القاضي عصام محمد بن عبيدالله
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 23 .. ص 22
رابط العدد 23 : اضغط هنا
إنّ من أكثر الإشكالات العملية التي واجهتها المحاكم في زمن الدولة الكثيرية بحضرموت، هو غياب الأزواج عن زوجاتهم مع ما يستتبع ذلك الغياب من التوقف عن النفقة، وسائر الحقوق الزوجية. وسبب الغياب، هو الهجرة التي غلبت على المجتمع الحضرمي منذ العهود السابقة، وحتى اليوم ؛ إذ كان القطر الحضرمي من أبطأ بلاد الله سيرًا، وأقلها تطورًا، وتقدمًا إلى الأمام [1]، وساد فيه الترنح الاقتصادي؛ إذ يعيش الناس حالة تقشف، وضنك في العيش [2]، ما جعل اغتراب الحضرمي أمرًا ضروريًا لتوفير لقمة العيش، ولهذا فإن المرأة هي من تتحمل عبء هذا الأمر، فقد وجدت كثير من النساء بلا عائل، أو منفق. ولمعالجة هذه المعضلة، فإنَّ التنظيم القضائي بحضرموت قد طبق نظام الإنابة القضائية الدولية [3]، متى كان الزوج مقيمًا بالخارج؛ وذلك لإعلان الأطراف بكل ما يقام نحوهم من الطلبات، والدعاوى، إلا أن كثيرًا من الأزواج يقيم داخليًا، أو أن الزوجة تعرف سبيلًا للوصول للزوج عن طريق أحد الأقارب، أو المعارف، لذا فإنَّ المحاكم تعمد إلى التخاطب مع الزوج نفسه، للقيام بالإنفاق على زوجته، أو حتى لتسريحها، لئلا تبقى الزوجة معلقة، وهذا الإجراء تقوم به المحكمة قبل الدخول في أي دعوى نحو الزوج الغائب، وهي في الغالب تغني عن السير في إجراءات دعوى عادية ؛ لأنَّها تحسم الأمر، إما بالإنفاق، أو الفراق .
أهمية تلك الخطابات:
وتبرز أهمية هذه الطريقة في أنها تأتي للحد من تشدد المحاكم حينها في الحكم بفسخ النكاح بغياب الزوج؛ إذ لا تعد الغياب مبرِّرًا للفسخ متى وجد لدى الزوجة ما تكسو به جسمها، وتشبع به بطنها، من مال زوجها [4]، بل وتتشدد الأحكام كثيرًا في ايجاد كل المعتبرات، والمبررات الشرعية للفسخ لعدم الإنفاق [5]، كما تبرز أهمية هذه الخطابات للجهاز القضائي في التقليل من عدد القضايا المنظورة أمام المحاكم؛ إذ يحسم الأمر بمجرد خطاب يحرَّر للشخص المعني .
نموذج لخطابات الغياب:
وللوقف أكثر على حقيقة تلك الخطابات المرسلة للشخص نفسه، قبل الدخول في خصومة قضائية، فإننا نورد هذا الخطاب المحرر لشخص يقيم بعدن، والذي جاء نصه فيما يأتي :
الحمد لله . من سيئون إلى عدن في 30/ ذي القعدة / 1366هـ
جناب : أحمد بن محفوظ بن أحمد با…..
بعد السلام أفيدك إن زوجتك: عطا الله بنت محفوظ بن أحمد با…. المقيمة بسيئون – حضرت إلينا، وذكرت إنك سافرت منذ نحو سنة وثمانية أشهر، وإنك وعدتها بأنَّك سترسل إليها مساعدة في خرجها قدر خمس ربية، أو ست ربية كل شهر. وذكرت أنَّك قد أرسلت إليها قريب خمسين روبية متفرقة، وهي تطلب منك أن تواصلها على موجب ما ذكرته لها بخمس ربية، أو ست ربية، في الشهر. وبناء على ما ذكر فأرجوك أن تجيبها إلى ما طلبته، وهي راغبة فيك، وإذا قد رضيت بست روبية، أو بخمس في الشهر دل على أنها مساعدة لك، ومعاونة.
كتبنا بهذا إليك إجابة لزوجتك، وفي انتظار جوابك بالموافقة على ما ذكر والسلام.
مبارك عمير باحريش[6]
نائب الشرع بسيئون
ثم ذكر كرامة باهديلة أن الزوج المذكور أعلاه طلق زوجته المذكورة أعلاه.
من هذا الخطاب يمكن القول إنّ تعليق أمر الزوجة قد زال، وإن كان بالطلاق إلا أنَّه حسم الإشكال القائم بشكل نهائي، وبدون الدخول بإجراءات التقاضي المطولة؛ ولهذا وجدنا الكثير من الخطابات المحررة من المحكمة لكثير من الأزواج يصرح فيه بتخييره، إمَّا بالإنفاق أو الطلاق، وأنَّ هذا هو طلب الزوجة الموجهة إليه؛ إذ ورد في أحد الخطابات ما نصه “إنَّ صالحة بنت أحمد …. ذكرت أن زوجها برك … غائب منذ تسع سنوات ولم ينفق عليها، وهي تريد طلاقها منه أو الإنفاق عليها، فذكرنا لها أننا سنكتب له. والذي يعرفه في عدن أمبارك بخيت” [7]، فالزوجة هنا غاب عنها زوجها بعدن تسع سنوات؛ ولهذا فالزوجة لم تعد تبالي ببقاء العلاقة الزوجية مع كل تلك السنوات الطويلة من الغياب، وقد بين الخطاب أنَّ إرسال خطاب القاضي سيتم عن طريق من يعرفه بمكان وجوده .
