د. عبده عبدالله بن بدر
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 20 .. ص 96
رابط العدد 20 : اضغط هنا
من حسن حظ القارئ الشغوف بالمحضار والمتطلع إلى فهم الحياة التي قضاها مع أصدقائه، وكيف كان يحياها بأدق تفاصيلها، أن سخرت لهُ الأقدار الشاب النشط عيدروس محمد سالم الحبشي؛ ليدخله إلى دهاليز هذه الحياة المتوارية وعوالمها الطريفة واللطيفة، والتي لم تخلو من المداعبات والوخزات لحماقة الأصدقاء وحماقة السلطات، التي حكمت باسم الوحدة ورموزها المتعرجفة، إن متابعة عيدروس الجادة لحياة المحضار مع أحبابه وأصدقائه، أثمرت للقارئ ذلك الكتاب المرح والموسوم بــ (شخصيات في حياة الشاعر حسين بن أبي بكر المحضار)، وكان المحضار في هذا الكتاب هو النجم اللامع الذي تدور حوله كواكب من أصدقائه ومحبيه، يتبادل معهم الدعابات والطرائف والمقالب والمشاكسات الشعرية الملونة بحب الحياة والإقبال عليها والاستسلام لأقدارها إذا وقعت.
إن كتاب عيدروس كشف لنا البعد الإنساني الذي لا يمكن أن نراه بطريقة مباشرة في أشعاره المنشورة، بل إن هذا البعد مطوي في تفاصيل حياته اليومية ومن الصعب رؤيته بطريقة مجانية، بل الأمر يحتاج إلى حركة ومتابعة وتلقّط هذه الدعابات الطريفة، واستحضار تلك المقالب التي بين المحضار أحبابه، وما كان لعيدروس إلا أن أنبرى لمثل هذه المهمة الصعبة واصطبر وصبر حتى أخرج لنا هذا العمل الذي أضفى جانبًا إنسانيًّا في حياة المحضار، المفعمة بالنُّبل والإخلاص؛ إذ كانت يده طويلة في عالم الخير، فهو لا يتردَّد إطلاقًا عن مدِّ يد المساعدة للفقراء من أصدقائه وغير أصدقائه، من الذين ضاقت عليهم دنياهم حتى أصبحت مثل سم الخياط، والكتاب دوّن جملة من المواقف النبيلة تحسب لهُ في ميزان حسناته إن شاء الله.
والمحضار لم يكتف بمسح دموع أهل الإملاق والعوز، بل تعاطف وأكرم حتى من ذهبت عقولهم، مثل: سعيودي، وعبيد القرمزي، الذي أخذ مرة سلسلة المفاتيح الخاصة ببيت المحضار، فلم يثر ولم يغضب، وتركه يذهب بها إلى حيث يشاء واستبدلها بأخرى، وكذلك السارق الذي سرق ساعة المحضار الثمينة من بيته، لم يشمت به، ويفضح أمره في كل مكان، بل سامحه وأكرمه عندما دخل بيته، بل سوغ لهُ سرقته بأنه ربما كان في حاجة شديدة للمال، فاضطر إلى السرقة، وكان المحضار يُكْرِمُه كلَّما أتى عنده إلى البيت إلا في هذا اليوم الذي سرق فيه الساعة، لم يعطِهِ ما اعتاد عليه فمد يده إلى الساعة وسرقها.
