أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 20 .. ص 113
رابط العدد 20 : اضغط هنا
هكذا يقول لسان حال الحضارمة على صنف من الناس ضيّع جُهدَهُ وراءَ سرابٍ من بريق كلمات، أو اختارَ سلبَ حقِّه في وهم سلطة وبطولات، وبحسب المثل قُدِّرَ لسالمين دائمًا الإمساكُ بقرنَيْ شاته كفارس في معركة مع فراغ، وفي ساحة الوغى يُجِيدُ سالمين لعبة الاستغماية بينه وبين شاته؛ كي ينسابَ اللبنُ الزُّلالُ للأسياد، ثم يعود الفارس سالمين حاملًا لواءَ التسمية، ويَخْلَدُ إلى النوم بعد أن يحكي لنفسه بعضَ صولاته وجولاته.
وقد تحرَّك هذا المثل في دلالاته ومساراته مع تبدُّل الأحوال وتغيُّرها، وتَعَاقُبِ السِّنينَ، وبِمُوجِبِ هذه الحركة (تحوَّر) إلى أكثرَ من سالمين (جديد) بالجِيناتِ ذاتها لجَدِّهم (القديم) مع تحسيناتٍ في شروط التبعيَّة، وأخذِ حِصَّةٍ من ثمن اللبن، وبحَسْبِ الثقافة المحلية الشفاهية يُقَالُ هذا المثل في مَقَامِ السُّخريَةِ على شخصٍ ما أو سُلطَةٍ حاكمةٍ أو مكوَّنٍ اجتماعيٍّ تصدَّرَ المشهدَ شكليًّا لكنه في واقع الحال سُيِّرَ من جهاتٍ خَفِيَّةٍ أوْ شِبّهِ خفيَّةٍ، تحتَ شِعَاراتٍ برَّاقةٍ، ظاهرُها فيها البُطولةُ وباطنُها فيها الانبطاحُ.
وإذا اتَّسقَ سالمين (القديم) معَ زمانِهِ المَحكُومِ بوَطأة التَّرَاتُبِ الاجتماعيِّ الذي دفعَهُ بقَبوُلٍ مَعْسُولِ الكَلامِ وخِدمَةِ سَيِّدِهِ بوَصفِهِ قَدَرًا لا فَكَاكَ منه ولا مَنَاصَ عنه، فإن السالمين (الجُدُدَ) وتحتَ عَبَاءَةِ تقمُّصِ دَوْرِ الوَقَارِ ومَظَاهِرِ الوَجَاهةِ بدَّلُوا جُلُودَهُم؛ ليتَّسِقُوا معَ المقامِ أو الدَّوْرِ المَنُوطِ بهم، كُلٌّ في مجاله، فإذا قامَ واعظًا لَبِسَ ثوبَ الوَاعِظينَ، وإذا وقفَ حاكمًا قلَّدَ نفسَه أرفعَ النياشين، وإذا قامَ مُنَاضِلًا أدخلَ نفسَه في زُمْرَةِ المُقَاوِمين.
وسالمين (النَّمُوذَجُ) شخصيةٌ عَابِرَةٌ للتاريخِ والقاراتِ بكيفيَّاتٍ متنوِّعةٍ، وبإطلالةٍ على مُقَارَبَاتِ التاريخِ سنجدُ ضالَّتَنا في نَمَاذِجَ كثيرةٍ. أمَّا في هذا الزمان فحدِّثْ ولا حَرَجَ، وقبلَ أنْ نستعرضَ عيِّناتٍ من (النماذج السالمينية) ولتقريبِ الصُّورَةِ سنعملُ على فَرْزِ العيِّناتِ المختلفةِ بحَسْبِ طبيعةِ دَورِهَا فهُنَاكَ (سالمين) بالإكراه، وآخَرُ بالاختيار، وصِنْفٌ مُخَاتِلٌ وهو في الدَّرْكِ الأسفلِ من (النِّفَاقِ)، ومن عيِّناتِ الصنفِ الأوَّلِ في العُصُورِ الوُسْطَى نجدُ مثالًا صَارِخًا في مرحلة ضَعْفِ الدَّولةِ العبَّاسيَّةِ عندما تمكَّنتْ مراكزُ القُوَى غيرُ العربيَّةِ من السيطرة على مَقَاليدِ الحُكم، وامتلكتِ القُدرَةَ على تنصيبِ الخُلَفَاءِ وعَزلِهِم، فصارَ الخُلَفَاءُ يَملِكُونَ ولا يَحكُمُونَ، بينما يستمرُّ الدُّعَاءُ لهم في المَنَابرِ بطُولِ العُمْرِ، وبالنَّصرِ المؤزَّرِ على الكافرين.
