د. طه حسين الحضرمي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 22 .. ص 54
رابط العدد 22 : اضغط هنا
عبدالله سعيد الجعيدي من أبناء المكلا المتميزين، ممَّن ذابوا عشقًا في أعطاف عروس بحر العرب، ثم ترجموا هذه المحبة إلى أحرف مضيئة. فلم يكن بدعًا في مجال الإبداع الأدبي؛ لأنه يمضي على خطا سلفه من المبدعين محبي هذه المدينة الساحرة؛ من مثل الشاعر خالد عبدالعزيز صاحب (بعد المكلا شاق)، الذي جعل هذه الأحرف تتوهج في متون ديوانه (المكلا)، والقاص والروائي صالح باعامر، الذي أشعل الشوق في هذه الأحرف في روايته (المكلا) وفي غالب أقاصيصه.
قد يتساءل متسائل فيقول: لماذا هذا الاحتفاء المبالغ فيه بمدينة مثل المكلا؟ أليست هي مثل بقية المدن إن لم تكن أقلَّ شأنًا منها؟ ما المميَّز فيها؟ أفي سكانها أم في مكانها؟ أفي جبلها أم في بحرها؟ أفي مناخها أم في شمسها؟
التساؤل في جوهره مشروع، بيد أنه غير مستساغ؛ لأن الأمكنة لها مقياس يرتكز على العواطف والمشاعر لا بالجغرافيا ولا بالمناخ. وما صاحب صرخة (آه .. يا القِيْمِه) في بلاد الهند مستنشقًا نفحاتٍ من بلاده (القيمة) بأرض حجر إلا أنموذجًا مثاليًّا لهذا التعلُّق بالأمكنة.
(1)
هل للذاكرة مرافىء تسكن إليها حين تغزوها الخطوب؟!
يقال: إن هناك ثقبًا في الذاكرة يشبه ما نسمع عنه في السنوات الأخيرة عن ثقب في الأوزون، وقد يزيد الأمر عن حدّه فتصبح عندنا ثقوب عدَّة في ذاكرتنا الفردية والجمعية. بيد أن هناك علاماتٍ خطيةً بارزةً في هذه الذاكرة لا يمكن اختراقها أو الاقتراب منها؛ لأنها حادة الزوايا، مصقولةٌ متونُها مثل المرايا، شبيهةٌ بمرافىء مجهولة، تَسْكُنُ إليها سفن الذكريات؛ لكنها قد تختفي وراء الضباب الحياتي المعتم حينًا والشفَّاف أحايين كثيرة، الذي يغشّيها مثل الندى في الغدوات، أو يغطيها كغُبْشَة الليل في العَشِيَّات. كما قد تعتليها غشاوة طارئة مثل غَشْيَةِ الموج، غير أنها لا تزول ولا تفنى؛ لذا فهي تحتاج إلى يد حانية تزيل عن متونها ما علق فيها من غشاوة الغُبْشة، وما أحاط بها من ندى الضباب، وما احتواها من عنفوان زبد الموج.
فهاهي اليد الحانية تتمثّل في أوراق الجعيدي المكلاوية، التي أحمدُ إليه هذا الفعلَ النبيلَ؛ لأننا في أمس الحاجة في هذه الأيام العصيبة إلى أياد حانية تمسح برقَّة على ذاكرتنا الفردية والجمعية لتزيل عنها ما علق بها من غبار النسيان فتجلوَ الغشاوة عن صَبَوَات الزمن الجميل.
أثارت هذه الأوراق شجنًا ظل يعزف مدةً من الزمان في أعماقي ألحانَ الشوق والحنين إلى أيام الطفولة والصِبا في أحضان أزقة مدينتنا الجميلة (المكلا) وحاراتها؛ فأعادت الحياةَ إلى مرافىء الذاكرة لترسوَ فيها سفنُ الذكريات، وسأكتفي في هذا الهامش بأربعة مرافىء أيقظتها نسماتُ هذه الأوراق العليلة.