إن الكتاب وضع يده على ذلك الشعر الذي لم يطبع في ديوان، بل ظل متناثرًا هنا وهناك، وتتناقله الألسن من أجل التفكه والتندر، وهؤلاء الذين يتناقلونه هم قلة، ولكن عيدروس أراد أن يوسع هذه القلة ويفشي مثل هذا الشعر ولا يحرم القُرَّاء من قراءته والتفاعل معه والتعرف على وجه غير معروف عند الجميع؛ لما فيه من نوازع إنسانية ونوادر ودعابات، تثير الضحك والمرح. ويبدو أن المحضار كان يلون حياته بمثل هذه المواقف ويضخ فيها الدماء؛ حتى تظل شموع الشعر تتقد في داخله، ونرى الكتاب تضمن أولئك الأصحاب والرفقة الذين قال فيهم المحضار شعرًا من باب المداعبة والتندُّر، وهؤلاء ليسوا بشعراء، مثل الطباخ (عبدالله السكوتي)، والسائق (عبود السعيدي)، و(صادق حميد)، و المزارع (العفس)، الذي يعمل في مزرعة المحضار الذي لم يستفد منها المحضار، بل كانت عبئًا عليه لكنه تحملها من أجل خاطر (العفس). إذا كان هؤلاء الرفقة والأصحاب غير شعراء فإن هناك أصحابًا شعراء تساجل معهم المحضار، مثل (صالح الحبشي) بحسب تعبير عيدروس، وتعبير الشاعر المحضار حبيشي، ولم يكن (حبيشي) بعيدًا عن دائرة الشعر، بل كان يميل إلى محاورة المحضار بالشعر، وكان المحضار يرد عليه، ومن محبة عمنا (حبيشي) للمحضار كان يقول عنه: (إن المحضار صابون القلوب)، وهذه الحواريات الطريفة لم تقتصر على صالح الحبشي، بل غالب أهل قرية الواسط، ومنهم فرج دعيس وعلي دعيس ، وكذلك عوض باعنقود الملقب (عويّض) وغيرهم.
ورفقة المحضار لم تكن (مؤطرة) بالشعراء، بل على من عاش معهم من أصحاب المهن البسيطة، الذين ارتبطوا بحياته وعاشرهم معاشرة طيبة ولم يعاملهم وفق علاقة الرئيس بالمرؤوس ، بل كان متسامحًا معهم، ويمازحهم ويحول المواقف الطريفة معهم إلى أشعار حية، وإذا ما عملوا فيه مقلبًا من مقالبهم رد عليهم بمقلب ولم يحقد عليهم أو يطردهم من العمل عنده ، ولذا قال عنه سائقه (عبود السعيدي): (إنه رجل رحيم متواضع وبسيط ومسامح لا يأخذ في نفسه على أحد). أما سائقه عبدالله الرمادي بحسب تعبيره الدارج بأنه (سخيف القلب)، وهذا السخف لا علاقة له بمعنى السخافة بحسب اللغة الفصحى، بل يعني أنه رقيق القلب لا يستطيع أن يحبس الدموع في عينه حينما يشاهد مشهدًا حزينًا ومؤلمًا، وعبدالله الرمادي نفسه هو من حاول أن يجتهد ويضع تصريفًا عجيبًا لأنثى الجمل، وقال عنها (جَملة)، وحينما سأله المحضار ما الذي تعنيه بالجملة ؟ قال : (حرمة البعير) ، ولأن المحضار يريد أن يمازحه فتح باب السيارة وقال: ((يا عبدالله رح لحالك لعدن أما أنا ما بذهب معك أنت يا عبدالله با تضيع العربية والشعر عليّ))، وفي السائق نفسه قال المحضار أبياتًا رائعة يخلط فيها مشاعر الحب والقدرة على اصطياد القلوب بالقدرة على التصويب القاتل للوعل. ولا يدري القارئ أين يلتفت هل إلى جمال الوعل أم إلى جمال الصبيَّة الجميلة، التي رميت برصاصات الرمادي في ذلك التصويب:
يهناك ياقانص حكمت القناصة
وعزمت ورميت الوعل من رصاصة
يا ريت من عينتك جم في بلادي
لك با يغني الطير
شوقتنا يا ظبي لونك رمادي عامد شعاب الخير
وهناك أيضًا شوفير المحضار عبود السعيدي الذي قال عنه المحضار أبياتًا، تدل على أن عبود لم تتغير حالته المعيشية على الرغم من سفره إلى الإمارات، فهو يتحرك هنا وهناك، ولكن النتيجة واحدة لا تتغير.
