أ.د. عبدالله حسين البار
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 22 .. ص 43
رابط العدد 22 : اضغط هنا
(1)
ظاهرةٌ شعريّةٌ عرفتها الشعريّة العربيّة منذ تاريخها القديم حتّى عصرها الحديث هي ظاهرة (المعارضة).
والمقصودُ بها – كما دلّتِ النُّصوصُ، ووَصَفَ الدارسون – بناءُ نصٍّ جديدٍ لاحقٍ من نصٍّ قديمٍ سابقٍ في الوجود.
وهذه عمليّةٌ في صياغة القصيدة تتضمّن (تماثلًا) بين النصين يأتيهما من جهة (الوزن) بحرًا وقافيةً، ومن جهة بعض الصيغ اللُّغوية التي اتسقت في النصّ السّابق فاحتذاها النصُّ اللاحق.
ولكنّها تتضمّن (تقابلًا) بين النصين كذلك، يأتيهما من جهة الدلالة والتجربة والموضوع الشعريّ. ومن هذا التقابل يتراءى النصّ اللاحق صوتًا متميّزًا بسماته البنيويّة والأسلوبيّة ومكوّناته الدلالية، وإن بدا صدًى للنص السابق من جهة بنائه (الوزنيّ) بحرًا وقافيةً.
وللمعارضة – بصفتها تلك – شروطٌ، أهمُّها – كما ذكر المنشغلون بدراستها – التطابق في التركيب الإيقاعيّ للنصّين. ولقد يشترط بعضُهم (الموضوع والتجربة) لتكون للمعارضة دلالتها.
ولهم في (المعارضة) أقاويلُ غير هذه، لا أظنُّ القارئ في هذا المقام محتاجًا للوقوف عليها، فلنمضِ عنها لنقف على مسألةٍ نقديّةٍ تتعلّق بهذا المقام، وأعني السمة الفارقة بين (المعارضة) و(الموازنة). فهما مختلفتان سمةً، متلازمتان فعلًا.
المعارضة صنيعٌ شعريٌّ، والموازنة فعلٌ نقديٌّ.
المعارضة بناءُ نصٍّ لاحقٍ على غرار نصٍّ سابقٍ، وقد يلتقيان في التجربة والموقف الفكريّ والشعوريّ وقد لا يلتقيان.
والموازنة (تقويمٌ وتقييمٌ) نقديٌّ لنصوصٍ متقاربة في الأداء والنسيج، وقد تكون متباعدةً في فكرةٍ أو معنًى، ومتفقةً في الأداء والنسيج. وقد تتوافق نصوصٌ في الأداء والنسيج والفكرة والمعنى كما في هذه الأبيات الثلاثة لثلاثةٍ من شعراء العربيّة في عصورٍ مختلفةٍ لم يُظلَّهم زمنٌ واحدٌ.
أوّلها للشريف الرضيّ، وهو قوله:
أقول للائمِ الـمُهدِي ملامتَهُ ** ذُقِ الهوى، ولو اسطعتَ الملامَ لُمِ
وثانيها للبوصيريّ، وهو قوله:
يا لائمي في الهوى العذريّ معذرةً ** منّي إليك، ولو أنصفتَ لم تَلُمِ
وثالثها لأمير الشعراء أحمد شوقي، وهو قوله:
يا لائمي في هواه والهوى قدرٌ ** لو شفّك الوجد لم تعذلْ ولم تَلُمِ.
لا مراء في أن الأبيات الثلاثة منبثقٌ بعضُها من بعضٍ، وناظرٌ بعضُها في دلالة بعضٍ، وفي هذا يكمن معنى (المعارضة).
أمّا النظر فيها تقويمًا وتقييمًا فتنهض به عملية (الموازنة) بينها، ولها طرائق في التحليل والتأويل والتعليل.
وهنا تكون المقدِّمات قاربت بيننا وبين الغاية التي من أجلها أنشئت هذه المقالة، وهي النظر في نصوصٍ شعريّةٍ مُغنَّاةٍ عارض فيها شعراؤها نصوصًا شعريّةً مغنّاةً صاغها الشّاعر الكبير حسين بن أبي بكر المحضار. وإنّ منهم من احتذاه في بناء النصّ ونسيجه وتجربته وموقفه الشعوريّ وإن خالفه في مظانَّ من كلّ ذلك. وإنّ منهم من وافقه في التجربة والموقف الشعوريّ وانماز منه في النسيج والأداء الشعريّ.
ولئلَّا َيَتِيهَ التحليل في مزدحم النصوص، وتتكاثر جزئيّاتُه، وتتعدّد أبعادُه اكتفينا باختيار نصَّيْنِ من أغنيات المحضار عارضهما شاعران ممن عاصروه، وهما الشاعر حسين بن محمد البار، وثانيهما الشاعر عليّ عبد الرحمن جحّاف. وأما البار فاخترنا له معارضته أغنية المحضار (قمري البان أنسي معك طاب). وأمّا جحّاف فعارض أغنية المحضار (قلبي من الفرقة كما الريشة). وفي كلِّ هذه النصوص تماثلاتٌ وفيها تقابلاتٌ على مستوى (الفكرة والتجربة) وعلى مستوى (النسيج والأداء).
(2)
لم تكن السّاحةُ الفنيّةُ في حضرموت صحراءَ بلقعًا لا تَزِينُها خضرةٌ معشبةٌ من الفنِّ والإبداعِ يومَ دلف أرجاءها الشاعرُ الغنائيُّ حسين بن أبي بكر المحضار، ولكنّها كانت مزدانةً بأسماءِ أعلامٍ من الشعراء والمغنّين والملحنين ومن دار في فلكهم وارتبطت سيرتُه بِسِيرَتِهِمْ. غير أنّ وفادته عليهم كانت لافتةً، واقتحامه ربوعَهم كان مفاجأةً سارةً لهم، فأكرموا وفادته وقدومه عليهم، وتقبّلوا إبداعه بقبولٍ حسنٍ، وتنوّع تلقيهم ذلك الإبداعَ على صورٍ شتّى، وطرائقَ مختلفةٍ من التلقي.