ومنْ عيِّناتِ التبعيَّةِ الاختياريَّةِ نلاحظُها عندما استطاعَ الرئيسُ الرُوسيُّ الحاليُّ (بوتين) بعدَ أنِ انتهتْ مُدَّةُ رئاستِهِ منْ تمكينِ رَجُلٍ من رجاله للوُصُولِ إلى رئاسةِ الاتِّحَادِ الروسيِّ؛ لأنَّ موادَّ الدَّستُورِ تُعطِي فُرصةً لإعادةِ الانتخابِ للرئاسةِ بعدَ وُصُولِ وَجْهٍ جديدٍ، فأتقنت (العيِّنةُ) دورَها في الحُكم ظاهريا، واستمرَّ (الرئيسُ) بوتين يحكُمُ مِنْ خلفِ الدستور إلى أنْ عادَ رئيسًا بعدَ نهايةِ المشهدِ وهو مُطَعَّمٌ بموادِّ الدستور نفسِه.
وهُناكَ الذين تداخلتْ ثُنَائيَّةُ الاختيارِ والإكراهِ في صَولاتِهِم وجَولاتِهِم، ويمكنُنَا أن نختارَ عيّنةً من حُكَّامِ جَنُوبِ الجزيرةِ العربيَّةِ الذين ارتبطوا بمُعَاهَداتِ حِمَايَةٍ واستشارةٍ معَ المُستَعْمِرِين البريطانيِّين، فصار المُستَشَارُونَ البريطانيُّون لهم كلمةٌ قويَّةٌ في إدارة شؤون الحكمِ في بلدانهم، لكنَّهم وبذكاءٍ ابقَوا على مظاهِرِ الاحترامِ للحُكَّامِ أمامَ شُعُوبِهِم من خلالِ الألقابِ التي مَنَحُوها لهم ومراسيمِ التشريفاتِ بإطلاقِ مدافعِ الترحيبِ بهم، خاصة عندما يتوافدون على كبيرهم في المستعمرة عدن، ونحن بذكرنا هذه العيِّناتِ وربطِها بِفِكرَةِ المثلِ العامَّةِ إنَّما نُحَاوِلُ – كما قلنا – تقريبَ الصُّورَةِ ولَسْنا مَعْنِيِّينَ في الخَوضِ في المُلَابَسَاتِ والتفاصيلِ التي نالتْ حظًّا من الاهتمام عند المحلِّلين والمؤرِّخين.
أمَّا السَّلالاتُ الأكثرُ فتكًا من تحوُّرات (سالمين) الجديد فتتمثَّل في تلك (الكائنات) التي تُجِيدُ التخفِّي، وتتظاهرُ بالشَّرَفِ والنَّزاهَةِ والحِكمَةِ وهي تنتشرُ حدَّ الوَبَاءِ، وأحيانًا الجائحة في المجتمعات الهشَّة، التي تتَّسمُ بضَعْفِ مؤسَّساتِ الحُكمِ وارتِبَاكِ العدالة، وهذه السلالات تمتلكُ مواهبَ فائقةً في تقمُّصِ دَورِ البُطُولَةِ، والقُدرَةِ على القيادةِ والوَجاهةِ الاجتماعية. وهؤلاء لا يَجِدُونَ غَضَاضةً بأنْ يكونوا بيادقَ بيد الحُكَّام الفاسدين وأشباههم، كما أنهم يستمرُّون في وضعٍ نشطٍ لقبولِ المناصِبِ وتصدُّرِ المشاهدَ المُخاتلةَ تحتَ غطاءِ (إصلاح ما يمكنُ إصلاحَه وخدمة الوطن)، مع أنهم يعلمون حقَّ اليقينِ حدودَ دَورِهِم في تحسين مظهر الفاسدين، وسترِ عَورَاتِهِم، ومع هذا يَستَعذِبُونَ لُعبةَ الاستغماية كما جدِّهم القديم، وبعد أن يشبعوا يحورون من أنفسهم بحُجَّةِ صَحوَةِ الضمير. لكنَّهم لا يُغَادِرُونَ إلَّا بعدَ أنْ يُغَاثَ الحاكمُ بعيِّنةٍ مُمَاثِلةٍ من السلالة نفسِها والتحوُّرِ ذاته.
إن هذه التحوُّراتِ النشطةَ والسلالاتِ المتجدِّدَةَ لا تُلغِي الجَذرَ الجِينيَّ لقبيلة (سالمين) وواحدية دَورِهِم (التَّاريخيِّ) في خدمة الأسيادِ، صحيحٌ أنَّ الأحفاد احتالوا للحصول على حصَّتهم من اللبن، لكنَّهم جميعًا بشكلٍ أو بآخرَ استحلُّوا لعبة الاستغماية؛ كي يَنسَابَ اللبنُ للأسياد، ثمَّ يصدِّقُ الفارسُ سالمين نفسه، ويحملُ لواءَ التسميةِ، ويَخلَدُ إلى النوم بعدَ أن يحكيَ لنفسه بعضَ صَوْلاتِهِ وجَوْلاتِهِ.
ملحوظة ليست من أصل المقال:
سالمين النموذج بحسب المثل الشعبي الحضرمي لا علاقة له بمن يُسَمَّى (سالمين) من أهلنا الكرام الشرفاء، إنما هي تسميةٌ مُسْتَعَارَةٌ من هذا المثل لتوضيح فكرته، وهي في الأصل تَنُوبُ عن أيِّ مُسَمًّى لأيِّ (كائن) فَقَدَ الإدارةَ الحُرَّةَ لنفسه..