د. خالد عوض بن مخاشن
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 22 .. ص 36
رابط العدد 22 : اضغط هنا
الفصل الثاني: تاريخ أرض مجهولة:
تسمى سلطنة السلطان عمر الصغيرة (سلطنة الشحر والمكلا)، وقد اشُتق اسمها من اسمي أهم ميناءين يقعان بين عدن وعُمان، وأراضي هذه السلطنة عبارة عن شريط ساحلي ضيق يفصل البحر عن حضرموت الوادي والدويلات الموجودة هناك، وعلى الرغم من وجود علاقات وارتباطات سياسية بين سلطان المكلا وبين الدولة القديمة القائمة بداخل حضرموت، فإن هذين الإقليمين على خلاف، ويعيشان حالة انفصال على الدوام.
أسس أحمد بن جحيم الكسادي، سلطان قبيلة يافع التي تقطن المناطق الجبلية الواقعة شمال عدن، مدينة المكلا عام 1625م. حكم هذا السلطان المناطق الواقعة بين بروم والمكلا، وكذا بعض المناطق الداخلية، ولكن لم تمتد سلطاته إلى الشحر، التي كانت تئن تحت وطأة غزوات القبائل، حتى استطاع السلطان غالب بن محسن الكثيري ضمها في العام 1866م، وطرد منها آخر ممثل للقبائل الحميرية علي بن ناجي، والذي توفي عن عمر ناهز المئة والعشرين سنة في لحج. غير أن الأمور في الشحر لم تستتب للكثيريين، الذين كانوا يتمتعون بالقوة في الجنوب العربي، إلا لمدة قصيرة لم تتجاوز الستة الأشهر؛ فقد التحق القعيطيون المنحدرون من يافع، بقوات السلطان نقيب صالح الكسادي سلطان المكلا، فاحتلوا الشحر في نهاية سنة 1867م؛ لتبقى تحت سلطة القعيطي منذ ذلك الوقت.
ومع كل هذا فالتنافس الشديد بين المكلا والشحر انتهى بعداء مرير بين حلفاء الأمس ليغادر بعد ذلك محتل الشحر القعيطي إلى حيدر أباد في الهند؛ إذْ عمل هناك في جيش النظام فيلق العرب برتبة جمعدار، وهي رتبة عسكرية حملها من أتوا من بعده ومن ضمنهم السلطان الحاكم. جمع القعيطي أموالًا طائلة من خدمته في هذا المنصب، وأصبح يُقرض السلطان النقيب الكثير من المال، وعندما عجز الأخير عن سداد ما عليه من أموال اندلعت بينهما حرب برية وبحرية، ورغم كثرة أموال القعيطي فإنَّ قواته لم تستطع أن تحرز أي نصر يذكر في بداية الحرب، ونتيجة لهذه الإخفاقات دخل القعيطي في معاهدة حماية مع البريطانيين لتقوم بريطانيا بعد ذلك بدور الوسيط بينهما. رفض النقيب تلك الوساطة مما جعل بريطانيا تأمر سفينتها الراسية في الميناء بإجباره على الاستسلام ونفيه مع كل حاشيته وكثير من النساء إلى جزيرة زنجبار، ولا تزال توجد إلى يومنا هذا جالية كبيرة من أبناء الجنوب العربي تقيم في زنجبار، ولها علاقات تجارية مع البلد الأم.
