إتحاف الأنام بانهمارات رحلة الأحلام .. رحلة عسد الجبل

مسعود علي الغتنيني

-1-

مع الأصيل والسماء تصطبغ بلون الشفق الذهبي، مؤذنًا بغروب الشمس، أخذت سيارتنا تطوي الأرض مسرعة بنا إلى وادي عسد الجبل، تحفُّنا الجبال السامقة، وتشجعنا أشجار السمر والقتاد، استوقفتنا المَحرْم ببيرها الأعجوبة وقصتها الخالدة، صلَّينا المغرب، ورفعنا أكُفَّ الضراعة، وواصلنا المسير في ثنيَّاتِ الوادي، وقابلنا حصن النصر، وقد أرخى عليه الليل سدوله، ولمَّا كانتْ كلُّ رحلة لا تكتمل إلا إذا حفت بالصعاب والمكاره فقد أصيبت السيارة ببعض الأعطاب، وأخذت تتعثر بين الهضاب، وربما ارتعدت من هيبة ذلك الشامخ، الذي يقف منتصبًا صاعرًا خدَّه في كبرياء، مولِّيًا وجهه شطر مظوبة، فخارتْ قواها، وتركتْنا هناك على بعد رميةِ حجر منه، فترجَّلْنا منها مسرعين، وحملْنا متاعَنا مهرولين، وضعْناه في وسط باحة وسيعة، وحاولنا أن نطمئن مركبتنا أن هذا الشيخ الجليل هو شيخنا وفخرنا، وأن لا بأسَ عليها منه، وهدّأنا من روعها بعد جهد جهيد، حتى عاد إليها نشاطها؛ لتعود أدراجها، وأكملنا طريقنا مترجِّلين، فإذا بنا نسمع خطواتهم، ونرى آثارهم وهي تروي لنا ألف حكاية وحكاية…

-2-

وصلنا زحر بيت غتنين، بوادي عسد، بُعَيْدَ صلاة العشاء، وقد خيّم الظلام، ولكنْ لا تزالُ بعض الأنوار مضاءة، وضعنا أمتعتنا في ساحة فسيحة، لا تبعد عن حصن (النصر) سوى بعض خطوات، صلَّيْنا صلاة العشاء، وشرعنا في نصب الموقد؛ لتجهيز الغذاء، إلا أن (التيس) لم يَرُقْ له المكان، فأخذ يضطرب، ويثغو بشدَّة، ولم يكن الحبل الذي ربط به بتلك المتانة؛ ليبقى إلى الصباح بأمان، فخفْنا أن يستغل ذلك الوضع ويهرب مخلِّفًا لنا الآهات والحسرات، فانبرى له الشُّـبَّانُ وأخذوه الى بيت أحد الجيران، وطلبوا منهم حفظه إلى الصباح، فلبَّوا الطلب بارتياح، وبقينا في مجلسنا مطمئنين، نتبادل أطراف الحديث حتى جهِّز العشاء، فأقبلنا عليه بنَهَمٍ لِمَا أصابنا في الطريق من عناء وهَمٍّ،  بعدها طاب السَّمَر، وتذكَّرْنا من تراثنا ما خلّد لنا طيب الأثر، وبقينا على هذه الحالة حتى أخذ منَّا التعب مأخذه، تمدَّدْنا على الحسير، وتوسَّدْنا بما وقع بأدينا من أواني و( قصدير)، وقد هبَّ النسيم العليل بعد انتظار طويل، فمِنَّا مَنْ نام سريعًا، ومِنَّا مَنْ أخذ يتقلَّب يمنة ويسرة كما هو حالي، فلمْ يغمضْ لي جفنٌ، فأخذْتُ أرتِّبُ الكلماتِ لتقديم ما هو آتٍ، ولمْ أكدْ أستسلم لسلطان النوم حتى سمعْتُ همهمة القوم ..أصوات ترتفع، وأوَانٍ تقرع، فاستيقظت على عجلٍ، وبحثْتُ عن مصدر الصوت في وجل، غيرَ أنه سَرْعَانَ ما اختفى فجأة، فقلْنا لعلَّها رحلة أتتْ معنا لزيارة الوادي، أو هم من ساكنيه وأزعجهم نزولُنا فيه، أخذْتُ أتقلب إلى حين أذان الفجر، فصلَّيْنا في المسجد وعُدْنا للمقعد…

