أنور سالم باكركر
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 22 .. ص 68
رابط العدد 22 : اضغط هنا
أوراق الجعيدي المكلاوية حديقة يانعة وارفة الظلال.. قد تنوع ثمرها بين متشابه وغير متشابه.. ودنا من قطافه.. في الأوراق تجد الطرفة والحكاية والمثل.. تجد السيرة والقصة.. تجد البحر والجبل.. تجد الهجرة والحل والترحال.. تجد التاريخ والجغرافيا والاجتماع.. تجد السياسة والاقتصاد والدين.. تجد الفن والرياضة والسمر.. تجد القصور والمساجد والمآذن والقباب.. إنها أوراق تلونت بكل ألوان الطيف.. وتناثرت خيوطها بشتى أنواع الهموم والقضايا.. وحسبي -في الأسطر القادمة- أن أمسك خيطًا من تلك الخيوط.. إنه خيط التعليم.. حيث يشكل التعليم ملمحًا بارزًا في أسطر أوراق الجعيدي المكلاوية.. ومن ملامح ذلك التشكل ما نجده في حديثه عن حياته (العلمية والتعليمية) بشتى مراحلها.. بحيث تشكل شبه سيرة ذاتية.. لهذا حاولت نظم شتاتها في عقد واحد.. وأعدت ترتيب أسطرها حتى تتراءى سيرته مسلسلة -بكل نجاحاتها وانكساراتها- مذ كان تلميذًا غضًا حتى استوى أستاذًا جامعيًا.. إضافة إلى قضايا أخرى مرتبطة بحقل التعليم والعملية التربوية..
لقد انبث التعليم في أوراق الدكتور الجعيدي عند ذكره لأساتذته ومعلميه في شتى مراحله، وهو نوع من الوفاء الذي تحلى به الدكتور يقول: »لقد حافظت على علاقة طيبة مع الكثير من أساتذتي في مراحل التعليم المختلفة، وأكن لهم الاحترام والتقدير، وزاد إدراكي لأهمية ذلك عندما صرت معلمًا… فكم هي مهنة التعليم شاقة ومتعبة؟!«، (ص115).
وقد قسمت هذا العرض على عنوانين رئيسين: الأول: التعليم في مسيرة الدكتور الجعيدي، وتحته عناوين: (مرحلة التعليم الابتدائي)، (مرحلة التعليم الثانوي)، (مرحلة التعليم الجامعي)، (مرحلة العمل معلمًا)، (مرحلة الدراسة العليا)، الثاني: متفرقات: وتحته (المنهج)، (المسيرة التعليمية لبعض الشخصيات)، (شخصيات تربوية).
الأول: التعليم في مسيرة الدكتور الجعيدي:
– مرحلة التعليم الابتدائي:
نترك الدكتور الجعيدي يحدثنا عن شيء من بدايات دراسته منذ كان تلميذًا في المرحلة الابتدائية حيث يقول: »في بداية سبعينيات القرن الماضي كنت طالبًا بمدرسة الحرية الابتدائية للبنين بالمكلا، في الصف الثاني الابتدائي، وكان الأستاذ مدرك معلمًا للغة العربية، وإن نسيت الكثير من ذكريات هذه المرحلة فلن أنسى حصة الإملاء الغيبي وتفاعلاتها وتداعياتها وغصاتها!!« (ص115- 116)، ومن تلك التداعيات والغصات في درس الإملاء الغيبي أنه -كما يقول-: »في إحدى الحصص جلب أستاذنا بنفسه الكراسات، وكانت مفروزة مجموعتين غير متساويتين، وقبل توزيعها أخذ يحدثنا كمن نفد صبره وطال به الأمد أو هكذا يخيل إلينا… كان معظم التلاميذ قد أخفقوا في اختبار الإملاء وكنت منهم، وطلب أستاذنا من (الفاشلين) عدم مغادرة الصف بعد نهاية الدوام، …. ها هم تلاميذ المدرسة ينصرفون، وكان علينا انتظار أمر بالطبع غير سار… « (ص116- 117)، لتبدأ بعدها طريقته في تحفيزهم على الاجتهاد في مسرحية لم تظهر لهم حقيقتها حينها، ليصل بها إلى المقصد الذي يريده، وذلك بأخذ تعهد جماعي منهم على الاجتهاد، ثم أطلق بعد ذلك سراحهم.
ونجده أيضًا يوثق لحظة إكمال يوم دراسي وهي لحظة الانصراف (الديار) بقوله: »دق جرس السراح معلنًا نهاية اليوم الدراسي في مدرسة الحرية الابتدائية بالمكلا، وتأهب الجميع للمغادرة، وهي لحظة وصفها وصفًا جميلًا الشاعر أحمد شوقي بقوله:
لهم جرس مطرب في السراح وليس إذا اجد بالمطرب
……… نحاول استكمال كتابة درس العلوم للصف الرابع الابتدائي، كانت المدرسة تعج بحركة السراح “الديار” وتدفع إلى الاستعجال بالكتابة بغض النظر عن جودة الخط….. «. (ص47).
– مرحلة التعليم الثانوي:
جاء ذكر مرحلة الثانوية في أوراقه مقتضبًا، وذلك عند حديثه عن تربوي عصره الأستاذ القدير عبداللاه هاشم السقاف يقول: »عندما كنت طالبًا في ثانوية المكلا للبنين كان الأستاذ القدير نائبًا للمدير للفترة المسائية، وقد تتلمذت على يده من خلال تطوعه في تغطية حصص المدرسين الغائبين«. (ص40).
