أ. هاني عبود الغتنيني
ما إن يحط المرء فيها عصا ترحاله، وتختلف عليه نسمات ليلها البهي، وإشراقات نهارها الوضي، حتى تبدأ خلجات نفسه باحتضان ما تسرب إليها من نبضات روحها العتيقة، فما يشعر بعدها إلا وقد شغفته حبًّا، وانتظمته في سلك محبيها، وانتدبته في صفوف عشاقها ممن يهيم بتلك الفاتنة الجميلة . . المكلا.
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 22 .. ص 64
رابط العدد 22 : اضغط هنا
أربع سنوات في رحابها ، وبين أفياء جامعتها ، كانت كفيلة – وأكثر – بغرس عشقها في نفس ألوفة محبة ، تفيض وفاء وحنينًا ، لكنها مع ذلك عصية على أنامل البوح الداعية بإشاراتها الملحة .
ذات يوم وأنا أريد أن أتطفل على الشعر بدفع حثيث من محسني الظن، وبمنسوب المحبة الطافح دائمًا لدى أبناء قريتنا العزيزة سرار، لأكتب فيها :
حط الرحال وحيي عتبة الدارِ
هذي المنازل نبض في دمي جارِ
البحر يحضنها شوقًا ويلثمها
والسحر في فمها أنغام أوتارِ
والشامخات تبيت الليل حانية
حنوَّ أمٍّ رعت أجفان سمّارِ
وبينهن سواد العين وادعة
والنور يغمرها من بدرها الساري
فما أرى إلا سرار العز تشبهها
نفسي فداها وأشواقي وأشعاري
تعالت الأصوات مدهوشة من على جانبيّ . . هذه المكلا، لقد اندفع السياق في ذكر الوصف فتأخر الموصوف، وتدخلت كلمة ( تشبهها ) للفت الأذهان إلى أن هناك موصوفًا آخر غير سرار، التي اتسقت في الصورة النمطية مع حاضرة البحر والجبل، بعد إزاحة صغيرة للجبال؛ لتكون حانية عليها، وصورة خلفية لها.
وعند الحديث عن محبة الأوطان، والمدن، والبلدان، لا بد أن أسجل إقرارًا واعترافًا لذات روائح التأريخ، عاصمة اللبان والبخور، أرض (بامطرف) و(الباغ) ، والمحضار، والملاحي، وقصور السلاطين، الشحر الجميلة بروح أهلها، وأريج حضارتها. وكثيرة هي البلدان الجميلة بأرضها، وإنسانها، ولكن كما يقولون عندنا: (لي ما يعرفك ما يثمنك) .
هذه (الأوراق المكلاوية) تبعث على التغريد ، وتثير بلابل الشجون ، فتطير مغردة على أفنانها النضرة، المتمايلة طربًا وبهجة، هي أوراق كتبت بخيوط المحبة الكامنة في وجدان مؤلفها ، إذ هي محركه الأول، وباعثه المستحث لصياغة عشقه لموطنه المكلا، وحنينه لماضيها المنصرم، بما فيه من شخوص وذكريات، صياغة أدبية محكمة، إنها روح الزمان والمكان، لماضٍ تليد أعاد الكاتب إحياءه من جديد، في أوراق خالدة، خضراء، تحكي للأجيال حكاية مدينة اسمها المكلا، المكلا بكل ما ارتبط بها، حتى لو تشعب الحديث إلى خارج حدودها الجغرافية فإنه يظل متصلا بها بوجه ما، ولو بنَفَس المؤلف المكلاوي الرقيق العميق.
إننا نتحدث عن كتاب (أوراق مكلاوية) الذي آلف بين أغصانه، وأبوابه، الأستاذ الدكتور عبد الله سعيد الجعيدي، الكاتب الأديب، والمؤرخ المتخصص؛ إذْ كتب بقلم الأول، وبأسلوب بارع وطريف، مع تدخلات ملحوظة لقلم الآخر، بنفثات سطرت بعض القضايا التأريخية، في يوميات مكلاوية كتب لها أن تروى، وتبقى قائمة على جذورها.
يشتمل الكتاب ثماني وستين ورقة، نديَّة، ملوَّنة، تعبق مكلاويةً، وقدَّم له الدكتور سعيد الجريري مقدمة تحتفي به، ومما قاله: (الكتاب بأقسامه السبعة معرض مكلاوي وليس أوراقًا، فهو أشبه بمتحف من الكلمات، له سبعة أبواب، كل باب يمنحك دهشة مختلفة وطرافة موصولتين بالمكلا دهشة وطرافة) .
