وقفات مع الشاعر صالح بن علي الحامد

أ. نجيب سعيد باوزير

في البدء كانت الأغنية

لعل أول ما سمعتُ من شعر صالح بن علي الحامد (1903- – 1967م) هو تلك الأبيات الجميلة التي لحنها وغناها من شعره الفنان الحضرمي الخالد محمد جمعة خان:

قف معي نشهد جمالا يملأ القلب ازدهاء

أي زهر أي نبـت  أنبـت الروض المريـع

عجبـا في الزهـر ألوان كما الفنـان شـاء

ظهرت شتى وهذي  زهرة فيها الجميع

غادة كالبـدر حسنـا  واكتمالا وسنـاء

زهرة للحسـن رفت  بين أزهـار الربيـع

رفعـت ذيلا وهمـت  تختفي عنا حيـاء

علق الغصن بها لا تستري الحسن البديع

واتركي الشاعـر يسديـكِ غنـاء وثـنـاء

ذمة للحسن عند الشعر حاشا أن تضيع

وهذه القصيدة موجودة في الديوان الأول للشاعر (نسمات الربيع)، الذي صدر في القاهرة عام 1936م عن مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر التي كان يرأسها الأديب الكبير الأستاذ أحمد أمين. وفي صدر الديوان سبعة أبيات للشاعر أحمد رامي يقرظ بها الديوان تبدأ بهذين البيتين:

رجِّع الشعـر أيها الغـريـدُ     قد شجاني من ثغرك التغريدُ

وأدر كأسـه عليّ سـلافـا     إنني من سـلافـه مستـزيـدُ

وعنوان القصيدة الأغنية (زهرة الحسن)، وتحت العنوان تعليق يقول: “قطعة غنائية قالها الشاعر ارتجالا لأغنية اقترح عليه النسج عليها”. وقد عرفت مؤخَّرًا فقط أن للشاعر الحامد شعرًا مغنًّى غير هذه القصيدة، وبعضه من اللون الحميني (العامي)، الذي كان ينظم فيه شاعرنا الحامد، ولم يكن ينظم في الفصيح فقط كما كنت أظن. وهذه ثلاثة مقاطع مختارة من إحدى قصائده الحمينية المغنّاة:

يا نسيم الصبا والأنس حيا قبالك

وانت يا قلب شف بحر المحبة صفا لك

مجلس الأنس عندي طاب شربه

والعَنَق والبلابل فوق الاغصان سجعت بالتلاحين

*     *     *

غصن راوي سقاك الله كرع من جبالك

جيت بابرد وباتروّح بضافي ظلالك

ردنا العقل وانّ العقل حنبه

وان قد العقل مانع خيَـر نبقى في العشقة مجانين

*     *     *

يا رحيم ارث لي سالَك بخالق جمالك

لقّها للهوى والعشق لا لي ولا لك

فيك با يحتكم فن المحبة

إن حيينا وإن متنا بقينا مثل بين المحبين

وقصيدة (زهرة الحسن) واحدة من القصائد الفصيحة العديدة التي لحَّنها وغنَّاها محمد جمعة خان، فقد غنى لأمير الشعراء شوقي عددًا كبيرًا من القصائد، وغنَّى لعلي محمود طه (تسائلني حلوةُ المبسم)، وغنَّى لأبي بكر بن شهاب (بشراك هذا منار الحي ترمقه)، وغنَّى قصائد لعددٍ من الشعراء القدامى والمحدثين، أثبتها الصحفي الأستاذ عزيز الثعالبي الذي رحل عنا مؤخَّرًا – رحمه الله – في 21 أكتوبر 2021م في كتابه (محمد جمعة خان.. الأغنية الحضرمية الخالدة). وغنَّى محمد جمعة لحسين محمد البار بعض القصائد الفصيحة، ولكن غنَّى له عددًا أكبر من القصائد العامية، وشكَّل معه ثنائيًّا فنِّيًّا ناجحًا، يشبه الثنائي أحمد رامـي وأم كلثـوم؛ إذ غنت أم كلثـوم عددًا من القصائـد الفصيحة لرامي، ولكن الغالبية العظمى في ما غنته له كانت من الشعر العامي.

وكما عاشت أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وأسمهان وغيرهم من الفنانين الكبار في عصر كان فيه في مصر عدد كبير من عمالقة الأدب والشعر والثقافة الذين احتضنوا هذه المواهب الغنائية وقدَّموا لها أشعارهم، واختاروا لها من الشعر القديم فغنَّوا تلك الأشعار وشهروها بين الناس، كذلك كان في حضرموت في الأربعينيات والخمسينيات بوادر نهضة ثقافية تبشر بخير كثير، وكان من أبناء القطر الحضرمي ثلة من نابهي الأدباء والشعراء والمثقفين عاصرهم الفنان محمد جمعة خان، ومنهم على سبيل المثال: صالح بن علي الحامد، ومحمد بن سالم السري، وحسين محمد البار، وسعيد عوض باوزير، ومحمد عبدالقادر بامطرف، والأقرب إلى الظن أن أمثال هؤلاء كانوا هم من يختارون للفنان الكبير قصائد الشعر الفصيح المعاصر والقديم كي يلحِّنَها ويغنِّيَها. وأحد هؤلاء، وهو سعيد عوض باوزير، ألف كتابًا يؤرخ فيه للحياة العقلية في حضرموت منذ ما قبل الإسلام، وعندما وصل إلى العصر الحديث ترجم من بين من ترجم لهم لصالح بن علي الحامد ومحمد جمعة خان؛ بوصفهمـا نموذجين يمثـلان الفكـر والثقافة في النصف الأول من القرن العشرين الماضي.

الحامد وأبوللو وشعر المهجر

جاءت ترجمة صالح بن علي الحامد في كتاب (الفكر والثقافة في التاريخ الحضرمي) للأستاذ سعيد عوض باوزير ترجمة قصيرة جدًا، إما نظرًا لاختيار مسبق لدى المؤلف، وإما لأنه لم يجد من يزوِّده بمعلومات كافية عن هذا العلم الحضرمي عندما كان بصدد إعداد كتابه، ولكنه على أي حال لم يشأ أن يغفل ذكره وقد اطلع على إنتاجه الرفيع من الشعر كما أستنتج من وجود ديواني الحامد الأولين: (نسمات الربيع)، و(ليالي المصيف)، في مكتبة والدي، رحمه الله، فكتب عنه ما يأتي:

“أديب موهوب وشاعر مطبوع، وضعه إنتاجه الرفيع الرصين في مصاف الشعراء المجيدين من أدباء العربية في هذا العصر. وهو إلى جانب شخصيته الأدبية اللامعة، فقيه ضليع، شغل مناصب قضائية في عاصمة السلطنة الكثيرية، وله نشاط اجتماعي وسياسي”.