– مرحلة التعليم الجامعي:
ورد حديثه عن المرحلة الجامعية (مرحلة البكالوريوس)، كذلك مقتضبًا عند ذكره لأول لقاء بالأستاذ المؤرخ عبدالرحمن عبدالكريم الملاحي يقول: »أول مشاهدة مباشرة فكانت سنة 1989م في كلية التربية بالمكلا (جامعة عدن) عندما حضر مشاركًا في ندوة (المقاومة الشعبية في حضرموت)(1)، وكنت حينئذ طالبًا في المستوى الرابع تخصص تاريخ«، (ص108). وفي هذه الإشارة تحددت لنا السنة الأخيرة من مرحلة الدراسة الجامعية، وكذا نوع التخصص.
– مرحلة العمل معلمًا:
بعد إكماله للمرحلة الجامعية تقدم للوظيفة، وكان غالبًا ما يرتب الموظفون الجدد خارج مناطقهم، وتسمى (النُّقْلة)؛ لهذا نجده يصف أحداث ترتيب نقلته الأولى بقوله: »كانت مفارقة مريرة في حياتي عندما ذهبت إلى عدن بعد تخرجي من الجامعة (البكالوريوس)، فكان لا بد من تسلم شهادة التفوق العلمي في يوم العلم 10 سبتمبر 1989م، وفي الوقت نفسه كان لا بد أن أشد الرحال إلى محافظة أبين مدرسًا لمادة التاريخ في مدارسها حسب النقلة الوزارية«، (ص223)، ويعلق بأحرف من الأسى قائلًا: »دائمًا في دول التخلف يتحول المتفوقون غير أصحاب الحظوة إلى أرقام في عالم النسيان والبهتان، وأسميت هذه السفرة في سري (تكريم وتركين) «. (ص223).
بعد توجهه إلى أبين سعى لتحويل نقلته إلى حضرموت يقول: »سبقني زميل شحري إلى مكتب التربية بأبين، أخبرني أنه من أيام يحاول أن يبحث عن مخرج ليعود مدرسًا في حضرموت، وبعد المقابلة السريعة بحضور الشحري كنت أحمل أوراق التحويل إلى الوزارة ومنها إلى حضرموت«، (ص224)، إلى أين كانت نقلته في حضرموت يا ترى اسمعه يقول: »وهكذا دفعتني المقادير من سهول أبين الخضراء، إلى مرتفعات حجر (الحمراء) «، (ص224)، ولنقلته إلى حجر حكاية قصها في مقاله عن الأستاذ علي البيتي عندما كان مديرًا لمكتب التربية بحجر، يقول: »عندما قدمت أوراقي للمسئول في التعليم الثانوي بالمكلا عاملني الموظف المختص بعناية لافتة؛ إذ وجد في شخصي ضالته المنشودة، فقد كان يبحث لثانوية الزبيري بالجول (مديرية حجر) عن مدرس لمادة التاريخ«. (ص111)، ولأن »نقلة المعلمين إلى حجر بمثابة عقوبة تأديبية… كان رفضي الأولي متوقعًا«، (ص111)، لكن وجدت هناك بعض الإغراءات جعلته يقبل بهذه النقلة وسماها (مصيدة): و»كان وراء (مصيدة) الإغراءات هو الأستاذ الفاضل المرحوم علي عبدالله البيتي مؤسس التعليم الثانوي في مديرية حجر«، (ص112). تطوى صفحة.. الجعيدي في حجر في حضرة البيتي صاحب (المصيدة) يقول: »في (مدينة) الجول عاصمة المديرية التقيت بأستاذنا القدير، وكان أول حوار مباشر بيني وبينه، كان الحوار سهلًا ومفيدًا ومشجعًا«، (ص112).
لقد تعرض للإجحاف حيث يجب أن يكون مكانه في الجامعة (معيدًا)، يقول: »كانت تنتابني مشاعر الألم، عندما أرى أن ما أظنه حقي في العمل في الجامعة تقل فرصته لأسباب تتعلق بغياب (العدالة)، ولكن الإحساس بالفشل الداخلي لم يعترِ عقلي الحزين البتة«، ويتابع حديثه بقوله: »لقد اجتهدت قدر طاقتي، وفعلت أقصى ما أستطيع ولم أتنازل على حساب المبدأ، كنت راضيًا عن نفسي«، (ص224).
