طاهر ناصر المشطي
ثانيًا : مستوطنة شرمة و ما جاورها خلال فترة حضارة جنوب الجزيرة العربية :
وفيما يتعلق بالبيانات التي تم جمعها من قبل البعثة الفرنسية في موقع شرمة والمناطق المجاورة لها لفترة حضارة جنوب الجزيرة العربية ( العصر الجاهلي )، ترى البعثة ضعف النشاط البشري وقلته في تلك العصور بالمقارنة مع النشاط البشري في عصور ما قبل التاريخ والعصر الإسلامي [1] .
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 22 .. ص 24
رابط العدد 22 : اضغط هنا
وعلى كل حال فقد ورد أقدم ذكر لميناء شرمة قبل الإسلام باسمها المعروفة به اليوم في خريطة بطليموس الإسكندري[2] المتوفى عام 167م ، و قد وضع هذه الخريطة في أجواء سنة 140م ، ذكر اسم الأسعاء وسماها Alasa Emporiam ، وذكر إلى غربها ميناء ( بروم ) وإلى شرقها ميناء شرمة إضافة إلى عدد من المرافئ القديمة التي لا يستطاع تبيان أسمائها الصحيحة على الخريطة المذكورة .[3] ، و لكن شرمة سُكنت قبل ذلك التاريخ بوقت كبير ، كما ذكرنا آنفًا.
هذا الهيكل الضخم المثير للإعجاب ، يقع في أعلى نقطة من الجزء العلوي باتجاه قمة الهضبة الشرقية، على حافة منحدر ارتفاعه نحو ثلاثين مترًا، والذي يسيطر على الميناء ( الشكل ) [4]، رجحتها البعثة الفرنسية على أنها قاعدة مبنى الطابق السفلي الذي يعود لحضارة الجنوب العربي ، لتحديد أكده وجود بعض القطع غير المنتظمة لعصور ما قبل الإسلام ( الجاهلية ) في مستويات العصور الإسلامية [5] . و حجارة الميغاليث [6] الضخمة هذه لم تجزم البعثة حقيقة هذا المبنى الضخم ، فتارة افترضته أنه قاعدة لمعبد حميري يشرف على الخليج [7]، وتارة تشبهه بالمخطط التفصيلي لشرفات المعابد خارج أسوار المدن ( extra-muros ) ، وتارة ترجحه على أنه فنار أو قلعة تشرف على الميناء لحراسته وإرشاد السفن [8]. و مهما يكن فإن هذه الأنقاض تدل على ضخامة هذا الهيكل المثير للإعجاب، والذي ينتمي لحضارة جنوب الجزيرة العربية .
كما جرى تحديد عدد من شقفات الخزف من فترة ما قبل الإسلام في الموقع، منها ما هو مستورد من الهند وعمان وإيران [9] ، مما يؤكد أن شرمة كانت ميناءً نشطًا في تلك الفترة، غير أن من الغرابة أن الحفريات لم تظهر أي أثر لطبقات من فترة حضارة جنوب الجزيرة العربية [10] ؛ إذْ إن طبقات العصور الوسطى دائمًا ما تفترش مباشرة على القاعدة التحتية ، أو على ودائع عصور ما قبل التاريخ ، ومع ذلك، تم توثيق هذا النشاط الاستيطاني للعصر الجاهلي بشكل جيد [11] .
وهي مطمورة تحت الرمال عند الركن الجنوبي الغربي من الهضبة الشرقية ، يوجد بها عشرات القبور الدائرية .
أما أهم المعالم الأثرية لحضارة جنوب الجزيرة العربية في محيط ميناء شرمة هي :
يقع هذا الموقع شمال شرق قرية المعيملة على الضفة الشرقية لوادي ضبه، هذا الموقع عبارة عن مغارة ( جولة ) كبيرة، يعتقد أنها كانت محطة لاستراحة القوافل القادمة من ظفار إلى ميناء قنا ، وهي تحمل تجارة حضرموت من اللبان والمر والبخور في العصر الجاهلي ) ما قبل الإسلام ) .
و قد أشار إليه الباحث والمؤلف الدكتور محمد عبد القادر بافقيه عند ذكره لأهم المستكشفات الأثرية في حضرموت في بداية الستينيات من هذا القرن، وذكر مجموعة مواضع، منها موضعان يخصان الديس حيث قال الدكتور عنهما :
الموضع الأول : مخربشات في كهف في حلفون بالمشقاص .ــ ( يقصد به كهف الجاهلية )
الموضع الثاني : مخربش ثمودي ( ؟ ) على صخرة ملساء من الديس الشرقية ( بمتحف المكلا ) [12]يقصد بها صخرة الواسطة
.. و الدليل على إن المنطقة ممر لطرق القوافل بالإضافة إلى المخربشات هو أسماء الأماكن المجاورة لها مثل ( الميزاع ) عين غيضة بيت نمور و التي تعني العبور ، و منطقة أخرى تسمى ( عبور ) و المجزعة و هي ملتقى طرق برية أيضاً
تنتشر هذه الكتابات في كثير من المناطق منها :
يقع هذا الحصن الأثري إلى الشمال من قرية حلفون على تل صغير بجانب الطريق المتجهة من حلفون إلى المعيملة في الجهة الغربية منها ، وهذا الحصن القديم ما تزال أساساته موجودة ، تقدر مساحة آثار حصن الكافر بأكثر من 5000 قدم مربع وقدرنا أبعاده بـــ 60 قدمًا باتجاه من الشرق إلى الغرب وحوالي 85 قدمًا باتجاه من الشمال إلى الجنوب هذه آثار الأساسات الظاهرة على سطح الأرض ربما تكون هناك أجزاء أخرى منه تحت التراب .يعتقد أن مثل هذه الحصون وظيفتها حراسة طرق القوافل من لصوص البر .
