د. سعيد الجريري
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 22 .. ص 80
رابط العدد 22 : اضغط هنا
(1)
قيل الكثير من الكلام في مديح الصمت، وصار من المأثورات الذهبية قولهم: إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب. وقديمًا قال الخطيب الجاهلي المفوّه أكثم بن صيفي: الصمت منجاة.
لكن الصمـت ليس سوى صـورة لانقطـاع اللـذة وانسداد الرجاء، وفي أحسن أحواله لَوذ بأوقية وقاية. أما الكلام فذروة إنسانية لا توازيها إلا ذروة الصمت عندما يكون أبلغ من كلام. ولقد قال سقراط: تكلم حتى أراك. وهي إشارة من الفيلسوف القديم دالة على أن الكلام هو الإنسان، قيمةً وسيماء.
تقدّسَ الكلام. فلولاه لما سمع الناس خطاب التوراة والإنجيل والقرآن، ولا حكم الفلاسفة، وفرائد المتنبي والمعري، ولا انتشينا حد الثمالة بخمريات أبي نواس، ولا هسهسات النخيل تحدث الرياح، ولا خرير المياه يوشوش الأرض. إذن فالكلام تجلّ، والصمت أفول.
لعل مديح الصمت معادل موضوعي لمديح الأفول. فهل جربنا أن نجعل من الأفول لذة كمن يراقب خفوت شمس تغطس في الماء تتمزق على سطحه فيغسلها حد التلاشي؟ هكذا هو الصمت. جدار ماحل تتراءى فيه بقايا بقع قديمة.
(2)
الكلام غير القول، وتفرق العرب بينهما بأن الكلام ما كان مكتفيًا بنفسه، وهو الجملة، والقول ما لم يكن مكتفيًا بنفسه، وهو الجزء من الجملة. إذن فالكلام تمام واكتمال. ومن إجلاله لدى العرب، أن سموا علمًا من علومهم بعلم الكلام، وهو علم يستخدم المنطق والجدل. أما أشهر الفرق الكلامية فهي المعتزلة والأشعرية.
ويميز علماء اللسانيات بين اللغة والكلام، كما في نظرية فردينان دو سوسير، فثنائية اللغة – الكلام من المبادئ التي ضمّنها دوسوسير نظريته الوصفية البنيوية، فالكلام ظاهرة شخصية و سلوكٌ فردي خاص، بينما اللغة ظاهرة اجتماعية عامة لأن اللغة شيء مجَرَّد و مستقلّ عن المتكلّم عكس الكلام الذي يتوقّف على إرادة المتكلّم و ذكائه.
(3)
“الشعراء أمراء الكلام يصرّفونه أنَّى شاؤوا…”، كما قال – فأنصف – الخليلُ بن أحمد. وللكلام لدى الشعراء العرب تجليات شفيفة، فقديمًا قال كثير عزة:
لو يسمعون كما سمعتُ كلامها خرّوا لعَزّةَ ركّعًا وسجودا
وحديثًا قال أحمد شوقي في غزليته (يا جارة الوادي) التي صدحت بها فيروز:
وتعطلت لغةُ الكلام وخاطبت عينيّ في لغة الهـوى عينـاكِ
لكن للكلام عند نصر بن سيار، ارتباطًا بالحرب، دلالةً على أن للكـلام سلطتـه التي تؤدي إلى مصائـر، ومآلات قاسية أحيانًا كما في أبياته الشهيرة:
أرى خلل الرماد وميض نارٍ ويوشك أن يكون لها ضرامُ
فإِنْ لَمْ يُطْفِهِ عُقَـلاءُ قَـوْمٍ فإِنَّ وَقُـودَهُ جُثَثٌ وهـامُ
فإن النار بالعودَين تُذكَى وإن الحرب أولها كـلامُ
(4)
ولعل من طريف ما قـرأت مؤخـرًا، خبـرًا عن “ساعـة استشـارة الشعـراء” – أمـراء الكـلام – تنعقد كل ثاني يوم جمعة من كل شهر، في المكتبة العامة، في مدينة لاهاي الهولندية، وهي مخصصة للشعـراء ذوي المستويـات المختلفـة، ومـؤلفـي الأغانـي، والطـلاب الذين يتعين عليهم تحليـل قصيـدة ما، جزءًا من متطلبات المنهاج الدراسي. غير أن الأكثـر طرافـة أن يُؤدَّى الشعـر بلغـة الإشارة، في غياب اللغة المنطوقة – التي ينحدر منها الشعر في تقاليده الشفاهية والكتابية التي يؤدي فيها الكلام والسمع دورًا مهمًا- كما حدث قبل سنوات، في أمستردام، إذ ألقى فيم إميريك القصائد بلغة الإشارة وترجمت راشيل فان دن برينك، فوريًا، قصيدة “شجرة العائلة” Stamboom التي كتبها روزالي هيرز.
(5)
الكلام في أعلى تجلياته ليس مجرد كلام، أو كما يسمى، استهجانًا، كلامولوجيا، فربّ كلام أبلغ من صمت، ورب صمت أبلـغ من كـلام، ولعـل مديح الكلام في سياق كهذا هو رديف موضوعي لمديح الصمت، لكن لكل منهما تجليه الذي يعليه في مقامات المديح.