طارق سالم سعد الموسطي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 23 .. ص 41
رابط العدد 23 : اضغط هنا
مثلث الفرق والمذاهب الإسلامية الحركة الفكرية والعقائدية لدى الكثير من الشعوب في البلدان والحواضر الاسلامية، وانطلقت معتقداتها الفكرية في نطاق واسع في ظل الصراعات الفكرية في القرون الثلاثة الأولى للهجرة، وقد اتسعت وانتشرت في نطاق واسع مع اتساع رقعة الإسلام والفتوحات الإسلامية، وقد أدَّت هذه الفرق دورًا كبيرًا ، وأحدثت تأثيرًا سياسيًا بارزًا، واتسعت معها رقعتها الجغرافية، وامتدادها الاجتماعي والسياسي حتى وصلت إلى اليمن.
وقد تأثر الكثير من الدعاة بأفكار هذه الفرق، فنشروها في مدنهم بعد أن تلقَّوا أصولها من منابتها في العراق وغيرها من الحواضر الإسلامية الأخرى، وقد شهدت مدن يمنية تبني هذه الدعوات ومناصرتها والذود عنها بقوة الفكرة ومنعة السلاح، حتى أُسِّسَتْ دولٌ تبنَّت هذه الدعوات في بلدات عدَّة، وليست حضرموت ويافع – وهما المنطقتان المعنيتان بالدراسة – ببدعٍ عن ذلك دونهما.
المذاهب فرق الإسلامية في حضرموت ويافع:
تعود هذه الفرق في نشأتها الى عاملين رئيسين، هما:
– العامل الاجتماعي: ويقصد به القاعدة الجماهيرية الحاضنة للدعوة.
– العامل السياسي: ويقصد به السيطرة والحكم السياسي المباشر إطارًا لتلك الدعوة وحاميًا حياضها .
وما إن تحكم هذه الفرق سيطرتها سياسيًا على المدن، حتى تتمكن من نشر مذاهبها وتطويع الشعوب إلى اعتناق فكرتها بعد أن وجدت القوة والمنعة واتساع قاعدتها الجماهيرية، وقد أدَّت المذاهب والفرق الإسلامية دورًا بارزًا من الناحية السياسي منذ السنة الثانية للهجرة.
أولًا: مذهب الإباضية في حضرموت : هامش ( الإباضية : هم أتباع عبدالله بن أباض المري التميمي، صحب نافع بن الأزرق عندما تفرق الخوارج عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنه، والتف حوله جمع من الخوارج وتفرق عنه آخرون، وكان يرى أن مخالفيهم من أهل القبلة ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكن كفار، ومع ذلك لم يحرم مناكحتهم وموارثتهم، وشهادتهم ولو على أوليائهم، بحجة أن معهم دعوة المسلمين، ولا تحل أموالهم عند الغنيمة، أما السلاح والخيل وما يكون من آلة الحرب فهو حلال. انظر: دخول الفرق الإسلامية اليمن في القرون الثلاثة الأولى للهجرة. عامر جارالله أبو جبلة ، 2005م، المجلد22، ص200).
تأثرت حضرموت بدعوة الإباضية، وأول من نادى بها في حضرموت هو طالب الحق عبدالله بن يحيى الكندي، سنة 129هـ، وأعلن ثورته على مروان بن محمد، واستولى على اليمن والحجاز، واستقل بحضرموت ووصل صنعاء وخطب بها وأظهر مذهبه (دخول الفرق الإسلامية اليمن في القرون الثلاثة الاولى للهجرة، المجلد22، ص55).
وفي سنة 535 هـ جدد أبو اسحاق الهمداني الدعوة إلى مذهب الإباضية، وقد صاحبت هذه الدعوة الحركة السياسية في مرحلتها الأولى، في تثبيت المذهب ونشره في حضرموت، وتطويع الشعوب قهرًا لاعتناقه، في حين اقتصر الثاني – في نشر دعوته إلى المذهب في حضرموت بولائه للإمام في عمان. وقد سجل في ديوانه، صراعه في نشر المذهب وإخضاع رقاب الحضرميين له كرهًا.