ما إن ضم القعيطيون مدينة المكلا فصارت ملكًا لهم، حتى اتجهت أنظارهم سريعًا نحو بروم ليضموها هي أيضًا إلى ملكهم، فبروم مرفأ طبيعي، يوفِّرُ ملجأً آمنًا للسفن الهاربة من الرياح الموسمية الجنوبية الغربية. توجد أماكن صغيرة في الأراضي التي تم ضمها يديرها أفراد من عائلة القعيطي، وكل واحد منهم يحمل لقب جمعدار. أمَّنت الحماية البريطانية للسلطنة القعيطية الحماية الكاملة من أي غزو أجنبي، وكانوا يحصلون على المال مقابل تلك الصفقة. وبالرغم من هذا الاتفاق المبرم بينهم فلا تجد بريطانيًّا أو أوربيًّا واحدًا في حكومة المكلا الشحر؛ إذ السلطان يحكم بما شاء وبما يراه مناسبًا لبلاده، وهو يغادر البلد لفترات طويلة مما يوكد أن سلطاته باتت راسخة. ومن الأسباب التي تجعله مطمئنًّا على بقاء سلطاته أن السلطات التي تحكم حضرموت الداخل في حاجة إلى استيراد احتياجاتها من الخارج عبر مينائي الشحر والمكلا، ولذا فهم حريصون كل الحرص على المحافظة على علاقاتهم مع السلطان القعيطي.
حاول القليل من الأوربيين الانطلاق من سواحل الجنوب العربي المطلَّة على المحيط الهندي والتغلغل في أعماق حضرموت، وكان البرتغاليون هم أول من وصل إلى سواحل الجنوب العربي في حملاتهم الاستعمارية، واحتلوا السواحل كلها ابتداء من عدن وحتى مسقط، كما احتلوا المهرة، تلك الأرض الغامضة الخفيَّة التي تحد الشحر والمكلا من جهة الشرق، والتي يتكلم أهلها لغة لا يفقهها العرب. لقد بنى البرتغاليون قواعد بحرية على امتداد تلك السواحل، ودخلوا في حرب مع قبيلة حِمْيَرَ، كما قاموا ببناء قلاع عسكرية هناك، لا تزال آثارها باقية إلى الآن، ويطلق عليها العرب اليوم (حصون الفرنجة) أو (حصون الكفار). استطاع البرتغاليون البقاء في الجنوب العربي خمسة وعشرين سنة، لكنهم أُخرِجُوا منها مع بداية القرن السادس عشر، وقد أرسل البرتغاليون أسطولًا عسكريًا مكوَّنًا من عشرين سفينة لاستعادة ما خسروه، غير أنَّ عاصفة قوية أغرقت ذلك الأسطول.
لم يستطع برتغالي واحد الوصول إلى مناطق حضرموت الداخلية فقد أشار مالتزان1973 Maltzan في كتابة (رحلة إلى الجزيرة العربية) Reise nacb Suarabien إلى الصعوبات التي كانت تحول دون نجاح محاولات التغلغل في أعماق حضرموت؛ إذْ أوضح في كتابه ذلك أنه من السهل الوصول إلى مكة عن طريق التنكر والانغماس في أوساط الحجاج القادمين من كل أصقاع العالم إلى مكة كل عام، لكن من الصعب جدًّا الدخول إلى حضرموت حيث لا يوجد بها إلا السكان الأصليون، وحيث التعصب الديني على أَشُدِّه أكثر مما في مكة.
ليس فقط الأوربيون والمسيحيون وحدهم من يصنف في حضرموت بالأجانب، ولكن حتى المسلمون الذين يأتون من خارج هذا الإقليم هم أجانب وغرباء عند السكان المحليين، ولا يمكن أن تجد حجة تقنع الناس هناك بتبرير وجود هؤلاء في أوساطهم، فهنا سور صيني من الغيرة يطوّق هذا البلد، ويمنع تسلُّل الأجانب إليها.
