د. زهير برك الهويمل
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 21 .. ص 77
رابط العدد 21 : اضغط هنا
مهـــــاد:
حين تقرأ ديوان (رواء) للأستاذ علي أحمد بارجاء، ترتوي بشعرية حداثية، في مضامين دلالاته، وسياقات تشكيلها، تكشف عن مسارٍ موازٍ للوجه العام المتبدّي، للأدب والنقد الذي اشتغل عليه الرجل وأنجزه.
فكان الوجه الظاهر الجليُّ ـ للعوام والخواص ـ يقدّم موسوعة تراثية أدبية وفنية, تشكّلت في مدلولات أدب (علي بارجاء), فبدا رافدًا مهمًا, من روافد الأدب الحضرمي في موروثه الأصيل, ونمطه الشعبي العامي, الذي حرص حرصًا شديدًا, على إحيائه, وتخليده, في كتاباته المتنوعة نثرًا وشعرًا.
لكنّ ديوان (رواء) يكشف عن وجهٍ موازٍ لهذا الوجه العام, الذي جسّد أدبية الأستاذ علي بارجاء, فيقرأ قارئ (رواء) ما يروي شغفه من الحداثة الشعرية, وهي تتنمّط في أساليب نصوصه الشعرية, وفي عمق تصويراتها, ونسق التفعيلة الذي اقتفاه الشاعر نهجًا للديوان.
وهي تجربة لا يخوض غمارها إلا من تشبّع بقراءة نسقها الشعري, وامتلك ملكة, وخيالًا خصبًا ثريًّا, وقدرة فائقة في فن صياغة الشعر, وتكثيف خُطاه, في نسق التفعيلة وهي تتجه دلالة رأسية معجمية, وأفقية نظمية.
هكذا يتجلى جانب بارجاء الأدبي الحداثي, على الرغم من المُجتَلى المتراءى عنه, والذي يعرفه به الخاص والعام, كونه موسوعة أدبية شعبية, إذ كان شغوفًا بالدراسة والرصد والجمع والتحليل لكلِّ أدبٍ عاميٍّ, شعبيٍّ، من التراث والموروث الأدبي الحضرمي العامي, حتى في مناكبه المهجرية البعيدة, فبدا وكأنه شيخٌ من الجيل القديم يمشي على رجلي شاب يافع, في نشاطه, وقدرته الفائقة على التناغم مع رائحة زمن جيل سابق له تراثيًّا وأدبيًّا؛ لذا كان متحفًا يمشي, في مقولِهِ ومكتوب، ولا نبالغ إن قلنا حتى في مزاجه وبساطته, فهو من جيل الطيبين الأقدمين. لذا كان ثقيلًا في طرحه, غزيرًا في عطائه, غنيًّا في مادته, جريئًا, غيورًا على كل ما هو مندرج تحت مسمى تراث أو أدب حضرمي, عاميًا كان أو فصيحًا.
وإن كنت أظن إلى حد اليقين, أنه خَطا تجربة شعر التفعيلة الحداثي, في تحدٍّ مع ذاته أولًا, ومع هذا اللون من الأدب ثانيًا, مبرهنًا بأنه خليقٌ بالسير في مضاميره متى ما أراد, وأن في مقدوره مجاراة حداثته متى ما شاء, أو ربما كان ذلك إعجابًا ببعض آليات الشعر الحديث, التي تتيح للشاعر فسحة أوسع, في التعبير من حيث تفلته على الوزن العروضي, وارتكانه على غزارة الرمزيات, وكثافة المفارقات المشكلة لشعريته لا تصرّح بل تلمّح, ولا تقول بل تشير, ولا تفصح بل تحيل.
فأسعفته ثقافته الواسعة, واطّلاعه على الأدب الحديث, ومناهج دراسته, كسِواه من أبناء جيله, على كتابة هذا النمط الحداثي من الشعر, وإجادة بنائه, لكنه وهو ينحو هذا المنحى لم ينس إنه ليس ابنًا من أبناء هذا الزمن, وأنه غير ذي شغفٍ كبير باقتفاء هذا اللون, ليس عجزًا عن مجاراته؛ بل لأنّ شغفه الأدبي, وهواه الثقافي التراثي يرسم له زمنًا, أسبق مما عليه، بدا في (رواء), فكتب من عمق الحداثة, ما يرسم مفارقته لهذا الزمن, نصًّا سيكون مرتكز دراستنا وأنموذجها, وهو نص “زمني .. لستَ أنت” (1).