وكان الشاعر حسين بن محمد البار واحدًا من هؤلاء الذين انبهروا بشعر المحضار وألحانه على حداثته بعوالم الإبداع الفني، وسذاجة دربته في ممارسة الخلق الفني شعرًا ولحنًا. ولعلّ حماسة الشاعر البار في ذلك العهد لألحان المحضار تفوق شغفَه بأشعاره وكلمات أغنياته. أتراه لهذا كان يعارض الألحان – وهي أوزان الشاعر العامي – فينظم عليها أشعارًا مختلفة التجارب والمواقف؟ قد يكون جواب هذا السؤال، الموافقة على محتواه ومضمونه، وقد تكون إجابته المخالفة لمحتواه ومضمونه، لا فرق مادامت المسالة قائمة غلى الحكم الذاتي لا الحكم الموضوعيّ المستند إلى الوثائق المؤكدة للوقائع والمدعّمة للبراهين.
لكنّ ما نعلمه من صياغة الشاعر البار نصوصًا شعريّةً على ألحانٍ صاغها المحضار يلج بالمرء إلى مضايقِ قبولِ مثلِ هذا الافتراض. ولقد عارض البار ألحان أغنياتٍ للمحضار وصاغ عليها شعرًا لم يجد سبيله إلى الغناء، كما في أبيات ٍكتبها في وداع صديقه السيد علوي بن محمد الصافي يوم قرَّر الهجرة من المكلا إلى سواها من بقاع الجزيرة، فصاغ على لحن أغنية المحضار (عنب في غصونه) عددًا من الأبيات، استهلَّها بالابتهال إلى الله لتيسير سبيل صديقه في رحلته هذه، فقال:
ربّ سهّل طريق المسافر……بالنبيّ المهاجر
واعطه القصد كله ومضمونه
وفيها يبثُّ بعضَ وجده بسبب هذه (الفرقة) وحزنه من هذا الشتات، فقال:
با نشوّق لكم في المكلا……لا جعل بيت يخلى
كل صاحب صحابه يذكرونه
….إلى آخر ما هنالك من ذلك.
وهو قد عارض أغنياتٍ أُخَرَ للمحضار، وصاغ أبياته على ألحانها فوجدت سبيلها إلى أفئدة متذوِّقي شعر الغناء الحضرميّ حين صدح بها الفنان محمد جمعة خان، وتداولتْها من بعده أفواه المغنين. ومن ذلك معارضته لأغنية (يا زهرةً في الربيع)، وهي من الذيوع حتى كاد الناس ينسون كلمات المحضار المصوغة في لحنها مكتفين بما صاغه البار في لحنها من كلماتٍ.
ومن ذلك صوغُه أبياتًا بلغت تسعةً في عددها على لحن أغنية المحضار (قمري البان أنسي طاب). ولكنها لم تنل حظًّا موفورًا من الذّيوعِ والانتشار على الرغم من صُداح الفنان محمد جمعه بها، على غرار كلمات الأغنية الأولى (يا زهرةً في الربيع).
ولي في تعليل هذا الحال وتأويله قولٌ أودُّ عرضه على القرّاء.
إن سبب ذيوع كلمات البار في لحن (يا زهرة في الربيع) أنّ كلمات المحضار لم يتغنَّ بها فنّانٌ كبيرٌ مثل أبي بكر بلفقيه، وإنّما انحصرت في أداء بعض المغنيين في مدينة الشحر. في حين وجدت كلمات البار حظّها من الذيوع بصوت الفنان محمد جمعة، فلاقتْ صدًى طيّبًا في أفئدة من سمعوها لحنًا وكلماتٍ . أما أغنية ( قمري البان ، أنسي معك طاب ) فقد ذاع صيتها بصوت الفنان أبي بكر بلفقيه ، وراجت كلماتٍ ولحنًا على نحوٍ يفوق ما لاقته كلمات الشاعر البار على ذلك اللحن ، وانحصر أداؤها على صوت الفنان محمد جمعة وفي حياءٍ شديدٍ حتى كاد يجهلها متذوقو الغناء الحضرمي عامةً وغناء محمد جمعة خاصةً. و لعلّه بسببٍ من هذا وجدنا في أنفسنا حافزًا للموازنة بين النصَّيْنِ في هذا المقام لينماز نصٌّ من نصٍّ ، وتستبين ظواهر الشعرية في كلّ نصّ منهما.
(3)
يَتَبَيّنُ القارئُ حين يتأمُّل في كلمات أغنيتي (البار) و(المحضار) على لحن (قمري البان أنسي معك طاب) أنّ بينهما شيئًا من التماثل والاتفاق وأشياءَ من التقابل والافتراق.
لقد اتفقتا على مستوى (الوزن) بحرًا وحرفَ رويٍّ وتشكيلاً عَرُوضِيًّا. فقد بنيتا بناء (الـمُسَمّطة). وهي بناءٌ شعريٌّ يتكوّن من أربعة أشطار، ثلاثة منها متساويةٌ وزنًا ومتفقةٌ في حرف الرويّ. يتلوها شطرٌ رابعٌ مختلفٌ عن الأشطار الثلاثة الأولى في الوزن وحرف الرويّ. و(القافية) بكلّ مكوّناتها تتجدّد في الأشطار الثلاثة الأولى، لكنها تلتزم بصيغةٍ ثابتة متكررة في الشطر الرابع من بيت المسمطة.