أما فيما يتعلق بأول من قام بمحاولة جادة للدخول إلى حضرموت وأول من نجح في ذلك، فقد كان الألماني أدولف فون ريدي Adolph Von Wredye، الذي دخل حضرموت متخفيًا ومدَّعيًا نيته زيارة قبر النبي هود. انطلق من المكلا متخفِّيًا مدعيًا بأنه مصري يحمل اسم (عبدالحق)، وقد ساعده العيش في مصر مدة طويلة في إجادة اللهجة المصرية، ولكنه اتهم بأنه جاسوس سياسي لنائب الملك المصري محمد علي. لقد أوصلته رحلاته إلى وادي دوعن، ولكنه فشل في الوصول إلى قبر النبي هود، وانتهت رحلته فجأة بعد أن ألقى سلطان الخريبة القبض عليه وأسره. وبعد أن كُشف أمره في حضرموت طالب السكان المحليُّون بإعدامه، ولولا تدخل وجهاء عرب، لواجه مصيرًا سيِّئًا هناك. أُطلِقَ سراحه بعد ذلك، وأعيد إليه متاعُه كُلُّه، وعاد مرة أخرى إلى المكلا. جرت بعد هذه المحاولة بسنوات محاولات عدَّةٌ أخرى لدخول حضرموت، تفاوتت في مدى نجاحها من عدمه، لتبقى محاولة (ريدي) الاستكشافية لحضرموت أهمَّها جميعًا. لم يحالف أحدًا من هؤلاء المستكشفين الحظُّ في جلب صور من حضرموت، وما حواه هذا الكتاب من صور هي أولى الصور التي تم التقاطها في حضرموت.
ما هي حضرموت؟
في كل الخرائط والأطالس تسمى المنطقة الممتدة من عدن وحتى عُمان بحضرموت، ولكن هذه التسمية غير دقيقة، فحضرموت الآن أصغر مما يعُتقد. فمن وجهة نظر جغرافية، حضرموت هي تلك المنطقة الصغيرة التي تمتد من الساحل، ثم تليها سلسلة جبال شديدة الانحدار، وتبلغ أعلى قمة فيها 800 قدم فوق سطح البحر، وذلك في جبل التسوراTsahura . عند الوصول إلى قمة تلك السلسلة الجبلية تجد نفسك أمام هضبة عظيمة قاحلة، تمتد حتى تلتقي بالصحراء العربية الوسطى، تتخلل هذه الهضبة أودية جافة ذات جوانب شديدة الانحدار، ويصل ارتفاعها مئات الأقدام، وتعود هذه الأودية العظيمة لعصور ما قبل التاريخ حين كانت الجزيرة العربية تجري بها مياه كثيرة.
تتركز كثافة السكان والمدن في هذه الأودية لوجود الماء على مسافات قريبة من سطحها. يسمى أحد هذه الأودية بوادي حضرموت، ويبلغ عرضه 10 كم، وطوله بضع مئات الكيلومترات، وهذه مسافة قصيرة إذا ما قيست بمعايير الجزيرة العربية المترامية الأطراف، فالمسافة بين عدن ومسقط فقط تبلغ 2000 كم. أخذت المنطقة اسمها من هذا الوادي الذي به روافد عدة، وتتعدى حدوده المنطقة المسماة باسمه. الأودية الكبيرة المجاورة لهذا الوادي وسلطنة المكلا لا تدخل ضمن هذه المنطقة. إن كان هناك مملكة كبيرة تسمى مملكة حضرموت، وقد نشأت فعلًا هنا قديمًا، فمن الصعب اكتشافها لقلة المعلومات المتوفرة الآن حولها. وفي كل الأحوال فإن اسم حضرموت مشهور وشائع جدًّا إلا أنني لا أميل إلى اعتبار هذا الاسم يدل على منطقة محددة بعينها، بل هو اسم يرتبط بأناس قدماء، ويرتبط بما أنتجوه من إرث تاريخي، وإرث حرفي رائع، وهم من أطلق اسم حضرموت على أرضهم.
من خلال رحلاتي التي قمت بها في الجنوب العربي لاحظت أن كل الأشخاص الذين يعدون أنفسهم من حضرموت هم من ذلك الوادي العظيم نفسه، أو من البلدات المجاورة له كمدينة شبام، وتريم، وسيئون، أما أولئك الذين هم من مناطق بعيدة عن ذلك الوادي فيشعرون بإهانة كبيرة إذا أسماهم أحدٌ بالحضارم.