ومما لفتني في توطئة أ. د. الجعيدي، واستوقف انتباهي، تأكيده على أن هذه الأوراق لم تكن لتبلغ مستقرَّها في كتاب (لولا أمور كثيرة دفعتها إلى هذا السبيل دفعًا) ، وأنها كانت (نداءات داخلية) يدافعها وهو في أعماق قاعات دراسة التأريخ وتدريسه، (ثم ما لبثت هذه النداءات أن تحوَّلتْ إلى هتافات متقطعة)، ثمَّ شقَّتْ طريقَها عبر صفحات شبام وآفاق حضرموت، وحسنا فعلت إذ أمدتنا بنتاج ثقافي غزير، هذه النداءات التي كبرت تحيلنا إلى التردد والقنوط الذي يستولي على مخيلة الكاتب والمبدع في المشقاص، والمقيد بسياج من التصورات الراسخة في المجتمع، إضافة إلى الوضع العام الذي تعيشه بلادنا، مما أدى إلى وأد الكتابة الأدبية في نفوس كثير من الكتاب، فعزفوا عن الإبحار في هذا الاتجاه الذي ينظر إلى المهتمين بشأنه بأنهم (ما معهم مهرة)، أو هربًا من وصمة (بغا نفسه متعلم، بغا نفسه مثقف) إلى فضاءات التخلف والجهل، ولولا ذاك لكانت عندنا أوراق مشقاصية مليئة بالمواقف والذكريات والموروث والطرائف، ولكن حالت دون ذلك وغيره النظرة المجتمعية الشبيهة بتلك التي تحدث عنها المؤلف في سياق حديثه عن التعليم في ماضي المكلا، والمتعلقة بتعليم الفتاة كفكرة مستغربة، وغير مألوفة، حتى (ابتعدت كثير من الفتيات من (فضيحة) التعليم إلى (شرف) الأمية!!!) ، وهي نظرة غير واعية، ولا مميزة بين ما يتماشى مع تعاليم ديننا، وبين ما يخالفها، ويتناقض معها.
لقد تشعبت الأوراق المكلاوية، وألقت بظلالها على الأوضاع المعيشة في فترات زمنية مختلفة، تمتد من سبعينيات القرن العشرين مع أيام الطفولة عند ساحات قصر القعيطي، وهي أول ورقة تصادفنا، وقد استهلت (سبعينيات القرن الماضي، قصر القعيطي خالٍ من القعيطيين، راية الحكم الثوري ترفرف… في زوايا متفرقة منه…)، وتتداخل الأوراق بعد ذلك زمانًا ومكانًا حتى يشرف بعضها من على أسوار الألفين، ونقف في الباب السابع والأخير (سمر مكلاوي) مع قضايا ثقافية وأحاديث أسمار استقطعها الدكتور عبدالله الجعيدي من ليالي سمر مع ثلة من الأساتذة الأصدقاء أمثال باعيسى والفردي وبلخشر والجريري وسالم العبد …، فجاءت هذه الأوراق الجميلة بين دفتَي (ذاكرة الزمان والمكان) و( سمر مكلاوي)، بين أيام الطفولة وليالي السمر المباح للكبار في العرف التقليدي الحضرمي، وبين هاتين المرحلتين تهمس الأوراق المكلاوية بأحاديث كثيرة، وإن كان بعضها يمثل ذكريات شخصية، إلا أنها تختزن ذكريات جيل، وذاكرة مدينة، تعنى فيها الشخصية في كل مراحلها بما يدور حولها، راصدة بأدق التفاصيل، وبأسلوب قصصي سلس، الحياة اليومية اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وعادات وتقاليد؛ إذْ تأخذك هذه الأوراق المكلاوية – بعد أن توثق إسارك بروعة أسلوبها وجمال عباراتها – وربما في مقالة واحدة تطل بك من مشهد إلى آخر، وكأنها تطوف شوارع المكلا شارعًا شارعًا، متغلغلة في أزقتها، تتبّع حكايات أعماقها، وأسرارها المخفية عن كثير من عشاقها ومحبيها، فترويها لنا وهي تدلف من حارة إلى أخرى مرورًا بـ (مطراق صل على النبي) وما أدراك ما مطراق صلي عالنبي، الذي يعكس قيم وشيم الحضرمي في صبغته المكلاوية، ولذا استحق أن تفرد له ورقة مستقلة.
امتاز كتاب أوراق مكلاوية بالفائدة الممتعة، والمتعة المفيدة كما يقال، وهي عبارة تصدق عليه حرفيًا؛ إذْ صيغ بأسلوب يتكئ على الطرافة، ويقتبس مرحًا من نفس مكلاوي رقيق، وربما شيئًا من سهام النقد الساخرة، والموجهة عن بعد بطريقة حضرمية معهودة.