ثانيًا: التصوف في حضرموت :
لا يختلف اثنان في أن التصوف في حضرموت نشأ على يد محمد بن على باعلوي الشهير بــ “الفقيه المقدم” (ت653هـ)، وعن طريق الفقيه المقدم انتشر التصوف في حضرموت، وتأثر على يديه جمع كبير من الفقهاء في حضرموت (الصوفية والفقهاء في اليمن. عبدالله محمد الحبشي، مكتبة الإرشاد – صنعاء 1396هـ/1976م، ص23). مرورًا بأقطاب التصوف الأربعة: باعلوي، والعمودي، وباعمر، وباحمران، أصحاب التحكيم لصالح المغربي.(إدام القوت ص.. )
ويعد الفقيه المقدم، صاحب اليد الطولى فيه، والذي خرج عنه المدرسة الفقهية الشافعية التي كان يترأسها الفقيه على باهارون (ت 555ه) وأحدث التصوف، يقول الشلي: (وأهل حضرموت منشغلون بالعلوم الفقهية، وجمع الأحاديث النبوية، ولم يكن فيهم أحد يعرف الطريق الصوفية، ولا يكشف اصطلاحاتها السنية، فأظهر الفقيه المقدم علومها، ونشر في تلك النواحي أعلامها، فأخذ عنه الجم الغفير، وتخرج به العدد الكبير). (المشرع الروي في مناقب السادة آل باعلوي (2/ 5) ).
وألزم أهله الطريقة العلوية وكسر السيف إيذانًا برفض السلاح واتخاذ العلم سُلَّمًا للشرف الاجتماعي والتراتبي الاجتماعي، وتعددت خلفه بعد ذلك الفئات التراتبية في المجتمع الحضرمي بين: سادة – ومشايخ – وقبائل – وحضر.
وتشير المصادر إلى وقوع نواة الخلاف بين الفقيه علي بن أحمد بامروان والفقيه المقدم وكان ملازمًا لحلقة بامروان يتلقى العلوم الشرعية حتى تصوَّف الفقيه المقدم وأعلن التصوف ولبس الخرقة التي تنتسب إلى أبي مدين شعيب المغربي. ولم يزل مهاجرًا له الفقيه بامروان حتى توفي. (قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر، الطيب بن عبدالله بامخرمة (780-974)، دار المنهاج، ط1، 1424هـ/ 2008م، (2/ 9))، و(جهود الإمام القلعي العلمية، أكرم مبارك عصبان، ص39)،.
واكتسح التصوف الحياة الاجتماعية والثقافية في حضرموت، ولم ينازع فقهاء حضرموت الصوفية بعد الشيخ باهارون منازع. ولم يحصل أي شقاق بين (النزعتين: الفقهاء والصوفية) رغم ما بينهما من خلاف؛ فقد ظلتا في وفاق تام في حضرموت، بل إن الكثير من فقهاء حضرموت اعتنقوا آراء الصوفية المعتدلة دون أن يروا فيها ما يصطدم مع نصوص الشريعة (الصوفية والفقهاء في اليمن، ص24).