فعند المحضار تفتتح الأغنيه بهذا البيت:
ترى ما كان بينك وبيني ….. تفرّق بين نومي وعيني
رحم حال الشريف الحسيني …..لي فيك حاب
فالأشطار الثلاثة الأولى جاءت على وزن (مفاعيلن فعولن فعولن). وهو تشكيلٌ عَزّ استخدامه في شعر الفصحى وإن جرى سَلِسًا عند شعراء الغناء في العامية. وانتظمت قوافي الأشطار الثلاثة في قافية (المتواتر)، ورويّها (النون)، وأما (الياء) بعده فوصل.
لكنّ الشطر الرابع منها جاء في تفعيلةٍ مستقلّةٍ، وهي(مستفعلان). وهو وزنٌ خاصٌّ به يتلاءم مع الجملة اللحنية الموضوعة له. وتخيّر الشاعر(الباء) حرفَ رويٍّ في قافية المترادف، لأن التسكين وتقييد (الرويّ) من سمات بناء القافية في شعر العامية بإطلاق. على هذا المنوال احتذى البار صنيع المحضار ولم يخرج عن نسيجه، فافتتح أغنيته بهذا البيت:
تعامل مهجتي بالقساوة ….. ونا مَقْدَرْ لهذي العداوة
رحم ياذي أنت كلّك حلاوة …..القلب ذاب
ووَصْفُ بنائها الوزنيّ، وحركة قوافيها وحرف رويّها لا يختلف عما وصفناه في بيت المحضار السالف تمامًا بتمامٍ، فهما متماثلان من جهة الوزن وبنائه العروضيّ حَذْوَكَ النعلَ بالنعلِ كما قال ابن أبي ربيعة من قبل. لكنهما تخالفا من جهة حرف الروي في الأشطار الثلاثة الأولى، فهو النون عند المحضار، وهو الواو عند البار.
وكذلك اتفقت الأغنيتان على مستوى (الشلّة). وهي هنا (تخميسةٌ)، لأنّ بنية البيت قامت على نظام (المسمطة)، وقوامها أربعةُ أشطارٍ كما علمتَ. ومن هنا غدت (الشلّة) (تخميسةً). ومن الثابت المقطوع به أنْ ليست كلُّ شلّةٍ تخميسةً. ولكنّ كلَّ تخميسةٍ شلّةٌ. وهذه مسألةٌ في بلاغة الأداء الشعريّ في عاميَّتنا سبق لنا أن عرضناها وأبنّا عنها في دراسةٍ احتواها كتابنا عن (المحضار) النشيد والفن، فانظرها في موضعها.
و(المحضار) كونه مبتدع النص الأول وسابقًا إليه، هو صاحب الشلَّة هنا، وما البار ألا تابعٌ له مشايعٌ لصنيعه. وقد سهل على البار أن يستخدم الشلة نفسها التي استخدمها المحضار بسبب كون ناتجها الدلاليّ عامًّا يفتقد إلى خصوصية التجربة؛ فهي تتكوّن من منادى (قمري البان)، وجملة خبريّة تتضمّن اعترافًا بطيب الحال بمعية المحبوب (أنسي معك طاب). وهذا من القول العام الذي يستشعره كلّ أحدٍ أَنِسَ بمن يحبّ وإنِ افترقا من بَعْدُ على شقاق ونفور.
وهذا الاستخدام العام في دلالة الشلّة كان دَيْدَنَ المحضار في أغنياته الأولى، فنجد من ذلك (عنب في غصونه)، (غصن العنب ريان)، (يا غصن راوي في البستان)، (طاب الجنى)، (يازهرة في الربيع)، (غصن السفرجل ناد)…إلى آخره.
وهذا استخدامٌ للشلَّة سيخرج عليه المحضار حين تنضج تجربته، وتتسع دربته، فتعدّ الشلّة ذات وظيفةٍ دلاليّةٍ في أغنياته حتى تكاد تُلَخّصُ التجربة الشعرية كلّها في تلك الشلة. وهو ما أوضحناه وحلَّلنا نماذجه في دراستنا المذكورة سلفًا، وأفضْنا القول فيه.
(4)
ومثلما اتفق النصّان على ذلك النحو اختلفا على عددٍ من المستويات أولها مستوى (المطلع).
افتتح المحضار أغنيته ببنية الاستفهام الاستنكاريّ (ترى ما كان بينك وبيني؟)، وهو – مع ما يتلوه من جملةٍ خبريّةٍ تحمل مضمون الاستفهام (تفرق بين نومي وعيني) – يقرّ بتجنّي المعشوق على عاشقه. على أن التفريق بين (النوم) و(العين) لا يكون ناتجًا عن جبروت المعشوق ولا قسوته أو غلظة قلبه. فلقد ينشأ لشدّة الشغف وانشداه العاشق بجمال المعشوق، وذبذبات عشقه، وولعه بملامح جماله وسمات حسنه، وانشغاله بالعشق الذي ورّث نارَه ذلك الجمالُ وتلك الملاحة. ومن هنا خفتت روعة بنية الاستعطاف في قول المحضار (رحم حال الشريف الحسيني.. ذي فيك حاب) لعدم الاتساق الدلاليّ بين البنى اللغوية في مطلع الأغنية.
في مقابل ذلك افتتح البار أغنيته ببنية التضاد بين التجبّر في حال المعشوق (تعامل مهجتي بالقساوة) والضعف في حال العاشق (ونا مَقْدَرْ لهذي العداوة)، فجاءت بنية الاستعطاف متَّسقةً مع الناتج الدلاليّ لبنية التضاد (رَحَمْ يا ذي انت كلّك حلاوة.. القلب ذاب).