المرفأ الأول: قصر السلطان القعيطي
يقع هذا القصر فوق لسان يمتد على الساحل عند بداية مدخل المكلا الرئيس، والذي كان يعرف قديمًا بـ( برَّع السدّة ) حي السلام حاليًا، أقيم هذا القصر في عهد السلطان عمر بن عوض القعيطي في حدود سنة (1924 م) أو ( 1925م ). ويتكون من ثلاثة أدوار، يحيط به سور بمساحة كبيرة، وبناؤه متأثر بطابع العمارة الهندية، الذي كان شائعًا في المكلا آنذاك.
كان هذا القصر في طفولتنا يثير فينا هيبةً وفضولًا؛ فقد كنَّا نمشي على مبعدة منه فننظر إليه بإعجاب ممزوج بدهشة وإجلال. ونرسم بأعيننا على حيطانه العالية أهلّة الشوق والحنين إلى تاريخ أجدادنا الأمجاد ممن أفلتْ نجومُهم الزاهرة في تلك الأيام وأعني بها مستهل السبعينيات. وقد عُرف هذا القصر في أوساطنا باسم (القصر) من باب العهد الذهني.
ثم تذللت السبل إلى ولوجه فكنا نلج إليه بعد أن أصبحت أبوابه مشرعةً. فأصبحت أقدامنا الصغيرة تزغرد في فنائه الفسيح فتستشرفُ أعيننا الحالمة عبر سوره البحري المتآكل جآذر بحر (المشراف).
المرفأ الثاني: قشارة سانجي الموءودة:
هذه (قشارة) وُئِدتْ بكبس كان آنذاك ثقيلًا على نفوسنا، وقد ترجم المبدع باعامر هذا الإحساس في قصة شعرية بديعة بعنوان (إنهم يشنقون البحر)، ثم نُشرتْ في مجموعته القصصية (دهوم المشقاصي) بعنوان (لغة الأمواج) إنْ لم تخني الذاكرة وكثيرًا ما تفعل.
لم أعلم أن لهذه (القشارة) اسمًا إلا من كتاب صديقي الجعيدي. وهي تسمية خاضعة لمسوِّغات مكانية وحدثية خاصة. أثارت هذه (القشارةُ) وأخواتُها ذاكرةً قد علاها الصدأ عن أيام البحث عن (الصني = الطُعم) تحت هذه القشارة وأخواتها؛ وذلك باستخراج ديدان الرمل بطرائق شتَّى.
المرفأ الثالث: (العَيْقَةُ) والنشاط الرياضي:
(العَيْقَةُ) هي المجرى المائي الفاصل بين المكلا (الجانب الشرقي) وشرج باسالم (الجانب الغربي)، التي حلّ محلّها اليوم (خور المكلا). وهي لفظة فصيحة: تعني: الفناء من الأرض وساحل البحر وناحيته وجمعها(عَيْقات).
وقد كانت لنا – نحن أبناء حي الشرج (حي العمال) – صولاتٌ وجولاتٌ في هذه (العَيْقَة)، التي كُنَّا نعدُّها آنذاك ملكية خاصة بنا. شهدت (العَيْقَةُ) نشاطًا رياضيًّا متميِّزًا في سبعينيات القرن الماضي، وقد أسهمت في تغذية أندية المكلا الشهيرة (المكلا-التضامن-الشعب) بجملة من أشهر لاعبي كرة القدم من أبناء جيلي، من مثل صالح الشاحث عليه رحمة الله؛ الذي كان أبرزهم شهرةً آنذاك. وكان الصراع على أشدّه بين أبناء الحيَّيْنِ ولاسيما على ملاعب (العربي) و(الزمالك) و(الصاروخ) الواقعة في الجهة الشرقية من (العَيْقَة) من جهة (باجعمان) بجوار ورشة تعاونية النجَّارين سابقًا.
الملاعب السابقة كانت تابعة لأشهر فريقَيْنِ من الحيِّ الشرقيِّ، هما: (العربي) و(الزمالك). وفي غالب الأحيان كان أبناء حي الشرج هم المنتصرين في امتطاء صهوة هذَيْنِ الملعبَيْنِ المشهورَيْنِ إلا إذا دفع أبناء الحي الشرقي (الإتاوة) المفروضة عليهم. وهذا يؤيِّد تاريخيًّا أن الخور يخضع جغرافيًّا لشرج باسالم.