ولم يخرج التصوف عن مدرسة الفقه الشافعية، بل تلبس بها وعاش تحت ظلالها حتى مطلع القرن الثامن الهجري، وأخذ الكثير من المشايخ المتصوفة فكر ابن عربي وتأثروا به، وقد نهى هؤلاء المشايخ مريديهم من قراءة كتب ابن عربي وغيرها حتى لا يقعوا على أمثال هذه الالفاظ الفلسفية فلا يفهم معناها (المذاهب والفرق الاسلامية في حضرموت، محمد يسلم عبد النور، دار حضرموت، ط1، ص85)، و)في القرن العاشر وما بعده، خذ عدد من علماء المتصوفة فكرة الحلول والاتحاد (هامش) (الحلول: حلول الله في بعض الأجساد الخاصة كالأنبياء والأولياء مما يكسبهم بعض الصفات الإلهية. والاتحاد: اتحاد الذات الإلهية بالذات الإنسانية) انظر: تناقض أهل الأهواء والبدع في العقيدة، عفاف بنت حسن بن محمد مختار، مكتبة الرشد، ط3، 1426/ 2005م، (ج1/هامش (3) ص 96) التي تربع على عرشها في القرن العاشر الشيخ أبوبكر بن سالم السقاف (ت992ه). ذكر باحسن أنَّ (آخر زيارة السيد أبي بكر بن سالم الشحر وهو محمول على سرير وذلك في آخر عمرة، ثم أمر أن ينادي عند القبر الشريف من أراد أن يأخذ إجازة أو تلقيًا أو تحكيمًا على الشيخ أبي بكر فليأتِ، فأقبل عليه طوائف الخلائق يهرعون يلقن ويجير ويحكم وهو يكرر قوله: ((إن هو إلا عبدٌ أنعمنا عليه))[الزخرف:59]، انظر: (نشر النفحات المسكية في أخبار الشحر المحمية، باحسن: عبدالله بن محمد جمل الليل، تحقيق: د. محمد يسلم عبد النور، تريم للدراسات والنشر، ط 11431هـ/2010م.
سيطر التصوف على الساحة الحضرمي وصاغها بموروث ثقافي اجتماعي تراتبي، قسم في إثره المجتمع إلى فئات اجتماعية تتنازع الشرف والسلم الاجتماعي تنازعًا مقيتًا بين؛ سادة تتصدر السلام العرفي الاجتماعي، ومشايخ وهم قبائل شتى جمعها رابط علم التصوف، وقبائل بدوية حملة السلاح السطو والقوة، ومساكين مستأجرين وحرفيين جمعهم رابط التحضر والمدنية.
أولًا: مذهب القرامطة في يافع:
القرامطة نسبوا إلى حمدان القرمطي، انتدب إلى الدعوة، وصار أصلًا من أصول الباطنية (الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة، عبد القادر شيبة الحمد، ط4، 1433ه، ص87). بدأت دعوة الإسماعيلية (القرامطة) في اليمن سنة (268ه/881م) عندما بعث ميمون القداح من أهل الكوفة وصاحب الدعوة إلى اليمن منصور بن حسن بن حوشب بن زادان، وعلي بن الفضل الحميري، وأمرهما بالتستر حتى يتمكنا من أمرهما، ويتعاونا معًا. (دخول الفرق الإسلامية اليمن في القرون الثلاثة الأولى للهجرة، ص59).
وفي يافع ظهرت دعوة علي بن الفضل سنة (291ه/903م) والتزم النسك والعبادة، إذ انتقل إليها لما لمسه في سرو يافع من سرعة الاستجابة إلى دعوته، وأخذ عليهم المواثيق بأن لا يشربوا خمرًا، وينكرون المنكر، ومازال يخدعهم بتنسكه وعبادته حتى أطاعوه إلى ذلك، فبنى حصنًا في ناحيه من سرو يافع، ومازال يدعو سرًّا إلى مذهب القرامطة، ويزعم أنه يدعو إلى مذهب أهل البيت وحبهم، إلى أن أفسد خلق كثير وملك حصون اليمن، حتى وصل إلى المديخرة فأعجبته وجعلها دار ملكه (دخول الفرق الإسلامية اليمن في القرون الثلاثة الأولى للهجرة، ص60).
وفي سنة (293هـ/905م) دخل صنعاء واستولى عليها، واستناب عليها أسعد بن أبي يعفر، وكتب إليه: “من باسط الأرض وداحيها ومنزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده أسعد بن أبي يعفر” (دخول الفرق الإسلامية اليمن في القرون الثلاثة الأولى للهجرة، ص60) .
وقد ادَّعى النبوة وكان أديبًا ذكيًا شجاعًا فصيحًا، أظهر مذهبه الخبيث، وانتهك المحرَّمات، ونكاح البنات والأمَّهات، وأسقط الحج. (دخول الفرق الإسلامية اليمن في القرون الثلاثة الأولى للهجرة، ص60).