كما جاء في أحد الخطابات ما نصه: “إلى جمعان بن عامر … ذكرت زوجتك سلمى بنت أحمد … أنَّك بقيت في قسم، وتركتها هنا في مريمة هي، وبنتك بلا نفقة. فالرجاء إمَّا أن تقوم بما عليك من نفقة، وكسوة، وغير ذلك، وإمَّا أن تفارقها، وأما كونك تتركها هكذا بلا نفقة فلا يسوغ ” [8].
غير أن بعض الأزواج يقوم بالإنفاق تجنبًا للإشكال؛ فقد جاء في أحد الخطابات ما يلي: “في 11/ 10/ 1366هـ، إنَّ الزوج أرسل لزوجته نيفًا وعشرين روبية… ” [9].
كما أن كثيرًا من الأزواج يعرض عن الرد على الخطاب الموجه نحوه، ما يجعل المحكمة تفرض للزوجة نفقة، وتأذن لها بالبيع من مال الزوج بقدر النفقة المستحقة لها [10].
وجميع ما يفضي له نتيجة ذلك الخطاب يدون أسفل الصورة المحفوظة في المحكمة، سواءً قام الزوج بالطلاق، أو بالنفقة التي أرسلها، أو الانتقال لمرحلة التقاضي العادية، وإصدار حكم على الغائب المتمرد على النفقة.
خاتمة
وبهذا يظهر لنا أنّ النظام القضائي المطبق بحضرموت سابقًا، قد استطاع التعامل مع اكثر المشكلات العملية التي تعج بها أروقة المحاكم اليوم، وذلك من خلال التخاطب المسبق مع الزوج، قبل مباشرة إجراءات التقاضي العادية؛ ما يحد من عدد القضايا المرفوعة أمام الحاكم، وعلى الرغم من أن نتيجة تلك الخطابات تنتهي بالطلاق غالبًا، والقليل منهم من يبادر إلى الإنفاق، فإنه وفي كلا الحالين فإنَّ نتيجة ذلك عدم بقاء المرأة معلقة.
إعداد القاضي / عصام محمد بن عبيدالله .. رئيس محكمة سيئون الابتدائية
الملحق:
ويشمل صور للخطاب المشار إليه أعلاه والمرسل الى عدن للشخص نفسه، وأصله محفوظ بأرشيف محكمة سيئون الابتدائية.
[1] ) علي أنيس الكاف، مختارات من كتابات شيخ الصحافة محمد بن هاشم، ص181.
[2] ) الحامد، تاريخ حضرموت، ج2، ص642.
[3] ) سبق تناول ما يتعلق بالإنابة القضائية في الحلقتين (13، 14).
[4] ) بعكس الحال بساحل حضرموت إذ تقرر الفسخ بتضرر الزوجة بغياب زوجها، متى زاد غيابه عن سنتين، عبد الرحمن بكير، المسائل المختارة، ص35-37.
[5] ) ينظر للدلالة على تشدد المحاكم في الفسخ، حكم محكمة تريم الابتدائية بتاريخ 16/ جمادى الأولى/ 1381هـ، إذ رفضت المحكمة طلب الفسخ رغم غياب الزوج اثني عشر سنة مع عدم الإنفاق، الحكم مع تحليله، ينظر للباحث، القضاء بالدولة الكثيرية الثانية، ص 157-170.
[6] ) القاضي / مبارك بن عمير بن مبارك باحريش، ولد في تريم محرم 1329هـ، وقبر بها شوال 1367هـ، تولى قضاء تريم سنة 1363هـ، نقل بعدها الى سيئون سنة 1366هـ، عقب قضية السارية المشهورة والمعبر عنها بالمثل القائل: “يزول القاضي ولا تزول السارية” شغل قضاء سيئون سنة وستة أشهر، وصفه بن عبيد اللاه بأنه كان آية في النَّزاهة ” قيل أنَّه قضى مسموماً، لأن البعض لم يكن راضياً عن اختياراتـه، وأحكامه ” عبدالرحمن بكير، لقاء بمجلة حضرموت، العدد 6-7 يناير، سبتمبر 2012م، ص 45.
[7] ) أصل الخطاب محفوظ بأرشيف محكمة سيئون.
[8] ) أصل الخطاب محفوظ بأرشيف محكمة سيئون، رقم 14، بتاريخ 18/10/1366هـ .
[9] ) أصل الخطاب محفوظ بأرشيف محكمة سيئون، رقم 12.
[10] ) أصل الخطاب محفوظ بأرشيف محكمة سيئون، رقم 3 .