ومن الإشارات التي تحمل دلالات تلك المرحلة حديثه عن موقف جمعه مع أحد طلابه في إحدى الحافلات (الباصات)، وذلك في صيف 1997م يقول: »جلس بجانبي طالب من طلابي اقتنص فراغ الكرسي الذي بجانبي وعلى الفور سلم علي ومد يده للمصافحة فاعتدلت وصافحته. ثم سألني السؤال التقليدي الذي يسأله عادة طلابنا هل عرفتني؟ وغالبًا ما تكون الإجابة عرفتك ولكنني لا أتذكر اسمك«. (ص45). ويقول: »ولأنني فعلًا تذكرت شكله أردت أن أثبت ذلك له، فقلت: نعم لقد درستك في ثانوية بن شهاب للبنين بالمكلا الصف الأول«، (ص45)، ثم ذكر الحوار الذي دار بينهما حين قال الطالب: »أنت يا أستاذ “نزعت مني شيئًا وغرست فيَّ شيئًا!”«، (ص45)، بعد طرح الطالب تلك العبارة بادره بالسؤال كيف؟
وكانت الإجابة: »قبل خمس سنين كنت مدرسًا لمادة التاريخ في ثانوية المكلا، وفي أول اختبار شهري ضبطتني مع عدد من الطلاب نغش بورق صغيرة أخذتها بهدوء، ثم بعد توزيع الأوراق سلمت الطلبة الغشاشين أوراقهم مدبسًا معها ورقة الغش (الدليل)، وفي أعلى الورقة مكتوب باللغة الإنجليزية zero. قلت: نعم، هذه عادة لا زلت قائمًا عليها، وأنبه وأحذر الطلاب قبل يوم الاختبار«. (ص45). ثم واصل الطالب حديثه بقوله: »بعد تلك الحادثة (الخزوة) جعلتني أخجل من نفسي ونزعت من داخلي الرغبة المستقبلية في الغش وصرت دائمًا مستعدًا، ولا أترك للصدفة مجالًا في دراستي، فقلت له: الحمد والشكر لله«، (ص45).
ثم سأله عن الشيء الذي غرسه فيه (التحلية)، فأجاب الطالب بقوله: »أما ما غرسته في نفسي فهو الرغبة الجامحة للقراءة، فقد حببت إلينا عادة القراءة المفيدة، ولا زلت أتذكر كلامك أن القراءة ليست حشر مجموعة من المعلومات، بل تنشيط العقل والفكر، وتنمية القدرة على الفهم والتعبير، وتكوين الأفق الواسع للنظرة للحياة ومشكلاتها. فقد كنت تكلفنا باختيار ما نراه مناسبًا من أبحاث تاريخية تدور بشكل أو بآخر حول المنهاج، ومن هنا بدأت تتأصل لديَّ عادة القراءة وشراء الكتب والمجلات…. مرة أخرى، قلت: الحمد والشكر لله«. (ص46). فذاك درس عملي -سطره يراع الدكتور الجعيدي- لمربي الأجيال أن تكون لهم بصماتهم الواضحة في تقويم سلوك طلابهم، ورفعهم إلى مستوى أفضل.
– مرحلة الدراسة العليا:
أولًا: مرحلة الماجستير:
تحدث عن كيف ساقته الأقدار إلى الالتحاق بمساق الماجستير في جامعة عدن يقول: »بعد أربع سنوات معلمًا في ثانويات حجر والمكلا، أعلن تلفزيون الجمهورية اليمنية من عدن فتح باب التسجيل للدراسات العليا قسم التاريخ….. صباح اليوم التالي كانت رسالة طلب الترشيح للدراسة في مكتب نائب مدير المكتب بالمحافظة لانشغال المدير…. وهبت رياح وكادت الورقة أن تجتث من جذورها أو هكذا كنت أرى وأشعر ولكنها بعناية الله ذهبت إلى قدرها المكتوب في اللوح المعلوم، وأصبحت طالبًا في السنة التمهيدية لبرنامج الماجستير جامعة عدن«، (ص224).
ومن العجائب أن مرحلة الماجستير في مسيرة الدكتور الجعيدي قد ارتبطت بشخصيتين عربيتين جمعت بينهما الكثير من الموافقات، والمفارقات، والمفاجآت، والإسقاطات، وحين تقرأ ذلك تشعر بالدهشة والنشوة، تلكم الشخصيتان هما الدكتور (الفلسطيني) محمد عبدالكريم عكاشة، والدكتور (السوداني) محمد سعيد القدال.. ففي مقاله (عكاشة.. الحنين إلى المكلا) يحدثنا عن مشهد المقابلة الشخصية في رحاب جامعة عدن، حيث كان الدكتور عكاشة حينها أحد أعضاء اللجنة، يقول: »شاء الله أن أمثل بين يديه عندما كان ضمن لجنة اختيار طلبة الماجستير الجدد في جامعة عدن، فقد قذفت بي المقادير ورغبتي الجامحة لاستكمال الدراسة إلى عدن، ولم تسعفني خبرتي اليسيرة أن أدرك تفاصيل لازمة مثل التخصص التاريخي الدقيق المراد من الدراسة (قديم/ وسيط/ حديث)؛ لهذا لم أعط أعضاء اللجنة جوابًا شافيًا، ولكن صديق المكلا لم يفقد الأمل، فعندما تكون إجابتي موفقة في التاريخ الحديث يهلل ويؤكد أن معلوماتي في التاريخ الحديث (تخصصه) أقوى وأفضل، وكان لا بد أن يمضي زمن لأعرف الأهداف (النبيلة) البعيدة« (ص105).
ولم ينس الدكتور الجعيدي أن يذكر شيئًا من طرائف تلك المقابلة يقول: »والظريف في المقابلة عندما ذكرت عنوان كتابه استبدلت اسم والده عبدالكريم بأسامة، فانفجر بالضحك وعلّق: (أنت غاوي مسلسلات)، وهكذا زج بي عكاشة في المربع الذي يريده« (ص105).