المرفأ الرابع: (قابوس) الغامض:
كانت هذه الشخصية تمثّل رُعبًا يزلزل قلوبنا الطريَّة في طفولتنا. هي شخصيَّةٌ سرديَّةٌ بكل مقوِّمات شخصيات نجيب محفوظ. و(قابوس) لقب لرجل شبه مجنون، ينتمي إلى آل (بن علي جابر) ذوي الأصول اليافعية. يتميز (قابوس) ببِنْيَةٍ جسديَّةٍ مَتِينَةٍ، وهو ذو عضلات مفتولة ورأس أصلع ولحية موفورة، وكنا نطلق عليه (أبو دقن)، وأعتقد أنه كان من قلائل الملتحين آنذاك!. وكان يسير دائمًا محتضنًا حقيبة قماشية تحتوي مصحفًا من المصاحف التي كانت شائعة آنذاك من مطبوعات الهند، وكنا نطلق عليها المصاحف الهندية.
والمرافىء كثيرة وهذيانها لا ينتهي.
(2)
ينتمي هذا الكتاب – نوعيًا – إلى الخاطرة الأدبية ذات النكهة السردية – إن جاز التعبير- وهو نوع شائعٌ عند بعض كُتّاب المقالة الأدبية في عنفوان تطور النثر الفني في أدبنا العربي الحديث، وقد حمل لواءه المازني الذي كان يخلط الواقع بالخيال، فشاعت في كتاباته أشكالٌ سردية تحمل في أحشائها تجاربه الذاتية، كما في كتابَيْهِ (خيوط العنكبوت) و(صندوق الدنيا) وغيرهما، وهو نوع نثري انصرف عنه اليومَ كثيرٌ من الكتاب.
فالجعيدي في كتابه هذا يحكي وقائع تاريخية ولكن بمحرِّكات سردية فذة، تستشرف آفاق السرد، ممتطيةً واقعًا له مرجعية تاريخية بمفهوم التاريخ الفضفاض؛ لهذا يكثر في سردياته التصوير من خلال الوصف والتعبير بوساطة ألفاظ تتجلَّى في متونها الشعرية؛ فهاك مثلًا شروًدا لا يغني عن سواه ولكنه يدل بأصبع الإشارة على هذه السردية الشاعرة. فهو في أثناء سرد تاريخ بناء (مسجد مشهور) يشخّص مئذنتَه الوقورَ قائلًا: (ومنذ تأسيس المسجد والمئذنة قائمة مشرئبة برأسها في تواضع الزاهدين ويقظة المصلحين، ترمق زُوَّار مسجدها من جميع الاتجاهات. ولعلها تنظر إلى مجاوريها بشفقة وحنان حينما تراهم يلهثون ويكدون أو يلعبون في الدنيا بحثًا عن سعادة وأمل بعيدًا عنها وعن مسجدها الطاهر. وفي واقع الأمر هي ليست بعيدة عنهم فهي تشاركهم أفراحهم وأحزانهم. كما أنَّ لها أفراحها الخاصة في الأعياد والمناسبات الدينية تجدد فيها زينتها وتترصع بقلائد من نور، لعل ذلك يدخل السرور في نفوس المؤمنين المداومين ويشد انتباه المؤمنين المتخلفين).
وللجعيدي سردٌ شَجِيٌّ امتزج فيه الحنين إلى الماضي بالحزن والأسى عن صخرة كانت مغروزةً في شاطىء من شواطىء المكلا وتحديدًا على مرمى حجر من قبة (المحجوب) وعلى مرمى بصر من بحر (المشراف) و(القصر). وهذه الصخرة في تشكّلها الطبيعي عند (المدّ) تغدو جزءًا من البحر المكلاوي فتلتحم به التحام الحبيب بمحبوبه ثم تفارقه في حالة (الجزر) لتغدو جبلًا صغيرًا، يرنو إلى البحر بعيني عاشقٍ مُدَلَّهٍ يروم وصال محبوبه.
