عبدالله فيصل باصريح
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 20 .. ص 109
رابط العدد 20 : اضغط هنا
طفل أنا! اغتالوا طفولتي حرموني من أبسط حقوقي، هَصَمُوا كياني وجنَّدوني تحضيرًا للحرب أو بالأحرى لجنازتي، كسروا أجنحة طفولتي، واغتصبوا براءتي، ومزقوا ابتسامتي، وقتلوا قلبي الصغير قبل أن يكبر، لم أرَ من هذه الحياة سوى ركام الحرب وأشلاء الضحايا، طفولة ممزوجة برائحة البارود والتهجير والقسوة. الحرب حرمتنا “الحرية” و “الطفولة”، وهذا العالم حرمنا الأمان. شرَّدتْنا الحرب، وقتلت فرح الطفولة وبهجة الحياة. قيَّدتْنا في المتارس. دفعتُ لحظات سعادتي ثمنًا للحرب، وفقدت معها آمالي، أحلامي، فرحي، حقي في التعليم، وحضن أمي الدافئ.
اتكأ محمد بظهره النحيل على صخرة المترس، ومدَّ ساقَيْهِ منفرجتين. كان المكان موحشًا، والليل أرخى سدوله، والسماء مرصعة بالنجوم، والقمر يخفي نوره خجلاً من الطفولة في زمن الحرب. أخذ محمد ينظر إلى السماء كانت سوداء تخيف من ينظر إليها، والسماء تنظر إليه وهي غاضبة وهو لا يفهم هذا الغضب. والنجوم تتلهب تكاد أن يحرق بعضها بعضًا غيظًا ممَّا يحصل للطفولة. كان الموت يحاصره من كل مكان، والخوف يخنقه، رغم أنه يضع البندقية على ساقيه؛ لكنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه، يداه الصغيرتان لا تستطيعان حمل البندقية طوال اليوم. أنفاسه البريئة اعتادت رائحة البارود، وعيناه الصغيرتان اعتادتا على مشاهدة المجازر والدماء، وأذُناه الهادئتان لا تسمعان إلا موسيقى الرصاص، ودقَّات المدافع، وصرخات الصواريخ، يعيش في قبو مظلم اسمه (المترس)، لا يغادره إلا لوقت الحاجة، لا يعز عليه شيء بقدر نجاته من الموت. نعم الموت ذلك الشبح الذي يطارده في النهار، والخوف ذلك الجفنُ الذي يغطي عينيه في الليل. حدَّثوه عن النصر كثيرًا، لكنه لا يريد إلا ذلك النصر الذي يعيده إلى حضن أمه، أما ما دون ذلك فخسارة له، وليس خسارة المعركة التي يتحدث عنها الجميع. الوطن بالنسبة له رغيف الخبز وحضن أمه الدافئ وحديقة يلعب فيها هذا هو الوطن الذي جعله يقبع في المترس، أما وطنهم الذي يتحدثون عنه فقد رماني في حفرة المترس، وجعل الرصاص يتسابق إلي. ولا أدري أي رصاصة التي سوف تفجر رأسي الخالي من شهوة السلطة، نعم كل من يحارب هنا مصابون بحب السلطة أو هم سُلَّمًا يرتقي بهم إلى السلطة. أما أنا ما زلت أتذكر تلك اللحظات التي نُقِشت في ذاكرتي. عندما كنت في المدرسة الابتدائية، في الصف الثامن تحديدًا، كانت المدرسة هادئة، وعندما كانت الشمس في كبد السماء، كان الطلاب في فصولهم، وكان فصل طلاب الصف السابع ملتصقًا بالفصل الذي ندرس فيه. كانت عندهم حصة اللغة الإنجليزية. كنت أستمع إليهم وهم يردِّدون حروف اللغة الإنجليزية بحماس، تكاد أن تتمزق الحبال الصوتية لديهم.. يريدون أن يضيفوا لغة إلى