ثانيًا: التصوف في يافع:
رُبِطَ التصوف في يافع بالتصوف في اليمن و تهامة عمومًا، وتشير المصادر إلى أن قومًا من يافع أدخلوا الطريقة الشاذلية، وشيَّد قوم من يافع من آل سعد القبيلة المشهورة من حمير قُبَّةً عظيمة متقنة محكمة البناء، وقاموا على سدنتها، شيَّدوها للولي الصالح علي بن عبدالله الشاذلي (656هـ) في مدينة المخا. (هدية الزمن في أخبار ملوك لحج وعدن، أحمد بن فضل بن علي بن محسن العبدلي، تحقيق: أبي حسان خالد العبدلي، مكتبة الجيل، صنعاء، ط1، 1425هـ/2004، ص59).
وقد اشتهر عدد من الفقهاء اليافعيين بتصوفهم منهم: قاضي اليمن أبو بكر بن عبدالله بن محمد بن ابراهيم اليافعي الجَنَدي، المتوفَّى سنة 552ه، وهو من القضاة المشهود لهم بالمعرفة والدراية، وقد ولي قضاء صنعاء وعدن، وصارت الفتوى إليه من كل ناحية، وكان خطيبًا، وله ديوان شعر (طبقات فقهاء اليمن، عبدالوهاب بن عبد الرحمن البريهي، تحقيق: عبدالله محمد الحبشي، مكتبة الإرشاد – صنعاء، ص113,112).
ومنهم محمد بن عبدالله بن إبراهيم اليافعي، قاضي إب، توفي سنة (500ه)، (طبقات فقهاء اليمن، ص112).
والمقرئ بدر الدين حسن بن محمد اليافعي، قرأ على الإمام عفيف الدين الشنيني بالقراءات وغيرها، وجعله من خواصه، وزوَّجه ابنته، ودعا له بالخير، ففتح عليه بالمال، فاشترى أرضًا وعمر مسجدًا وأوقف عليه أوقافًا، توفي سنة830ه، (طبقات صلحاء اليمن، ص215).
والأستاذ العلامة العارف عفيف الدين عبد الله بن أسعد اليافعي له مصنفات في التصوف وغيره. (طبقات صلحاء اليمن ص61).
مما لا شك فيه أن التصوف اليافعي من حيث المنشأ الأول قد ارتبط باليمن؛ فقد تأثر الكثير من رجالات يافع بالتصوف، وكان من أشهرهم عفيف عبدالله بن أسعد اليافعي، الذي يعد العلم الأبرز في تصدر التصوف، غير أنه لم يجعل من يافع قاعدة لدعوته، بل كان كثير السفر والتنقل بين اليمن وحضرموت، حتى استقر به المقام بمكة، وقد زار عفيف الدين حضرموت، وكان له مسجدٌ في الشحر بحافة الحوطة (الشهداء السبعة، محمد عبد القادر بامطرف، دار الهمداني للطباعة والنشر – عدن، ط2، 1983م، ص48). وأخذ عن علمائها، كما مكث فترة في الشحر فاتخذ له مسجدًا عرف باسمه. وقد ارتبط بحضرموت وكانت له دعوة بها. وكان أحد الشهود المصاحبة للسادة العلويين على تأكيد نسب السادة في مكة: “إن السادة آل باعلوي لما ادعوا النسبة الشريفة، اعترف لهم أهل حضرموت، ولم ينكروه، ثم بعد ذلك أرادوا إقامة البينة وتوكيدًا لما ادعوه، وكان في تريم إذذاك ثلاثون مفتيًا، فسار بهم المحدث علي بن أحمد بن جديد إلى البصرة عند قاضيها، وأشهد على إثبات القاضي نحو مئة شاهد ممن يريد الحج … ولما قدموا حضرموت وشهدوا بذلك فاعترف الناس لهم بالنسبة الشريفة، أقروا لهم بالفضل والحرمة، وأجمع على ذلك العلماء والمصلحون” (جواهر الأحقاف ص402). وتكررت زيارة بنيه من بعده وكثيرًا ما يستشهد الباحثون الحضارمة بالحركة العلمية في القرن التاسع والعاشر ببيت الفقيه عبد الرحمن بن عبدالله بن أسعد اليافعي وزيارته لحضرموت:
مررت بوادي حضرموت مسلِّمًا فألفيته
كل ذلك يلقي بظلاله على أسبقية الدعوة إلى التصوف في يافع إلى الفقيه عفيف الدينية عبد الله بن أسعد اليافعي، قبل مرحلة بن هرهرة بقرنين من الزمن، فضلًا عن ارتباط الشيخ عفيف الدين عبدالله بن أسعد اليافعي بالتصوف باليمن وبحضرموت وعلمائها، ولم تحدث دعوته فرقًا سياسيًا أو اجتماعيًا بين يافع وحضرموت.