واستمرت العلاقة بينهما وتجذرت، وأخذ يستشيره في المواضيع التي يرغب في تسجليها للماجستير يقول: »حدثته مرة عن بعض المشاريع التي أفكر في تسجيلها لرسالة الماجستير كان يتابع بإنصات«، ثم »أفصح في هذه المناسبة عما يضمره وقال مباشرة: إن موضوعك للماجستير والدكتوراه إن شاء الله موجود ومتاح، ففي الماجستير بإمكانك أن تكمل ما انتهيت إليه (هو)(2) حتى الحرب العالمية الثانية، وتستكمل في الدكتوراه الحديث إلى الاستقلال الوطني 1967م، حينذاك تذكرت بقوة مقابلة القبول الأولى« (ص105).
ويمضي الدكتور الجعيدي في سرد حيثيات اختيار عنوان رسالته يقول: »بعد أن استكملنا السنة التمهيدية لم أعمل بنصيحة أستاذي عكاشة في أول الأمر لأسباب خارجة عن إرادتي ولا داعي لذكرها هنا، ومرت بضعة أشهر دون أن أحدد موضوع الرسالة«. (ص105- 106)، ولكن حدثت المفاجأة؛ إنه وجهًا لوجه مع عكاشة في المكلا، وبعد إفراغ حرارة اللقاء -جلسا في المقهى المقابل لقبة (المحجوب)- و»دار نقاش خطير في حياتي ومستقبلي، كان الأستاذ يعرف كل مصاعبي ويتفهمها وكان يقول: إنه مدرك لإمكانياتي ثم زف لي بشرى وصول وثائق يمنية من الأرشيف البريطاني في ستة عشر مجلدًا، وأخبرني أنها ستجعل من فكرته لمشروع الماجستير أكثر أصالة وواقعية وستبدد مخاوف لطالما أفصحت له عنها……. وقال الكثير المشجع« (ص106).
وعن كتابة خطة البحث يقول: »صديق المكلا مغادرها الساعة العاشرة صباحًا، كان أمامي عمل طويل ووقت قصير حتى أفرغ من كتابة ملخص البحث بمصادره وأهميته وخطته الأولية حسب الموضوع القديم الذي اختاره أستاذي، وقبل تبييضه كان لا بد من أن يطلع عليه في مكان إقامته حسب اتفاق (المحجوب)« (ص106). ثم يمعن في التفاصيل كعادته في التقاط الخيوط الدقيقة مما نظنه هامشيًا »في الساعة الحادية عشرة والنصف مساء كانت المسودة جاهزة، وبعد إجراء بعض التعديلات عدت إلى البيت أسابق الزمن… قبل أن يغادر عكاشه مكلاه كانت الأوراق جاهزة« (ص106).
انتهى مشهد المكلا، ليبدأ مشهد عدن يقول: »من عدن أخبرني أن الموضوع سجل، وهو المشرف حسب اتفاقنا، وقلت في صدري على بركة الله« (ص106).
لكن هل بقي عكاشة مشرفًا؟ »شاء الله أن يعود عكاشة إلى غزة الفلسطينية شبه المحررة، ومضت سنون ولم يعد المشرف على رسالتي، ويوم المناقشة تفاجأت بحضوره في القاعة، فقد جاء إلى عدن لمشاغل خاصة، كان اللقاء حميميًا، ولكنه مشحون بالتساؤلات الصامتة؟؟« (ص106- 107).
بعد دهشة عكاشة ونشوته ندلف إلى دهشة القدال ونشوته أيضًا يقول الجعيدي -بعيدًا عن إسقاطاته في الجمع بين حاضر الابن وماضي الأب-: »من دون موعد سابق دخل رجل قاعة الدرس لطلاب الماجستير في التاريخ كلية الآداب بجامعة عدن، كان طويل القامة، ممتلئ الجسم إلى إفراط، تماشت خطواته الأولى مع ابتسامة شبه مقيمة مرسومة بين شفتيه، ولكنها ابتسامة العالم لجاد، إنه الأستاذ الدكتور محمد سعيد القدال« (ص121). بعد ذلك المدخل التشويقي يحدثنا الجعيدي عن محاضراته يقول: »وبمهنية الأكاديميين ومثاليتهم حاول واجتهد القدال في تقديم عصارة خبرته البحثية والمعرفية. كانت المحاضرات مفتوحة على مصراعيها وفيها من روح المحاورة أكثر من كلاسيكية المحاضرة«، فـ»القدال يقدم بضاعته بأسلوب سلس جميل، وكلمات معبرة، وألفاظ دالة، وبلهجة لذيذة« (ص122).
انتدب الدكتور القدال للتدريس في كلية التربية بالمكلا، يقول الجعيدي: »كنت عندئذ مسجلًا رسالتي للماجستير، وقد كانت سعادتي غامرة بقدومه إلى المكلا«، (ص123)، ثم سعى للتواصل معه فقد ذابت الحواجز بينهما وصارا في (هم البحث تاريخ) كما يقول، ولنتركه يحدثنا عن ذلك: »الصداقة العلمية تعززت في قاعات الدرس في عدن ومكتباتها، وتحولت في المكلا إلى حميمية عندما تجردت من رسمياتها المقيدة إلى شراكة وتعاون علمي، فكلانا في هم البحث تاريخ« (ص123)؛ لأن القدال في ذلك الوقت كان يعد كتابه عن أبيه (الشيخ القدال باشا معلم سوداني في حضرموت)(3) فهنا توطدت الشراكة يقول: »حصلت منه على آلية كتابة المعلومة التاريخية، ومن خلالي عرف بعض مواطن هذه المعلومات، وأحيانًا يكون القدال مصدر المعلومات عندما تتوافر له بعض المصادر التي لم أستطع الوصول إليها أو العثور عليها« (ص123).