-3-

 أخذت تباشير الصباح تغمر المكان بفرح وانشراح، فتسلَّلتْ نسمة رطبة محمَّلة بعبق الماضي التليد؛ لتعلن ميلاد يوم جديد، وبدا لنا حصن النصر، وهو يقف شامخًا على مرتفع من الأرض، وهو يطل على وادي النخيل السامقة، وقابلتْنا مظوبة وهي تحتضن الوادي كأم رؤوم، غمرتْنا فرحة عارمة، فقد مضتْ سنواتٌ عدَّةٌ منذ زيارتنا الأخيرة للوادي، ذلك الوادي الذي كان في ما مضى مقصدًا للناس في موسم الخريف؛ إذْ ينتقل معظم سكان سرار إليه؛ للاتصال بأموالهم المنتشرة في ربوع الوادي، بالإضافة إلى كثير من الأسر الكريمة من مدينة قصيعر وما جاورها؛ فقد كان هذا الموسم من المواسم المهمَّة في المشقاص، فهناك يلتقي الأصدقاء والأحبة، ويصبح الوادي قبلة للشعراء و(محبي السلى)، فتقام جلسات السمر والدان، وتنشد أعذب الألحان، وقد ارتبط بيت غتنين بعلاقات متينة بساكني الوادي ومرتاديه، وما أن وقفت جوار الحصن حتى خُيِّل لي ذلك اليوم البعيد، وقد هلَّتْ تباشير العيد، وقد أقبل الشيخان عبد الله بن عقيل باعباد ومحمد الشايع -رحمهما الله- إلى الزحر لعواد إخوانهم بيت غتنين، مردِّدين في صف عرمرم :

 وسلام يا زحر الزبيــن         فيك الرياسة والوسل       

والرسم شايع في الجهين

 عا وثر قـــادم واقفيــــــن     وعلى السوارح لي زمن         

نطلب من المولى يعين

 واقف على ساس المكين      قد لك عوايد في العلا      

 تبلغ بالحمـــل الرزيــــن

ما شي عذارة ما تبيــــن       بالعز والرفعة تقــــــع        

والنجم زاهر في الجبين

 والعفو لا يا الحاضريـن       وعسى بحسن الخاتمــــة       

للكـــــل في دنيا ودين

 وخُيِّل لي الوالد/ عبود بن عمرو الغتنيني – رحمه الله – يدور أمام صف بيت غتنين و(يعلّم) الصف ليردِّدوا مرحِّبين بأهلهم وإخوانهم آل باعباد:

وبديت بالفـرد المتيـــــــن      جلّ تعالى ربنا                

عما يقــــــــول الملحديـن

آيات بالحق المبيـــــــــن      والأمر كله والبقاء             

لله رب العالميــــــــــــن

صلوا على الهادي الأمين     المصطفى بو فاطمة           

خاتم جميع المرسليــن

احمد شفيع المذنبيــــــــن     في يوم بأرض الساهرة       

وجمع الخلائق واقفين

حيا كــــــلام العارفيــــن      والاسم بالجد اعترف           

والشرب من عين اليقين

يالله عسى الدنيــــا تزين      وترد عاعدانها                 

وعلى السواس السابقيـن

تغتاث يا وادي زميــــن       غيـــــــــث المسرة والهنا       

والعز في دنيا ودين

تصلح ولاة المسلميــــن      والنصر على جمع العدا          

بحق رب العالميـــــن

بالدين لي عليه واثقيــن      تصلح عمالي والنيه            

واجعل كتابي باليميــــــن

-4-

جاهدت الشمس طويلًا حتى استطاعت الوثوب من على قمة (منيعاقة) المحاذية من الشرق لحصن النصر؛ لتنشر أشعتها في الأجواء، وتكسو نواحي الوادي بحلة بهيجة من نسيجها الذهبي، ونحن نرقب الموقف من أعلى حصن النصر بعد أنْ كُنَّا قد تجوَّلْنا في أثنائه، وحكى لنا حكاياه، التي ملأت السمع والبصر، ثم شكى لنا اشتياقه ولوعة فراقه وتأثير عاديات الزمن فيه، وحاجته المُلِحَّة لِمَا يعيد له رونقه وبهاءَه؛ ليبقى شاهد صدق على مآثر الأجداد وإرثهم الخالد، فأعطيناه عُهُودَنا ومواثيقَنا؛ لنحقِّق له أمنيته، فأسرعْنا بإحضار المعلِّم لتقييم ما تهدَّم.. ثم استأذنَّاه في رمي (الغرض)، ووقفْنا قبالة (الغرف)، وجعلنا فيها الهدف، وما أنْ سمع ذلك الصوت، واستنشق رائحة الباروت، حتى تمايل طربًا، ومدَّ عنقه في كبرياء، حتى بلغ عنان السماء، فأشفقْنا عليه من إثارة الشَّجَن فيه….