أما وقد أشرنا آنفًا إلى تاريخ صدور ديوان (نسمات الربيع) ومكانه، للشاعر الحامد، فإن ديوانه الثاني، (ليالي المصيـف)، صـدر في القـاهـرة أيضًا في عام 1950م عن (مطبعة مصر)، وهو عام صدور الديوان الثاني للشاعر إبراهيم ناجي (ليالي القاهرة) نفسه، كما يؤكد الشاعر حسن توفيق في مقدمته الطويلة لكتاب (قصائد مجهولة)، الذي جمع فيه قصائد ناجي التي لم ترد في دواوينه المنشورة، وكما هو واضح فإن هناك تناصًّا بين عنواني الديوانين؛ إذ يبدأ كل منهما بكلمة (ليالي) مضافةً إلى كلمة أخرى. وكان الشاعر صالح الحامد قد أعد للنشر ديوانه الثالث (على شاطئ الحياة) منذ وقت مبكر، وأشار إليه في أحد هوامش مقدمة ديوانه (ليالي المصيف)، ولكن لأمر ما لم يطبع هذا الديوان في حياة الشاعر وتأخر صدوره حتى عام 1984م. وهذه الدواوين الثلاثة تضم قصائد الشاعر صالح بن علي الحامد كلَّها، التي اختارها لتظهر على الناس وتمثله خير تمثيل شاعرًا مهمًّا يمتلك ناصية التعبير الجميل المؤثر ويتنقل بين الهموم والمواضيع، التي تشغل تفكيره وتلهمه الكتابة، من ذاتية وعامة، وهي حصيلة ليست قليلة في واقع الأمر، ولكن يدل التباعد بين تواريخ نشر الدواويـن الثلاثة على أن الشاعـر الحامـد على الرغم من مقدرته الشعرية العالية فإنَّه لم يكن يغريه قول الشعر في كل حين وفي كل موضوع من أجل أن يظهر ويتباهى أنه من المكثرين أصحاب الدواوين المتخمة الضخمة، بل كان أكثر حرصًا على تجويد شعره وعلى نبرة الصدق في هذا الشعر مهما يكن موضوعه، وهذا ما أكده الناقد الدكتور عبدالله حسين البار في دراسة له عن الشاعر؛ إذ قال: “لكن الحامد انصرف بكليته عن هذا الطراز من الشعر واتجه إلى القصيدة المتماسكة الأجزاء، المتلاحمة الأطراف، التي تكشف عن تجربة شعورية مر بها الشاعر فتقصَّاها صورة صورة، ومعنى معنى حتى اكتمل البناء، وتم له الكيان على أحسن ما يكون وحدة وانسجامًا”. وقد سألت ابن الشاعر الأخ العزيز الأستاذ غالب صالح الحامد الذي وضع بين يدي مشكورًا كل ما طلبته منه مما يتعلق بوالده إن كان هناك أشعار لصالح الحامد لم تنشر بعد ولم تشملها الدواوين الثلاثة، فقال إن هناك عددًا من القصائد التي تحتاج إلى جمع وترتيب وإنهم بصدد القيام بذلك. وقد جُمعت الدواوين الثلاثة وصدرت في مجلد واحد عام 2002م، تحت عنوان (الأعمال الشعرية الكاملة)، ولكنها إنما صُورت فقط طبعاتها القديمة ولم يكلِّف أيٌّ من الجهات الأهلية أو الرسمية في حضرموت نفسَها عناء إخراج طبعة جديدة منقَّحة ومحترمة لأعمال هذا الشاعر الفذ تليق بمنزلته الكبيرة وتخلو من الأخطاء المطبعية التي اكتنفت الطبعات القديمة، بما في ذلك طبعة الديوان الأخير (على شاطئ الحياة) الذي لم يُلحق، مع ذلك، بتصويبات كما ألحق الديوانان الأولان!

كان صالح بن علي الحامد مجدِّدًا ورائدًا، فتح فتحًا جديدًا في الشعر الحضرمي، بل الشعر اليمني كله، فهو أول من أصدر ديوانًا ذا نفس عصري وحديث، في إخراجه وحجمه وفي محتواه، في عام 1936م، فسبقَ بذلك الشاعرين العدنيين علي محمد لقمان ومحمد عبده غانم، اللذين صدر ديواناهما الأولان (الوتر المغمور)، و(على الشاطئ المسحور)

– -على التوالي – في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين الماضي. قال عنه الباحث ابن مدينة سيئون الأستاذ عبدالقادر محمد الصبان في كتابه (الحركة الأدبية في حضرموت): “وهو أول من اتبع الطريقة الحديثة وسمى دواوينه بأسماء وعنون قصائده، فإن من سبقه أبوبكر بن شهاب وعبدالرحمن بن عبيد الله مشَيـَا على الطريقة القديمة… فجاء الحامد واتبع الطريقة الحديثة. إن شعر الحامد نابض بالشعور والحياة متدفق بالسمو الفني الروحي”.

صدق الأستاذ الصبان بهذه العبارة الأخيرة في وصف شعر الحامد، فهذا الشعر ظهرت عليه سمات النضج الفني منذ الديوان الأول (نسمات الربيع)، الذي أزعم أنه كان نِـدًّا قويًّا للدواوين التي ظهرت في مصر في الفترة نفسها، بالإضافة إلى أنه كان مثلها ينحو إلى التأثر بالموجة الرومانسية التي أخذت تنتشر آنذاك على يد شعراء حركة أبوللو وشعراء المهجر. وقبل سنتين فقط من صدور ديوان الحامد الأول (نسمات الربيع)، كانت قد صدرت في العام نفسه، 1934م، الدواوين الأولى لثلاثة من رموز المدرسة الرومانسية في مصر، وهي: (الملاح التائه) لعلي محمود طه، و(وراء الغمام) لإبراهيم ناجي، و(ديوان صالح جودت)، لصالح جودت. وعلى سَنن هؤلاء الشعراء وغيرهم من الشعراء العرب الذين نشروا شعرهم في المجلات المصرية كالشاعر التونسي أبي القاسم الشابي، نشر صالح الحامد أشعاره الرومانسية في مجلة (ابوللو)، ومجلة (الرسالة) التي نشر فيها أيضًا مقالات فكرية عميقة كمقاله المعنون (حول الفقه الإسلامي والفقه الروماني)، ومما أعجبني في هذا المقال قوله:

“ووالله إننا لا نكره ذات أوروبا ولا علوم أوروبا ولا ثقافة أوروبا ولكنا نكره هذه النزعة الغالية، وهذه الثقافة الببغاوية الصورية التي يتمشدق بها بعض الشبان المتطرفين. أما علومها وأما ثقافتها الجدية وصناعاتها النافعة فإننا في مقدمة من يحبِّذها ويدعو إليها، ولكن بعد غرس العصبية الدينية والعاطفة القومية في نفوس الناشئة حذرًا من هذا الفناء وهذا الادّغام المشين”.