هذه القبور تنتشر في مواقع مختلفة من المنطقة تعرفنا على ثلاثة مواقع وهي : الموقع الأول في مدخل غيضة بيت نمير ؛ حيث توجد ستة قبور دائرية وقبور أخرى تعرضت لجرف السيول ، الموقع الثاني في وادي شبدوت لم نتمكن من الوصول إليه ، ولكن سنحاول إن شاء الله في المرة القادمة ـ والموقع الثالث شمال غرب قرية المعيملة على الضفة الغربية لوادي ضبه ، في اتجاه مقابل لموقع الجاهلية ، حيث توجد مجموعة من القبور المدورة لما قبل الإسلام .
منها الحاجز المائي الذي عثرت عليه البعثة الفرنسية في الطرف الشمالي من مجرى وادي ضبه ، على بعد 200 متر من المنبع عند التقائه مع وادي حمم عند الموقع (14.946666 ° N / 50.078972 ° E) [13]. ومنها ثلاثة سدود صغيرة مرتبة من خلال القنوات الطبيعية عند الموقع (14.847472 ° N / 50.083555 ° E) [14]. وغيرها من الآثار الخاصة بالزراعة .
من خلال العرض السابق لمظاهر الاستقرار البشري في ميناء شرمة والمناطق المحيطة به ، نلاحظ نشاط السكان واشتغالهم بالزراعة والرعي وصيد الأسماك والملاحة البحرية منذ عصور ما قبل التاريخ ، فكانت المنطقة الجنوبية من جزيرة العرب (حضرموت وعُمان) قد أدَّتْ عملًا رياديًا في الملاحة البحرية منذ الألف الرابع قبل الميلاد ، ومع الرخاء والاستقرار الذي دام من منذ أواخر القرن الأول ق.م حتى أواخر القرن الأول الميلادي ازداد الإقبال مجددًا على السلع النفيسة من عطورات وبهارات وعاج وغير ذلك مما يجلب من اليمن وأفريقيا والهند ، وازداد عدد السفن التي كانت تطوف ذلك البحر والمحيط الهندي ، وشيئًا فشيئًا أخذت السفن الرومانية الإغريقية المنطلقة من مصر تحذو حذو السفن اليمنية والهندية في الاستعانة بالرياح الموسمية في رحلتي الذهاب الإياب بين مصر والهند . [15]، فازداد التنافس بين الأساطيل التجارية المختلفة. ومع استقرار الأحوال في الإمبراطورية الرومانية انتعشت الموانئ على طول ذلك الطريق البحري للمحيط الهندي ، و كانت موانئ حضرموت خاصة قنا وسمهرم وسياجورس Syagros وميناء كدمة يعرب ( يروب ) أو ( خور جربون ) وميناء شرمة وميناء دمقوت وريسوت وميناء المصينعة وغيرها من الموانئ النشطة في جنوب الجزيرة العربية في ذلك الزمن ، و كان يصدر من هذا الميناء بعض المنتجات الزراعية للمنطقة ومنها اللبان وغيرها .
وهكذا يبدو أن تجار الإغريق والرومان وإن سيطروا على غالب تجارة الهند في المحيط الهندي والبحر الأحمر فقد ظل العرب ينتفعون ببيعها، ويقومون بنقل منتجاتهم الخاصة من البخور والصموغ ومشتقاتها بقوافل الإبل، ويعملون على تصريفها، ويجنون أرباحها. وهو أمر لم ينتفع به الجنوبيون وحدهم، وإنما انتفع به العرب الشماليون أيضًا لفترات طويلة مما سنعود إلى ذكره فيما بعد.
وإن السفن الإغريقية والرومانية وإن عرفت الطريق البحري القصير المباشر إلى الهند فأنها ظلت تلجأ إلى الموانئ العربية من حين إلى آخر للإتجار معها مباشرة ، أو للراحة فيها والتزود منها بالماء والزاد خلال رحلاتها الطويلة إلى سواحل الهند وعودتها منها. بل وظلت تسمح لبعض السفن العربية بالاشتراك معها في التجارة، وذلك مما يعني أنها لو تقاطعها جملة ولم تحرمها من التجارة جملة. وقد كان للحميريين على ساحل البحر الأحمر وساحل البحر العربي أسطول تجاري ضخم لا يمكن تجاهله [16]، و كان الساحل اليمني مزدحمًا بأصحاب السفن والملاحين العرب وهم دائبون على أعمالهم التجارية مع أرتيريا والصومال وبريجازا ( في الهند ) وعمانة وفارس وغيرها . [17]
الدلائل على مساهمة ميناء شرمة و المناطق المجاورة في تجارة حضرموت في العصور القديمة :
ويفسر المؤرخ و الأنثروبولوجي الدكتور عبد العزيز جعفر بن عقيل وجود عملات مملكة حضرموت في منطقة خلفة على إن هذا الساحل قد استخدم في يوم ما بوصفه مرفأ مؤقت لتفادي سيطرة الدولة المركزية و التهرب من الضرائب [26] . كما يفسر العثور على عملات مملكة حضرموت في المناطق الداخلية على ارتباط تلك المناطق بالطرق التجارية القديمة للقوافل .