وثاني مستويات الاختلاف بين النصين الاختلاف على مستوى (التجربة) والموقف الشعوري.
حصر المحضار أبيات أغنيته في بنية الشكوى من الجحود (نسيت المعرفة والصداقة.. ومن خلك قطعت العلاقة)، والشكوى من الانقطاع وعدم التواصل والاتصال (وما خليت للود طاقة.. ولاعاد باب)، والشكوى من التنكّر وعدم الاعتراف بالذكرى الجميلة (كأني ما عرفتك بسيلة.. ولم نسمر بسمعون ليلة)، والشكوى من استسلام المعشوق للعواذل، وهم خصومٌ لا تُؤْمَنُ مكائدهم (وكم تسمع كلام العواذل.. أهل السباب). ثم يختم ذلك بالشكوى من طول البعاد، وأثر الهجر في نفس العاشق حتى شاب رأسه ولـمّا يزل في سنيّ شبابه، أو كما قال.
أما البار فقد جمع حاضرًا إلى ماضٍ، وألّف بين حدثٍ ماتعٍ وحدثٍ موحشٍ، فوصف ما ظفر به مع محبوبه من متع حسية وأطايب معنوية (ويا ما كان بيني وبينك)، وفي (ما) هذه من الإيجاز والتكثيف في المعنى أشياء لا تكاد تحصر من الأفعال والأقوال والحركات والخطرات وما إلى ذلك. وفي هذا تعظيمٌ للفجيعة بفقد ذلك كله، فتجيء بنية الاستفهام الاستبعادي (ووينك مِنِّيَ اليوم وينك) لتؤكد تلك الفجيعة. وللتكرار وظيفته البلاغية في هذا السياق. وهنا يجتمع حاضرٌ مريرةٌ أيامُه بماضٍ هنيئاتٍ ساعاتُه، وقد استطاب الشاعر ذلك المعنى فكرّره على نحوٍ آخر في قوله :
تناجى وقت قلبي وقلبك…..وحبيتك ومازلت حبك
وذنبي في الهوى كان ذنبك…..ذنب الشباب
وفي البيت نفحةٌ من الاتحاد بين الذاتين يجعلهما مشتركين في فعلٍ واحدٍ. ولقد استكمل البار حديثه ذلك بالدعاء لذلك العهد الذي ائتلف فيه قلباهما وإن حال حالُهما من بعد إلى افتراقٍ:
رعى الله وقت عدّى علينا…..مِنِ اثْمار المحبة جنينا
شربنا، كننا ما ارتوينا…..أحلى شراب
ومتى ارتوى عاشقٌ من معشوقه – أيّها الشاعرُ الكبيرُ – ولو عاش معه العمر َكلّه في سعادةٍ وهناء؟!
ولاجتماع سرور الماضي بشقاء الحاضر جاءت بنية الاستعطاف في البيت التالي منسجمةً متّسقةً:
تجمّلْ عود أيام مرّت…..على شاطي الوداد استقرّت
وحليت جم بعدين قرّت…..أمست عذاب
وهذه تجربة في العشق تجعل أغنية البار صوتًا مستقلًّا لا صدًى لأغنية المحضار وإن نسج على منوالها بحرًا وقافيةً وشلّةً، – (أو قل تخميسةً) – ما نسج من أبياتٍ متعددةِ الأشطار.
وهكذا هم الشعراء دائمًا، يولِّدون نصًّا من ثنايا نصوصٍ، ويشكلون جديدًا من أنقاضِ قديمٍ وبقاياه، فيأتلق إبداعهم، وتورق شجرة خلقهم الفنيّ بثمارٍ يانعةٍ مشتهاة.
وثالث مستويات الاختلاف بين النصين الاختلافُ على مستوى الجزئيات في دواخل الأبيات.
ففي حين جرت أبيات المحضار منسابةً مع خواطره الشعرية ومعانيه المستلهمة من خياله المحدود وقتذاك، فقد كان في مقتبل عمره، وبَدْءِ تجربته في صناعة الشعر، وهو على النقيض من حالٍ كان عليه الشاعر البار، فقد انضجته تجاربه في صياغة الشعر وممارسة نظمه فصيحًا وعاميًّا، وأمكنته تلك الدربة من إخصاب نصِّه بصورٍ من جمال اللغة وشعرية البيان.
فالمحضار قد اتكأ على فكرة (الركب) القادم من جهة المحبوب فمضى يتلمّس أخباره ويتنسّم روائحه فعاد برجاءٍ خائبٍ وأملٍ مكسورٍ. ولم يتجاوز (الكناية) في قوله: (ولا خليت للود طاقة… ولاعاد باب، وإن أجاد في توظيف بنية (المقابلة) في قوله: (تقاطعني ونا لك مواصل… وتظلمني ونا فيك عادل)، لكنّه شايع شعراء العاميّة الحضرميّة في استخدام المقابلة بين الشيخوخة والشبيبة في قوله: (وشيّبي ونا في سنيني ما زلت شاب).
أما البار فقد جلَّى في شعريّة بيانه، فجاءت الاستعارة في قِرَانٍ لُغَوِيٍّ بين حسّيٍّ ومعنويٍّ في قوله: (على شاطئ الوداد استقرت) و(حليت جم بعدين قرت) والحديث عن الأيام، ناهيك بالوصل الطبيب في قوله: (ولا شيء غير وصلك طبيبي… هذا الصواب)، والدمع الشفيع في قوله: (وغير الدمع ماشي شفاعة… ولا العتاب). ولديه من المعاني الجزئية ما نظر فيها على أشباهها عند شعراء العربية كما في قوله: (منعت العين من شوف زينك)، ففيه نظرٌ – وإن بالتضاد – إلى قول أبي نواس: (يَزِيدُكَ وجْهُهُ حسنًا إذا ما زِدْتَهُ نَظَرًا). فحرمان العاشق من النظر إلى جمال وجه المعشوق يحرمه من رؤية تجدّد الحسن فيه مثلما يزداد الوجه حسنًا إذا ازداد النظر فيه.