مع النص:
المفارقة أداة للافتراق بين الذات الشاعرة وزمنها:
«المفارقة ((Irony: صيغة من التعبير, تفترض من المخاطب ازدواجية الاستماع double audience بمعنى أن المخاطب يدرك في التعبير المنطوق معنى عرفيًا يكمن فيه من ناحية, ومن ناحية أخرى فإنه يدرك أن هذا المنطوق utterance ـ في هذا السياق بالذات ـ لا يصلح معه أن يؤخذ على قيمته السطحية»(2). ويعني ذلك أن هذا المنطوق, يرمي إلى معنى آخر, يحدده الموقف التبليغي, وهو معنى مناقض عادة لهذا المعنى العرفي الحرفي.
بناء على ما تقدم تبدو المفارقة نوعًا من التضاد, بين المعنى المباشر للمنطوق, والمعنى غير المباشر(3).
ثمة افتراق بين الذات الشاعرة والزمن بمرموزاته المتعدّدة ـ في نصِّنا المدروس ـ يقوم ذلك الافتراق على المفارقة, كآلية حداثية اتكأ عليها الشعر الحديث كثيرًا, وهي تتجلّى في عنوان النص المدروس ذاته: (زمني .. لستَ أنت).
تبدو المفارقة في تركيب العنوان, الذي تخاطب فيه الذات الشاعرة زمنها مضيفة إياه إليها, لغويًّا في تركيب التضايف, وتجحده ناكرة إياه في الوقت ذاته؛ بأسلوب النفي: لستَ أنت. ولم يكن عنوان النص بدعًا من المفارقات, التي ازدحم بها الديوان بشكل عام, وهذا النص المدروس بشكل خاص.
ففي النص تقرأ: (زمني .. لستَ أنت), و(الشتاء يجيء على غير موعده), و(طيور الربيع خاصمتها الغصون), و(الرحيل إلى الشمس ليلٌ), و(المياه صحاري).
فتسكن الذات الشاعرة, حين يتحرك الزمن في افتراقٍ عنه, بل ربما تحركت بوجهة مقابلة, فيمتد مساراهما إلى وجهتين متقابلتين؛ لأنه ليس زمنها كما تدّعي:
زمني .. لستَ أنتَ
زمني كان لحنا تردده الأوردة(4).
أي يردده نبض القلوب, فهو زمن ماضٍ, وليس حاضرًا, كما يُجلي ذلك الفعل الماضي(كانَ).
زمني اليوم منحدِر
زمني يتصحّر
فالذي يتحرك نحو المستقبل هو الانحدار, والتصحُّر, باسم الفاعل والفعل المضارع, المتحركين نحو المستقبل. أما الذات الشاعرة فهي ساكنة, في ذلك التحرّك متأخرة عنه, لا توازيه حركة ومسيرًا, بل تفترق عنه نحو الثبات في الزمن الماضي, تراقب الراحلين المتحركين على قطار ذلك الزمن المتحرك نحو التصحّر, ونحو الانحدار, وليس نحو التطور والازدهار؛ الذي هو زمن الذات الشاعرة المرجو والمأمول. بل لم نكن مخطئين إذا ما قلنا إن الذات الشاعرة لم تبق ساكنة؛ حين تحرك الزمن مفتشًا عن المستقبل, بل تحركت بوجهة مغايرة نحو الماضي العتيق البعيد:
إذا افترضنا أن قطار الزمن المُفترَق عنه ذو وجهة نحو الشمال.
فإن الذات الشاعرة تجاوزت سكونها ماضيةً نحو وجهة مقابلة, مفتشةً عن زمن لا يتصحر, ولا يخدع راكبي متنه, بتعبير الشعر:
والراحلون على متنه متعبون ← بحث (نحو الشمال).
زمني كان لحنًا تردده الأوردة. → بحث (نحو اليمين).