ويذكر تفاني الدكتور القدال في الوقوف معه لإنجاز البحث يقول: »كانت لقاءاتي بالقدال في مدينة المكلا بمعرفة وتشجيع أستاذي المشرف الدكتور أحمد بن بريك، وكان القدال بمثابة المشرف المساعد، ولكنه في الواقع أسهم بفعالية المشرف الحقيقي من خلال قراءته فصول الرسالة كلها وكتابة ملاحظاته«، لكن الأجمل والأهم كما يقول: »إن أستاذنا القدال كان يفعل ذلك تطوعًا، ولم يدر في خلدي ولا في خلده أن ذلك ربما يتطلب حقوقًا مادية من الجامعة« بل »الأغرب من ذلك أنني عندما أتأخر في الاتصال به حياء وشفقة كان يتصل معاتبًا!! « (ص123).
وبعد عودة القدال إلى عدن ظل الاتصال بينهما مستمرًا، وفي إحدى رحلات الجعيدي البحثية إلى عدن تحدث عن تفاني القدال في خدمته حيث يقول: »تفاجأت مرة عندما سألني عن خطة تحركي لبحثي الجمعي للمادة في عدن، فقلت له: إني ذاهب لمركز البحوث التابع للجامعة للاطلاع على تاريخ اليمن وما يخص بحثي في الموسوعة البريطانية (Records of Yemen)( ) فاتفقنا على تحديد موعد للذهاب معًا حتى يسهل مهمتي خاصة أنه يعرف أن إلمامي باللغة الإنجليزية يقارب في حينه مستوى الوسط… في المكتبة كنّا نتصفح معًا المجلدات، وكان (رحمه الله) تتدفق منه حماسة الشباب ويتجلى فيه إخلاص العالم وصبره، وتبرز مشاعر الأبوة الصافية بلا ضجر ودون منّة، إنه مشهد لن أنساه«. (ص124). ويواصل الحديث »استمرت الرعاية القدالية إلى مرحلة المناقشة وقبيلها، وكان الوسيط بيني وبين عمادة كلية الآداب وقسم التاريخ، واستلم بنفسه النسخ المعدّة للجنة المناقشة«. (ص125).
لا زالت الرعاية القدالية مستمرة يقول: »وقد تم الاتفاق على تحديد موعد مناقشتي وزميلة أخرى في يوم واحد، وقد سمعت مصادفة هذه الزميلة تقول: إنها تريد تأخير يوم المناقشة إلى أيام قادمة، ولكن القدال أصر على التقديم شفقة عليَّ من كلفة الإقامة في عدن، كان الرجل يتحرك بصمت وإخلاص«، لكن المشهد الذي يستحق الوقوف هو »بعد المناقشة وعند احتضاني للقدال فقط بكيت«. (ص125).
ومن أحداث السنة التحضيرية أيضًا ما جاء ذكره عند لقائه الثاني بالملاحي يقول: »كنت في ذلك الوقت طالب ماجستير في كلية الآداب جامعة عدن في السنة الأولى التحضيرية، وقد كلفت ضمن تكليفات أخرى من قبل الأستاذ الدكتور سيد مصطفى سالم تحقيق بضع أوراق لمخطوطة يختارها الطالب، وقد اخترت مخطوطة (تاريخ الشحر وأخبار القرن العاشر)(5)….. وفي أثناء التحقيق واجهتني بعض المصاعب في تفنيد وتفسير بعض الأحداث التاريخية، وبعض الألفاظ العامية (الشحرية)، التي تعود إلى القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي«. (ص108- 109).
ووثق الجعيدي في أوراقه أيضًا تاريخ إنهائه السنة التحضيرية واختياره لبعض العناوين، يقول: »في أواخر سنة 1994م أنهيت السنة التحضيرية لدراسة الماجستير، ولم أحسم بعد قراري في اختيار موضوع الرسالة، وكنت أميل قليلًا لتحقيق مخطوط (النفحات المسكية في تاريخ الشحر المحمية)(6) لباحسن، وكان لزامًا عليَّ أن أشد الرحال للمرة الثانية إلى مكتبة المخطوطات بتريم؛ لأطلع عن قرب على النسخة الأصلية، وأنسخ بعض الأوراق لتقديمها مع مشروع البحث«. (ص109). وأيضًا »كان لا بد من زيارة الشحر والملاحي للتشاور… وقد ذكرت لأستاذي خياراتي في تحديد موضوع الرسالة شارحًا وجهة نظري، ثم عقب على هذه الخيارات مبينًا أهميتها جميعًا، وبدبلوماسية الشحري تعمد أن يكون القرار النهائي نابعًا من قناعاتي، بعد ذلك غادر الغرفة لثوان وأحضر لي نسخة مصورة من مخطوطة النفحات المسكية (مشروع الرسالة)، وعرض تقديمها لي عند استقرار رأيي على دراستها وتحقيقها…. المهم شاء الله أن لا تكون هذه المخطوطة موضوع الرسالة لأسباب لا داعي لذكرها« (ص110). ويذكر أنه »بعدها عيّن الدكتور أحمد محمد بن بريك (الشحري) مشرفًا على رسالتي بموضوعها الجديد. ولعلاقات الصداقة الخاصة بين الأستاذين فقد أشار عليَّ المشرف بعرض بعض المباحث على الملاحي للاستفادة من خبرته وثقافته…. وواقع الأمر كانت الملاحظات والتصويبات التي دونها الأستاذ الملاحي أو التي قالها شفاهة بمثابة دروس حية نبهتني إلى أمور كثيرة تتعلق بالبحث التاريخي ومسالكه الوعرة« (ص101).