يصنع الجعيديّ من هذه الصخرة فضاءً سرديًّا وجدانيًّا تذكرنا بقصص العشّاق في السينما الهندية التي كانت من متع طفولة جيلنا؛ ولاسيما الفيلم الشهير آنذاك (Ek Phool Do Mali) الذي أنتج عام 1969م. عُرض هذا الفيلم في (السينما الأهلية) بالمكلا مستهلَّ سبعينيات القرن العشرين، فاشتهر في الأوساط المكلاوية بعنوان (ولدي). والفيلم من بطولة الممثل الوسيم (سانجي خان)، الذي أصبح البطل الواقعي لحكاية (قشارة سانجي)؛ و(القشارة) بلهجتنا المكلاوية هي الصخرة البحرية.
تحوّلت هذه الحكاية الواقعية التي عايشها المؤلف إلى تَخْيِيل سرديّ ماتع يمثّل الفضاء فيه مكوّنًا انطولوجيا ذا بُعد فانتازي تُؤنس الصخرةُ فيه؛ فتصبح شخصيةً لصيقةً بالشخصية الرئيسة؛ بوصفها عتبةً لغويةً (قشارة سانجي)، وبوصفها محرِّكًا من محركات الأحداث السردية. ظلت هذه الصخرةُ شامخةً بعد غياب فارسها العاشق الولهان مدةً من الزمان، حتى أزاحها كائن ثقيل الدم أطلقنا عليه اسمًا يحمل ما بداخلنا من رفض لوجوده (الكَبْس)، كأنّه كَبَسَ على أنفاسنا فحرمنا من أجمل مُتَنَفَّسَاتِنَا البهيجة، وكأنه ليل امرىء القيس الذي جثم ولم يغادر.
نصوصُ الجعيدي مخاتلةٌ يمتزج فيها الواقع بالمتخيّل. فكثيرٌ من حكاياته مكتنزةٌ بالسرد –إن صحّ التعبير- يمارس الجعيدي من خلالها لعبةَ السرد الأثيرة، التي يمارسها المؤلف دومًا على القارىء؛ ليقومَ كلٌّ منهما بوظيفته المرسومة بدقة منذ نشأة السردية الشفاهية ثم المكتوبة فيما بعد دون إخلال أحدهما بهذه الوظيفة، في إطار مفهوم نظرية التلقي كما قرَّره منظِّروها من مثل ياوس وايزر وغيرهما ممن أرسى دعائم هذه النظرية؛ انطلاقًا من أبرز مكوناتها المتمثلة في ثنائية (الإرسال/الاستقبال)؛ لأن النصوص ليس بإمكانها أن تتناسل ذاتيًا، كما أن المُبدِعِينَ ليس بإمكانهم في إطار معطيات هذه النظرية ادّعاء (الامتلاك الأحادي) لنصوصهم الإبداعية على الرغم من كونهم أوَّلَ مَنْ منحها حقَّ الحياة ورُقِيًّا بشكل خاص؛ ففي هذه الحالة لا يقلّ (المتلقي/المستقبل) أهميةً في إنتاج النص من (مؤلف النص/مرسل الرسالة)؛ موازيًا لميدان قريب من تجليات (سلطة القراءة) في إطار مفهوم (تعدد القراءات) استنادًا إلى استجابة المتلقِّي لتداعيات النص الإبداعي، والتفاعل معه بوساطة آفاق متسعة من التوقعات.
فكثير من هذه النصوص السردية (الجعيدية) تنفتح على أشكال (المازني) السردية، المُشْبَعة بالذاتية، ذات المآلات القرائية، المنفتحة على التأويلات؛ فإبراهيم المازني (المؤلف/الإنسان) ممتزج بإبراهيم (الشخصية الورقية) في كثير من سروده، من مثل (إبراهيم الثاني ) و(إبراهيم الكاتب)، وحاضرٌ بفكره وآرائه كما في (في النافذة) و(صندوق الدنيا) و(خيوط العنكبوت)؛ لإضفاء المتعة على كتاباته وإدخال البهجة إلى قلوب قرائه/متلقِّيه، فينبسط النص السردي أمامهم لتتعدَّدَ القراءات على وفق اتساع فضاء التأويلات.