فهل حقًا كان التصوف اليافعي حضرمي المنشأ؟ وعلى يد الشيخ علي بن أحمد بن هرهرة مبعوث الشيخ أبوبكر بن سالم السقاف؟
في حين يرى الحداد أن مشرب التصوف في يافع قد تشربوه من دعوة الأمير أحمد بن عطاء الحرازي القرمطي، الذي ظهر بمظهر التصوف، ودخل عدن ويافع، وتبعه أناس كثير، وسمى نفسه حسن باهارون، واتخذ من يافع مقرًا لدعوته، وتبعه أناس كثير، وقد تأثر بدعوته خلق كثير، وقد دعا إلى وحدة الوجود، ونادى بأفكار ابن عربي والحلاج، وربط بين الباطنية وأفكار ابن عربي. (جني الشماريخ، طاهر بن علوي الحداد، ص41). وإنما وافق مشرب الشيخ أبي بكر بن سالم مولى عينات (ت902هـ) في تصوفه وارتبط به لتوافق مشارهم في التصوف، فظن الكثير أن التصوف في يافع يرجع إلى حضرموت؛ لارتباطهم بعد ذلك بأسرة آل الشيخ أبي بكر بن سالم واعتقادهم فيهم.
ارتباط التصوف اليافعي بالشيخ أبي بكر بن سالم ومبعوثه :
إن التصوف بمدلولاته العلمية قد ارتبط بيافع قبل ارتباطه بالشيخ أبي بكر بن سالم وذلك لبزوغ جهابدة من أعمال يافع في عدن واليمن عمومًا، مما يزمع عليه الباحث في تاريخ التصوف اليافعي، ولكن ما أخذه الشيخ علي بن أحمد بن هرهرة عن الشيخ أبي بكر بن سالم السقاف، أن صحة اللقيا به والأخذ عنه فكرة الحلول والاتحاد وليس التصوف بطريقته العلوية المعروفة في حضرموت ومدرستها، التى تقوم على أساس ترك السلاح والدعوة إلى الله، وإلا فإن الشيخ عفيف الدين عبدالله بن أسعد اليافعي هو السباق إلى منهج التصوف بمدلوله وطرقه الحضرمية المتبعة، التى تجرد في إلى الدعوة لله وترك السلاح رغم انتسابه إلى بيت الحكم في يافع، وإنما لما عرف عن الشيخ عفيف الدين عبدالله اليافعي، كثرة أسفاره وتنقلاته وعدم استقراره في يافع حتى انتهى به المقام في مكة، فجاء القرن الحادي عشر، والذي راجت فيه فكر الحلاج، وتشبع الكثير من المتصوفة بهذا المنهج، حتى أصبح علمًا عليهم، وأخذ الشيخ علي بن أحمد بن هرهرة هذا الفكر، أخذه بحسب رواية الباحثين، وسار به إلى يافع. وهناك مفارقة كبيرة وفجوة مجهولة في التاريخ. فالشيخ علي بن أحمد ظهر في يافع في منتصف القرن الحادي عشر الهجري، والشيخ أبو بكر بن سالم قد توفي مطلع القرن العاشر، فإن صدقتِ اللقيا بينهما فهي في أواخر مراحله كما يقول باحسن فإنه كان ينادي ويعتق من يشاء من النار. فضلًا عما صاحب ذلك من عداء سياسي وديني لمذهب للزيدية الذي تبنته الدولة الطاهرية.