وفي قوله: (وذنبي في الهوى كان ذنبك… ذنب الشباب) فيه نظرٌ لقول أبي الطيب:
ممّا أضرّ بأهلِ العشقِ أنّهمُ … هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا.
فلو امتلك العاشقان حكمة الشيوخ ما أضرّ بهم العشقُ، ولا ظهرت لهم فيه ذنوبٌ. لكنّهما كانا غِرَّيْنِ لا يفقهان للعشق حدًّا ولا للحبِّ شرطًا، فوقعا في المحذور.
وهذا من غرائب المعاني التي يوحي بها وهج الحبِّ في وجدان الشاعر من قديم الزمان.
(5)
لا شكَّ ولا خلافَ ولا اضطرابَ في يقينِ الحداثيّين من أهل النقد أن النّصَّ الأدبي شعرًا كان أم نثرًا بينةٌ لُغَوُيّةٌ تحتكم – في التزام الأصول أو العدول عنها – على نظم قوانين اللغة التي يشكّل منها الـمُبْدِعُ نصَّه وفق سننها المرصودة.
ومن صور ذلك اليقين الذي لا اضطراب فيه أن النص الأدبي لا يبزغ في فراغٍ، ولا ينشأ من عدمٍ، على الرغم من قول بعض الأوائل من كُتّاب العربية عن نفسه إنه لا يتكل في مكاتباته إلا على ما يجتلبه خاطره ويجيش به صدره. ومع ذلك الاعتراف رصد له الراصدون صورًا من القول بناها على أقاويل من سبقوه، نثر فيها منظومًا ونظم منثورًا. وهكذا هو الحال في كل بنية لغوية أدبية، ينبثق نصٌّ من نصٍّ، ويتخلّق عملٌ لاحقٌ من نطفةٍ أمشاجٍ لعملٍ سابقٍ. يستوي في ذلك أن يكون العمل منظومًا في نسق العربية الفصحى أو في نسق اللغة العامية المحكيَّة.
ولقد يكون هذا التفاعل بين النصوص قائمًا على تكويناتٍ جزئيةٍ ذريّةٍ فيضمُّها مصطلح (التناص). ولقد يقوم على تكويناتٍ نصيةٍ شاملةٍ رؤًى أكبرَ، يشملها مصطلح (الاطراس) كما علَّم (جينيت) في حديثه عن المتعاليات النصية.
ولن تنأى النصوص التي تؤكِّد صحة مثل تلك المقولات عن ذهن القارئ، فهي مبذولةٌ، وميسَّرٌ الوصول إليها دون عناءٍ. وفي شعر المحضار نفسه صورٌ عدَّةٌ منها. ومن تلك التكوينات الجزئية قوله:
(عكها يا معكي بيتها يامبتي
وقتك اليوم مانا قد تخطيت وقتي).
ففي البيت الثاني هنا نظر إلى قول الشاعر العربي القديم:
(يا أيُّها الرجلُ الـمُرْخِي عمامَتَهُ … هذا زمانُكَ إنِّي قد مضى زمني)
وفي قوله في أغنية ثانية:
(إن قلت له صَلْ شرق لك صلّى)
مَتٍحٌ من قول حداد بن حسن:
وإن قال صلّوا شرق صلينا عمد
وإن في قول حداد زيادةً ليست في قول المحضار تتمثل في القصدية (عَمَدْ). وإن كان في قول المحضار تخصيصٌ يسمو بالمحبوب إلى حدِّ الالوهية (لك صلّى)، وإنما تكون الصلاةُ لإلهٍ.
وقال في ثالثة:
طاير بلا ريش بلا ريش … صانع من الشوق ريشي
فتراءى في داخله قول حسين البار:
مسكين مسكين بو حضرم تغرب وساح … طاير ولا له جناح
على أن صنعَ الريشِ من الشوقِ إيغالٌ في شعرية الكلام يعوضها في بيت البار التكرار في اللغة الوجدانية.
والتناص يقوم على الاستدعاء من الثقافة كائنةً ما كانت صفتُها. ففي شعر المحضار من ذلك صورٌ عدَّةٌ. منها قوله:
وثيروها على الجبح حمرا مثل ما ثارت الغبرا وداحس
با تسلّب سلوبة بن غرامة
طردت عيال العم, وطردت بو دجانة هو وبن قملة
كم شاب في الليل يسري… شل حصته من شهامة عمار بن ياسر
… إلى آخر ما هنالك من ذلك. وكلُّها صورٌ تستدعي التاريخ في بعض وقائعه وأعلامه. ولكم وددت أن يتنبه بعض دارسي التاريخ فيكشف عن هذا البعد في شعر المحضار فيجلوه لنا واقعًا ورمزًا لينظر كيف وظّف شاعرٌ كالمحضار ذلك الموروث الثقافي في شعره، فأخصب به رؤيته وزان شعريته. ولكن من لك بذلك المشتهى المنشود؟
وغير صور التاريخ في شعره صورٌ أخرى انبثقت من مناحٍ ثقافيّة ومعرفيّة متعددةٍ لا يكاد يتسع لها المقام. فلنعدِّ عن ذا وننظر في بعض الصور الكلية المستدعاة في شعر المحضار وتندرج في باب (الأطراس).
