توقيع قلم
أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 21 .. ص 113
رابط العدد 21 : اضغط هنا
يزخر هذا المثل الحضرمي بالدلالات الاجتماعية، وبالإضاءات التاريخية، ويدفعنا نصه المباشر الاستفساري أو الاستنكاري إلى الولوج في منطلقـات الحركـة التاريـخيـة لمفاهيم التراتب الاجتماعي، ومدى استماتة من هم على رأس الهرم التراتبي في ترسيخه للاحتفاظ بالمكانة الاجتماعية.
وبداية لابد لنا من وقفة مع هذا المثل لمعرفة سياقه التاريخي، وتوضيح مفرداته ففي الرواية الشفاهية الحضرمية ينسب المثل لبدوي سمع لفظة (السيد) لأول مرة بوصفها لقبًا ومنزلة اجتماعية جديدة على غير ما هو معروف من مكانة روحية لبعض أسر (المشايخ) الحضرمية عند القبائل الذين يمثلون مرجعيتهم في الأمور المتعلقة بالنواحي الدينية، وفي الصلح والسلام المجتمعي (والطاهشة): نوع من الطيور غريب ونادر [سارجنت، حول مصادر التاريخ الحضرمي ، ص 124]، وبهذا نرى لفظة (الطاهشة) -بحسب المثل-– وضعت في مكانها المناسب واتسقت مع التساؤل الاستنكاري الهجومي وربما (الاستغرابي).
ويكشف السياق التاريخي للنص أن لفظة (السيد) اللاحقة للفظة (الشيخ) ترسخت أولًا في المدن والبلدات الحضرمية ثم حدث ما يشبه التسليم من قبل تراتبية المشايخ بالمكانة الاجتماعية الأولى للسادة في المجتمع الحضرمي لاسيما بعد الاعتراف المجتمعي بنسبهم الذي يرفعونه إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من ابنته فاطمة زوج علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) وهذا النسب مكّنهم مع ميزة (العلم) والوظيفة الاجتماعية في تبوء هذه المكانة. الجدير بالإشارة أن لفظة الشيخ بوصفها مكانة علمية ووجاهة مجتمعية اقترنت بالعلويين في بدايات ظهورهم متماهين في ذلك لبضعة قرون مع أسر المشايخ العريقة في حضرموت إلى أن ميزوا أنفسهم بلقب (السيد) بوصفها مرتبة عليا على الجميع احترامها، وفي خضم التنافس على المكانة الاجتماعية وتعزيزها النسبي رفعت بعض أسر المشايخ أنسابها إلى بني هاشم او قبيلة قريش أو إلى بعض كبار الصحابة وتحصلوا على الاعتراف المجتمعي بهذه الأنساب، وقد تعاملت الأدبيات المحسوبة على العلويين الحضارمة بمرونة وذكاء مع هذه الحركة مما أسهم في التخفيف من التنافس أو الصراع على المكانة الاجتماعية بينهما بل أسهمت هذه الأدبيات في تأكيد حركة بعض الأنساب بالرؤيا المنامية.
وفي المقابل بقيت معظم أسر المشايخ تحت توصيف (مشايخ علم) وهي منزلة أدنى من مرتبة مشايخ (الأصل) بل أدنى من مرتبة القبائل التي ترمز للقوة ، وأبرز مظاهر هذا التراتب نجده عند الزواج الأفقي الصارم في حضرموت، لكن في إطار العلاقات بين أسر المشايخ مع القبائل المرتبطة بها روحيا استمرت الوظيفة الاجتماعية للمشايخ (الأصل والعلم) بصورة متقاربة.
ولهذا نستطيع في زمن البنية الاجتماعية التقليدية في حضرموت رسم مفاهيم التراتب بوضع السادة والمشايخ -يرمزون للعلم- في شريحة واحدة، والقبائل وهم حملة السلاح في شريحة مستقلة، وسكان الحواضر والمدن في شريحة واحدة (الحضر) وهذا لا يلغي الحركة الداخلية لهذه الشرائح صعودًا وهبوطًا، وحتى في داخل شريحة السادة يوجد التمايز المحكوم بالمستوى العلمي، والوضع الاقتصادي.