(3)
لكل كاتبٍ بصمتُه الخاصة التي تتجلّى في مظاهر أسلوبه. وقد اختط الجعيدي لنفسه أسلوبًا خاصًّا، لا تكاد مقالة من مقالاته تخلو منه. من هذه الأساليب استخدام الكاتب بعض التراكيب الخاصة التي تداولتها الألسنة معبرةً عن ثقافة خاصة بهم، مثل الأمثال والأساليب المسكوكة، بأسلوب بلاغي يعيد إنتاج دلالتها.
يستخدم الجعيديُّ أسلوبًا غريبًا خاصًّا في هذا الكتاب، لا يحيد عنه قيد أنملة، يسير فيه على نهج يخالف الشائع في الكتابة. فهو يفسّر الكلمة الفصيحة بما شاع من كلمات دارجة عند أهل حضرموت وأبناء المكلا بشكل خاص، ويضعها بين علامتي تنصيص أحيانًا و بين قوسين أحيانا أخرى؛ كأنه يؤكّد على هُويّة هذه الأوراق المكلاوية، وهَاكَ أمثلةً شُرُدًا للإشارة إلى هذه الظاهرة الأسلوبية – بوصف الأسلوب هاهنا نسقًا كتابيًّا خاصًّا ونظامًا إنشائيًّا يختطُّه الكاتب لنفسه دون غيره من الكُتّاب – التي غدتْ سمةً مميزةً في جُلّ كتابات الجعيديّ لا في هذا الكتاب فحسب؛ يقول وهو يصف لحظة تأهب الطلاب ولاسيما الصغار لمغادرة المدرسة وهي اللحظة المبهجة التي يصاحبها الضجيج والازدحام مع محاولة بعضهم استكمال كتابة ما بقي عليهم من واجبات: «كانت المدرسة تعجّ بحركة السراح “الديار“…» من مقال (مطلوب للشرطة). وفي موضع آخر يصف اللحظات التي يتهيأ فيها الطباخون للطبخ بمساعدة طوعية من أبناء الحي قبيل صلاة الفجر وبعده، فيقومون «بوضع الأخشاب و(القصام)…» من مقال (وللطباخين عصرهم الذهبي). و(القصام) في اللهجة الحضرمية هي سعف النخيل اليابسة.
كما يستخدم الجعيدي (التناص) من خلال التفاعل والتحاور بين النص السابق والنص اللاحق، بوساطة إدماج القديم في الجديد، والسعي إلى صنع ذاكرة فنية أدبية، تتخطَّى الحدود الزمنية والمكانية؛ وذلك بإعادة الإنتاج للدلالة النصية بمحركات صياغية، تبطن دلالاتٍ تحتكم إلى السياقات الخاصة بالنصوص السابقة ومآلاتها الفكرية وأبعاد آفاقها المعنوية على وفق ورودها سواءً أكانت من مُحْكم التنزيل أم من ديوان العرب الأزلي أم من مَسْكُوكَات نصية مأثورة أيْ تعبيرات عربية مسكوكة جرتْ في ذيوعها وانتشارها مَجْرى الأمثال المتداولة قديمًا وحديثًا.
يلجأ الجعيدي إلى محاورة النص (السابق) ثم يقوم بالتبديل الجزئي لإحدى مكوناته التركيبية في إطار الوظيفة التحويلية دون المساس بالمبنى العام له؛ لأغراض بلاغية تُستَشَفُّ من السياق العام للنص الذي يَرِد في عتبته أو في متنه هذا النصُّ (اللاحق).
ففي إحدى عتباته يقول: (رُبَّ (خصام) خيرٌ من ألف ميعاد) باستبدال كلمة (خصام) بكلمة (صدفة) للإشارة بطرف خفيٍّ إلى مآلات الشتات والضياع في التغريبة الحضرمية. ويصنع مثل ذلك في عتبة (والرزق أحيانا يحب الجنبية) مستحضرًا المثلَ المصريَّ الشهير (الرزق يحب الخفِّية) بتغيير يسير من خلال استبدال كلمة (الجنبية) بكلمة (الخفِّية) وإضافة كلمة (أحيانًا) إلى التركيب مع حضور حرف (الواو) للدلالة على استمرارية التناسل السرديّ في حكايات الجعيدي المتتابعة.