وتحدث عن هموم هذه المرحلة من متطلبات البحث المادية التي أثقلت كاهله.. فيذكر أنه في أحد أيام صيف 1997م تزاحمت في ذهنه الهموم: »أهمها المشكلة المالية المستعصية والمُرحّلة من سنين التي تقض مضجعي، وتكدر حالي بين فينة وأخرى. وما يزيد الأمور سوءًا متطلبات دراستي للماجستير المتجددة من شراء كتب، وانتقال من منطقة إلى أخرى بحثًا عن المصادر والمعلومات، ولا بد أن نشير هنا إلى أن هذه الدراسة كانت على حسابي الخاص. وكان راتب المعلم الثانوي (ولا يزال) يتزايد كمًا وعددًا، ويتناقص كيفًا وعضدًا«. (ص45).
وعند ذكره لقصة (السمسرة) التي وفق فيها.. ذكر شيئًا عن مرحلة دراسته للماجستير يقول: »تعمدت في البداية أن أذكر تاريخ السمسرة وهو سنة 1997م فحينها لم أزل مدرسًا ثانويًا، ولا يتعدى راتبي الشهري ثلاثة عشر ألف ريال يمني، وكنت في مرحلة الإعداد لرسالة الماجستير« (ص228).
وعندما يقتضي البحث الميداني شد الرحال نجده يذكر شيئًا من ذلك يقول: »ارتبطت الأوقات التي أمكثها في مدينتي سيئون وتريم بالدراسة الجامعية العليا ولا سيما أيام البحث الميداني، وإذا عدّت تريم كنزًا أصيلًا للتاريخ وأسراره، فإن سيئون مكان مهم لصناعته وأخباره، والحقيقة أن المدينتين من التاريخ والتاريخ منهما«، (ص97).
ومن المكتبات التي أتيح له الاطلاع على كتبها في أثناء إعداده لرسالة الماجستير مكتبة والد سند بايعشوت يقول: »وذكرت الأخ سند الذي حضر متأخرًا بمكتبة والده العامرة وندرة بعض كتبها ومجلاتها التي أتيحت لي في أثناء إعدادي لرسالة الماجستير مستغلًا ذلك في تأكيد الشكر وإظهار الامتنان«. (ص212).
ثانيًا: مرحلة الدكتوراه:
ارتبطت العراق في المدة التي كان فيها الدكتور الجعيدي يدرس في مرحلة الدكتوراه بالمرضى القادمين إليها من أرض الوطن؛ لهذا نجده يصف علاقته بالمرضى الحضارمة، فقد استهل حديثه بقوله: »أصبحت بغداد مكانًا مناسبًا لطالبي الشفاء من الأمراض التي “حار فيها الطبيب المول والمتعلم العارف” في الوطن، وتكاد تكون الرحلات إلى بغداد أسبوعية، كنا نتردد على الإخوان القادمين من حضرموت فهم من بقية الأهل ونسمة الوطن« (ص69)، يصف علاقته بالمرضى الحضارمة وصعوبة التوفيق بين تلك العلاقة وبين دراسته يقول: »كنت أمام معادلة صعبة لم أوفق فيها: بين رغبتي في عيادة المرضى خاصة المعارف والشد من أزرهم، وبين محاولة ترويض الألم النفسي الذي تحدثه قصصهم الحزينة والحد من تأثيرها على دراستي العليا«، (ص69).
ويقول في توثيقه لسكنه في بغداد: »بغداد 2002م، شارع فلسطين، حي المهندسين، تم التوقيع على عقد الإيجار في منزل العم قيس، وهي شقة في الدور الثاني من الفيلا، الشقة تتكون من غرفتين فوق السطوح« (ص75). ثم سرد حكايته مع »كلاب الجيران عددهم خمسة (أم وأطفالها) «، (ص76)، وأنه مرت العلاقة بينه »وبين هؤلاء الأصدقاء بثلاث مراحل: – مرحلة الشكوى.
– مرحلة الصداقة. – مرحلة العداوة والخداع«. (ص77). في مشاهد دراميتيكية استمرت أشهرًا.
الثاني: متفرقات:
– المنهج:
وجدت نفثات في الحديث عن المنهج الدراسي ومن ذلك قوله: »اليوم كان قريبًا من دفة السمر (سعيد الجريري) لهذا حرك الاتجاه إلى عوالم المناهج الدراسية وإشكالية المعلومة الجنسية وطرح سؤالًا مهمًا ومحددًا وهو: هل نحن في حاجة في منهاجنا الدراسية للصف الخامس الابتدائي إلى ذكر الجماع عندما نتحدث عن مبطلات الصوم؟ أو أن الأفضل تأجيل هذه المعلومة الشرعية الصحيحة إلى مراحل دراسية لاحقة؟«، بعد طرحه لهذين السؤالين »انفتحت شهية السامرين للحديث، وكان واضحًا أن المدرسة أحالت تفسير لفظة (الجماع) إلى معظم البيوت، ومنها بيوت السامرين، وكانت الإجابة المغلوطة -رغم دبلوماسية المخارج- هي السائدة!!!«، (ص220).
