقى عينتك وين؟) وفيه شيءٌ من الاستبعاد واستنكار حدوث فعل الفراق. ثم يظهر الاستفهام في متن النص بقوله: (متى تشرق بنورك على قلبي؟ وتفتح لي ابوابك؟ تزرني أو ازورك؟ واتمتع بقربك؟ وأحظى بك؟). وهنا يولد اسم الاستفهام (متى) سلسلةً من الاستفهامات عن الموعد الذي ستحقق فيه الذات المتكلمة ما تشتهيه وتحلم به دون تكرار اسم الاستفهام، ولكنه يكتفي بتنغيم المتلقي للجمل التالية بما يخرجها من دائرة الخبرية ليلج بها إلى دائرة الإنشائية، وليفيد من الدلالة التي تمنحها (متى) لمنطوق القول وهي اللهفة والحنين إلى الوصول للمشتهى. ويتكرر الاستفهام في البيت الثالث لتجهر الذات المتكلمة بما تروم دون مواربة أو خفاء (متى بقطف زهورك؟). وعلى الرغم من تألق صور الجمال المتلائمة مع حال من النَّعْمَةِ التي فَكِهَ فيها المخاطب، فالذات المتكلمة تلجأ إلى بنية الدعاء ليطول أمد النَّعمة على المخاطب (سقى الماطر دبورك: وأحيا الغيث واديك وشعابك…) ولقد تجلى التشكيل الاستعاري في النص لانسجامه مع حال الامتزاج الوجدانيّ بين الذاتين.
(6)
مما سلف يتبين لنا أن المخاطب في الشعر حال من الاستخدام اللغوي له صورٌ متنوعة، ففي الشعر القديم حين يلتزم الشاعر بموضوعاتٍ تقليديةٍ جرت بها الأعراف الموروثة من العصر الجاهلي كالمدح والرثاء وما إليهما يكون المخاطب كائنًا حيًّا ذا وجود متعين. ولكنه يتجاوز ذلك في بعض المظان فيغدو كائنًا ورقيًّا ينبثق من النص وينحصر فيه كما رأينا عند امرئ القيس ومالك بن الريب والنابغة الجعدي ونظائرهم من شعراء العربية في القديم والحديث. أما في شعر المحضار فالغالب عليه أن يكون كائنًا متعينًا ذا هوية وجودية مخصوصة، ولقد يكاد يقع عليه المتلقون لولا أن الشاعر قد ألبس الضمير ثوبًا شفّافًا من اللبس والغموض ليدخل المتلقي في حيرة إن رام التعيين، وليصل قوله بالشعرية المبتغاة إن رام السموَّ بالنص إلى مراقي الإبداع العالية. وإن نماذجه في شعره كثيرة جدًا ومتنوعة سبكًا وحبكًا ولكننا اكتفينا باليسير ليدل على الكثير من أمثاله.
وإن ضمير المخاطب يجري في شعر المحضار على هيئة (التجريد) كما في قصيدته (يا سهران) :
يا سهران ما بك كفاك …
بعد الود خلك جفاك …
وتناسى ليالي صفاك …
وأيام الوفاء والحنان …
وله نظائره في نصوصٍ أخرى غير هذا النص. لكن حديث التجريد هذا يتطلب مقامًا آخر لا يتسع له هذا المقام.
المكلا في:2020 – 2021م