-5-

أرسلت الشمسُ أشعَّـتَها الملتهبة، فلفحتْ وجوهنا، ولمْ نكنْ قد باشرْنا العمل .. فبادرْنا مُسْرِعينَ إلى الوادي الفسيح الممتدِّ أمامَنا باتجاه (حمد المهرف)؛ لتجميع الحطب والحصاة، وتجهيز المضباة، بينما ذهب بعض الشباب باتجاه الوادي صوب الغيضة والعيينات والحدبة والقويرات..  للتطواف على بعض (أموالهم) هناك، ولتنسم الأخبار، وتجميع الأشعار؛ فقد مررْنا من هنا من قبل، ولنا تراث زاخر، فلابد من السؤال عمَّا خلَّفه الأجداد من مآثر، فـ(عِسِدْ) إحدى مثاوينا التاريخية :

 وعسد معي مسراح جد       مسراح من زام الكفر     

وبدر عاده ما وجد

 (عبود بن عمرو الغتنيني)

أما من بقوا فقد شرعوا في تجهيز الغداء، وتم إحضار (التيس)، وذبحه، واتفقنا على أن يكون بعضه مضبيًّا، والبعض بالتنور في (قصعة) محكمة، والبعض مطبوخًا لأجل المرق، فكان لنا كل ذلك، فتمَّ تجهيز الأخيرين، وتأجيل المضباة إلى بعد الصلاة، وحضر الشباب من الوادي يحملون ما سرَّ الفؤاد، وكان مما أحضروه شريط (كاسيت) نادر لدان بيت غتنين بصوت الوالد المرحوم/ عبود بن دويلة (عبود شخاوي)، فكان فرحُنا به أيَّما فرح، وتبادر إلى ذهني في الفور جلوس مجموعة من بيت غتنين بجوار حصن النصر، يدندنون بدانهم الشهير في موسم الخريف؛ إذْ قال الوالد/ عمرو بن سعيد الغتنيني- رحمه الله -:

 نا طفت وادي عسد والشعب كله خضر

غضيت عيني شكرت الله مليون كر

فيجيبه الوالد/ عبدالله بن عوض الغتنيني- رحمه الله -:

 العين با تحاسبك من كثر غض البصر

 فيهن سقاطر وهن متعودات الثمر

وكأنِّي بمرتادي الوادي يصغون إلى ذلك الدان، وقد سلب عليهم لُبَّهم بما يمتاز به من ألحان شجية وإيقاعات موسيقية نادرة، لم يقف خيالي عند هذا الحد فقدْ توارد إليه مشهدٌ آخر، وقصيدةٌ أخرى للمرحوم / عبدالله بن عوض الغتنيني، وقد أطال المكث في عسد بجانب أمواله، فشدَّه الحنين لموطنه الآخر، أرض المسرة (سرار)، فأخذ يدندن على ذلك الصوت الشجيِّ متمنِّـيًا الذهاب مع السيارة، والتي رمز لها بـ (بوعجل)، وتأكيده على دفع أجرتها (نولها) ولو كان مضاعفًا؛ لشدة حنينه لأرض المسرة، واصفًا إيَّاها بأنها أعزُّ مدن الساحل :

 ودي مع بوعجل وبغيت تعبر بنول

 أرض المسرة وهي عز المدن في السحول

 ثمَّ تراءى لي مشهدٌ آخر أيضًا لإحدى نساء بيت غتنين، تسكن خارج سرار، وقبصها (لدغها) ثعبان، فتذكَّرتْ أهلها القاطنين في عسد وسرار، فردَّدتْ مكلومة:

 يا ذا المعني وصل سعد وضويه نهار

 قل له يشد المطيه لي تشل البهار

وقبصت بالليل ماحد من سعفي عتار

 اما صحابي في عسوده وحد في سرار

 لم يوقظني من ذلك الخيال الخصب سوى الأذان، مُعلِنًا دخول وقت صلاة الجمعة، وإذا بالوادي ممتدٌّ أمامي، ونخله تطاولَ سموقًا قمة مضوبة، وكأني أنظر إليها وهي تتمايل طربًا على نغمات الدان.. صلَّيْنا الجمعة، ثمَّ عدنا إلى خيمتنا، وأنضجْنا اللحم على المضباة، واستمتعْنا بطريف الأشعار والأخبار بصحبة أخيار من سكان الوادي الأحرار، ولمَّا لمْ يكنْ للمشهد أنْ يمرَّ دون قصيدة وإن اختلف الصوت من الدان إلى الهبوت فقد جادت قريحة سعيد عوض الغتنيني بقصيدة، واصفًا الرحلة وما صاحبها من عناء، لكنْ هناك ما بدَّد ذلك العناء والمشقة :

كلفينا ع القدم ما اعتمدنا ع المطية    

              حصن شامخ يستحق العناء والافتخار

صانع الامجاد بالسيف وزنودي قوية .