تنازَعَ الذاتَ الشاعرةَ زمَنان ماضٍ عتيق يراه جميلًا, وحلمًا منشودًا وازدهارًا, ومستقبلٌ بئيس يراه مصدر كل شقاء؛ فكثرت أفعال الزمن الماضي, وهي الوجهة التي انتصرت لها الذات الشاعرة في تلك المنازعة, وذلك الافتراق؛ على النحو الآتي:
الأفعال الماضية في النّص:
أثقلتْه/ كان لحنًا/ أصاب/ أحرقتْه المطر/هيَّأت/ خاصمتْها الغصون/ أفقدهم ظلهم/ ضاعت البوصلة/ الخواء تشرّد/ شربته العيون/ أعشب في اللفتات/ رسم/ اندسّ/ أذاب/ ألهبكم/ كثفتكم/ هبّ/ تدحرج/ ضجّ/ حولتنا/ امتزجت/ أسمعتْنا/ أعلنت/ مهدتْها/ سار/ مدّ/ كان/ كان/ ضاق: 29فعلًأ.
الأفعال المضارعة في النص:
تردده/ يمتطيه/ يتصحّر/ يجيء/ تدافعه/ يهمس/ يسقيهم/ تأكل/ تميت/ تلبد/ تجيئون/ أخاف/ لا تنشروا/ تستنجدون/ يخرج/ نرتضيه/ تنوح/ يمتدّ/ يُشرق/ يمتد/ أنقصه/ ترجعه/ تعود/ تنتظر: 24 فعلًا.
هكذا كانت الحركة المفترقة والمتقابلة في النص, تفتش عن الزمن بين وجهتي الذات الشاعرة, وقطار الزمن الحاضر, حتى وصل السياق الشعري إلى مرحلة الزمن المنكّر, العاري عن الإضافة حين افترقت عنه ذات الشعر, قائلًا:
يا زمنًا (5).
تستمر رحلة قطار الزمن المنحدر المتصحِّر, المسافر الذي امتطاه المخدوعون بوهج شمسه, وسرابه الكاذب:
يمتطيه الذين أصاب عيونهم وهج الشمس. (6).
وبشيء من التعمق في قراءة تراكيب تلك المفارقات في النص على النحو الآتي:
نجد كل سياق منها يمضي في وجهةِ مفارقةِ العنوان, من حيث تشكلها من طرفين مفترقين, فمثلما لا يخرج من الزمن الحاضر زمنٌ للذات الشاعرة المتكلمة في تركيب: (زمني .. لستَ أنتَ), يمكن تتبع ذلك على النحو الآتي:
(زمن حاضر) مفقود = (مطر) ↔ حارق.
(زمن حاضر) مفقود = (ربيع) ↔ شتاء.
(زمن حاضر) مفقود = (طيور) ↔ بلا غصون.
(زمن حاضر) مفقود = (الشمس) ↔ ليل.
(زمن حاضر) مفقود = (المياه) ↔ صحارٍ.
وإذا أخذنا ما بين القوسين من نتائج تلك المفارقات بشكل رأسي على النحو الآتي:
مطر + ربيع + طيور + الشمس + المياه = زمن الذات الشاعرة الماضي.
بينما إذا أخذنا ما افترق عنها أيضًا بالمنحى ذاته, على النحو الآتي:
حارق + شتاء + لا غصون + ليل + صحار = زمن الراكدين.
حال الراحلين مع قطار الزمن المتصحِّر:
اتسمت رحلة أولئك الراحلين بالركود, وإن تحرّكوا وارتحلوا؛ لأنّ سفر زمنهم لم يمض إلى وجهة وغاية مدروسة, فكانت النتيجة أكبر من أن تكون سلبية حسب, بل كانت رحلة موصلة إلى الهلاك لركاب قطار ذلك الزمن, فإن تُوُهِّم أنهم راحلون فهم ـ بتوصيف النص ـ راكدون.
كما يقول النص:
أيها الراحلون
الرحيل إلى الشمس ليلٌ
والطريق صعودٌ ومنزلقٌ وانحدار(7).