وعبود هو ذاك هو ما شي انقلب في عبود
يلحق على الطائرة أو يجي فوق عود
راح البلاد كلها باقي بلاد بن سعود
ولم يسلم السائق عوض خليفة كدة من مداعبة المحضار الشعرية وقال فيها:
انطلق يا سعيد كدة هات للجماعة عشاء
المشكلة إلا سيكلك إن تعطل ولعاد مشى
أما السائق مبارك باعنقود الذي لقبه المحضار بالصومعاني فقد كان يتبع هواه ولا يحسن اختيار المكان، الذي أراد أن يزرع فيه، وهو لا يختلف عن المزارع (العفس)، الذي يعمل في مزرعة المحضار ولا يجد عنده ما يمكن أن يفتخر به عند الناس ، بل لم يجنِ منه سوى الخسارة، ولكنه صابر عليه مثل ما صبر على الصومعاني لذا قال فيهما:
العفس ومبارك ومحضار ** هم كرهونا مسقط الرأس
وكرهت حتى مقعد الدار** لقعدت هلوا علي كما الحاس
ماشي عمل منهم سار** لي بفتخر به على الناس
وقال في صومعاني أيضا:
حد بايكلم صومعاني في عطا روده بقّل قرنفل
مساهن للمولى كرم ماشي على جول تنبت عيون
أما السائق صادق حميد الذي استبدله المحضار بسعيد باحبوكر فنقره المحضار بمنقاره الشعري وقال فيه شعرًا ظريفًا:
صادق كما الديك والديك كما صادق
إذا ذبحته عدمته وإذا مسكته سلح فيك
إن المحضار لا يحيا إلا بالشعر؛ فروح الشاعر تتوقد بداخله، ولا يهدأ هذا الداخل إلا بتحويل موضوعات الحياة ومواقفها التي يصطدم بها إلى شعر حتى تصبح الحياة مقبولة وأقل قبحًا، وكُل هذه الشخصيات البسيطة قد سعَدت مع المحضار وسعدَ بها، وكل هؤلاء في كفة والعباد في كفة، لقد كان البطل في مشهد الطرافة والظرافة التي لم تتوقف عند العراك بالكلمات واللكمات الشعرية التي يكيلها المحضار(للعباد)، بل وصلت إلى حد العراك بالأيادي، ولأن العباد يفتقد إلى موهبة الشعر ولا يستطيع أن يرد هذه الكلمات للمحضار فكان يستعيض عنها باللكمات الحقيقية والضغط على المحضار بجسده الضخم مثلما يفعل المصارع (هوقن)، في تلك المشاهد التي نراها في حلبة المصارعة كلما أراد يُثبت خصمه ويلزمه بالهزيمة النكراء ، فما كان من المحضار إلا أن يستسلم ، وينفذ طلبات سيد الحلبة القوي ، ويستشهد (عيدروس) بحديث طريف للدكتور هادون العطاس يقول فيه: ((إن عمي حسين المحضار يعجبه في شخصية العباد أنه مرح وفي الوقت نفسه سريع الغضب وكان يحب … أن يغضب العباد ويكون سعيدًا بذلك أكثر من أن يسمع (تهقاله)؛ لأنه عندما يكون غضبان تحصل منه مواقف ينبسط منها المحضار حيث كان نادرًا ما يغضب))، ومن أفعال العباد العجيبة مضايقته للمحضار كلما أتى إلى بيته الموجود بخلف في المكلا ليرتاح أو يبيت فيه يجد العباد مع أسرته قد سبقه إليه ، والسبب أن المحضار سلَّمه نسخة من مفتاح هذا البيت ، فما كان من المحضار إلا أن يعبّر عن ضيقه ، وتكدّر صفوه بأبيات تُشبه العباد بالمحتل الغاصب للأرض، وعبر عن هذا المشهد الحانق على العباد بالآتي:
عباد وعياله استحلوا الدار مثل ما استحل غزة اليهودي
لابد ما نطلق عليه النار تسحبه عا بطنه جنودي
وفي قصيدة أخرى يضع المحضار العباد على محك المفاضلة بينه وبين عبود، وكان الرهان على تلك الصبية الحلوة التي فازت برضا عبود ، وخسر العباد في الرهان، بل أعلنت هذه الصبية عن رضاها التام لعبود، ليس هذا حسب بل لا تشبع من السمر معه، أما العباد فلا مكان لهُ في قلبها المهيم بعبود. فالقصيدة تشفّي في العباد حيثُ قال في بعض أبياتها:
قالت بخيته رح مشي
يا عباد مابا عطيك شي
لوكان حتى دواك
وني بنيه ما نباك
مع عبود شفني باضوي