ويكاد الباحثون يجمعون على أن التصوف اليافعي حضرمي المنشأ على يد مبعوث الشيخ أبي بكر بن سالم الشيخ علي بن أحمد بن هرهرة الحرازي؛ إذ عيَّنه داعيًا روحيًا في يافع، ومن حينها ارتبط التصوف اليافعي بحضرموت. (صفحات من التاريخ الحضرمي، ص62).
مناقشة دعوة الشيخ علي بن هرهرة لمنهجية التصوف الحضرمي وذلك من حيث :
1- جمعت هذه المشيخة بين السلطتين: الدينية والسلطة السياسية – وصاحب ذلك نزاع وعداء سياسي للدولة الطاهرية ومذهب الزيدية، فجمعت بين الدعوة الدينية والسلطة السياسة، وهذا يناقض المدرسة الصوفية الحضرمية، التي تدعو إلى ترك السلاح، وحمل العلم والسير به، والتأثير به على الحكام السياسين وليس مباشرة الحكم .
2- تجميع يافع كلها، وتوحد صفهم نحو هدف واحد، وعدو واحد وقيادة واحدة، هي القيادة الهرهرية، برغم صعوبة ذلك على المستوى السياسة والاجتماعي، فقد عرفت يافع خلال تلك الفترة بتعدد سلطناتها ومشيخاتها، وكانت بين شد وجذب داخليًا وخارجيًا، حتى أصبح هذا العداء الزيدي علمًا علي يافع عمومًا، مما يحيد عنه الباحث في مسارات هذه الدعوة وأهدافها من حيث تلك المفارقة التي لم يكشف التاريخ بعد عن غورها، فضلًا عن مؤسس هذه الدعوة إذ توفي في القرن الثاني عشر، وبينه وبين شيخه أبي بكر بن سالم بون شاسعٌ؛ فإن الشيخ أبا بكر بن سالم متوفًّى سنة 992ه، فبينهما بذلك قرن من الزمن، وهذا ربما يوردنا إلى مطية التصوف، وانتساب إلى دعوة الشيخ أبي بكر بن سالم السقاف، وانتحال مذهبه الحلولي سعيًا إلى أهداف أخرى لم يكشف عنها النقاب بعد.
3- ومن جانب آخر حين ينظر الباحث إلى المسارات السياسية ليافعسيجد أن يافع كقبيلة لم تكن تحيد بالولاء المطلق لأي دولة سواء كانت في الداخل أو الخارج، بل عاش اليافعيون في مشيخات متفرقة داخليًا، يسيطر على أجزائه السفلية العفيفي، وبقية القبائل تعيش حالة من عدم الاستقلال المشيخي المتعدد، كمشيخة الموسطة، وبني بكر، ومشيخة الشعيب، والمفلحي، والرصاصي وغيرهم. وقد عاشت حالة من التمرد والمد والجزر عندما حاولت دويلات اليمن الأعلى السيطرة عليها. ثم إن اختيار هذه المشيخة الأحزاء العليا من يافع وبسط نفوذها عليها وذلك بحسب وجهة نظر الباحث لبعدها عن مركز يافع وسلطانها العفيفي الحاكم قبضته على الأجزاء السفلى. وثانيًا؛ أن القبائل العليا كانت تعيش حالة من الفوضى والمد والجزر بين حكام الضالع ومشيخة المفلحي، فكان من السهل أن يجد لنفسه مكانًا ينطلق بدعوته وتحقيق دولته.