(6)
و(الأطراس) بُعْدٌ في مقولة التناص عند (جينيت). وهي تقوم على جدلية الخفاء والتجلي، وتظهر في تكوينات النص الكبرى والشاملة، حيث يُكْتَبُ نَصٌّ على لوحٍ ثم تُـمْحَى الكتابة عنه لكنَّ آثارًا منها بَقِيَتْ على اللوح المكتوب عليه سلفًا فيُكْتَبُ عليه نَصٌّ جديدٌ لاحقٌ لما سبق، فيتضمّن منه بعض ملامحه وإن لم يكن هو إياه. ولعلّ أبرز شاهدٍ يردّده القائلون بهذه المقولة هو مسرحية برنارد شو (بجماليون) التي استلهمها من أسطورةٍ إغريقية تدلّ على قوة الخلق الخارق عند ذلك المثّال، حين صنع تمثالًا آية في الحسن الـمُبْدَعِ، وتحدّى به الآلهة، لكنه انهار متحسّرًا عليه حين أحالته الآلهة إلى بشرٍ، يمارس ما يمارسه سائر البشر من أعمالٍ لا سموّ فيها ولا كبرياء، فسقط مِثالُه الجماليُّ السامي، ولم يجد فيه – وهو بشريٌّ – ما كان يجد فيه وهو تمثالٌ تامُّ الخلق بديع الانسجام. فطالب الآلهة بإعادة تمثاله كما كان من قبل، ولكن هيهات. فَكَسَرَ التمثالَ وتحطّمت آماله في قدرته على الخلق والإبداع.
من هذه الأسطورة أنشأ (شو) مسرحيته عن عالمِ لُغَةٍ قصد إلى الرقيّ بفتاةٍ سوقيّةٍ مبتذلةٍ من عالمها المرذول إلى سيدةِ مجتمعٍ راقٍ. ولقد نجح في خطواتِ عمليته تلك. لكنه أخفق في نسيان العنصر البشريّ بمشاعره وأحاسيسه عند الفتاة؛ إذ أحبت ذلك العالم ولم يكن هذا بالمخطّط له وموضوعًا في حسبانه، فكادت العملية بِرُمَّتِها تتلاشى وتنهار لولا بعض الرؤى المسرحية التي هيأها (شو) لمسرحيته كي تنجح.
(بجماليون) الأسطورة وَهَجٌ يتألق في مسرحيّة (شو)، وكِتابَةٌ سبقت على لوحٍ، مسحها (شو) ليخطَّ فوقه مسرحيته، لكنّ بقايا تلك الكتابة تُطِلُّ من سطور مسرحية (شو) على حياءٍ لتدلَّ على ما سبق من كتابة. وهذا هو جوهر مفهوم (الأطراس) عند (جينيت).
وفي كثيرٍ من الأعمال الأدبية شيءٌ من ذلك، وأبدع فيه مبدعون عرب وغير عرب. والمحضار واحدٌ من هؤلاء. وإنّ من صور هذه الأطراس ما يتصل ببناء الأغنية إيقاعيًّا، وإنّ منها ما يتعلق ببناء الصورة الفنية. وخذ مثلًا من ذلك قوله:
بسألك يا طير يا ذا المعلّي… حط ساعة فوق داره وعل
خبره عني وقُلْ له بفعلي… وسأله باللطف عما فعل
ورجع وقل لي … آه لي قلته جميعا وهو قال آه
تقوم الصورة في هذا البيت على بنية (المشهد)، فتسمع تحاور المحضار مع الطائر الذي لا ندري ما يكون هدهدًا أم حمامةً أم بلبلًا أم طائرًا آخر غير هذه، فيستدنيه من عليائه ليحثَّه على الذهاب إلى منزل معشوقه فيختلي به ثم يبلغه رسالته وما تضمنته من شجنٍ وحنينٍ وأحوالٍ شتّى متناقضةٍ، وما صنع في حبه إياه وينبهه إلى الحذر من ترويعه وإقلاق نفسه حين يعمد إلى مناجاته، والسؤال عما صنع في سبيل هواهما. ويأتي (الاحتراس) هنا ليزيد من براعة الأداء اللغوي في الشطر الرابع (باللطف). ثم يحثه على العودة سريعًا ليقف على فحوى تلك المحاورة بين الطائر والمعشوق.
تستدعي الصورة موقف نبي الله سليمان حين تفقَّد الطير ولم يجد الهدهد بينها، ثم تحاوره معه وإتيانه بنبأٍ من سبأٍ وحالها مع امرأة تملكها، وحمله رسالة سليمان إليها، وعودته بما جرى بينهما من بعد.
لكن الصورة القرآنية لم تظهر في بيت المحضار جليةً ظاهرةً، وإنما تناسل وهجها في كلام المحضار فَوَشَتْ به دوالّ شعره وقصيده. وهذه طريقةٌ من طرق استخدام التناص في هيئة (الاطراس). وقس عليها أشباهًا لها ونظائرَ.
وهنا يصح الاستدراك على قول المحضار من جهة عدم تعيين جنس (الطير) ونوعه ومن جهة استخدام لفظة (الطير) وهي جمعٌ في العربية ومفردها (طائر)، فغلّب عليه الاستخدام الدارج عند عامة أهل حضرموت من جهة استخدام الطير للمفرد، ولعموم الجنس لا لخصوصه.
(7)
تندرج كلمات أغنية (عليل امهوى) للشاعر علي عبدالرحمن جحّاف وكلمات أغنية (كما الريشة) للشاعر حسين بن أبي بكر المحضار في إطار بنية الأطراس. وهاك بيانه.