وفي إطار الامتصاص النصّيّ يجعل الجعيدي أنشودةَ المقاومة الفلسطينية الشهيرة (أناديكم أشد على أياديكم) – من ديوان الشاعر الفلسطيني توفيق زياد (أشد على أياديكم) – نصًّا مرجعيًّا يعيد صياغته ولكن في إطار الحديث عن الانتماء إلى المكان. فهو يقول في حديثه عن تغيير الكورنيش (الكبس) لملامح مدينته الحبيبة: (ولكن البحر لا يزال ينادينا والجبل يشد على أيادينا)؛ ليكونَ الجامع الدلالي للنصَّيْنِ هو أثيرية (المكان) المفتقَد في (الواقع) والراسخ في (الذاكرة) المتأبية على النسيان.
(4)
للمكان حضورٌ لافتٌ في هذه الأوراق ابتداءً من العتبة الرئيسة (أوراق مكلاوية) مرورًا بمعظم نصوصها، التي تعبق بأنفاس مكلاوية مميزة. فالمكان هو كناية عن قاطنيه بحسب تعبير سيزا قاسم، فطبيعة الإنسان مرتبطة بطبيعة أمكنة وجوده من الحي، الذي يسكن فيه ثم المدينة ثم البلد وهكذا. وتتحدد انتماءاته الفكرية من خلال طبيعة سكناه أهو من الريف أم من المدينة؟، ففروقاتُ الأمكنة تحمل دلالاتٍ عميقةً مُتَجَذِّرَةً في وجدان الإنسان، تُسْهِم في تشكيل الوعي الإنساني عمومًا، فتكون أكثر حضورًا في وعي الأديب الفنان.
يعيش الجعيدي في هذه الأوراق انغمارًا حَمِيمِيًّا مُدهِشًا بهالات الفضاء المكلاوي، ولكي يُشْركنا معه في انغماراته الوجدانية هذه يرسم لنا خارطة أشبه بالرسم (الكروكيّ) لحيّه السكنيّ -أو (حافته) بالتعبير المكلاوي- في أضيق نطاقاته (شارع حمار بلصقع)؛ بوصف هذا الشارع جزءًا من حي السلام (برع السدة) صعودًا من البحر إلى سفح الجبل؛ متلذِّذًا بذكر الأمكنة التي تشكّل هذا الشارع وربطها بأعلام أصحابها، مستخدمًا في وصفه هذا تقنية (نظرة عين الطائر)، التي يصفها صاحبُنا بوريس أوسبنسكي بأنها نظرة شاملة للمشهد الموصوف من وجهة نظر واحدة عامة، ولا يتأتَّى هذا الأمر إلَّا إذا توفّر للواصف المراقب موقعٌ عالٍ يحيط بكل تفصيلات المشهد الموصوف. فهذه الأوراق في عموم تجليَّاتها تُبرِزُ هُويتَها المكانية الخاصة من العتبة الرئيسة من خلال نعتها بـ(المكلاوية)، ثم تتكشَّف هذه الهُوِيَّةُ رويدًا رويدًا في تضاعيف نصوصها عنواناتٍ ومتونًا.
وفي الختام لا يسعني إلا أنْ أشدَّ على يد صديقي الأكاديميّ المتميز الدكتور عبدالله الجعيدي، الذي أحمدُ اللهَ إليه أنْ منحنا متعةَ الجلوس إلى هذه المائدةِ الحافلةِ بأطايبِ الأطعمةِ والأشربةِ ذاتِ النكهةِ المكلاوية المتميزة؛ بكرم حضرميّ فيّاض عميم. فدونَك – عزيزي القارئ – هذه المائدةَ العامرةَ بلَذّةٍ لا ينفدُ أُوَارُ اشتعالِها مادام في أعماقنا عقلٌ وقلبٌ يتوهَّجَانِ بعطاءات الإنسان الفكرية والوجدانية أينما كان وكيفما كان.