فهل كان التصوف اليافعي على وجه العموم حقًا حضرمي المنشأ؟ أم أن فكرة الحلول والاتحاد هي التي استشربت للولوج إلى التصوف الحضرمي ولبس عباءته!؟
لقد ذكر ابن عبيد الله أن الإمام إسماعيل استعان بقوة من يافع وأحسن إكرامهم، وذلك يوقفنا على خلفية هذه المشيخة وتحويل العداء نحو الزيدية كمذهب إنما جاء متأخرًا مع ما أشار إليه الحداد من انتحال شخصية حرازية التصوف والدخول إلى يافع. ارتبطت هذه المشيخة بهذه الدعوة وهذا العداء حتى صار العداء علمًا على يافع. كما تشير وثيقة السلطان عمر صالح بن هرهرة سنة ١١١٣ه، التي تنص على بعض الألفاظ الصوفيه ومطلق الولاء للشيخ أبي بكر بن سالم وذريته، حسب ما أشار صاحب الرسالة بقوله صاحب أمرنا. وقطب الطريقة وغيرها من ألفاظ التصوف. ودعوة الشيخ علي بن أبي بكر بن سالم ليافع لنصرة التصوف في حضرموت إذ تؤكد هذا الخوف من إحلال مذهب الزيدي محل التصوف في حضرموت بعد أن بويع للإمام في حضرموت، وأذن له بحيَّ على خير العمل داخل المساجد في حضرموت. فاستعان الشيخ أحمد بن حسين بما يعلم ولاءهم لمذهبأاسلافه ونصرتهم له.
ولعلنا نلمس منهج التصوف الحضرمي ومدرستها في شخصية عفيف الدين عبدالله بن أسعد رغم انتسابه للأسرة العفيفية الحاكمة غير أنه قد سار بالتصوف بنفسه على المنهج الحضرمي، وارتبطت به علاقة مع فقهائها، بل تؤكد المصادر سفره إلى حضرموت، وكان من ضمن اللجنة التي سارت إلى مكة للاستشهاد على نسبة السادة العلويين لآل البيت.
أثر هذه الدعوة الهرهرية في وحدة يافع وتماسكها :
أثرت دعوة الشيخ علي بن أحمد بن هرهرة اليافعي كثيرًا في يافع، فلم تقتصر على الأجزاء العليا فقط حيث مركز سلطانه ومقر حكمه والمساحة الجغرافية للمكاتب العليا وحكمه لهم، بل شملت الشمل اليافعي ككل والذي يسيطر عليه العفيفيون، وهذا الامتداد أسهم بظلاله في تقوية اللحمة القبلية اليافعية وتوحيد الصف اليافعي خاصة عند توجهه بالحملة إلى حضرموت لحرب الزيود سنة ١١١٣ه؛ إذ شارك 900 مقاتل، كما دلت عليه سياقات الحملة.
1- اعتقادهم وحبهم وانتماؤهم للتصوف عمومًا، وأن مدرسة التصوف في يافع متأصلة العلاقة بحضرموت .
2- اعتقادهم في الشيخ أبي بكر بن سالم مولى عينات وأحفاده من بعد، وارتباطهم الوثيق بهم حتى عدت أسرة إلى الشيخ أبي بكر بن سالم مشايخ يافع وأصحاب أمرهم وله من خراجهم نصيب.
3- الشجاعة والمراس على القتال عند اليافعيين خاصة، وأنهم لم يكونوا على وفاق مع دويلات اليمن، وقد كابدت تلك الدويلات من يافع عندما حاولت السيطرة على عدن.
4- توحيد القوة اليافعية نحو هدف عقائدي، ساعد كثيرًا في خلق وحدة قبلية أمام الزحف الإمامي، وانتشار مذهبه، في عدن وحضرموت ويافع حتى أخرجوه من ديارهم إلى صنعاء.
5- كما ساعدت هذه الوحدة القبلية ذلك في قبول المناصفة، والتقسيم الإداري بين مشيختي العفيفي اوبن هرهرة داخل يافع، وقضت على الكثير من العصبيات الأيديولوجية، ووحدة الصف اليافعي، في الداخل والخارج.
لتلك الأسباب وغيرها كانت استعانة الشيخ علي بن أحمد بهم جاءت بثمارها اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا في يافع. تثبيت التصوف في حضرموت وإبقاءه، ولم تتأثر حضرموت بمذهب الزيدية، بل مر بديارهم وسرعان ما تلاشى بتلاشي حكم الإمامة عنها.
هذا ونسأل الله السداد والقبول .