             والشوامخ لي شواهد ياكم راحن عمار

بعدها تناولنا الغداء، وشددْنا المطيَّة باتجاه ظبق هزاول الأبية، مودِّعين الوادي، وقد امتلأت صدورُنا غبطةً وانشراحًا، متذكِّرين قصيدة الوالد/ عمرو عبود الغتنيني – رحمه الله -:

وادي عسد زين من شافـه سلى خاطـره

فيه المعاييـــــن وسقاطـــر بها زاهيـــــه

خلعه على السوم تسوي خمستعشر ميه

 يا بخت من هي ضماره باتقع ملك له

حاسب ضمــاري رأس المال والفايـده

غبّوا علينـــا طـرق عاشوفهـن باينـــه

 يا وعــل عذّبتنــــا قدنا ثنعشــر سنــه

 عذّبتنـــا في صيــق وحيود متباعــده

في الضرب مسيوط ما باتعلّم الترميه

وسلبنـــا شرف قيمــة خمستعشر ميه

حتى في البعـــد باجيبـــك في الباديـه

-6-

ولم تكد الشمس تهم بالزوال حتى كنا على متن السيارة متوجِّهين إلى ظبق هزاول، تملَّكني شعور غريب وأنا في طريقي إليها، فهذه هي المرة الثانية التي أزور فيها الظبق، فلقد زرْتُها لزواج أحد الإخوة قبل سنوات، ولا تزال مناظرها الخلابة وطبيعتها الساحرة عالقة في ذهني، وأخذت الكثير من الذكريات الجميلة تتوارد إلى مخيلتي، وصلْناها بُعَيْدَ صلاة العصر مباشرة، وقفْنا بجانب المسجد، وقد طالعنا حصن هزاول شامخًا، يحكي تاريخًا تليدًا، وفي الجهة المقابلة يقف حصن شقبون الشهير.. استقبلَنا بحفاوة بالغة من قبل إخواننا هزاول، وليس ذلك مستغربًا منهم؛ فهم المعروفون بشهامتهم ونخوتهم، بالإضافة إلى ما تربطنا بهم من روابط القربى والإخاء والصهارة؛ فهم بنو عمومتنا وأهلنا وعزوتنا. صلينا العصر في مسجد المنطقة، ثم اصطحبَنا أحدهم إلى بيته، فأكرمَنا أيَّما إكرام، ثمَّ توجَّهْنا جميعًا إلى الوادي، تحفُّنا أشجارُ النخيل والمانجو والموز، وأشجار أخرى بديعة المنظر، وارفة الظلال، تحكي مثابرة سكان الظبق واهتمامهم بالزراعة والعناية بها، رأينا (جوابي) وسواقي (التنمية)، التي أسهمت في الحفاظ على الماء، وانتعاش الزراعة، أسَرَنا الوادي بمناظره الخلابة، ونسيمه العليل، وجباله الشامخة، ومنها جبل (العلك) الشهير، تذكَّرْتُ حضور بيت غتنين إلى هذا المكان في إحدى المناسبات؛ إذْ قال شاعرهم/ عبدالله بن عمر الغتنيني(الخيش):

زرنا جبل والنوف من حيث الردى 

                والمقدمي دور العشيرة جابها

 وسلام عاأهل المنابة والزهاء  

                 أهل الشهامه عارفين حسابها

فردَّ عليه الشيخ / كرامة بن عمرو بن حمادة مرحِّبًا به:

 حيا تراحيب المسرة والرجاء      

                وقلوب تفرح من سرار أعجابها

 أنتم مثيل النور في ليل الدجى  

                حيث النمارة تفتخر بأنيابها

 استرحْنا قليلًا على حصاة (المنقود) قبل أن نواصل المسير في ثنيَّات الوادي، ثم عُدْنا إلى مكان السيارة مردِّدين قصيدتنا التي سبق أنْ جادتْ بها قريحة الشاعر/ سعيد عوض الغتنيني :

كلفينا ع القدم ما اعتمدنا ع المطية…

 ركبنا السيارة والشمس تغرقُ في ترابها الذهبي، ناثرةً بعضَه على رؤوس الأشجار، التي تراقصتْ طرَبًا على ضفَّـتَي الوادي، راسمةً لوحة بانورامية آسرة. تحرَّكتْ بنا السيارة والغروب يشيِّعُنا بموكبه المهيب، ونحن منطلقون باتجاه أرض المسرَّة، والأرض تُطوَى لنا طَيًّا، مررْنا بوادي عسد، وقد خيَّم الظلام، وأرسل بظلاله على كل شيء، ولمْ نرَ منه سوى مصابيح قليلة متناثرة هنا وهناك، ورؤوس النخل تلمع مع كل اهتزازة للسيارة، ودَّعْنا الوادي مُحَمَّلين بأجمل الذكريات وأحلى الأوقات، وبعد حوالي ساعة من المسير شارفْنا على أرض المسرَّة بعدَ رحلةٍ كُتِبَتْ فُصُولُها بماءِ الذَّهبِ؛ لتبقى رحلة الأحلام دون منازع….