وفي قصيدة أخرى يطالب المحضار المرء بأن يرفع يده ويلطم العباد خمس لطمات، وبتعبير المحضار (عباد لا تكلمه لا شفته عطه خمسة كفوف)، والمحضار لا يستطيع أن يعبّر عن محبته للعباد دون أن يمازحه ليس في الأيام العادية بل حتى في أفراحه إذ قال ممازحًا له في أفراح نجله:
العباد يبغى العرس يعبر كله بلاش
والمرشدي التزم بالرز هو والكباش
هو ما يريد الجلب يبغى دنانير كاش
إذا ما بغيت الضيفة لق لك لخم والاكراش
عباد والف كل ما طلع علب ناش
ما علب هذا السنة ما فيه شي دوم خاش
ومن المواقف التي لها دلالة ذلك الموقف الذي طلب فيه العباد مبلغ من المال، ومن عادة المحضار أن لا يرد بلغة مباشرة بالقبول أو الرفض بل يلجأ إلى لغة رمزية متفق عليها مع العباد ، فيقول الكهرباء (عندي اليوم طافية)، ويعني غير جاهز للدفع ، أو يقول (الكهرباء لاصية) بمعنى أنه جاهز للدفع . وفي ذلك اليوم الذي طلب العباد المبلغ أراد المحضار أن يستفز العباد فقال له: (الكهرباء طافية)، فما كان من العباد إلا أن مسك بيد المحضار ويلويها بقوة ويقول له قل الكهرباء لاصية . ولم يصمد المحضار أمام هذا اللوي المستمر على يده إلا أن يستسلم ويوافق على طلب العباد ، ويقول الكهرباء لاصية، وبغض النظر عن هذا الموقف الطريف إلا أنني نظرت في حال الكهرباء البائس وتمنيت أن يتجاسر العباد ويلوي أيادي القائمين على شؤون الكهرباء ويخلِّصنا من هذا البؤس الكهربائي الذي حوّل حياتنا إلى غرفة مظلمة كئيبة لا يُحتمل البقاء فيها.
إن كتاب عيدروس على ما فيه من طرافة ومزاح فإنه لم يخلُ من الجدِّيَّة والانحياز لتفسير شعر المحضار بحسب ما تقتضيه لغته الفنية وقدرة هذه اللغة على خلق المعنى المقبول والمعقول دون أي مزايدة وخروج لا يتفق مع غايات شعر المحضار، لامع انفعالاتنا العابرة وتطلعاتنا الخاصة ، التي تخمد نار الشعر المتوقدة ، ولذا نرى عيدروس ينال من التفسيرات الاستعراضية لشعر المحضار وتهويماتها الخيالية إذ يقول: ((الذي يحز في نفسي أن البعض .. يوحي إليك في تحليلاته وتفسيراته أنه حبر المفسرين في إشعار المحضار جرأة في القول لا تخلو من العشوائية وتخالف ما سمعناه وقرأناه ، وأغلب تحليلاتهم جاءت من أجل المباهاة والشهرة واثبات قدرتهم الكلامية الخيالية للناس على حساب الشاعر)). ويتكئ المؤلف في رأي صالح الحبشي الحذر حول مسألة تفسير شعر المحضار؛ إذ يعلن الآتي: (لا أستطيع أن أقول أن المحضار يقصد غرضًا محدَّدًا في قصيدة معينة إلا إذا أباح بسرِّها أو جزء منها في الجانب السياسي أو الاجتماعي أو الشخصي)، والمؤلف لا يكتفي بهذا الشاهد السابق، بل عزَّزه بشاهد آخر تفوَّهَ به الدكتور هادون العطاس: ((إن المحضار لا يحب أن يعرف أحد المقصود من النص الذي يقوله سواء في شخص معين أو في واقعة معينة إلا إذا هو أفشى السر ثم بعد ذلك يغلفها بالإيحاءات بحيث إن كل شخص يفسرها على حسب تفكيره ومزاجه الخاص)).
والمتأمل في رأي هادون يرى انبساطًا وانفتاحًا، وإحالة أمر تفسير شعر المحضار إلى طرائق تفكير كل مفسِّرٍ ومزاجه ، ولعل المزاج مرتبط بالنواحي النفسية للإنسان، ولا يمكن القارئ الحصيف أن يقيد عشاق المحضار، ويلزمهم بخطوات ومعطيات جاهزة لقراءة شعر المحضار، ولكن الالتزام بما تقوله اللغة نفسها وحمولاتها التي تشع بالمعنى والدلالة فضلًا عن القدرة على معرفة تقاليد وتقنيات صناعة الشعر الشعبي وطبيعة رموزه، والتفاعل مع نصوصه وغيرها من الأمور التي لا يستغنى عنها القارئ لفهم شعر المحضار.