ينكشف قناع تلك الشمس الخداعة, فتبدو حقيقة وجهها وتستحيل ليلًا, ويتبدّى طريق السفر المغري ـ الذي بدا كونه صعودًا ـ منزلقًا ومنحدرًا. فلم يعد الوصف السابق للراحلين ـ بعد تكشف الأقنعة ـ وصفًا حقيقيًّا هو الآخر لذا توجب تسميتهم بمسماهم الحقيقي: (الراكدون). إذ ناداهم بهذا الوصف خمس مرات في النص, مؤكدًا ركودهم وعدم انطلاق رحلتهم نحو المستقبل المبتغى: (يهمس الراكدون:34/ أيها الراكدون:34/ أيها الراكدون: 35/ أيها الراكدون:35/ أيها الراكدون: 36) كما ينص على ذلك الشعر قائلًا:
يهمس الراكدون لمن جاء بعد ابتداء السفر.
ظمئ الراحلون على متن أحزانهم
الشروق الذي كان يسقيهم الدفء
أفقدهم ظلهم (8).
أصبح الراكدون ذوي دراية وخبرة, بسفر ذلك الزمن المتحرّك إلى الانحدار والتصحر, الأمر الذي خوّلهم أن يتبوّأوا منبر إسداء النصائح والعبر, كما هو جليٌّ مما تقدم, مخبرين بأن حقيقة الراحلين ظمأى, فوصفهم السياق بـ(الراحلين), باعتبار ظنهم الذي ظنوه وقت الرحيل, فلم يجنوا من سفرهم شيئًا؛ حتى الظل الذي كانت شمس الشروق تهبهم إيّاه قد سُلب منهم.
ثم تنادي أنا الشعر الراكدين بتوصيفهم الحقيقي المتكشف, قائلة:
أيها الراكدون
الخواء تشرّد فوق موائدكم
أيها الراكدون
الشراهة تأكل أوقاتكم وتميت الفرح
أيها الراكدون
أفلستم موائدكم (9).
ملاحظ أنّ الصوت الغالب على الإخبار بعد النداءات السابقة للراكدين, صوتٌ طغى على حقيقته التلاشي والفناء, فالموائد خاوية في النداء الأول, والأوقات تميت الفرح في النداء الثاني, والإفلاس كان مهيمنًا٠ على موائد الراكدين في النداء الثالث. وحينما نقف على صورة: (الشراهة تأكل أوقاتكم), نلحظ أنّ الراحلين ضحية لأطماعهم, وشرههم. هذه الأطماع هي من توقع أولئك الراكدين فريسة للتبعية العمياء, والتي رمز لها بـ(غزية), في قوله:
وأخاف انتسابكم في غزية (10).
أو قد توقعهم أطماعهم في المشاركة في أتون الفتنة الداخلية؛ لتحقيق تلك الأطماع الشرهة, كما رمز لتلك الفتنة بـ (البسوس), حين قال:
أو في فروع البسوس (11).
ثم تمتد مسافة افتراق الذات الشاعرة عن (الراحلين/ الراكدين) وزمنهم, فكانت الصيغة الحاضرة لندائهم: هي (الراحلون)؛ لأنّ الذات الشاعرة قد غاصت عميقًا بعيدًا نحو عمق التاريخ الماضي, في وجهتها المقابلة, بل هي التي صارت تمارس حدث الرحيل إلى الماضي تاركة المخاطَبين بوصف (الراحلين), في ابتعاد نقطتي الرحيل نحو نقطتين متغايرتين؛ الأمر الذي يزيد من اتساع مسافة الافتراق, فلم يكن زمن الراحلين زمن الذات الشاعرة, بل على النقيض من ذلك تمامًا, فزمنها هو زمن الأجداد, في الماضي العتيق الجميل النقي, كما يصرّح النص قائلًا:
في زماني روائح جدي تطارد رائحتي (12). → بحث (نحو اليمين).
يتجلّى مسار الزمن في هذا التعبير: روائح جدي تطارد رائحتي, تتجه رائحة الذات الشاعرة نحو الجدود, إذ تغلبت تلك الروائح المعتقة في جرها على منازعة الحاضر لها, فزمن الجدود هو زمن الأحاجي, والأساطير الشعبية الجميلة, زمن اللا ماديات, اللا إلكترونيات, زمن الإنسان الذي تشكلت منه تلك الذات الشاعرة. أما زمن قطار (الراحلين/ الراكدين) الذي لم تستقله الذات الشاعرة, لا يصل إلى غاية مثمرة, ولم تكن طريقه سوية؛ لذا فهو زمن وإن جرى لا يجري نحو هدف سامٍ, بل يعود كما ينص النص:
ترجعه لزمان الوعورة والسنوات العجاف (13).