وإذا كان المجال الجغرافي من حيث مواطن الاستقرار ممكن تحديده بين القبائل والحضر فإن أسر من سادة حضرموت ومشايخها تمكنوا من الاستقرار في عمق أراضي القبائل المستقرة، ومع مرور الزمن تغيرت المعادلة لصالح سادة حضرموت – وإلى حد ما المشايخ- فصار للأسر الكبيرة منهم مثل آل العيدروس وآل العطاس وآل الشيخ أبوبكر وآل مول الدويلة وغيرهم مكانة تحالفية خاصة مع بعض القبائل، وصار من الأمور المتعارف عليها قول السيد: (هذه قبائلنا) بمعنى تحت أمرنا أو طوعنا، ويقابله قول رجال القبائل للأسر المتحالفة معهم: (هؤلاء حبايبنا) أي مراجعنا الروحية ، والتحالف ليس بمعنى الدفاع المشترك، بل يقوم على الاعتراف بالمكانة الاجتماعية للسادة واحترامها مع الالتزام بحمايتهم من الأطراف المعادية مقابل قيام السادة بالوظيفة الاجتماعية الروحية في مجتمع القبيلة الذي تسوده الأمية، وبما يمكن وصفه بتغير دراماتيكي لمثل (الطاهشة) وصلت مكانة السادة عند رجال القبائل إلى درجة من التقدير بحيث إذا دخل (القبيلي) مجلسًا عامًا يسأل أولًا هل فيكم سيِّد؟ وإذا وجد يتجه مباشرة إليه ويصافحه ويقبل يده، وبهذا تحول (الطواهش) إلى كائنات مبجلة تحتل صدارة المجالس، وهذا يعني أيضا تغيّر في صيغة سؤال عنوان المقال من الاستنكار والاستغراب إلى سؤال التقدير والاحترام.
لكن دوام الحال من الحال فالانسجام المجتمعي التقليدي في حضرموت ارتبط بجمود الحركة الاقتصادية والثقافية، وبدأ التصدع في هذه البنية بصورة بطيئة، وارتبط بعوامل خارجية خاصة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي عندما نافست السفن البخارية السفن الشراعية في حركة الملاحة البحرية الدولية، كما أن شق قناة السويس في نوفمبر 1869م دفع بتسارع وتيرة هذه الحركة وانتظامها، وكانت حضرموت وطيورها المهاجرة على موعد تاريخي للاستفادة من هذه الحركة فازداد عدد المهاجرين شرقا وغربا. وهذه الهجرة قلبت الأوضاع الاقتصادية رأسا على عقب، وارتبط الحضارمة بحركة الحداثة في بلدان الهجرة وأدى ذلك إلى إعادة تدوير تساؤلات المكانة الاجتماعية ومحالات تغييرها وظهرت (طواهش) جديدة من جميع الاتجاهات!!
وإلى ما قبل سقوط سلطنتي حضرموت القعيطية والكثيرية عام 1967م ورغم التصدعات في البنية التقليدية في حضرموت، فإن مفاهيم التراتب الاجتماعي ظلت سائدة بالمسميات التقليدية مثل (مقادمة القبائل) وهو رئيس القبيلة أو قائدها، وهناك (المناصب) الذي اشترك فيه أسر من سادة حضرموت ومشايخها ويعني المرجعية الاجتماعية لبعض القبائل لاسيما في حالات عقد التحالفات، وحل الخصومات وظل (الشيخ شيخ)، و(السيد سيد)، ومع تحديث التعليم في حضرموت تحركت لفظة الشيخ عندما لقّب المدرسون بالمشايخ، وهي منزلة رفيعة حظوا بها تتسق مع الوظيفة التعليمية للمشايخ في حضرموت.
في عهد جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية تم تهديم هذا البناء المجتمعي التقليدي، ووصف بالرجعي والمتخلف، وظهرت شعارات ثورية جديدة أعطت للحضر مكانة متقدمة في السلطة ومن نماذج تلك الشعارات: “واشعلناها ثورة حمراء باسم العامل والفلاح” و: ” بغينا حقنا ما بغينا شيء باطل مع الصياد لاهز راسه بانقاتل “وبهذا تراجعت لفظتا السادة والمشايخ بل صارتا قريبتين من (التهمة) وجاءت مفردات جديدة مثل الأخ، والرفيق، والكادحين، والقوى العاملة.
وعندما صارت حضرموت جزءاً من الجمهورية العربية اليمنية حيث يلقب رؤساء القبائل عندهم (بالشيخ) التي تنم عن وجاهة قبلية ومجتمعية تحركت لفظة الشيخ، واستقرت بوصفها لقبًا جديدًا من ثقافة المنتصر -بحسب رأي ابن خلدون – لمقادمة القبائل بدلا من لقب (المقدم) التاريخي (الأصيل) المتعارف عليه، كما تحركت أيضًا لفظة الشيخ وصارت تطلق على أفراد الأسر التجارية الكبرى، وعلى صنف المتسلقين، ولهذا انهارت رمزية لفظة (الشيخ) العلمية أما لفظة (السادة) رغم خفوت بريقها التاريخي فإنها صمدت ولم تنحرف عن مسارها، واستمرت بصبر تصارع المراحل ، وبهذا يحق لنا إعادة تحوير المثل بالقول:
(السيد سيد والمقدم مقدم والشيخ ايش من طاهشة)