لغتهم، يتغنون بالحروف ينافسون الطيور التي تغرِّد في حوش المدرسة، أصوات البراءة، تزيِّنها ابتسامات الطفولة، وتكسوها المحبة، نعم محبة العلم والطموح العالي. كلٌّ منهم يريد أن يتحدَّث اللغة الإنجليزية بطلاقة؛ لأنها لغة العصر كما أخبرهم الأستاذ. وما زالوا يعزفون على موسيقى الحروف، حتى سمعتُ فجأة ضحكات تغادر الفصل، إنه ناصر، صاحب الجسم الكبير على أقرانه داخل الفصل، صاحب الذقن والشنب الوحيد في الفصل. كعادته يخطئ في نطق الحروف، وتتعالى الضحكات عليه، ويعمُّ الفصلَ شيءٌ من الفكاهة والتسلية، ويستمر الجميع في الضحك. بينما كنا نحن منشغلين بحصة الرياضيات، كانت لغة الأرقام هي لغتنا في تلك اللحظة، ويقوم الأستاذ بتشريح المعادلات وتفكيكها من أجل أن يجعلها وجبة خفيفة لنا. فهم الدرس غالب الطلاب بعد تركيز كبير منهم. أما البعض فقد رفعوا الراية البيضاء ولم يفهموا شيئًا، وأنا منهم، وكنت محلَّ سخريةٍ مثل صديقي ناصر، وكنت أيضًا صاحب أضخم جسم في الفصل. كانت دائمًا ما تكون حصة الرياضيات مسرح سخرية منِّي. أنا أكره هذه المادة؛ لأنها تتعامل معنا على أننا أرقام ولسنا بشرًا، وأشعر وكأنها طلاسم معقَّدة، لا يفكُّها إلا أصحاب ذكاءٍ خارق، لكني لا أعترف بغبائي إلا في هذه المادة، كنت أتحمل السخرية في حصص هذه المادة كلِّها، وفي ذلك اليوم وفجأة عمَّ المكانَ هدوءٌ ممزوج برائحة الخوف، الرُّعب يكسر باب المدرسة، طلقة رصاصة تقتل حارس المدرسة، غبارٌ يتَّجه من باب المدرسة إلى الداخل، ليخنق أنفاس الطفولة، ويدفن طموح العلم. توجَّهْنا إلى النوافذ ننظر، وإذ بثلاث سيارات تكسر باب المدرسة ويدخلون بقوة السلاح، يقتلون من يعترضهم، فهم يرون المستقبل بقوة السلاح، ويدوسون على درب العلم بأحذية الجهل والتخلف. أوقفوا السيارات الثلاث بالقرب من مدخل الصفوف، أعلنوا النفير العام، حالهم كانتشار جنود المارينز الأمريكي لحماية وزير الدفاع. خرجوا متجهين إلى الصفوف بموكب يثير الرعب، كانوا يحاولون قتل كل أمل، بل إفناء الطفولة. وجوه غطَّاها السواد، لم يظهر منها إلا وهج الشر، بريق عيون نافذة في كل ما حولها وما يمر قربها، أجساد مدجَّجة بالسلاح، ورؤوس خالية من الألباب، فرضوا جبروت الصمت بقوتهم وعتادهم، والكآبة والخوف والقلق عمَّ الموجودين جميعهم، انتقلت عدوى الصمت إلى الجميع، لا سلام ولا كلام؛ لأن ذلك سيكون ثمنه رصاصة في الرأس. اعترض مدير المدرسة زعيم الفرقة أو العصابة. هنا رأينا القلم يقف أمام البندقية، الرأس الممتلئ بالحبر يقف أمام الرأس الممتلئ بالرصاص والجهل، بدلة الكارفتة تقف أمام جعبة الرصاص المحاطة على صدر الزعيم. قيد الصمت الحاضرين، ومفتاحه بيد زعيم الميليشيات، هل سيعطي الإشارة بإطلاق النار على مدير المدرسة، أو سيفتح فمه للحديث معه. تقدَّم خطوة باتجاه المدير وقال : من أنت؟ قال: أنا مدير المدرسة، ماذا تريدون أنتم؟ جئْنا لزيارة مدرستك أيها الشجاع، ونأمل أن نجد طلابك شجعانًا مثلك. أزاح المدير من أمامه بيده متَّجِهًا إلى الصفوف، ودخل إلى الصف السابع الذي كان على يساره، وجعل طلاب الصف السابع في غيبوبة الصمت والخوف. كنتُ أسترقُ السمعَ بشدة، فلا أسمع إلا همس الجدران، وصرير النوافذ عندما تحاول الرياح الدخول إلى الفصل. بدأ زعيم الفرقة يتفحص الطلاب بالنظر، حتى وقع نظره على الطالب (ناصر) إذْ أشار إليه، وطلب من أحد الجنود أن يسجل اسم ناصر الكامل، تقدم الجندي حتى اقترب من ناصر، وأخذ منه اسمه بقوة السلاح، فقد وقع عليه الاختيار للتجنيد، كان المرشح المحتمل لكبر جسمه، أما رغبته فلا فائدة منها إذا تم الاختيار. عمَّ المكانَ الفوضى، لكن الجنود يضربون الطلاب والمعلمين بغير رحمة، ويقومون بتهديدهم بالسلاح. حتى أطلق الزعيم ثلاث طلقات نارية في سقف الصف، وقف الجميع في ثبات، أمر الجنود بأخذ الطالب حيًّا أوْ ميتًا، وقتل كلّ من يعترضهم، حاول ناصر التشبُّثَ بالكرسي لكن دون جدوى، فقد كان الجنود يضربونه بمؤخرة البنادق دون رحمة ولا شفقة، حتى سقط مغشيًّا عليه، ليقوموا بعد ذلك بحمله اثنان من الجنود ويرمونه في السيارة. واصل زعيم الميليشيات في تفحص الفصول، بعد أن غادر الصف السابع متجهًا إلى صفنا، بخطوات ثابتة، لكن قلوبنا ترتجف وتنقبض وتنبسط مع كل خطوة يخطوها، كنا نفقد أنفاسنا مع كل خطوة يخطوها؛ لأن دخوله علينا يعني عدمَ الحياة لنا. مؤلمٌ جدًّا أن يكون الأمل في الحياة عبارة عن خطوات معدودة. أجسادنا مجمَّدة ونحن نسمع شيطانًا يقترب منا، ولا نستطيع التحرك، يقترب منا بنشوة الانتصار، انتصار الظلم على المظلوم. في تلك اللحظة ودَدْتُ أنْ لو كانت المسافة بين فصلنا والفصل السابع مثل المسافة بين السماء والأرض لا يقتربان أبدًا، لكن انتظار الخوف طوى تلك المسافة بسرعة، ودخل علينا وجه الموت، وأخذ يتفحص بالنظر إلينا، حتى استقر بصره عليَّ، شعرت وكأن الأرض توقفت عن الدوران حول نفسها، وبدأ رأسي بالدوران حول جسدي. أشار بيده اللعينة إلي، وأمر أحد الجنود بأخذ اسمي، وددْتُ لو أنِّي نسيت اسمي، لكن خطوات الجندي الحازمة، التي توحي بتنفيذ الأمر بكل شراسة، جعلتني أتذكر اسمي فأخبرته به. لكنْ حاولتُ أن أرفض المغادرة معهم لكن هجموا عليَّ ضربًا، حتى أصبحتُ عاجزًا عن القيام. حملوني والدماء تقطر مني، كنت عاجزًا عن كل شيء ما عدا النظر، ورأيتُ لحظة قتل مدير المدرسة من قبل أحد الجنود؛ لأنه كان يحاول إيقافهم. ارتطم المدير بالأرض حتى سقط القلم منه، في تلك اللحظة عرفت أنَّ كل شيء في هذا البلد قد سقط. بعد لحظات وجدت نفسي في السيارة مع أصدقائي. أنا وأصدقائي الذين جُرِّدُوا من الطفولة، وأُلْبِسْنا لُبسَ الجهل. انتهت حياتنا وأصبحنا نموت في كل يوم، لم يعد يهمُّنا شيء سوى الموت الذي ينقذنا من متارس الحرب.