وقد قال الحامد كلامًا مشابهًا فيما يتعلق بالشعر في المقدمة التي كتبها لديوانه الثالث (على شاطئ الحياة)، بل استعمل كلمة (الادّغام) نفسها وليس الإدغام كما كتبت خطأً في الديوان:

“… وإنما نأبى كل الإباء تلاشي روح أدبنا التاريخي القديم وادّغامه في أدب أية أمة أخرى، لاسيما ونحن نرى ثروة لغتنا بأساليبها وبيانها قادرة على هضم كل ما يعرض لها من المعاني السامية والصور الشعرية الطارئة من الآداب الأخرى.”

وأنا أود هنا أن أربط بين هذا الموقف الفكري المبدئي وبين المواقف المشابهة، التي عبر عنها الشاعر صالح بن علي الحامد في كثير من قصائده، والتي أجد أصداءً لها عند شعراء عرب من أتباع المدرسة الرومانسية، وأقصد بها المواقف التي تنبثق من هذا الشعور بالهوية القومية التي تشمل في نطاقها النزعة الروحية الدينية؛ إذ يكاد كل الشعراء العرب في النصف الأول من القرن العشرين يربطهم شعور واحد وفكرة واحدة هي أنهم أمة واحدة تتشارك الآمال والآلام وأنهم “كلهم في الهمِّ شرقُ” كما قال أميرهم شوقي. وكنت في مقال قديم لي عن المؤرخ والأديب محمد عبدالقادر بامطرف قد قلت إن الشعراء الذين أتوا قبل موجة شعر التفعيلة حتى الرومانسيون منهم الذين يوصمون عادة بالذاتية والتحليق في سماوات الخيال “كانوا يهتمون بالجهارة والرنين في الشعر ويؤمنون بالوظيفة الاجتماعية للأدب، وبأن الأديب صوت أمته المعبر عن آمالها وآلامها، أو أنه نبي الإنسانية الذي يتقدم الصفوف نحو آفاق الخير والجمال ليس بالكلمات فقط ولكن عمليًّا إذا اقتضى الأمر”. وقد تكلم الدكتور البار عن شيء من هذا المعنى فيما يخص الحامد في دراسته عنه التي اقتبسنا منها آنفًا. ولقد تكلَّمْنا في بداية هذا المقال عرضًا عن حسين محمد البار، والد الدكتور عبدالله، بوصفـه شـاعـر أغنية، وهو أيضًا من رُوَّاد التجـديـد والرومانسية في حضرموت، وقد رأى فيه المفكر سعيد عوض باوزير صورة الأديب (المجاهد)، التي كان يبحث عنها حبًا في حضرموت وتوقًا إلى نهوضها، وعبَّـر عن هذا في المقال الذي أبَّنَهُ به في أعقاب وفاته – رحم الله الاثنين- إذ قال: “فهو بحق الشاعر الحضرمي الوحيد الذي ظل إلى أن فارق الحياة لسان حضرموت، الناطق المعبر عن أفراحها وأتراحها، المترجم لآمالها وآلامها… لقد كان البار هو الابن البار، الذي أعطى لشعبه من موهبته وفنه وفكره وإنتاجه وحياته كل ما يملك، لا يدخر وسعًا ولا يستبقي جهدًا”.

عندما جد عزمي على كتابة هذا المقال، انطلاقًا من اقتراح عابر قدمه الصديق المُلهِم الدكتـور شهـاب غانـم – -وأعترف بفضله في هذا بعد فضل الله سبحانه وتعالى – تصفحت دواوين صالح الحامد الثلاثة، كما تصفحت بشكل أساسي دواوين أهم شاعرين رومانسيين وأشهرهما، أنجبتهما مصر، وهما علي محمود طه، وإبراهيم ناجي، فعشت بذلك لحظات ما أجملها وما أمتعها منتشيًا بأرق الشعر وأعذب الغناء وأصفى الفكر. وعدا عن السمات الرومانسية التي تكاد تشترك فيها هذه الدواوين، لاحظت هذه الروح القومية والوطنية الواحدة التي تسري فيها جميعها. فمثلًا في ديوان علي محمود طه الأول (الملاح التائه) نجد قصيدة بعنوان (الملك البطل) يرثي فيها فيصل الأول ملك العـراق، مع أنه لا يذكـر اسمـه، ولكن يضع تحت العنوان تقديمًا يقول: “نُظمت على أثر وفاته فجأة في مدينة برن بسويسرا، وقد كانت فجيعة العرب فيه أبعد أثرًا من كل الفجائع التي توالت عليهم من أيام الحرب الكبرى الماضية. وقد كان – رحمه الله – أول ملك عربي عمل جهده لاستقلال (العراق) بلاده المحبوبة، ومن أعظم الرجالات الذين كرسوا حياتهم لخدمة القضية العربية”. وفي الديوان الأول للحامد (نسمات الربيع) نجد له قصيدة يرثي بها الشخصية نفسَها تحت عنوان (ملك العرب.. فيصل)، ويقول التعليق تحت العنوان: “ألقاها الشاعر في حفلة تأبينه بالنادي الأدبي العربي بسنقافورة في 15 جمادى الثانية سنة 1352 و 12 أكتوبر سنة 1933م”، ونختار منها هذه الأبيات:

ويح الأثير وما يردد موجه

كم ذا يهيج من الأسـى ويثـيـرُ

يا بؤسـه إذ قـال أودى فيصـل

بطل العروبـة فـردها المنظـورُ

نبأ دوى كالصـور يـخترق الفضـا

كادت جبـال الشـرق منه تـمـور

رجفـت له أرض العروبـة رجفـة

منها انحنى رضوى وماد ثبيرُ

أفلا تذوب لهوله مهج الورى

ولو انها بين الضـلـوع صخـور؟

لم يرزء الدهـر العـراق بفـقـده

كل الشعـوب لرزئـه مـوتـورُ

الخطب خطب الشرق قد أضحى له

في كل جانحة يُشَب سعيرُ

فبحضرموت أسى وفي مصر جوى

وبمغـرب دمـع يفيـض غزيـرُ

وكـذاك في صنعـاء والأردنّ بـل

في سنـقـفـورَ أسـى عليه مريـرُ

وعلى أن هذه القصيدة المناسباتية ليست من عيون شعر الحامد – وله مناسباتيات رائعة – فإنني استشهدت بهذه الأبيات بالذات لكي أخلص إلى القول إن هذه ليست مبالغات شاعر، بل هي الحقيقة، ففي مصر جوى، فعلًا، عبر عنه علي محمود طه كما سبق، وفي الشام الذي يمثله الأردن في الأبيات كتب الشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير) واحدة من أجمل قصائده يقول مطلعها:

لبست بعدك السوادَ العواصم     واستقلت لك الدموعَ المآتم

وفي حضرموت أسى نستدل عليه بما كتبه أحد مثقفيها، وهو سعيد عوض باوزير، ليس في هذه المناسبة ولكن في مناسبة مصرع الملك غازي الأول، ابن الملك فيصل نفسه، الذي مات في عام 1939م بطريقة مشبوهة مشابهة لحادث وفاة والده، والمتهم في الحالتين هم الإنجليز طبعًا. كان باوزير حينها في عدن، ووصف أثر النبأ على هذه المدينة العربية الصابرة في مذكراته، فقال تحت عنوان (الفاجعة الكبرى): “أصبحت عدن في حداد حزين شامل، فأقفلت المتاجر والمخازن، ورفعت الأعلام السوداء، ومشى الناس في حفل مهيب صامت مؤثر حيث أدوا الصلاة لروح الفقيد العظيم وتبادلوا عبارات التعزية، فكنت تشعر حقًّا بأن العرب في عدن لم يكونوا أقلَّ حُزنًا من إخوانهم في بغداد، وأقيمت حفلات التأبين الكبرى في عدن والتوَّاهي والشيخ عثمان”. وجدير بالذكر أن في ديوان الحامد الثاني (ليالي المصيف) مرثية عصماء في الملك غازي الأول هذا. حقًّا لقد كنا (شرقًا) واحدًا كما أبدع في تصوير تلك الوحدة واللحمة، التي أضعناها اليوم من بين أيدينا، أمير الشعراء شوقي، إذ قال:

كان شعري الغناءَ في فرح الشرق وكان العزاءَ في أحزانه

قد قضى الله أن يؤلفنا الجرح وأن نلتقي على أشجانه

كلما أنّ بالعراق جريح    لمس الشرق جنبه في عمانه

وقصيدة الحامد الرثائية تلك بوزنها ورويها وقوافيها تذكرني بقصيدة (الدمعة الخرساء) للشاعر المهجري الكبير إيليا أبوماضي، وهي قصيدة تعجبني كثيرًا حتى إنني أعود إليها للتلذذ بقراءتها بين الحين والآخر، وهذا ما جعلني أتذكرها على الفور عند قراءتي لمرثية الحامد في ملك العراق. لقد تحدث النقاد عن تأثر الحامد ببعض الشعراء الرومانسيين العرب، وساقوا شواهد من شعره وشعرهم على وجود تشابه في الأوزان والقوافي، وبعض الألفاظ بينه وبين أبي القاسم الشابي، مثلًا، وبينه وبين علي محمود طه، خاصةً في قصيدة الأخير عن (بحيرة كومو) في إيطاليا. وها أنا أدلي بدلوي فأشير إلى التناص بين الحامد وأبوماضي في أكثر من بيت في قصيدتيهما (ملك العرب)، و(الدمعة الخرساء). يقول الحامد:

والناس باك للفجيعة نادب     يذري الدموع وذاهل مذعورُ

قتمت له الدنيا وغُمّ سبيلها     وكأنها وقفت فليس تدورُ

حالت لناظره المحاسن كلها     وحياله صور الجمال كثيرُ

فهذه الأبيات الثلاثة فيها صدى واضح في الصور والألفاظ والتعابير من قول أبوماضي في قصيدة (الدمعة الخرساء):

وجمت فأمسى كل شيء واجمًا      النور والأظلال والديجورُ

الكون أجمع ذاهل لذهولها      حتى كأن الأرض ليس تدور

لا شيء مما حولنا وأمامنا      حسن لديها والجمال كثيرُ

وتأمّل الجناس الجميل في بيت الحامد الأخير بين كلمة (حالت)، وكلمة (حياله)!

ولما كانت الدواوين الأولى للشعراء الثلاثة علي طه وناجي والحامد قد صدرت بعد مدة وجيزة من انقضاء عام 1932م، وهو العام الذي شهد رحيل الشاعرين الكبيرين الصنوين شوقي وحافظ، لم يخل ديوان من هذه الدواوين من رثاء لأحد الشاعرين أو لكليهما، بل إن الشاعر إبراهيم ناجي رثى شوقي بأربع قصائد ألقيت في مناسبات مختلفة ونشرت كلها في ديوانه الأول. وسأنقل فيما يأتي أبياتًا مختارة من إحدى هذه القصائد، تظهر فيها أيضًا الروح القومية الأصيلة عند هؤلاء النفر الكريم من الشعراء، ويشير فيها ناجي إلى البيت الشهير لشوقي من قصيدته عن دمشق:

وللحرية الحمراء باب    بكل يد مضرجة يُدَقّ

تقول أبيات إبراهيم ناجي:

شوقـي نظمتَ فكنـت برًّا خيـرا

في أمة ظمأى إلى الأخيار

أرسلت شعرك في المدائن هاديا

شبـه المنـار يطـوف بالأقـطـار

تدعـو إلى المجـد القديـم وغابـر

طـيّ القـرون مجلل بـوقـار

تدعـو لمجـد الشـرق تجعـل حبـه

نصـب القلـوب وقبلـة الأنظـار

تبكي العراق إذا استبيح ولا تضنّ

على الشـآم بمـدمـع مـدرار

وترى الرجـال وقد أهـيـن ذمـارهـم

خرجوا لصون كرامة وذمار

فلو استطعت مددت بين صفوفهم

كفـا مضـرجـة مع الأحـرار

الحامد وباكثير وحضرموت

في هذا المنعطف من حديثي عن الشاعر صالح بن علي الحامد، أجدني ميَّالًا إلى الربط بينه وبين أديب حضرمي آخر عاش في الفترة نفسها تقريبًا، وخرج من المدينة الحضرمية (سيئون) نفسها، وكلاهما فتح فتحًا جديدًا في الشعر، كل منهما على طريقته، ذلك هو – بلا شك – الأستاذ علي أحمد باكثير. لقد قدم باكثير الديوان الأخير للحامد (على شاطئ الحياة) بقصيدة ذات طابع خاص من ناحية الشكل، يشبه نظام الثنائية (couplet) في الشعر الإنجليزي، ذكر وتذكّر فيها بحنين وشجن أيامه في سيئون، وخاطب صاحب الديوان غير مرة بطريقة تشعرك بالألفة العميقة وصفاء المودة بين الرجلين: “يا صالح”، فقال:

آهًا لسيئـون وأيـامـهـا          هيهات يا صالحُ أن تنسى

أذكرها اليوم فأبكي لها       وكانت البهجة والأنسا

يا شاعر الأحقاف لا أقفرت    تلك المغاني من أغاريدك

غرد على العلات فيها فقد    تُبعث يوما من أناشيدك

غرد وإن عزّك ذاك الطلب    وضاع فيها منك صوت وصوت

حسبك أن تصغيَ دنيا العرب   للشاعر الصداح من حضرموت

وعلى ما في القصيدة كلها من نبرة حزن وأسى وتفجع على حضرموت؛ إذ يبدأها باكثير بهذه الثنائية التي تشبه اللوم والعتاب الرفيق بين الأصفياء:

صالح هاجتنـيَ  ألحـانـك         رحماك! ما شأني وما شانُك؟

قد كدت أسلو عهد ذاك (الحمى)     حتى جـلاه لي ديـوانُـك

فإن الثنائية الأخيرة التي أوردناها قبل قليل ضمن الثنائيات التي ختم بها باكثير قصيدته تحمل نغمة مريرة من خيبة الأمل: “وضاع فيها منك صوت وصوت” قد لا تفلح في التخفيف من لوعتها محاولةُ التسرية والتعزية التي جاءت في البيت الأخير:

حسبك أن تُصغيَ دنيا العرب

للشاعر الصدّاح من حضرموت

وأنا أفهم هذه التعزية على أنها ليست موجهة إلى صاحب الديوان الحامد فقط، بل ربما يقصد باكثير أن يعزِّي بها نفسه أيضًا وكل (الأصوات) التي بُحّت وهي تستنهض الغافلين في حضرموت وتحاول إيقاظهم كي يبحثوا عن مكان لهم تحت الشمس، مثل عبدالرحمن بن عبيد الله السقاف وحسين محمد البار وسعيد عوض باوزير وغيرهم من الشعراء – -بالذات- الحضارمة. وأن يختم باكثير قصيدته باسم (حضرموت) فيه ما فيه – -كما أرى- – من مغزى ومعنى الحب والتعلق والارتباط  بهذا الوطن أو (الحِمى)، كما سماه في بداية القصيدة، رغم تصريحه بأنه قد كاد يسلوه!

وقد سنحت الفرصة للقاء الصديقين عندما زار صالح الحامـد مصر في الفترة من 4 أبريل إلى 28 مايـو من عـام 1953م، أي بعد أيام قليلة من وفاة الشاعر إبراهيم ناجي، الذي توفي بتاريخ 24 مارس 1953م، كما أثبت ذلك حسن توفيق أيضًا، وبعد أقل من عام من قيام ثورة يوليو 1952م. كتب صالح الحامد في يومياته: “لقد أتيح لي عهد إقامتي بمصر حضور بعض الحفلات، منها حفلة ذكرى عبدالقادر الحسيني، أحد الشهداء بفلسطين التي أقامها فلسطينيون في دار الشبان المسلمين بمصر، وكانت فرصة لسماع خطابة بعض الشخصيات، منهم مفتي فلسطين السيد أمين الحسيني وزعيم مصر محمد نجيب وعدد من الخطباء والشعراء من فلسطينيين ومصريين ومغاربة”. والتقى الحامد في هذه الزيارة بعدد كبير من الشخصيات، وزار كثيرًا من المعالم، وسجل كل ذلك في مذكراته عن الزيارة، التي كان باكثير هو المعني بترتيب برنامجها، وكان هو الأكثر مرافقة للحامد، وسلَّمه خلالها قصيدته (يا شاعر الأحقاف)، التي قدَّم بها ديوان الحامد الثالث (على شاطئ الحياة)، والتي تحدَّثْنا عنها باستفاضة في بداية هذا الجزء من المقال.

ولعله قد آن الأوان أن نقتبس من عيون شعر شاعرنا صالح بن علي الحامد في باب الاستنهاض واستثارة الهمم نحو العمل والبناء والتسلح بالعلم والنعي على الخمول والجهل والموات. يقول الشاعر الحامد في قصيدة له بعنوان (المعهد العلمي) ألقاها “في حفلة المدرسة السلطانية بالمكلا، التي كانت تحت إدارة الأستاذ الكبير سعيد القدَّال عند زيارة وفد حضرموت الداخل لها بحضور عظمة السلطان صالح بن غالب القعيطي في يوم 3 ذي الحجة من سنة 1359هـ 1 جنواري سنة 1941م”:

رحماك يا ربي ورشدك في هدى   شعب تخبط في ظلام ضلالِهِ

فلكم بذلت له جميل النصح في   أبكاره حينًا وفي آصالهِ

كم ضجةٍ مرت على أسماعه   عبثًا تكاد تهز شم جبالهِ

أسمعتُ لو حيا دعوتُ كأنني   غيلان معتكف على أطلالهِ

آه على وطن تأصل داؤه   وبنوه أصل وبائه ووبالهِ

أتراه عق أبا فأسلم ربنا   سوط العقاب له بكف عيالهِ؟

***

يا فتية الأوطان حان جهادكم   شدوا العزائم لاقتحام مجالهِ

وابنوا على الأعمال أس حياتكم   ما المرء في الدنيا سوى أعمالهِ

واستكملوا الخلق الرفيع وسمته   فالشأن كل الشأن في استكمالهِ

خوضوا ببحر العلم جم فنونه   لا تقنعوا عن غمره بضحالهِ

ما قام بالأوطان غير مثقـفٍ   غير المكارم لا يجول ببالهِ

الدين والأوطان ملء عروقه   والمجد شغل فؤاده وخيالهِ

جرت النزاهة في أسرّة وجهه   وتمثل الإخلاص في سربالهِ

أنتم بنو الوطن العزيز وفيكمُ   ترجى سعادة حاله ومآلهِ

أشباله أنتم وعدّته وهل   للغاب من حام سوى أشبالهِ؟

أنتم مشاعله ومظهر عزه   وعماد نهضته ورمز جمالهِ

سنقافورا الحامد ومصر باكثير

– شعر المرأة والحب –

بدأنا حديثنا عن صالح الحامد بذكر إسهامه في رفد عالم الغناء والمغنين ببعض أشعاره، ونختم الحديث عنه بمواصلة الخوض في هذا الجانب اللذيذ من شخصيته وسيرته، والتوسع فيه ليشمل جانبا ألذّ وثيق الصلة بالغناء، ذلك هو موضوع المرأة وعاطفة الحب نحوها، مع الموازنة والمقارنة بينه وبين صديقه الأديب علي أحمد باكثير، وكيف تناول كل من الأديبين هذا الموضوع الحسَّاس في أدبه.

إذا كان صالح بن علي الحامد قد صدرت له ثلاثة دواوين – -اثنان منها في حياته – قام بنفسه باختيار قصائدها؛ بوصفها تمثل شعره الجيد، الذي بلغ مستوًى من النضج مُرضيًا له، فإن علي أحمد باكثير لم يصدر له أي ديوان في أثناء حياته، ولكن الدكتور أحمد عبدالله السومحي اطلع على أشعاره المحفوظة لدى أسرته في مصر، وكتب عنه كتابه المعنون (علي أحمد باكثير.. حياته وشعره الوطني والإسلامي)، ونشر أكثر من دراسة عن أدبه وشعره، استفدْنا منها في هذا المقال. وينتظر أن تصدر قريبًا – إن شاء الله – الأعمال الشعرية الكاملة لباكثير، التي اجتهد في جمعها وإعدادها على مدى سنوات طويلة الصديق الدكتور محمد أبوبكر حميد، وحينَها سيتمكن النقاد والباحثون من الحكم على شعره من خلال نظرة شاملة.

يعد موضوع المرأة والتغني بجمالها وسحرها وفتنتها وتعشُّقها من المواضيع الأثيرة عند الشعراء الرومانسيين، ومنهم الشاعر صالح بن علي الحامد، فإن أشعاره التي تتناول هذا الموضوع، خاصة في ديوانيه الأوّلين، تمثل نسبة عالية، كما أن مستواها الفني من النضج والجودة بمكان متقدِّم، ويبدو أنه يقتفي فيها أثر علي محمود طه وإبراهيم ناجي وأبي القاسم الشابي، ولعله من هذا الأخير أخذ لفظة الهيكل بمعنى المعبد التي تكررت عنده، والشابي كما هو معروف هو صاحب القصيدة الذائعة والرائعة (صلوات في هيكل الحب)، كما ورد في إحدى قصائده اسم (فينوس) ربما تأثرًا بالشابي في قصيدته هذه نفسها. واللافت أنه في مقدمة ديوانه الثاني (ليالي المصيف) (نظّر) لهذه الظاهرة في شعره ودافع عن التغني بالجمال الإنساني المتمثل في “ألطف مظهر له وهو المرأة”، ودافع عن شعر الحب بهذه الكلمات الصريحة: “فشعر الحب أصدق الشعر وأخلصه، إذ هو ناتج عن أقوى الانفعالات العاطفية وأشدها أثرًا، بل ربما يصح لنا أن نجعل ما لدى الشاعر من عاطفة الحب مقياسًا لما له من حدة الشعور وإرهاف الوجدان”. وإذا كان الحامد قد تحفظ بعد ذلك في جزء لاحق من المقدمة نفسها فتحدث عن (النظر الفني الصوفي) و(النظرة الصوفية النزيهة) فإنني لا أعد هذا إلا نوعًا من التمويه وذرًّا للرماد في العيون فقط. وفيما يأتي نموذج معبر من شعر المرأة والحب عند الحامد بعنوان (سمراء)، نلاحظ فيه هذا التناصَّ العجيب مع (شاعر المرأة) نزار قباني – الذي جاء متأخرًا عن الحامد قليلًا – في صورة العصفور بين اليدين، ولكن في حين تقول المرأة التي يتقمص نزار شخصيتها:

وبدون أن أدري تركت له يدي     لتنام كالعصفور بين يديه

نجد الآية تنعكس عند الحامد فيتمنى الرجل الذي يتحدث باسمه الشاعر لو عاش قلبه كالعصفور بين يدي سمرائه:

سمراء كم لك هام قلبي راجيا

لو عاش كالعصفور بين يديك

جذلا بذل الأسر عندك راغبا

عن عيشه بين الربى والأيك

ولئن نأيت فكم بعثت على النوى

روحي على ظهر الخيال إليك

ترعاك من مقل النجوم وتارة

تهوي إذا يهوي الصباح عليك

وبعثت شوقي في النسيم لعله

عني ينال الضم من عطفيك

أودعته قُبَلي إليك فهل أتى

ليزف قُبلاتي إلى شفتيك؟

وحتى في قصيدته بعنوان (الشاي)، بعد أن وصف الشاي ذلك الوصف الجميل الشهير يخلص منه إلى التغني بالحبيب الذي كان نديمه على كأس الشاي؛ ولأن هذه القصيدة من غرر قصائد الحامد كما يصفها الأستاذ الصبان وهي ليست طويلة فسأنقل نصها الكامل فيما يأتي:

روِّق لها ماء الغمام وهاتها

ليَ والحباب يدور في جنباتها

صهباء ما عبثت بها يد عاصر

ما عاشرت إلا أكف سقاتها

من جيد الشاي استحال عصيرها

فأتت تحاكي الشهب في جاماتها

قد راق منظرها ورق زجاجها

فلعلة لم يدهقوا كاساتها

لولا انتصاف الكأس خيل أنها

في كف ساقيها تقوم بذاتها

وإذا الهموم على النديم تكاثفت

وبدت أشعتها جلت ظلماتها

فبها غنيت عن التي سلب النهى

من شأنها والإثم من تبعاتها

*       *       *

يا ساعة مرت كلمحة بارق

ذاقت بها نفسي نعيم حياتها

عاطيت فيها الكأس خودًا كاعبًا

ماء الشباب يجول في وجناتها

فتمايل الأغصان في أعطافها

وشمائل الصهباء في نظراتها

جاءت إلي وخدها متورد

جزعا لخوف رقيبها ووشاتها

قلت استقري واهدئي حتى إذا

سكنت بلغنا في المنى غاياتها

طورا تنازعني الحديث وتنثني

طورًا عليَّ بعتبها وشكاتها

فأجيب معتذرا لها وأود لو

أني بذلت الروح في مرضاتها

*     *     *

أوتيت ذاك اليوم لذاتي

ولكني كففت النفس عن حرماتها

الله يعلـم ما همـمـت بريـبـة

ولتذهب الغوغاء في تهماتها

لا يحفل العف الكريم بقول من

نسبـوا إليه فـريّـة لم يـأتـهـا

لم يعرف عن باكثير أنه كان متأثرًا بالرومانسية على الرغم من أنه نشر شعره في مجلة (أبوللو)، ويصف صديقه الدكتور عبده بدوي موقفه من الحب فيقول: “فهو لا يخلص قلبه للحب، ولا يهبط إلى صميم التجربة، ولا يقتحم على ما يريد بجسارة، وإنما نراه مجرد مشاهد، ومجرد متأمل، ومجرد مشغول بالتراث!” إن تناول باكثير لموضوع الحب عادة ما يكون مشوبًا بعقدة الشعور بالإثم، فهو يعنون إحدى قصائده الرائعة التي كتبها مع بداية إقامته في مصر بعنوان (بين الهدى والهوى)، وهو يصف فيها كيف وقف (الشاعر التقي) يصلي الفجر، وفيما هو يؤدي الصلاة رأى فتاة جميلة تسقي الزهور في شرفة البيت المجاور فصرفته عن الخشوع في الصلاة، وهذا المقطع من القصيدة يصور هذه اللحظة الحرجة:

مر في سمعه حفيف لسهم   ناشب في فؤاده المنكوب

ما وعى السمع أو درى القلب إلا   بعد حين من وقعه والنشوب

من رماه وأي نصل وعن أية   قوس رمي وفي أي حُوب؟

ولوى الجيد يسرة فإذا هو   بمثال من الجمال النجيب

قمر طالع عليه من الشرفة   يرنو إليه كالمذهوب

لفتته الصلاة نحو المصلى   فادّراه بكل سهم مصيب

رب ماذا أرى؟ ألمحة نور   منك أم وهم ناظر مكذوب؟

أم ملاكا بعثته بقبولي   ونجاح المؤمل المطلوب؟

رب قلبي صبا إليه كأن لم   أكُ في موقف الصلاة الرهيب

أين ولى اطمئنان نفسي ومن لي    بخشوعي إليك والترحيب؟

رب حل الهوى محل الهدى    في القلب ويلاه رب عاف الذي بي

وانتهى من صلاته وهو يهذي    بضلالات شعره والنسيب

بل إن كتابته لرواية (سلامة القس) كانت من أثر انشغاله بهذه الفكرة.. فكرة الصراع بين العاطفة الفطرية نحو المرأة وبين الوازع الديني، وقد تعمق الدكتور السومحي في دراسة هذه الرواية، وبـيّـن كيف أنها تمثل شخصية باكثير نفسه من خلال بطلها عبدالرحمن بن أبي عمار، وتستلهم البيئة الحضرمية المحافظة أكثر مما تصوِّر البيئة الحجازية في عصر سلامة وعبدالرحمن القس. ومعروف أن هذه الرواية تحولت إلى فيلم سينمائي غنائي، مثَّلت فيه أم كلثوم دور سلامة وغنَّتْ من شعر باكثير هذه الأبيات التي ذاع صيتها:

قالوا أحب القس سلامة         وهو التقي الورع الطاهر

كأنما لم يدر طعم الهوى        والحب إلا الرجل الفاجر

يا قوم إني بشر مثلكم        وفاطري ربكم الفاطر

لي كبد تهفو كأكبادكم       ولي فؤاد مثلكم شاعر

وقد فاجأنا الدكتور محمد أبوبكر حميد في مقال له نشر في صحيفة (اليوم السابع) المصرية بأن كلمات أغنية (غني لي شوي شوي) الشهيرة التي ظهرت في الفيلم نفسه بصوت أم كلثوم ولحن زكريا أحمد كتبها علي أحمد باكثير بناءً على طلب أم كلثوم “ولكنه لظروف شخصيته المحافظة الرزينة طلب أن لا تنسب هذه الأغنية إليه، ثم ذاع بين الناس أنها من كلمات بيرم التونسي؛ لأن هذا الأخير كتب قصائد عامية أخرى للفيلم فيما بعد”. ويهمُّنا من هذه الرواية الإشارة غير البعيدة عن الحقيقة إلى شخصية باكثير “المحافظة الرزينة” التي لا يُستبعد – -فيما نرى- أن تأنف من اقتران اسمها بأغنية خفيفة لاهية مكتوبة باللهجة العامية، ولربما كان باكثير – من ناحية أخرى – يعد هذا نوعًا من الخيانة لمبادئه ورسالته العروبية!

وقد كتب الدكتور أحمد عبدالله السومحي بحثًا جميلًا عن المرأة في شعر باكثير، ومما جاء في هذا البحث قوله – الذي ننقله بتصرف يسير- إن باكثير: “مثقل بقيود دينية واجتماعية وشخصية قديمة، ظلّت تطارده وعاش في علاقته بالمرأة في تناقض عجيب، فبينما تراه يقول شعرًا مغرقًا في الحِسِّية أحيانًا، إذا به يتفلسف في صوفية غامضة”.

ويبدو أن صالح الحامد، في أشعار الحب والمرأة عنده، كان أكثر انطلاقًا وتحرُّرًا من عقدة الشعور بالإثم – -وما جاء في نهاية قصيدة الشاي، من تبرئة لنفسه من الريبة، شيء آخر مختلف – ولم يكن هذا الأمر ليسيءَ إلى مقامه في المجتمع أو يعيبَه بوصفه عالمًا وفقيهًا. وقد نقل لي ابنه الأستاذ غالب قصة نظمه للقصيدة الغزلية المغناة (أيا ثملَ الجفون بغير سكرٍ) الموجودة في ديوانه (نسمات الربيع)، ويطيب لي أن أرويها هنا بطريقتي الخاصة، وأختم بها هذه الخواطر والتأملات عن الشاعر صالح بن علي الحامد كما بدأتها بالقصيدة المغناة (قف معي نشهد جمالا)، وبالمناسبة فكلتا القصيدتين من عشرة أبيات.