أشار بعض القدماء إلى أن اسم حضرموت يعني أرض الموت، ولكن لا توجد أدلة وثائقية تؤكد الاعتقاد بأن هذه الأرض قد اشتهرت بسوء الحظ أو المحن والأوبئة، كما لا يمكن أن توصف اليوم بأنها أرض غير صحية، بل العكس صحيح فهذه الأرض صحية جدًّا. من الممكن جدًّا أن اسم حضرموت قد اشتق من الكلمة العربية (حضر، حضارة) أي “بلد المدن والأرض الزراعية”، عكس كلمة (البادية)، والتي تعني مناطق الصحاري والسهول، وهذا التفسير هو الأقرب ويتفق مع الحقائق، فمن غير الصحيح أن تسمى هضبة الجنوب العربي بأرض الموت.
الفصل الثالث: الأرواح الخيرة والأرواح الشريرة:
كان الخادم الشخصي لنا هو (محمد)، أحد العوامل التي سببت لنا المتاعب، وكان لمحمد خادم يدعى (سيد)، وقد كان (سيد) أكثر أذى وإزعاجًا، خاصة بعد أن رافقنا في رحلتنا إلى المناطق الداخلية. (محمد) هجين من أب هندي وأم عربية، وهو يعمل في خدمة السلطان، وقد كان تحت تصرفنا طيلة مكوثنا بالمكلا، وبحكم أنه يعمل في خدمة السلطان نفسه، فقد عدّ قيامه بخدمتنا يحط من كرامته ومنزلته، ولكي يعيد هذا الوغد الماكر الاعتبار لكرامته ومكانته، أخذ يصدر الأوامر للآخرين، بغض النظر عن كل هذا، فقد كان حريصًا على ألا نفشل في استقبالنا للضيوف المميزين، ويطلب أن نقدم لهم بعض الأشياء، وأن يكون له نصيب من هذه الأشياء المهداة، وكان أيضًا يحرص على استقبال الضيوف في مكان معزول في القصر.
محمد مغرمٌ بالسجائر ويشحذها كل يوم وكل ساعة، كما أن فاكهة الأناناس نقطة ضعفه الأخرى، لقد كان يطلب هذه الفاكهة بانتظام من القصر بحجة أننا لا نستطيع العيش بدونها، كما أنه سائق بارع، ويعد اليوم الذي لا يركب سيَّارةً فيه يومًا ضائعًا غير محسوب من عمره. من عادته عند النوم أن يلف نفسه في قماش، وينام على الأرض بالقرب منّا لخوفه الشديد من الفئران، وكان ينام نومًا عميقًا، فكان يتحتم علينا إيقاظه في الصباح. عندما يستيقظ يبدأ في التجهز لقيادة سيارة السلطان، وحين يعود إلينا يكون فرحًا مبتسمًا، ويقضي بقية الساعات واصفًا بتباهي مدى تأثيره وذكائه وجسارته، ثم لا يلبث أن يلمِّح لنا بأنه سيكون ممتنًا وشاكرًا إن أُهدِيَ قميصًا جديدًا، ساعده الحظ لا بحصوله على الملابس الجديدة بل بمرافقتنا في رحلات وجولات بالسيارة. الجنود أيضًا لم يمانعوا من تغييره مؤقتًا في روتين عملهم، وذلك بمرافقتنا كحراس لنا، ونظرًا لعدم وجود مساحة كافية في السيارة، كان على (محمد) أن يبقى في الخلف.
يطرق هذا البائس محمد برأسه غارقًا في تفكير عميق في إحدى الزوايا، ثم يأخذ يهز رأسه ويتمتم “محمد بخير بخير”، وفجأة تتغير نبرات صوته ويصرخ قائلًا: “الشيطان، لا بد وأنه الشيطان هو من ضربني”. مدفوعًا باليأس والغضب، يحاول محمد الثأر لنفسه فيبدأ بالبحث عن مقطرة وبخور، ثم يقوم بإشعال البخور لعل دخان البخور يبعد عنه الأرواح الشريرة من الشياطين والجن.