وأخيرًا إن المنطقة الساحلية من حضرموت والمهرة بحاجة إلى المزيد من الدراسات لاستكشاف كنوزها الأثرية ، فهي إلى الآن لم تحظ إلا باليسير من الدراسات ، بالمقارنة مع تاريخها القديم وآثارها المنتشرة سواء على السواحل أو الأودية ، لذا نوصي الجهات المختصة بأن توليها بالاهتمام والعناية .
انتهى ..
الهوامش و المصادر :
[1] ( Jérémie Schiettecatte , I/2. L’occupation sudarabique . p no 25
[2]) عالم رياضيات اغريقيه، وجغرافية، وعالم فلك ومنجم. في الأسكندرية العام
[3]) المؤرخ / محمد عبد القادر بامطرف الشهداء السبعة ، اصفحة 2
[4] (Jérémie Schiettecatte , I/2. L’occupation sudarabique . p no 19
[5] (Axelle Rougeulle (Sharma Un entrepôt de commerce médiéval sur la côte du ДaḌramawt (Yémen, ca 980-1180) . Introduction , P 4
[6]) عبارة عن قطع من الحجارة الكبيرة
[7]) أكسيل روجول ، الحفريات الأثرية في شرمة ــ مواسم 2001 و 2002م / حوليات يمنية 2003 ، المعهد الفرنسي للآثار بصنعاء ص 48
[8] (Jérémie Schiettecatte , I/2. L’occupation sudarabique . p no 11
[9] ( Dionisius A. Agius , (Classic Ships of Islam ) From Mesopotamia to the Indian Ocean . • 2008 P 94
[10]) أكسيل روجول ، الحفريات الأثرية في شرمة ــ مواسم 2001 و 2002م / حوليات يمنية 2003 ، المعهد الفرنسي للآثار بصنعاء ص 48
[11] (Jérémie Schiettecatte , I/2. L’occupation sudarabique . p no 11
[12]) بافقيه ، محمد عبد القادر ( المستشرقون و آثار اليمن ) ج2 ص 992
[13] ( Jérémie Schiettecatte , I/2. L’occupation sudarabique . p no 23
[14] ( Jérémie Schiettecatte , I/2. L’occupation sudarabique . p no 24
[15]) مختارات من النقوش اليمنية د محمد عبد لاقدر بافقيه و آخرون ، تونس : المنظمة العربية لتربية و الثقافة و العلوم إدارة الثقافة 1985 ص 28
[16]) الكتاب: تاريخ شبه الجزيرة العربية في عصورها القديمة ، المؤلف: عبد العزيز بن صالح ، الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية ص 111
[17]) الخشَّاب يحي ، مقدم و مراجع كتاب ( العرب و الملاحة في المحيط الهندي ) تأليف جورج فضلو حوراني ، الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية ص 3
[18]) (سيدوف، 1992، الشكل 3.1، التي يعود تاريخها إلى القرنين الرابع و الثالث الميلادي) و Berenike [برنيك] (خريف عام 2000، الشكل 2.5).
[19] ( Jérémie Schiettecatte , I/2. L’occupation sudarabique . p no 11
[20]) مختارات من النقوش اليمنية د محمد عبد لاقدر بافقيه و آخرون ، تونس : المنظمة العربية لتربية و الثقافة و العلوم إدارة الثقافة 1985 ص 25
[21]) بامطرف ، محمد عبد القادر ، (الشهداء السبعة ) ص 30
[22]( Jérémie Schiettecatte , I/2. L’occupation sudarabique . p no 19
[23]) كتاب الطواف حول البحر الإرتيري لمؤلف مجهول
[24]) خلص الباحثون على ان الواو و النون ، و الواو و التاء ..في بعض الأسماء الحضرمية و المهرية إنما هي بمثابة ( أل ) التعريفية ، و إنما أختلفت بأختلاف الزمان و المكان ، و الله أعلم بحقيقة الأمر ( المصدر : حاشية إدام القوت ص 679 )
[25]) انظر تاريخ اليمن القديم للدكتور محمد عبد القادر بافقية ( ص 39 ـ 41 )
[26]) مقابلة أجراها الباحث مع المؤرخ والإنثروبولوجي الدكتور عبد العزيز جعفر بن عقيل نشرت ضمن موضوع كنوز بلادي بمجلة خلفة العدد الثالث مايو 2009م .