إن كتاب عيدروس رصد تلك العلاقة المرحة بين المحضار وسعيد بهيان وعلى مرحها وخفة دمها فإنها قدمت صورة طالما أهملت أو تعمَّد إهمالها، وهي وخزات المحضار الشعرية التي غزّ بها جسد النظام السياسي المحسوب على الحزب الاشتراكي اليمني وإن ظل في حدود ضيقة ولم يسمح له بأن يتطاول ويعلن عن نفسه ؛ لأن النظام السياسي كان دكتاتوريًّا، ويقف بقسوة ضد حرية التعبير، ومن المواقف اللافتة للمحضار تصريحه في مجلس الشعب الأعلى بضرورة تقوية العلاقات مع الدول المجاورة، ويعني بها دول الخليج ولا نقفز إلى الدول الاشتراكية البعيدة وردَّ عليه أحدهم بالقول: (يالمحضار أنت ما تفهم شيء في النظرية الاشتراكية) ولم يصمت المحضار أمام هذا الرد المتعالي، ولجأ في ردِّه إلى وسيلته الراقية ألَا وهي الشعر، فقال:
ماافتهم لي ..ليش تقصد تعدي في الملاوي وهي قدامك الجادة
ماافتهم لي ذي سياسة حكيمة منك وإلا سخافة عقل ومعاندة
ماتفيدك سخافتك وعنادك ،في الملاوي إذا خلّصت زادك
الملاوي تشل كل ماكسبته لها وتقول هل من مزيد
والقارئ حينما ينظر إلى هذا الشعر يرى فيه رد فعل المحضار والتوجه المبالغ فيه بشأن الدول الاشتراكية، والمطالبة على الدوام بتقوية العلاقة مع هذه الدول، والتعنت على تكرار ذلك الشعار الأيديولوجي، وعلى رأسهم الاتحاد السوفيتي، وبمثل هذه السياسة جعلوا لكل شيءٍ رأسًا حتى الأشياء التي لا رأس لها، وبالمقابل أهملوا دول الجوار، بل عادوها باسم سياسة الرأس العجيب، وكانت هذه الدول هي القادرة على منح القروض والمنح المالية، وبتعبير المحضار البسيط: ((ليش ما بغوا صحابنا يتوجهون إلى الجانب البحري عندهم دول الخليج بيخلونها لهم (سيكوب)))، وهذه الفكرة قالها شعرًا، عبَّر فيها بشيء من الحرقة عن تجاهل الرفاق لدول الجوار؛ إذ يقول:
عامد الجانب النجدي، مامعك شي مجاني
ليش ماتعمد البحري، عاسيوب المعايين
ورمزية الجانب النجدي في بعده المكاني الذي لا ماء فيه ولا زرع ولا بساتين، بل نال منه الجدب والبور، الجانب البحري فتتوافر فيه شلالات الماء الذالحة بالخي .