إن أمر الجن ليس مدعاة للسخرية أو للضحك في الأقل في الجنوب العربي؛ إذ تعد الجن مصدر إزعاج دائم لجميع الناس. فأنت لست خارج اهتمامات هذه الأرواح، لذا ينبغي عليك أن تأخذ حذرك منها وباستمرار. فإذا نسي الإنسان أن يغتسل قبل قيامه بعباداته الليلية، فسوف تزوره إحدى هذه الأرواح الشريرة، وسيمرض في اليوم اللاحق، ولهذا فإن الشيء الوحيد الذي ينبغي عليك القيام به أن تبخر البيت كله بالبخور، ويفضل أن تقوم بعد ذلك بوضع مقطرة البخور خارج باب البيت كل ليلة؛ كي تحرم الشياطين من فرصة دخول البيت.
يقوم (محمد) بكل هذه الأعمال ولذا ينتابه شعور بالخديعة في حال أن إحدى أمنياته لم تتحقق فيلقي باللائمة على الشيطان، ولكنه بكل ثقة يعزِّي نفسه ويعزينا بأنه في النهاية ستظهر الأرواح الطيبة وستخلِّصه من كل المصاعب والمشاكل التي سببها الشيطان لجسده.
تزور الأرواح الطيبة المكلا فعلًا، وهي أرواح كريمة جدًّا كما توضح قصة متداولة محليًا لشخص يدعى (نجيب)، فبعد أن طُرِد نجيب من الحصن، الواقع في وسط المدينة، ويستخدم الآن مقرًا إداريًا يتبع الحكومة، قامت تلك الأرواح الطيبة بإلقاء أكياس ملأى بالطحين والتمر من نوافذ ذلك الحصن. يفسر السكان المحليون هذا الأمر بأنَّه دليل يؤكد وجود الأرواح الطيبة، بل ويؤكد قيامها بأعمال الخير أيضًا. بالمكلا فقراء كثيرون وهم يقدِّرون هذا العمل التي تقوم به الأرواح الطيبة.
لقد استمتعنا كثيرًا بوقتنا في المكلا بالرغم من تلك الأرواح الشريرة والطيبة. وقد أُعجِبْنَا كثيرًا بحياة الصيادين وأعمالهم في الشرج، وهي قرية صغيرة، بيوتها أكواخ من القش، وتقع على مقربة من بوابة سور المدينة. في عهد السلطنة الكسادية كان أفراد من قبيلة العكابرة البدوية يحتلون هذه البوابة، ويفرضون ضرائب باهظة على البضائع الداخلة إلى المدينة والخارجة منها، حتى الأسماك التي يتم اصطيادها محليًا تُفرَض عليها ضرائب، وقد كانت العائدات السنوية من هذه الضرائب كبيرة جدًّا.
لقد تحملت المكلا كل هذه الظروف الصعبة لسنوات عدَّة حتى تجرأ (عبدالخالق)، أحد مسئولي السلطة القعيطية، على تحدي العكابرة ونجح في هزيمتهم في معركة كلفتهم سبعين أسيرًا، أمضوا في سجون المكلا سنوات طويلة.
