قصص قصيرة
خالد لحمدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 21 .. ص 107
رابط العدد 21 : اضغط هنا
كان ينتظرها كل صباح بشغف ولهفة، فيأتي قبل حضور الموظفين، ويقتعد كرسيه واضعًا كوعي يديه على الطاولة الخشبية التي أمامه والمجاورة لطاولتها، وعيناه ترقبان الباب بقلق وتلهف شديدين .
حين تشتد به توجعات صبره وانتظاره يغادر المكتب ويقتعد في منتصف السلم الذي يصعد نحو الدور الثالث من العمارة التي يقع فيها موقع عملهما .
يطلق دخان سجائره دوائر حلزونية، و يتأمل دخانها المتكاثف حوله، ويرد تحايا الصباح التي يلقيها عليه زملاؤه وزميلاته بصوت خفيض، وقد يحرّك رأسه إلى الأمام والخلف محيّيًا البعض منهم .
هو لا يرغب في رؤية أحد سواها، ولا يحب سماع صوت سوى صوتها الذي ألفه وأحبه كثيرًا.
كان يقف أحيانًا أمام مدخل العمارة مُدّعيًا أنّه سيشتري شيئًا من البوفيه المجاور، وما إن يراها يترك كل شيء ويلحق بها للتو.
يقتعد كرسيه البلاستيكي متصفّحًا بعض الأوراق بعجل، ثم يلتفت نحوها مختلقًا أي حديث معها، سابحًا في هيامٍ وأخيلة لم تكتمل.
هي تعلم بميله نحوها وتودّده إليها، وهو يرتقب اللحظة ليخبرها بما يشتعل بداخله .
وذات صباح قال بصوت منسحب:
– شيري .
ردّت للتو :
– نعم .
توقفت الكلمات على لسانه وما انفك أن همس بصوتٍ خجلٍ :
– أحبّك .
صمتت برهة وعيناها شاخصتان نحوه ثم قالت بتفاجؤ:
– إنّك مثل أخي .
وأردفت بتوتر :
– لستُ لك .
ثم ذهبت تحادث زميلها المواجه لها، في الطرف الآخر من المكتب .
مضى الوقت سريعًا، وغادر جميع موظفي الإدارة، ولم يشعر كيف أخذته قدماه نحو بيته الذي قضى بداخله ليلته في كآبة ووجوم سحيقين .
في صباح اليوم الثاني ذهب باكرًا كعادته ودلف مكتبه وحيدًا ولم يكن قد حضر أحد سوى عاملة الخدمات التي رآها في المكتب المجاور وهي تمسح بعض الطاولات وتباشر مهام عملها اليومي .
انتظر بعض الوقت حتّى بدأ يتقاطر موظفو الإدارة واحداً تلو الآخر .
ظلّت عيناه ترقبان الباب بحدَّة مع توجّع، ولم تأتِ مثل كل يوم .
شارفت الساعة الحادية عشرة، وقد بدأ يفقد الأمل في حضورها، وفي لحظة مباغتة رنَّ هاتف المكتب المنطرح على طاولة مدير القسم الذي رفع حينها سماعته وذهب في محادثة استغرقت وقتاً طويلاً ثم أطبق السماعة ونظر نحو موظفي المكتب وقال وعلى شفتيه ابتسامة هازئة :
– ألم تسمعوا آخر خبر .
نظر الجميع نحوه بانقباض ودهشة، وتساءل البعض بفضول كامد:
– خير إن شاء الله .
رد وعلى شفتيه لاتزال بقايا ابتسامته الفاترة .
– لقد أخبرتني شيرين أنّه تم خطبتها مساء البارحة .
دارت الغرفة به، وشعر أن اتصالها كانت تهدف من ورائه إخباره بخطبتها لشخص آخر .
رأى حينها أعين الموظفين ترمقه بهزء وشزر، ونظرات مديره المباشرة وابتسامته الساخرة تسحقه وتنال منه .
ابتسم بفرحٍ وتلهّفٍ حين مرق طيفها الآسر بجانبه، وذهبت عيناه تتابعان خطواتها الرتيبة، وقد ارتدت عباءة سوداء لامعة على جسد غض وقوام ممشوق يتنزَّى إثارة وغواية، ثم اقتعدت مواجهة له بعد أن أدارت كرسيها المجاور نحوه .
كان ثدياها النافران يكادان أن يتمردا على عباءتها الأكثر إغراء وجمالاً، بينما ظلّت عيناها ترمقانه بصمتٍ، ثم تتجه بنظراتها نحو مدير القسم ذي الابتسامة السمجة، غير عابئة بقلبه المنشغل ودواخله المشتعلة توقاً وتشوّقاً .
في المساء وكعادته اقتعد كرسياً منزوياً في مقهى أسوان المكتظ بزوَّاره ومرتاديه.
لم يطلب شاياً مثل كل ليلة، وظلَّ يرسل نظراته نحو المارة وطرف الشارع المنحدر من أعلى الجبل والمتصل بالشارع المحاذي للمقهى القابع بداخله .
ارتباك وتلعثم شديدان اعترياه، وبدأ منتفضاً كملسوع، كمن شعر أو رأى شيئاً مفاجئاً .
حشرجات منقبضة محشورة في فمه، لم يستطع إخراجها البتّة، بينما ظلّت نظراته تتابع شيئا مبهما، وعيناه مغرورقتان بدمعٍ لم ينسكب .
أطلق فجأةً صرخةً مدويةً وعيناه تنظران بانزياغ وتشتّت نحو شاب جلس على كرّسي بجواره .
كان يشير بأصبعه نحو الصحيفة التي بدأ يتصفحها ذلك الشاب، بعد أن تجمّع روَّاد المقهى وبعض المارة حوله، ثم نهض يهذي بكلمات مصحوبة برذاذ كثيف :
– هو .
– لا.
– أنا.
لااااا.
ليس هو .
أنا.
لاااااا
من ..؟
بل .
نعم .
لا
لست أنا .
ثم وقف واخترق الواقفين، وانطلق مسرعاً، مردّداً بتشنّج كلماتٍ غير مفهومة، يلاحقه كثير من الأطفال، يرشقونه من الخلف بالأحجار والعلب الفارغة، واختفوا معاً بعد أن التهمهم الشارع الأول .