فالمضي في قطار زمن الراكدين الذين يظنون أنهم راحلون, ليست حركته سوى رجعية وتخلف, كما تفيد جملة (ترجعه), وكما هي الحصيلة: وعورة + سنوات عجاف, أي: وضع سيء منحدر, ومتصحّر بتعبير شعرية الديوان. على العكس من مسار الذات الشعرية نحو الماضي العتيق, فإنها وجهة ازدهار ورقي في المستوى الاجتماعي والمعيشي, لذا استجدى الشعر حضوره, في الديوان:
يمكن إيضاح تقابل وجهتي الافتراق بين الذات الشاعرة, وزمنها الحاضر الذي ركب قطاره الراكدون, حسب. بالجدول الآتي:
الرقم | الزمن الماضي العتيق (الاخضرار). | → | الذات الشاعرة | ← | زمن الرحيل نحو المستقبل الوهمي (الركود). |
1 | زمنـــــــــــي | → | الذات الشاعرة | ← | لســـتَ أنتَ |
2 | كان لحنًا تردده الأوردة | → | الذات الشاعرة | ← | الراحلون على متنه متعبون |
3 | زمنـــــــــي | → | الذات الشاعرة | ← | اليوم منحدِر |
4 | روائح جدي تطارد رائحتي | → | الذات الشاعرة | ← | يمتطيه الذين أصاب عيونهم وهج الشمس |
5 | زمن الأحاجي | → | الذات الشاعرة | ← | ظمأ الراحلون على متن أحزانهم |
6 | زمني هل تعود كما شاء طفلي؟ | → | الذات الشاعرة | ← | الأعاصير تنقصه رملة رملة |
7 | مورقًا بهيًّا | → | الذات الشاعرة | ← | زمان الوعورة والسنوات العجاف |
زمني هل تعود كما شاء طفلي؟
مورقًا وبهيًّا؟
العصافير عند مداخل فجرك
تنتظر الأغنيات (14).
نلحظ الاستفهام: هل تعود؟ ولم يقل ترجع, لدلالة الرجعية, في لفظة الرجوع التي ذكرناها, فالعودة وجهة انطلاق وإيراقٍ وبهاء, في شعرية النص, وليست عودة تخلف حيث يؤكد سياق الشعر هذا التأويل في حواره الاستفهامي هنا, فيرسم الإيراق والبهاء قوله: (مورقًا + بهيًّا) وانتظار العصافير على فجره إيذانًا بدخول فجر الزمن الأخضر, المنشود خلال النص؛ لأنّ النص منذ بداياته كان قد وضع تعريف الزمن الحقيقي, الذي تفتش عنه الذات الشاعرة والذي ستقول له: (زمني .. أنتَ هو), هو الزمن الاخضر, كما يقول النص:
والزمن الاخضرار (15).
إذن هو زمن الطفولة, زمن الجدود, الذي جاء وصفه: (مورقًا + بهيًّا), وهي الدلالة ذاتها لـ(زمن الاخضرار). فينفتح الاخضرار والإيراق والبهاء, على المجتمع السعيد الرغيد, والتطور الحياتي الذي يخلق الربيع بهجة اسمًا ومسمًّى, فلا تحمل لغتنا ربيعًا دالًّا يدل على الخريف.
والجدير بالذكر هنا إن مادة (ز م ن) اللغوية, قد وردت في ديوان (رواء) الصغير كاملًا, ثلاثة وعشرين مرة (23), أضيفت إلى أنا الشعر ثماني مرات, كلها في نصنا المدروس, بينما حضرت مادة (خ ض ر), في الديوان كاملًا خمس مرات حسب, على النحو الآتي:
ـ ليخضر غصن: 17.
ـ والاخضرار: 19.
ـ اخضرار السواقي: 19.
ـ فتخضر أرواحهم: 21.
ـ الزمن الاخضرار: 34.