يزخر المحيط الهندي بمختلف أنواع الأسماك الصغيرة منها والكبيرة، ولبعض هذه الأسماك أشكال غريبة، يصطاد العرب السمك، ويأكلون جميع أنواعه، حتى الراي أو السفن الضخم، كما يأكلون القرش المرعب الذي يكثر في هذه الشواطئ. في الواقع يعد البدو سمك القرش أو اللخم طعامًا شهيًا مترفًا. يؤخذ السمك مباشرة إلى السوق ليباع ويؤكل نيًّا؛ إذْ تُجَفَّفُ لحوم القرش تحت أشعة الشمس لتتعفَّن قليلًا، ثم تتصلب حتى تصبح كالحجارة. يشتري البدو الذين يمارسون التجارة بين الساحل والوادي، لحم القرش ذا الرائحة القوية، ويأكلونه مع الأرز، فهي كل ما لديهم من أكل خلال رحلة سفرهم التي تستمر أسابيع عبر قوافل الجمال. حتى البدو غير الرُّحَّل الذين يقطنون مناطق الداخل بصورة دائمة ومستقرة يخزنون هذا الطعام، الذي يعد طعامًا من الدرجة الأولى ويأكلون منه ليلًا ونهارًا. لحم الضأن هو التنوع الوحيد في هذا النظام الغذائي الممل. كان يتحتم عليَّ أنْ أعوِّدَ نفسي على أكل هذا الطعام شِئْتُ أمْ أبَيْتُ خلال رحلتي الى حضرموت، فرفض طعام العربي إهانة له.
يعد لحم سمك القرش (اللخم) غذاءً مترفًا بكل المقاييس إذا ما قورن بالساردين الذي يسمى (عيد)، الذي يتم اصطياده بكميات هائلة، ويجمع في أكوام كبيرة جدًّا، وتُجَفَّفُ تحت أشعة الشمس؛ ليتم استخدامه كسماد في مزارع التبغ.
يتم نشر هذه الأسماك الصغيرة، والتي تصل إلى الملايين في عددها على السواحل؛ لتترك تحت الشمس يومًا واحدًا فقط، وهو كافٍ لجعلها متعفِّنة جزئيًا، ثم تُعرَضُ للبيع، يلتهم البدو وحتى العرب المنتمون للطبقات الاجتماعية العليا هذه الأسماك المتعفِّنة كريهة الرائحة وهي نية، وأسعارها زهيدة، لدرجة أنها تُشترَى وتُستخدم علفًا للجمال التي تأكلها بشراهة وتلذُّذ. يعبأ الساردين (العيد) في سلال من الحصير أو الخوص، وتُخاطُ بإحكام ليسهل حملها على ظهور الجمال إلى مناطق الداخل، وإني لا أنصح أحدًا بالسفر مع قوافل الجمال تلك التي تحمل هذه البالات أو الرزم من العيد. اللخم المجفف والعيد فهما أهم ما يتم نقله من مناطق الساحل إلى مناطق الوادي أو الداخل وهما البديلان للحوم الجزارين التي تعد الطعام المترف للقلة فقط.
يتم اصطياد السردين (العيد) بوساطة الشباك التي تنشر بين قاربين، أما أسماك القرش والسفن فيتم اصطيادها بالسنَّارة. ما إن يستطيع الطفل القدرة على المشي، حتى يتجه للساحل، ويخوض في المياه الضحلة ليتدرب على صيد السمك بالسنارة، أما الأطفال الأكبر قليلًا فيرمون بسناراتهم إلى أماكن أبعد في البحر، وحين تعلق السنارة بسمكة، يبدأون بسحبها إليهم، ولف خيط السنارة حول رؤوسهم، وهذا العمل يُنجَز بسرعة البرق. عند حصول الجزر يندفع الشباب وكبار السن إلى المياه الضحلة كي يصطادوا حبًّا في الاصطياد ليس إلا، لا سيما وأن القوارب تعود من البحر محمَّلة بأكثر مما يحتاجه الجميع. ولهذا السبب فإن مهنة صيد السمك تعد مهنة ممتعة لديهم، في أوقات العصر، وبعد انخفاض حرارة الشمس، يخرج العرب إلى المياه الدافئة ويحاولون إغراء السمك بأغانيهم وأهازيجهم مطالبين السمك أن يأكل الطعم العالق في سنارتهم، ونادرًا ما يخيب السمك آمالهم.
