توقيع قلم .. “دفرنا وبغيت المسقط”

أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي

كلمات هذا المثل الحضرمي فصيحة وليست عامِّيَّة، وهي واضحة في معانيها، ومباشرة في فكرتها، وغالبًا ما تقال لمن يريد اتخاذ قرار ما لكنه متردِّد لأسباب معينة، وفي الوقت نفسه يتمنى مَنْ يدفعه إليه أو يجبره عليه، وعندما يقال المثل من متكلم إلى آخر مستمع يدخل في باب السخرية، والغيبة والنميمة، وهذا الصنف الذي يتمنى (المساقط) قد يكون من مُدَّعِي الوطنية، والنزاهة والشرف، لكنه في باطنـه يرغـب في المناصـب ذات الامتيازات الكبيرة أو الفرص (الذهبية)، حتى مع وجود مؤشرات بسقوطه في دهاليزها، لكنه يدَّعي (الموافقة) على مضض، وبعد وساطات (الوجهاء والعقلاء) وإلحاحهم ، أو تحت سقف إصلاح ما يمكن إصلاحه، أو بحجة إعطاء فرصة في دور (للصالحين) لترميم ما يفسده (الطالحون)، وهذا النوع المنافق غالبًا ما يكون على حافـات السقـوط، ويجيد تمثيـل دور البطولة، بل يطلق المزيد من الكلمات الوطنية الرنانة؛ كي يصل اسمه، ويسمع صوته من به صممٌ، لكنه يجعل أبوابه مواربة؛ ليطمئن فيها جميع الأطراف بأنه حبيب الكل.

وعندما يُردِّد هذا المثلَ (دفرنا وبغيت المسقط) شخصٌ على لسان حاله فغالبًا يوجه خطابه لجهات صديقة؛ ليبيّن موقفه البطولي الاضطراري لفعلته التي فعلها. أما إذا كانت الجهة غير صديقة أو محايدة فهو يردد المثل من باب الهجمة الاستباقية؛ ليدفع عن نفسه لومة اللائمين، وفي الحالتين يتصف (الساقط) – من هذا النوع – بالشفافية والقدرة على المواجهة وهو يدافع عن نفسه من وجهة نظره الخاصة، ويبقى حق المستمعين في قبول روايته أو رفضها وفقًا لقناعاتهم الخاصة، وبمدى ما يقدِّمه (المدفور) من حجج وبراهين.

ويحضر المثل في جانبه الإيجابي عندما يكون شخصٌ مناسبٌ في المنصب المناسب، والظروف مناسبة، لكن تغيرت الأحوال والظروف وصار عليه أن يغض الطرف عن تصرفات وإجراءات تتناقض مع قيمه ومبادئه، لكنه لا يستطيع أن يعارض بشكل مباشر درءًا لرَدَّة فعل ثورية عنيفة، أو مذهبية متعصبة، فيبدأ بانتهاج سياسة السقوط التدريجي عن طريق المناورة الذكية، التي تقرِّبه إلى حافة السقوط بحيث تجد الأطراف (الدافرة) من مصلحتها إيجاد البديل الخفيف، وهم كثر يتزاحمون عند حافات (السقوط).

إن الفطرة السليمة تجعل ممن عندهم اعتداد بأنفسهم يتجنبون التهافت على المناصب حتى ولو كانوا مؤهلين لها، ويستحقونها، بل يتجنبون بحياء صادق لفت الأنظار إليهم، فضلًا عن الطلب من طرف صديق صناعة (دفرة) إليها، كما أن الوعي الجمعي يستنكف موقف المتطاولين والمتعرضين، ثم إن المسلمين عندهم قاعدة نبوية تقول:  “طالب الولاية لا يُوَلَّـى”، لكننا نجد في موقف سيدنا يوسف (عليه السلام) بعد تفسيره لرؤيا عزيز مصر – بحسب قصة القرآن العظيم – مقاربة إيجابية تستحق  الإشارة خاصة بعد أن قال له العزيز: “إنَّكَ اليومَ لَدَينَا مَكِينٌ أمين”، فبادر سيدنا يوسف وطلب – مع المكانة الرفيعة التي حظي بها – أن يكون مسؤولًا عن خزائن الأرض وقيِّمًا عليها، وهي وظيفة مستقبلية؛ لأن الخزائن ستكون عامرة في السنين السبع السمان القادمة كما أوحى الله به إليه، والمشهد كله يدخل في العناية والتدبير الإلهي، لكن الموقف يعطي درسًا نبيلًا يشجع على الإقدام بثقة في المواقف التي تستدعي التصدي والتحدي، ويشبه هذا من قريب موقف الفارس الذي يخبر قبل مبارزة فارس أقوى منه بقراره الخاص دون أن ينتظر موافقة  من قائده أو جندي (يدفره).

إن ازدهار هذا المثل (الدفرة والسقطة) غالبًا ما يكون في المجتمعات الرهيفة أو الهشة التي تربَّى فيها الأجيال على ثقافة الخوف، ولا تشجع مؤسساتها التعليمية ولا الأسر على فضيلة الثقة بالنفس، وحب الإقدام والشجاعة والمغامرة، وتغيب عنها ثقافة الشفافية، وعدالة الفرص، وقوة القانون، وحيث يسند فيها القيادة والإدارة إلى أصحاب الثقة، وليس أصحاب الكفاءات لهذا تكثر في هذه المجتمعات حافات السقوط، ويهرول إليها المتساقطون وهم يعلمون.

أما دلالات المثل وارتباطاته بالشخصية الحضرمية فتحيل إلى منحى سلبيٍّ، يَنِمُّ عن شخصية خجولة متردِّدة، تتجنَّب ما يمكن وصفُه بثقافة اللَّوم عند عرض أفكار بناءة، أو محاولات جادة للتطوير، أو قرارات مفصلية، لهذا نلاحظ الجمود في واقعهم، والرتابة في حركتهم، وقلة من الرُّوَّاد، والمبادرين، والمتميـزيـن في داخـل بلادهـم إلا في مواقـف معدودات، في حين المهاجرون منهم – من منظور هذا المثل – تحرَّروا من أعباء ثقافة اللوم المحبطة، وشَقُّوا طريقهم إلى أرزاقهم التي كتبها الله لهم، ووفق هذا المنظور ممكن القول إن المهاجرين – بصرف النظر عن تبعات الهجرة – هم مَنْ (دفروا) أنفسهم بأنفسهم، أمَّا مَنْ مكث في الأرض؛  فمنهم  من ينتظر(دفرة)، ومنهم مَنْ يتمنَّى(سقطة)، وما بدَّلوا تبديلًا.