توزّع فِعلا الاخضرار الاثنان على مستويين: خارجي, في قوله: (ليخضرَّ غصنٌ), وباطن, في: (فتخضرّ أرواحهم). وحضر المصدر من الاخضرار ثلاث مرات كما هو ملاحظ, مرة مجردًا من الإضافة, ومرة مضافًا إلى السواقي, ومرة جاء يعرّف حقيقة الزمن بأنها الاخضرار: (الزمن الاخضرار), فكلّ زمن لا يتحقق فيه الاخضرار ليس زمنًا للذات الشاعرة, ولا البيئة التي تعيشها؛ كون الزمن في كل تجلياته مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالمكان.
فالاخضرار الخارجي, اخضرار الغصن, يمدّ من ذلك الزمن في البيئة, ويمد في الزمن ذاته؛ لأن الغصن ينتهي بالزهر والثمر والبذر, ومنه تزاول حياة النبات دورة ديمومة بقائها. ولا يمكن للإنسان أن يسهم في اخضرار غصن, ما لم تكن روحه مشبعة بذلك الاخضرار الجميل, وهو ما جعل حضور اخضرار الروح ضرورة ملحة في الديوان, وهي رؤيا تقوم على فلسفة الجمال عند إيليا أبي ماضي:
والذي نفسُهُ بغيرِ جمالٍ لا يرى في الوجودِ شيئًا جميلا(16)
ولأن سياقَي اخضرار الباطن والخارج, جاءا حدثين مضارعين مستمرين, فهما المغيّران في الواقع البيئي المحيط بهما, وهما مستمدان طاقة ديمومتهما من المصدر الذي تكرر ثلاث مرات حسب, في الديوان كاملًا, الأمر الذي يفسر كثافة حضور لفظة الزمن بـ (23) مرة؛ لأنّ الزمن كان على مدار الديوان قد أطال التفتيش والبحث عن الاخضرار, أي: الحياة الكريمة؛ ولأنّ شعرية الديوان آمنت مصرحة بأن: (الزمن الاخضرار). فإن وُجِدَ الاخضرار, كمصدر يغذي روح الإنسان, فإنه سوف يسقي السواقي, وتنبت الأغصان وتثمر, وتستمر الحياة الكريمة.
النسق الترميزي في النص:
كما هو النسق الشعري لشعر التفعيلة, قد اتكأ هذا النص على كثافة الترميز, فافترقت هذه الرموز, منها ما يُحيل إلى وجهة زمن الذات الشاعرة, ومنها ما يحيل إلى دروب قطار الراحلين الوهمي. فكانت الرموز على النحو الآتي:
التجاعيد: رمز لصعوبة العيش والشيخوخة.
منحدر: رمز للسقوط.
وهج الشمس: رمز للسراب المغري.
الربيع: رمز للحياة السعيدة.
غزية: رمز للتبعية.
البسوس: رمز للفتنة الداخلية.
نشر الأشرعة: رمز للأعذار الواهية.
روائح جدي: رمز للماضي الجميل.
الأزقة: رمز للتيارات الفكرية.
الببغاوات: رمز للتقليد الأعمى.
النهيق: رمز للبلادة.
أغاني الهزار: رمز للسعادة والفرح.
السنوات العجاف: رمز للقحط.
العصافير: رمز للحرية والحيوية.
إن تلك المعطيات السابقة تفتح قراءات وجهات المرموز لزمن (الراحلين/ الراكدين), على تأويلاتٍ عدَّة, لا تتغيّا قراءتنا حصرها في وجهة واحدة محدّدة, بل هي وجهة عامة يناسلها التأويل القرائي إلى وجهات عدَّة مفتوحة على الاحتمالات؛ فقد تكون (اجتماعية, أوسياسية, أو قبلية, أو فكرية, أو حضارية, أو عاطفية, أو جمالية, أو أدبية, …) تتشظّى وتتفرع كل تلك الترميز, على رمز الزمن الذي ليس هو زمن الذات الشاعرة, حين فارقتْه, نحو وجهات مغايرة.
العنوان (رواء):
جاء في اللسان أن الرواء: الماء الكثير, وقيل العَذْب الذي فيه للوارِدين رِيٌّ وماء(17).