من قضايا المنهجية التي طرحت مناهج اللغة العربية، فكتب حديث الدكتور سعيد الجريري حين »وضع فكرة أخرى وهي ضرورة اختصار دروس قواعد النحو في المدارس والجامعات بحيث تكون مادة محببة للتلاميذ والطلاب؛ لأنها تحولت إلى مصدر من مصادر عزوف الكثير من الطلاب عن عشق لغتهم العربية بل وكراهيتها، وقال لا بد من شيوع ثقافة جديدة تجاه اللغة العربية مفادها أن النحو ليس اللغة العربية، منتقدًا بعض المدرسين الذين يحولون مادة دروس النحو إلى مادة نظرية وليس مادة تطبيقية أو في الأقل عدم الجمع بين الجانبين«، (ص214). ونقل تعقيب الدكتور عبدالقادر باعيسى حين قال: »إن لغتنا العربية هي العنوان الرئيس لهويتنا، ثم إنها لغة القرآن بل يعطي البعض حروفها صفة القداسة ذلك أن خط القرآن الكريم رسم أول ما رسم بحروفها«، (ص214)، ونقل تعقيب متداخل آخر وهو الرأي: »الداعي إلى أن تكون هناك (أمة) من النحاة تسهر على قواعد اللغة، وتؤلف فيها ما شاء لها التأليف، ولكن دون أن يكون ذلك تيارًا صارمًا مفروضًا على الجميع. مؤكدًا أن اللغة العربية تستطيع أن تتواكب مع المتغيرات، وقابلة لاستيعابها، بل والإضافة عليها«. (ص214). و»أكد بعض السامرين أن لغتنا العربية هي سر قوتنا، ومفتاح ترابطنا، ورمز لهويتنا. وإن ظلمنا لها في أن نجعلها لغة متحجرة منفرة معزولة عمَّا حولها من ثقافات«. (ص216).
وفي خضم حديثه عن (حياكة الحكاية) ذكر بعض الحكايات الرمزية، ومنها حكاية رمزية كانت ضمن المنهج الدراسي حيث »كانت تدرس لتلاميذ الصف الرابع أو الخامس الابتدائي، والتي تعزز التربية إلى أهمية الحرية في الحياة، والغريب أن الحكاية موجودة في مناهج التربية والتعليم في حكومة جنوب اليمن قبل الوحدة، وهو نظام يوصف بأنه على غير وفاق مع حرية التعبير«، (ص234). ثم سرد تلك الحكاية أو القصة.
– المسيرة التعليمية لبعض الشخصيات:
وجدت في خضم أوراق الدكتور الجعيدي نبذًا مقتضبة عن مسيرة بعض الشخصيات التعليمية، وغالب تلك الشخصيات يعدون من الأصدقاء المقربين له -وقد انبثت أسماؤهم في مواضع كثيرة من أوراقه، كما مر بعضها-، ومن تلكم الشخصيات الدكتور سعيد الجريري الذي »كان يعشق اللغة الإنجليزية ثم أصبح متخصصًا في اللغة العربية، فبعد أن استكمل المرحلة الإعدادية ذهب إلى أحد معاهد عدن التقنية عندما علم أنها تدرس باللغة الإنجليزية، وفشلت عدن في أن تعطيه عشقه وما تمنى، ليعود طالبًا في ثانوية الشحر دون أن يعلم شروط العودة، وتسليم ما عليه من عهدة. وتمضي المقادير…. إنه يسبق اسمه حرف الدال، وهو أهل له، ولكنه كما يقول لا يعشقه، ويردد القول: إن حرف الدال دس قبل كثير من أسماء لا تستحقه، فأفقده معناه الكبير«. (ص225).
الأستاذ صالح الفردي إذ يقول عن نفسه: »كنت الأول على دفعتي في قسم اللغة العربية، وعندما حالت الظروف الكثيرة دون تحقيق رغبتي… غادرت أرض الوطن مغاضبًا إلى مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية«، (ص225)، ويتابع حديثه بقوله: »ومكثت هناك ثماني سنوات متتالية، خلالها ودعت القلم ولكنني أبقيت على علاقتي مع الكتاب«، (ص225)، ثم عاد بعدها إلى مدينته المكلا وفي ذلك يقول: »ثم هيأ لي الله من يشجعني إلى العودة إلى المدرسة مكاني الصحيح، وعدت إلى القلم بقوة« (ص225).
الأستاذ خالد القحوم وقد استهل حديثه بقوله: »بعد تخرجي من الثانوية… كانت ميولي في المجال الإعلامي والصحفي«، (ص226)، ولكنه قبل كما يقول: »منحة دراسية إلى الجمهورية العربية السورية في الاتصالات البريدية، وعندما تخرجت عملت في مصلحة البريد حسب دراستي« ثم قال: »استأنفت نشاطي الإعلامي جنبًا إلى جنب مع عملي الأساسي، ثم فرغت في العمل الصحفي نائبًا لرئيس صحيفة شبام الأسبوعية المكلاوية«، ثم اختار العمل الصحفي.
الأستاذ علي عبدالله البيتي يقول عنه: »كنت أعرفه اسمًا وشكلًا عندما استكمل دراسته الجامعية في كلية التربية العليا بالمكلا، لا نعلم كم مضى من سنين عمره حتى حينه، ولكن ندرك أنه ليس من جيلنا بل كان واضحًا أنه من جيل قبلنا، والدرس الصامت الذي تعلمته من (التلميذ البيتي) أن العلم لا يعرف الحدود ولا مراسي له«. (ص112).