في السبعينيات من القرن العشرين ظهرت أغنية المحضار (قلبي من الفرقة كما الريشة)، وشدا بها الشادون فذاعت في الأسماع والأفئدة. ووقع لها صدًى في نفس الشاعر علي عبدالرحمن جحّاف، وهو من شعراء حجة النابهين، الذين نظموا الشعر بالمحكية التهاميّة فأجادوا استخدامها. فتمثل محتوى الأغنية وتجربتها الشعرية عن واقعٍ معيشٍ أو خيالٍ نابضٍ مرتعشٍ بالصور الدالة المعبّرة، سيّان، فصاغ من ذلك نصًّا يحتذي به تجربة الشاعر المحضار في مظانّ، ويعدل عنه في مظانّ أخرى، فجاءت رائعته (عليل امهوى) لتشهد على اقتدار شاعر في تصريف القول وولوج مضايقه، وتشكيل شعرية نصِّه وفق سنن لهجته المحكية. وكأني به قد قرأ نصَّ المحضار مرقومًا على طِرْسٍ فمحا ما خُطَّ فيه من شعرٍ لِيَرْقُمَ على الطِّرْسِ نفسه نصَّه، فزاحمت بقايا الكتابة الممحوَّة ماجدّ على الطرس من كتابةٍ. وهذا في ذاته عملية إبداعية لا يقوى عليها إلا الكبار من المبدعين.
وقف الشاعر جحاف على مناجاة الطائر في أغنية المحضار، فناجاه.
ووقف على الشكوى من الغربة عن الأهل والوطن فشكا منه ما شكا.
ووقف على الحنين إلى مرابع الهناء والعيش اليسير البسيط فحنّ إليها كلها.
لكنه لم يقف على وظيفة (الشلة) في أغنية المحضار، فبنى أغنيته على نظام (المبيت) و(التوشيح) كما في الأغنية الصنعانية.
ووجد في صور المحضار إجمالًا أدخل في الإيجاز، فازدهاه تتبع تفاصيل الصور في مبيتاته، وأحكم نسيجها، فبدت كلمات أغنيته أبهى بريقًا وأشدَّ ائتلاقًا.
واجتمع الشاعران في اجتلاب الحكمة في كلماتهما، فتمثّلا جلال الشيخوخة ومهابة الحكماء، وهذا إجمالٌ في وصف صنيع الشاعرين لابدَّ من أن يُشْفَعَ بتحليلٍ تفريعيٍّ على نحوٍ مما يلي:
استهلَّ الشاعر المحضار قصيدته بالشلَّة : (قلبي من الفرقة كما الريشة)، وفيها تلخيصٌ مكثّفٌ لطبيعة التجربة التي يريد وصف تفاصيلها، وتبيان أبعادها. وها ما دأب عليه المحضار مذ بدأت تجاربه في صياغة الشعر تنحو نحو النضج، والاستفادة من دربة النظم وتشكيل القول حتى غدت خصيصةً أسلوبيةً يمتاز بها قصيده، وينماز بها من طرائق الآخرين في استخدام (الشلَّة)، بل وانماز استخدامه إياها من طرائقه هو في بداياته الشعرية كما وصفناه في أوّل هذه المقالة.
وهذا صنيعٌ في الإبداع لا تعرفه الأغنية الصنعانية، فلم يقف عليه الشاعر علي جحاف فاستعاض عنه بمناجاة الطائر، واستهلّ بالنداء أغنيتَه. وهو مكوّنٌ أسلوبيٌّ استخدمه المحضار في أول أبيات قصيده، فكأنما تماثل الشاعران في التشكيل اللغوي. والواقع أن بينهما فرقًا في الدلالة. فـ(طير المحضار) عامٌّ لا ينبئ عن مخصوص يتشكل في إطار الاستعارة. فهو دالٌّ منحصرٌ في إطار المواضعة لا الاتساع، أما (طائر) جحاف فهو ينبئ عن مخصوصٍ يناجيه، ويفرده بحديث الشكوى من الغربة. قد يسأل سائل: ومن يكون ذلك (المنادى) على الحقيقة؟ وهنا يكون الجواب: لا يهمُّنا معرفته في هذا المقام تعيينًا. وحسبنا أنه أدخل دال (الطائر) في دائرة المجاز، وهو من بواعث الشعرية في النص. لكن المحضار لم يُخْلِ بيته – كذلك – من مجاز، حين ماثل بين عش الطير و(عش) الشاعر، فجاء (الترديد) مبنيًّا على شرط المجاز، فالعش الأول حقيقةٌ، أما (عشي) فمجازٌ قصد به الشاعر بيته الذي يأوي إليه فيسكن بعد اضطراب.
يتلو ذلك عند المحضار بيت ثانٍ يغبط في شطرٍ منه الطير على غدوِّه ورواحِه آمنًا مطمئنًّا ويتمنى في شطرٍ ثانٍ أن يظفر بمثل تلك الحركة في أرضه، ثم في شطرٍ ثالثٍ يعيِّن طبيعة الحياة التي كان يتمنى أن تكون له (حتى ولو جمال ع الهيشة). فطاف متنقِّلًا بين المعاني دون أن يقف على جزئياتٍ تشكّل صورةَ كلِّ معنًى، في حين جعل (جحاف) (طائره) مجرد منادى يبثّه معاناته منصرفًا عن التماهي مع الطائر على نحوٍ ممّا فعل المحضار، لكنه سعى إلى الاستعانة به في العثور على من يخلّصه من معاناته هذه الغربة. فقد بلغ السيل الزُّبى، وغدا القلب عليلًا بهواه، ولا سبيل للشفاء إلا بتمائم تُنْجِيه مما هو فيه.