ولكن البحر هنا يصبح أحيانا خطرًا، فمن يغامر من السكان المحليِّين بالدخول إلى عمق البحر للاصطياد أو للسباحة، يكنْ ضحيَّةً لسمك القرش، لذا تجد الكثير من القاطنين في هذه السواحل لهم أذرع أو أرجل مبتورة تشهد على هجمات القرش، فحين تعض هذه الوحوش الخطرة فإنها تهشم العظام بقوة.
الخرافة متجذرة في عقول هؤلاء الصيادين البسطاء البدائيين، فقلَّما تجد كوخًا من دون جماجم جمال أو قوارير تتدلَّى من سقفه حماية لذلك الكوخ من الأرواح الشرِّيرة، التي تجوب الأزقة بين الأكواخ وتؤذي سيِّئَ الحظ. وإذا كانت الجن تحتفل بصخب، فما على الناس إلا أن تُشْعِلَ البخور، وفي الساعة السادسة صباحًا يتوجب عليهم وضع البخور خارج أبواب الأكواخ وتبخير ما لديهم من الملابس على قلتها بالطبع. كذلك من النادر أن تجد طفلًا بلا تميمة على شكل قلادة أو أصداف بحرية ملونة، أما البالغون منهم فلديهم صناديق فضية صغيرة جدًّا، وبها اقتباسات من القرآن الكريم، مثبَّتة في قطعة قماش قصيرة، تلبس لتغطي الخصر والفخذين. وفي أيام الولائم الخاصة تكون الشرج كلها في حالة هيجان ونشاط تهيُّؤًا لاحتفالات الرقص. وتبدأ هذه الحفلات الراقصة برقصة الفتش أو البد(1) حيث يرقص الرجال والنساء معًا، ويستمر الرقص إلى أن يسقط بعض الراقصين مغشيًا عليهم من الإنهاك.
تعد المملكة الحيوانية في هذه الشواطئ من المحيط الهندي بحد ذاتها موضوع دراسة ممتع ومثير للاهتمام، فهناك مثلًا سرطانات البحر الصغيرة والكبيرة، وإذا مشيت على الرمال حيث تتكسر الأمواج شاهدْتَ أعدادًا لا تعد ولا تحصى من الأكوام الرملية الصغيرة ذات الفتحات، هذه هي أبراج المراقبة لبيوت السرطانات البحرية، ومن أعالي هذه الأبراج الرملية التي تُبنى من الرمل المحفور ترصد السرطانات فرائسها، وتستطلع الأخطار التي تقترب منها، فإذا اقتربت من مساكنها، فإنها تتظاهر بالاختباء خلف هذه الأكوام الرملية؛ لتختفي بعد ذلك بسرعة في جحورها الواقعة خلف تلك الأبراج مباشرة. ممتع جدًّا مشاهدتها من السيارة عند الجزر حين يصبح الساحل كله يعجُّ بأعداد ضخمة من هذه السرطانات، وعند الاقتراب منها تهرب باتجاه البحر باحثة عن النجاة في مياهه.
توجد أنواع مختلفة من الطيور البحرية، فمثلًا البجع تراه سابحًا فوق الأمواج الصغيرة للبحيرات الضحلة خلف تلال الرمال، وترى طيور النحام أو البتروس ذات الأعناق الوردية الطويلة والأرجل الطويلة مجتمعة في أسراب كبيرة، وفي المساء حين تتوقف الشمس الاستوائية عن إرسال أشعتها الحارقة نحو الأرض، تحتشد أعداد لا تعد ولا تحصى من الطيور البحرية على امتداد الساحل باحثة عن فرائسها التي يقذف بها الموج إلى الشاطئ. ليس للطيور هنا أعداء، فالإنسان العدو الأول للطيور، لا يؤذيها أبدًا؛ إذْ تُشَاهَدُ طيورُ النورس وبعض الطيور المائية الصغيرة الأخرى وهي تحلِّق فوق رؤوس الصيادين وهم ينشرون شباكهم، بل وتحطُّ بكل ثقة واطمئنان على جوانب قواربهم، وتملي بطونها مما تستطيع الوصول إليه من هذه القوارب.