ولد صالح بن علي الحامد بمدينة سيئون في عام 1903م، من أم إندونيسية الميلاد حضرمية الأصل. سافر للمرة الأولى إلى الشرق الأقصى وبالتحديد سنقافورا مع والده في عام 1923م وهو في نهايات العقد الثاني من عمره، ثم عاد إلى حضرموت، وبقي يتردد على سنقافورا، وطاف وجال في جزائر الشرق الأقصى وإندونيسيا؛ إذْ كانت مصدر وحيه وإلهامه، ولكَمْ تغنَّى بجمال طبيعتها في كثير من أشعاره، وقد قال قصيدته التي بدأنا بها هذا الحديث (قف معي نشهد جمالًا) في جزيرة جاوا بإندونيسيا، وكان الفنان شيخ البار قد غنَّاها في جاوا، ربما بلحن آخر وضعه لها غير اللحن الذي غناها به محمد جمعة خان!

ذلك الشاب السيئوني الوقور، الحضرمي النشأة، ذو الثقافة الدينية المحافظة، ابن الأسرة الثرية، كان آنذاك أحد الشخصيات المرموقة في مجتمع سنقافورة، أديبًا شاعرًا ذا حضور فاعل في الصحافة العربية المصرية وفي المهجر الإندونيسي، قياديًا في النادي العربي بسنقافورا، ذا نشاط اجتماعي وديني، منفتحًا في علاقاته، شغوفًا بمعرفة الجديد. وفي يوم 11 يوليو 1936م، كان حاضرًا في حفل سنقافوري، غريب عما اعتاد عليه، أقيم تكريمًا للشخصية المشهورة عربيًّا وآسيويًا الأستاذ السيد إبراهيم بن عمر السقاف بمناسبة منح الحكومة المحلية إياه لقب (J P). وهذه الشخصية ذكرها المستشار الإنجليزي بحضرموت هارولد إنجرامز في كتابه (وصف رحلة إلى الملايو وجاوة وحيدرأباد)، الذي ترجمته وصدر عن دار (مكتبة الصالحية للنشر والتوزيع) على نفقة الأخ العزيز الشيخ عبدالعزيز بن علي بن صلاح القعيطي، وقال إنجرامز عن السيد السقاف: “على الرغم من أن السيد إبراهيم بن عمر السقاف ينتمي إلى عائلة حضرمية معروفة، فإنه لم يعش مطلقًا في حضرموت. فقد ولد في مكة ونشأ في الحجاز وقدم إلى سنقافورا في عام 1925م، واهتماماته الأساسية مرتبطة بسنقافورا رغم محافظته على اهتمامه بالشؤون العربية”.

كان الذي أقام الحفل هو السيد أحمد بن محمد السقاف، وقد طلب من السيد الحامد أن يلقي كلمة شكر وترحيب بالضيوف باسم الجالية العربية بسنقافورا، وكان الحفل يضم أكثر أعيان سنقافورا بل صفوة المجتمع السنقافوري كلهم، وفجأة دخل صف من الحِسان وتحلّق حول طاولة واحدة، وكانت العيون الساحرة تبث الشعر والسحر حول الحفل، وكانت من بينهم فتاة أرمنية رائعة الجمال اسمها (فينج) فتن بها الشاعر الرقيق الحساس، ولم يتمالك نفسه فكتب فيها عشرة أبيات من وزن القصيدة الطويلة نفسها وقافيتها، والتي ألقاها في حفل تكريم آخر للشخصية نفسها أقيم في النادي الأدبي العربي بسنقافورة وهي موجودة أيضًا في ديوان نسمات الربيع ومطلعها:

هلمّ فذا الأصيل زها سناهُ       وهذا الحسن ماثلة رباهُ

وفي هذه القصيدة لا ينسى أن يكرر مناشدته للشعب الحضرمي أن يهب من نومه فيقول:

محال أن يشاد خراب شعب    غراب الجهل عشش في ذراهُ

أناشده الشعور بملء صوتي    وما عرف الشعور وما دراهُ

تقدمت الشعوب إلى علاها     سراعًا وهو يحلـم في كـراهُ

فأي القصيدتين يا تُرى كتبت في البداية ثم تأثرت بها القصيدة الأخرى.. قصيدة الحسناء الأرمنية أم قصيدة السيد السقاف، الذي كان هو من ترجم أبيات التغزل في الفتـاة الأرمنية إلى الإنجليزيـة وقدمهـا لها فجنَّ جنونها وطارت فرحًا! وهذه هي الأبيات العشرة:

أيا ثمل الجفون بغير سكر   ألا تدري بطرفك ما جناهُ؟

بقلب لا يلين صفاه لكن   لهذا السحر ما قويت قواهُ

فهل من عاصم من بطش لحظ   إذا لم يغزه قلبي غزاهُ؟

وهل تغني الوقاية منه لما   تدفق في دمائي كهرباهُ؟

أغانٍ في إزارك أم ملاك   لفتنة خلقه الباري براهُ؟

نزلت من السماء سنى وسحرا   لكي تغزو ابن آدم في ثراهُ

تغلب سحرنا زمنا ودنّا    لطرفك حينما ألقى عصاهُ

هنا لهواك في الأحشاء قرح   مضى عنه الطبيب وما شفاهُ

محال برؤه إلا إذا ما    تلاصقت الجوانح والشفاهُ

حنانَك بالمتيم كيف ترضى   بأن يفنى احتراقًا في هواهُ؟!

هذه القصيدة قام بعد ذلك الفنان البارز أبوبكر سالم بلفقيه بنبشها، وبذوقه الأدبي والموسيقي انتقى منها أبياتًا لحَّنها وأدَّاها مع (كورس) نسائي بطريقة رائعة شدّتني عندما استمعت إليها في (اليوتيوب). وغنَّى هذه القصيدة أيضًا كثيرٌ من المطربين، منهم الفنـان السعـودي طـلال سلامة، ومن حضرموت كرامة مرسال وعمر الهدار وغيرهم. ولعل أكثر هؤلاء الذين غنوا الأبيات – إن لم يكن كلهم – لا يعلمون أنها للشاعر الحضرمي الكبير، صالح بن عليٍّ الحامد..!

غيل باوزير

14 نوفمبر 2021م