على أن (المبيت) الأول عند جحاف لم يَخْلُ من اهتزازٍ في استخدام دالّ (الطائر) ففي حين تراءى في مطلعه وكأنه مجازٌ عن كائنٍ حيٍّ صديقٍ أو رفيقٍ، بدا في البيت الثالث من (المبيت) عينه طائرًا من الطيور، فأخرجه من دائرة الاتساع إلى دائرة المواضعة: (سَقِّمْ أشا سايلك واخو امطيور امحوائم). لكنه وفق إلى استخدام اللغة الوجدانية في قوله: (ناخوك وش با تساوي) التي أوحت بالحيرة والعجز عن تجاوز الحال المشهود.
وإن مما لا يجوز فواته على قارئ النص التمييزَ بين النصوص في صياغة الفكرة وجلاء المقصود. وهنا يبدو (المحضار) شاعرًا يهتم بأداء المعنى وتشغله صياغة الفكرة عن كثيرٍ من تفاصيل التخييل الشعري. أما الشاعر علي جحاف فقد شغله التصوير عن التعبير والتقرير، فاندمج (المعنى) في (الصورة)، ونمت الصورة بين عينيه من خلال جزئياتها التي تقرّاها في موجودات الحياة التي كان يعيشها وأهلُ زمانه، فاسمعه وهو يميّز حاضرًا من ماضٍ، وحالَ عيشٍ مقيمٍ كلُّه جفوةٌ وانكسارٌ وحالَ عيشٍ منقضٍ كلُّه بهجةٌ وازدهارٌ على بساطته وما تخلّله من شقاءٍ وتعبٍ. وفي المقطع الثاني يشكو جحّاف زمانه، ويستنكر اتجاه (المغترب) للبحث عن عزة في ديار غربته بعيدًا عن أحبته في بلاده: (منيّا له العز من فارق ديار امحبايب :: وكيف يهناه زاده). ثم يتلقّط مصادر عزِّه التي كان يجب عليها الاعتداد بها والحرص عليها، وهي (امزهب) – وهي الأرض الزراعية -، والوادي المتصل بها، (امزرايب) – وهي حظيرة الأنعام، والسرير المصنوع من خوص النخل يريح المرء عليه جثته بعد جهدٍ جاهدٍ وتعبٍ مريرٍ (وحيث تاوي امقعادة). وإن من أيسر الأحوال على من فقد كل ذلك راضيًا مختارًا أن يتجشم (المهلكات)، ويسير على درب كله أسلاكٌ وأشواكٌ، لا لشيءٍ لكن لتركه أرضه، وتطلّع نفسه لماءٍ متوهّمٍ في قيظ الصحراء. ومن هنا جاء (التهكم) في قوله: (يهناه عيش امنكد :: مادام بارح رباها)، وإنما التهنئات على المكارم والعظائم لا على نكد الدنيا وشقائها. وفي هذا وأمثاله ما يشي بوعي الشاعر بالامتزاج بين (العام) و(الخاص)، وبين (النفسي) و(الاجتماعي). وهو مالم نجده عند المحضار في قصيده هذا. لكنّ طلب المحضار من الركب أن يحملوه إلى أرضه (حتى لقوني طرد في خيشة) يُبْقِي ألق الشعرية في قصيدة ملحوظًا.
وفي البيت الأخير يستعرض جحّاف ذكرياتِ عيشٍ نَعِمَ به على ما فيه من عناء. فقد كان عهد (عيش امهناء)، وكان هو (يهوى امطرب وامتنفّاس) فيه، وكانت (دبعته) على رأسه تحميه من شواظ القيظ وهو يتنقّل بجماله من هنا إلى هناك، ويشغله خيال النساء الجميلات الفواتن (كم زخم يخطر قبالي :: أحيد به غصن مياس)، ثم هذه (الصورة / اللقطة) الرائعة لذلك (الزخم) وهو :
يرقص على نغمة امشحرور بين امدوالي :: يهمّس الأرض همّاس
وهي من الخيال السامي، وفيها من الدليل على صدق مقولة أبي عثمان من أن (المعاني مطروحةٌ في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ، وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير).
وكلا الشاعرين أجاد استخدام اللهجة المحكية صوتًا ودلالةً، ووظَّفها لتحمل عنه أسرار قلبه وشجون خاطره وأحلام فؤاده. على أن جحاف كان أكثر إيغالًا في استخدام اللهجة التهامية وإن لم يكن من أهلها لكنه أحكم نسيج الشعر بها، وجلا بعض خصائصها في نظمه بها كاستخدام (الانطاء) – وهو قلب الهمزة عينًا – و(التمويم) – وهو قلب (ال) التعريف العربية إلى (ام) التهامية -، والنحت كما في قوله (منيّاله) بمعنى من أين له؟ و(التامس) بمعنى أوّل أمس، ناهيك باستخدام اللغة الوجدانية في عددٍ من المظان. وأَكْثَرَ المحضار من استخدام الأساليب الإنشائية نداءً وأمرًا واستفهامًا، وهي طلبيةٌ، كما استخدمها غير طلبيةٍ، كالتمني وما جرى مجراه.
(8)
وبعد:
فإنّ فرادةَ شعر المحضار لا تكمن في ذات لغتها معزولةً ولكن في قدرتها كذلك على الهجرة إلى نصوص الآخرين وتفاعلها مع ذائقتهم ولغتهم الشعرية وتوالد نصوصٍ جديدةٍ من ثناياها. وما أكثرَ الحالاتِ التي استطاعت فيه قصائد المحضار فعل ذلك! إنّها كالبعير الذي يجيد ضِرابَ النوق فيولدها إبلًا تتكاثر في نواحي الأرض وتملؤها حياةً متجدّدةً.
وهنا أسأل:
أتراه لهذا أو لشيءٍ شبيهٍ به وصفت العرب الشاعر النابه بأنه (فحلٌ)؟
سؤال أدع الإجابة عنه للقرّاء، أو لواحدٍ منهم في أقلِّ تقديرٍ.