أما مراكبهم التجارية فهي عجيبة وضخمة لها مقدِّمات ومؤخِّرات مزخرفة، وتتم صناعتها بالنمط والأسلوب نفسه التي كانت تُصنع به من مئات السنين، إنها تشبه سفن القراصنة الإسكندنافيين القديمة، وفي كثير من الحالات يتم ربط ألواح ظهر المركب بالبناء الأساسي للمركب بطريقة بدائية جدًّا مستخدمين خوص النخيل، تقطع هذه المراكب أحادية الشراع مسافات طويلة جدًّا من البصرة وعمان عبر الخليج العربي إلى الهند، وموانئ الجنوب العربي، وسواحل شرق إفريقيا، وهي محملة بالتمور، وفي بعض الأوقات لا تحمل تمورًا وإنما حمولات أخرى مهرَّبة، أي إنها تقوم بتهريب البشر (العبيد)، كما أسلفت في وصفي لمدينة المكلا.
للبحارة العمانيِّين، والذين ينتمون لقبيلة زنجية مهاجرة، مهنة أخرى، فبالإضافة إلى كونهم تُجَّارًا فهم أيضًا ممثِّلون وراقصون وموسيقيون، فعند وصولهم إلى الموانئ ينصبون مسرحًا ويقومون بالتمثيل الإيمائي، وهذا العمل يدرُّ عليهم أموالًا لا بأس بها، تضاف إلى ما يحصلون عليه من ممارسة التجارة، وعروضهم هذه لا تخلو من السحر.
نحن الآن على وشك الإبحار في رحلة بحرية، لكن ليس على متن مركب عربي، وإنما في يخت خاص تعود ملكيته لأسرة الكاف، وقد شعر خادمنا محمد بالإثارة والحماس عندما علم بأن السلطان قد سمح له بمرافقتنا، لقد كانت وجهة رحلتنا هذه إلى الشحر.
مع بزوغ أول أشعة الشمس الجميلة، بدأت المكلا، تلك المدينة البيضاء المستلقية تحت الجروف الصخرية السوداء لجبل القارة، تتوارى شيئًا فشيئًا عن أنظارنا في حين بدأت تتكشف لنا سلسلة صخرية وعرة من جبال، تتعدَّد ألوانها بين (الأحمر، والأسود، والأخضر، والوردي)، مثيرة في أنفسنا شعورًا بالدهشة والذهول. ثم تختفي تمامًا تلك الجبال من المشهد ليحل مكانها سهل واسع. وفي مكان ما من هذا الساحل يقع ميناء بحري بالكاد يرى من البحر إنه ميناء الشحر. الشحر مدينة كئيبة غريبة، يحيط بها جدار طيني عالٍ من جميع الجهات عدا الجهة البحرية، ويشتهر هذا السور بما فيه من أبراج المراقبة (كوت) المربَّعة الشكل، والتي تتباعد عن بعضها البعض بمسافات منتظمة، وفي قلب المدينة وخلف تلٍّ رملي كبير ينتصب القصر العتيق لجمعدار أو سلطان الشحر (كما يطلق على نفسه).
لقد كان البحر حينها مضطربًا وهائجًا جدًّا مما جعلنا نواجه صعوبة في الانتقال من اليخت إلى (السنابيق) الصغيرة، ومنها إلى الساحل، وبعد عناء وطئت أقدامنا اليابسة لنجد أنفسنا وسط أكوام من الأكياس والزبالات القذرة، وقد تبلَّلتْ ملابسي وجسدي بمياه البحر المالحة، ولكن هذه هي متعة السفر.