شخصية سالم الذي »أخذ قسطًا من التعليم جعله أوفر حظًا من زملائه الذين تركوا مقاعد الدرس مبكرًا، وانتشروا في أرض الله. لم يتأخر سالم عن قافلة المهاجرين محبة في العلم وأهله، بل اضطراره لخدمة والده العجوز«. (ص152). وبعد هجرته كان »التعليم اليسير الذي ميزه عن زملائه المهاجرين جعله يتقدمهم رويدًا رويدًا« (ص153).
– شخصيات تربوية:
ففي مقاله (الجد.. الابنة.. الحفيد) فك رموز تلك الثلاثية بقوله: »الجد: ونعني به الشخصية الاجتماعية والتربوية المرموقة، وشاعر السلطنة القعيطية، ورائد تعليم الفتاة في حضرموت إنه الشيخ عبدالله أحمد الناخبي (رحمه الله) «، (ص39).
ثم تحدث عن »الابنة: وهي الشيخة الفاضلة والأستاذة القديرة: فاطمة عبدالله الناخبي (رحمها الله)، الشهيرة بعبودة الناخبية، وبغض النظر عن الدور التعليمي الرسمي الذي قامت به بمعية والدها ثم بعد سفره، فما يلفت النظر أكثر جلوسها لتعليم البنات بعد أن علمها والدها دون أن تطلب أو والدها من الناس جزاء أو شكورًا، وحتى بعد أن انضمت مدرستها للتعليم الحكومي لم يكن ذلك بدوافع مرتب لها بل غلب عليها جانب الصدفة وذكاء ناظر التعليم الشيخ سعيد القدال في قصة معروفة«، (ص40).
ثم قال: »الحفيد: هو الأستاذ عبداللاه محمد السقاف (أطال الله عمره) تدرج في العمل التربوي من مكانه الصحيح، فكان معلمًا، فنائبًا لمدير مدرسة، فمديرًا، ثم إداريًا في مكتب التربية والتعليم بمحافظة حضرموت«، (ص40)، وقد عرف له مكانته وعرّف بها بقوله: »لم تتهيأ فرصة أعتقد أنه يستحقها لإدارة التعليم بالمحافظة لسبب يسير أنه سيكون الرجل المناسب في المكان المناسب«، (ص40).
وعندما كان يعدد سكان حيه تطرق لذكر تربويي حيه (حافته) حيث يقول: »وإذا تناولنا أعمدة التربية والتعليم فلن نغفل الإشارة إلى بيت الرائدتين فاطمة عبدالله الناخبي، وفطوم شيخ العزاني، أما رجال التعليم البارزون فحدث ولا حرج، فإن بدأت بالشيخ عبدالله الناخبي وابنته وأحفاده مرورًا بالأستاذ أحمد القحوم، والأستاذ نصر مرسال، والشيخ محمد باوزير، فلن ينتهي عند الأستاذ مدرك عبيد مدرك، وخالد بخيت، وآخرين، والقائمة تطول.. « (ص173).
ويقول عن الأستاذ مدرك عبيد مدرك: »بعد خمسة وثلاثين عامًا من العمل معلمًا في سلك التربية والتعليم غادر معلمنا -وبصمت- المدرسة، فقد أحيل إلى المعاش في السنوات الماضية القريبة« (ص115).
وعن البيتي يقول: »هو الأستاذ الفاضل المرحوم علي عبدالله البيتي مؤسس التعليم الثانوي في مديرية حجر«، (ص112).
ووجدت إشارة إلى الكويت في خدمتها للطلبة الحضارمة الدارسين فيها حين »فتحت مدارسها الثانوية والجامعية لطلاب العلم مجانًا، بل وتدفع راضية مرضية مؤونة العيشة لهؤلاء الشباب، وكان اتحاد الطلاب الحضارم في الكويت الهيئة الاعتبارية لهم«. (ص86).
وفي الختام هذه صورة للتعليم ولمسيرة صاحب الأوراق (العلمية والتعليمية) التقطناها من زاوية الأوراق فقط، ولا شك أنها صورة غير مكتملة المعالم، ولا ضير في ذلك؛ لأن الأوراق ليست متن سيرة.. لكن هذه الصورة ستتضح أكثر فأكثر.. وستردم الكثير من الفجوات، إذا ما دُرِس (عابر سبيل)، وكذا غيرها من مقالاته التي سترى النور قريبًا، والتي ستولد مع الأيام القادمة.
_______________________
الهوامش:
(1) خرجت وثائق الندوة في كتاب في 1989م.
(2) فأطروحته للدكتوراه (قيام السلطنة القعيطية والتغلغل الاستعماري في حضرموت 1839- 1918م) وطبعت في 1985م.
(3) خرج الكتاب في طبعته الأولى 1997م.
(4) وهي وثائق من الأرشيف البريطاني بكل ما يتعلق باليمن، عملت دورين إنجرامس وابنتها ليلى على إخراجها، وتقع في (16) مجلدًا.
(5) خرجت في كتاب، الطبعة الأولى 1419هـ/ 1999م، بتحقيق عبدالله محمد الحبشي.
(6) خرجت في كتاب الطبعة الأولى 2010م بتحقيق د. محمد يسلم عبدالنور.