هذه الفكرة لها قيمة أكبر حينها، وقيمتها ليس في إطلاقيتها، بل في مناسبتها للحظة التاريخية حينما كان الجنوب دولة، واللافت أن السفير الروسي (أوليغ بيريسيبكين) مؤلف كتاب اليمن واليمنيون يُحمّل الجبهة القومية مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية في تبوّئها هرم السلطة في الجنوب؛ إذ يقول الرفيق: ((إن المسئولية تقع على عاتق الجبهة باتباعها نهجًا مفرطًا في القساوة مع الأنظمة الملكية في الجزيرة العربية، التي تعتبر المانح الأساسي في العالم العربي إمكانية الحصول منها على مساعدات مالية… وفي داخل البلاد لم يتمكن زعماء الجبهة القومية من التفاهم مع القطاع الخاص، فأفرطوا في تنظيم الحياة الإدارية تمامًا كما كان عليه في الاتحاد السوفيتي، الذين كانوا يأخذون منهم المثال والنموذج وفي الوقت نفسه ارتفعت النفقات غير المنتجة على الجيش والمليشيا الشعبية وأجهزة الدولة، التي وصلت إلى خمسة وخمسين بالمائة من حجم ميزانية الدولة))(1) والرفيق الروسي (أوليغ) لا تنسَ أنه لم يكن في حينها محسوبًا على روسيا، بل كان محسوبًا على الاتحاد السوفيتي الذي يحرص سفراؤه على تشجيع النموذج السوفيتي وتصديره. ولم ينصح الرفيق أوليغ الرفاق بالتوجه إلى هذه الدول المانحة، بل لزم الصمت وانتظر إلى أن زال الاتحاد السوفيتي، في حين أن المحضار لم ينتظر وأعلن عن رأيه ليس شعرًا فحسب بل وفي داخل مجلس الشعب الأعلى . وبمناسبه حديث السياسة ومواقف المحضار من الحزب يمكن للقارئ أن يمضي في التقاط بعض من وخزات المحضار التي نال فيها من الحزب خاصة الأبيات التي كان يردُّ فيها على (سعيد بهيان) الذي يصطف إلى جانب صف الحزب الاشتراكي اليمني، ويزعم لنفسه أنه الطرف المدافع عنه فيقول بهيان:
للملح والكبريت أسسنا مصانع في البلد
مابقى إلا الرز والسكر وباقي إلا السليط
فيرد عليه المحضار ويقول:
مامعاكم إلا الزنط مامعاكم خلاف الزنط
ولعاد حاجة ياقليل الخير يكفي من زنيط
وبالفعل كانت الأيديولوجيا الحزبية الصاخبة المخيمة على الجنوب. حرصت هذه الأيديولوجيا على ضجيج الشعارات التي تهيِّج انفعالات الجماهير ولكنها لا تُحسِّن حياتهم في الواقع المعيشي؛ لأن الواقع كان مُرًّا، وبلغه الرفيق (أوليغ) الذي يقول: (إن مدوناته كان يكثر فيها من تسجيل الأوضاع السياسية المتدهورة . هذه المنجزات التي ذكرت من بهيان كانت فاشلة، ولا تحقِّق أرباحًا، وكان المفروض إن تغلق هذه المصانع، لكن كبرياء الأيديولوجيا أبت أنْ تعترف بالفشل، وكابرت، وفي حدِّ تعبير المحضار (ما معاهم سوى الزنط والزنيط )، (وأوليغ) يكتب بأنَّ أكثر من 30 بالمئة تقطع من رواتب العاملين في المؤسسات الحكومية، ومن التجار في القطاع الخاص لصالح وزارة الدفاع، وأما سوق عدن في كريتر فأصبحت أفقر في اللحم والسمك على الرغم من أن الجميع يتحدث عن إنجازات قطاع التعاونيات، كما أن الخضار والفواكه أصبحت أقل وفرةً، وبسبب هذا الشح في الخضار والفواكه اضطرت السفارة السوفيتية من أجل التحضير للحفل بمناسبة (7 نوفمبر) إلى إرسال سيارات تحمل لوحات دبلوماسية إلى تعز بشكل دوري لشراء المواد الغذائية وقد كانوا يعبرون الجمارك بسهولة في 14 نوفمبر عام 1973م، وتم ذلك بعد إذن موسكو.
وعودة إلى وخزات المحضار السياسية يُمكن أن يضيف القارئ تلك الأبيات التي سخرت من تلك المشاهد المزعجة واللامسؤولة التي تحدث كل عام ليلة الاحتفال بعيد رأس السنة أو ما يطلق عليه (الكرسمس)، في هذه الليلة يسمع الداخل إلى عدن ألوانًا من الأصوات التي تصدر من السيارات التي تدور في شوارع عدن أو من المزامير الصناعية التي ينفخ فيها من الشباب، فيضاعفون بمثل هذه الأصوات درجات الإزعاج الذي ينهال عليها من كل مكان، والمحضار لم يَرُقْ له هذا المشهد، فقال فيه هذا البيت من الشعر الذي يرد فيه على سعيد بهيان، الذي يتغنَّى بمكاسب الحزب (وعاد هذا من مكاسبكم دهن تحكي لحد ماتشوف حد دايخ وحد عايرقص وحد فيط فيط) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شواهد:
1/ اليمن واليمنيون ذكريات دبلوماسي روسي
د/ أوليغ بيريسيبكين ــــ دار الهلال بيروت ،ط /2005 م ص307