ففي أثناء تلك الأوراق تلقاك اللمحات السياسية والتأريخية التي توثق جوانب مهمة لفترات زمنية مختلفة، عاصرت المكلا والوطن جميعًا خلالها أنماطًا من الحكم متباينة، فيقول مثلًا تحت عنوان وللكويت كلمة وفاء: (لم تنخدع الكويت بلعبة السياسة وأوراقها المتناقضة ودهاليزها الغامضة، وكانت تدرك كل الإدراك أن السياسة شيء والعمل العروبي الأخوي شيء آخر، كانت مع أهلنا في الجنوب ومع أهلنا في الشمال ومع أهلنا في كل أرجاء العروبة …) ( وبينما سيارة العربي الشقيق [[ سيارة مكتب دولة الكويت التي تشرف على مشاريعها] تجوب شوارع المكلا كانت لوحة … مكتوب عليها الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي ومع هذا مضى الكويتيون في البناء…) وهذه شهادة وفاء للكويت التي لم تزل على دربها المستنير سائرة، في حين ينفق بعض الأشقاء ميزانياتهم الهائلة للإضرار بأمن أشقائهم واستقرارهم وزيادة آلامهم، ونجد الدكتور الجعيدي يطرق هذا الموضوع في موضع آخر، ثم يقول بلسان المؤرخ المنصف: (نحن لا نرمي هؤلاء الثوار بالسذاجة أو نشكك في وطنيتهم فالمنهج السليم يعلِّمنا النظر إلى ملابسات أحداث التاريخ حسب عصرها) .
وفي الجانب التاريخي نقرأ حكايات مهجرية في الباب الرابع الذي تناول بعض قصص المهجر وشيئًا من عجائب الأسفار الحضرمية، وهناك تاريخ نشوء بعض العادات والمناسبات كالختائم، وتاريخ العمارة والبناء كالبنقلة، أما الجانب الاجتماعي فيشكل العمود الفقري لهذه الأوراق، ويمتد في كل منعطفات هذه المقالات، وتتبدَّى فيه هموم المجتمع الحضرمي وتطلعاته، وكفاحه في الحياة، وسير بعض شخصياته وأعلامه وفي سيرة المؤلف نفسه وسعيه الحثيث نحو هدفه، وتجاوزه العراقيل التي كادت تبعده عن طموحاته فنراه يقول: (ما يزيد الأمور سوءًا متطلبات دراستي للماجستير … وكان راتب المعلم يزداد عددًا ويتناقص كيفًا … في هذا الوضع الممتلئ باليأس والمحبط للأمل جلس بجانبي طالب من طلابي اقتنص فراغ الكرسي …)، أنت يا أستاذ نزعت مني شيئًا وغرست فيَّ شيئًا!” وبعد أن سرد له قصة ضبطه متلبِّسًا بواقعة غش ووزَّع عليه ورقته مدبسة مع ورق الغش قال: إنه جعله يخجل من نفسه، ونزع من داخله الرغبة المستقبلية في الغش، وصار دائمًا مستعدًّا، ولا يترك للصدفة مجالًا في دارسته، ثم يكمل بعد سؤاله عن الشيء الذي غرسه في نفسه: وأما الشيء الذي غرسته في نفسي فهو الرغبة الجامحة في القراءة، فقد حبِّبت إلينا عادة القراءة المفيدة …
فقلت الحمد والشكر لله.
لمْ يدرِ هذا الطالب الوفيُّ كمْ نزعَ من نفسي من همٍّ وغرس فيَّ من أملٍ … كنت بحاجة إليه … إنَّ ما ننزعه من يأس في حياتنا وما نغرسه من أمل يجعل الحياة لها معنى).
وهذا فيه رسالة واضحة المعالم لطالب العلم وكل ذي هدف سامٍ، أنه بالإصرار تنال الآمال.
وهناك مسحة دينية ظاهرة، تلمع في كل مناسبة تدعو إلى التمسك بمبادئ الإسلام وتعاليمه، وتتجلَّى في مظاهر كثيرة كالسجع الذي يشبه سجع الأوراد والخطب والاقتباس من القرآن أو الإشارات القرآنية، وهو أسلوب درج عليه المؤلف في كتاباته، ويعلو هذا الصوت الديني حتى يصل إلى الوعظ والتذكير المباشر، وهو بادرة جميلة في الكتابة الصحفية والأدبية يتحاشاها الكثيرون، وهناك باب خاص بعنوان (رمضانيات) تعبق فيه روحانية الشهر الكريم، ويوثِّق بعض العادات الرمضانية الجميلة في الزمن الغابر.
وإن ننسَ فلن ننسى بعض العناوين اللافتة ذات الإيحاءات المتعددة مثل (الشحر في بغداد الطبيب والمداوي) و(عندما سيطر الحضارم على البترول) و( الغاضبون في رمضان) (من قتل جارنا) و(قبيلة رؤساء التحرير) و(عشاء رياضي سيئوني) الذي وثق فيه – كما دونها في مذكرته الخاصة حينها – بعض ألفاظ المشجعين لفريقي شبام وسيئون (اقه عشاك) و(كبده) و(عكنه) … في سابقة مفاجئة للشخصية الحضرمية تحت وطأة حماسة الكرة الساحرة، التي بلغ من سحرها أن أخرجت الحضرمي من سكونه ولينه..
لقد أبدع الدكتور عبدالله الجعيدي في الكتاب أيَّما إبداع، فهو بحق ليس مجرد أوراق، بل مدرسة تعلم الأجيال بمختلف مراحلها العمرية، كتاب يستحق الثناء والإعجاب، ويستحق أن نهنئ المكتبة الحضرمية بوجوده على رفوفها.