وهو المصدر الأساس للاخضرار, المنشود للزمن في شعرية الديوان, و(رواء) هو اسم الديوان الصغير الذي تكشّف في صورة حداثية, لكنه ظلَّ عميق الجذور بعمق الموروث التراثي, فقد انتقى الوعي الثقافي الباطن الذي تتشكل منه الذات الشاعرة, حينما اصطفتْ هذا الاسم للديوان, وأقول: اصطفت؛ لأنه في الأساس اسم لأحد نصوص الديوان, وهو نصٌّ في المنتصف يرسم لوحة من لوحات الموروث الشعبي الحضرمي, وعاداتِهِ كفنٍّ مصاحب لإحدى الحرف الحضرمية التليدة هي حرفة الزراعة, وسقاية المحاصيل بالطريقة البدائية قبل المضخات, وتسمى هذه الآلية لدى الحضارم (السناوة) وقد ورد ذكرها في نص (رواء), وذكرت المواويل التي يرددها العاملون في ذلك العمل, وبعض المصطلحات المصاحبة كـ(المَقُود), و(السناوة) و(النزح)(18).
هذه اللوحة تشكل في حد ذاتها مفارقة, حين نُظمت بصورة شعرية حداثية (شعر التفعيل), وهي آلية تكشف شيئًا من سمات جانب المرموز العام السابق في رحلة قطار زمن الراكدين؛ لأنها تكشف الثقافة التراثية الفلوكلورية التي تستتر خلف حداثة, الوجهة البارجائية, في شعر ديوان (رواء). حين ينتقي الإنسان أمرًا من مجموع, فإنه ينتقي ما امتلأ به قلبه, هذا يفسر لنا سر اختيار نص (رواء) عنوانًا للديوان؛ لما حواه من تراث جميل يشبه الماضي, الذي يسافر إليه زمن الذات الشعرية في الديوان, كما عرفنا سابقًا.
فإن يكن ذلك هو الزمن الأخضر, فإن آلية استخراج الماء من عمق البئر, يتطلب من النازح الرجوع إلى نقطة خلفية مكانًا في المَقُود, لكن ليست (تخلفية) أو (رجعية)؛ لأنه رجوع يصعد معه الماء, تلك آلية تشبه كثيرًا, التفتيش عن الزمن الأخضر في الماضي, حين كانت الذات الشاعرة تفارق زمانها الوهمي في قطار الراكدين, فلو أن النازح لم يعد إلى الخلف لما صعد الماء من البئر في الدلو, من هنا تكون العودة للماضي تقدُّمًا ونهضة, في مراتٍ عدَّة؛ لأنها تنطلق إلى مستقبل فسيح أخضر, وماء غزير يروي السواقي والغصون, ومن قبل ذلك يروي الأرواح.
فمثلما تخضرُّ السواقي هنا, نقرأ في نص (رواء) أرواحًا تساقت, فامتلأت قلوبها برواء ماء العشق الجميل, كما هو حاصل بين (جمعان وسلمى):
كلما ارتفع الدلو يأوي إلى حضن سلمى
تتلقاه برفق
وتفرغه بحنان نعومتها
قلب جمعان هو الدلو(19).
إذن ليس الرواء ماءً بعينه, بل هو ماء الحياة الكونية في شتى تجليات بهجتها, واخضرار ربيعها, إن في زرع أو في عشق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1ـ ديوان (رواء) علي أحمد بارجاء, ط(1), 1425هـ ــ 2004م, مركز عبادي, صنعاء: 33.
2ـ المفارقة القرآنية, دراسة في بنية الدلالة: د. محمد العبد, ط(1), 1415هـ ــ 1994م, دار الفكر العربي: 15.
3ـ ينظر السابق: 15.
4ـ الديوان: 33.
5ـ السابق: 33.
6ـ السابق: 33.
7ـ السابق: 34.
8ـ السابق: 34.
9ـ السابق: 35.
10ـ السابق: 35.
11ـ السابق: 36.
12ـ السابق: 36.
13ـ السابق: 38.
14ـ السابق: 38.
15ـ السابق: 33.
16ـ ديوان إيليا ابي ماضي.
17ـ ينظر, لسان العرب لابن منظور, مادة ( ر و ي).
18ـ الديوان: 43 ــ 44.
19ـ السابق: 45..