أ.د. مسعود سعيد عمشوش
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 23 .. ص 48
رابط العدد 23 : اضغط هنا
مقدمة
تُعد الرسائل أو المكاتبات من النصوص النثرية التي لم تلق حتى اليوم اهتمامًا مناسبًا في بلادنا، على الرغم من احتواء مكتباتنا على عدد كبير منها، مطبوعًا أو مخطوطًا؛ لهذا رأيت أن أقف في هذه الدراسة أمام بعض نصوص الرسائل التي حررها بعض الكتاب الحضارم في القرن الثالث عشر الهجري، مع التركيز على (مكاتبات الحبيب حسن بن صالح البحر)؛ لما تحتويه من أبعاد فنية مهمة معبّرة عن معظم ما كتبه الحضارم من مراسلات في ذلك القرن، وأبعادٍ موضوعية ذات أهمية تاريخية كبيرة؛ إذ إنَّ كاتبها، الذي كان ممتزجًا بشكل كبير بالحياة الاجتماعية والسياسية، وثَّق فيها عددًا من الأحداث المهمَّة، التي شهدتْها مدن وادي حضرموت في منتصف القرن الثالث عشر الهجري.
في الجزء الأول من الدراسة قدَّمْنا لمحة عن اهتمام الحضارم بكتابة الرسائل في القرن الثالث عشر الهجري، وقُمْنا بحصر أبرز كتب المراسلات التي استطعنا الاطلاع عليها، مبيِّنين سبب حرص كل منهم على توثيق رسائله، وربما أنَّه نشرها أثناء حياته، مثلما فعل الحبيب حسن بن صالح البحر.
وكرَّسنا الجزء الثاني من البحث لدراسة الأبعاد الموضوعية في رسائل الحبيب حسن بن صالح البحر، مع التركيز على تلك الرسائل التي بعثها إلى القادة ورجال الدولة، والتي تعكس اهتمامه بالشأن العام، ومشاركته في صناعة تاريخ القرن الثالث عشر الهجري وتوثيقه.
أما في الجزء الثالث فقد استعرضنا أهم الملامح الفنية لتلك المراسلات من خلال تحليل (مكاتبات الحبيب حسن بن صالح البحر) ومقارنتها بمراسلات بعضٍ من معاصريه، وركَّزنا بشكل خاص على استخدامهم لأسلوب السجع والمحسنات البديعية، ومزجهم بين اللغة الفصحى والعامية.
الجزء الأول- الحضارم وكتابة الرسائل:
من المعلوم أن العرب قد عرفوا فن الرسائل منذ القدم. وهناك من يرى أن أصوله ترجع إلى العصر الجاهلي. وقد تمّ توثيق عددٍ لا بأس به من الرسائل التي بعثها النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الدول ليدعوهم إلى الإسلام، كما فعل مع كسرى الفرس وقيصر الروم، أو إلى زعماء المناطق ورؤساء القبائل؛ ليبيّن لهم أحكام الإسلام. وقد تميّزت جميع رسائله صلى الله عليه وسلَّم بالإيجاز والبلاغة. نلمس ذلك مثلًا في الرسالة التي بعثها إلى وائل بن حجر الحضرمي، والتي قال فيها: “من محمد بن عبد الله إلى الأقيال العباهلة من أهل حضر موت، بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، في التيعة شاة، والتيمة لصاحبها، وفي السيوب الخمس، ولا وراط، ولا شناق ولا شغار، فمن أجبى فقد أربى، وكل مسكر حرام”. ويذكر الدكتور شوقي ضيف أن الخلفاء الراشدين قد اهتدوا بهدي النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في مكاتباتهم إلى ولاتهم وقادتهم، فتجنَّبوا التصنّع والتنميق، اللذين أصبحا سمةً ملازمة للرسائل العربية منذ العصر الأموي. ومن المعلوم أن كتابة الرسائل قد شهدت تطورًا كبيرًا منذ مطلع القرن الهجري الثاني، أولًا في عهد هشام بن عبد الملك عندما تولى مولاه سالم رئاسة ديوان الرسائل في عهده، ثم في عهد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، الذي تولى أمر ديوانه عبد الحميد الكاتب. واهتم الخلفاء العباسيون أكثر من سابقيهم بكتابة الرسائل ودواوينها، واشترطوا في وزرائهم إتقانها. وقام معظم الدارسين بتقسيم الرسائل في التراث العربي القديم على أربعة أنواع، هي: 1- الرسائل الديوانية: وهي الرسائل ذات الطابع الرسمي والسياسي، التي يصدرها الخلفاء والسلاطين ورجال السياسة بشكل عام. 2- الرسائل الإخوانية: ومختلف الرسائل الاجتماعية ذات الطابع الشخصي أو الخاص، والتي تتطرق في بعض الأحيان للشأن العام. 3- الرسائل الدينية: ومنها الوعظية والتربوية. 4- الرسائل الأدبية الإنشائية.
ومن المعلوم أنَّ عددًا كبيرًا من الحضارم، ومنهم الأدباء والقادة السياسيون ورجال الدين، لاسيَّما المتصوفون، قد مارسوا كتابة الرسائل بمختلف أنواعها. ونذكّر هنا أنّ النقَّاد أطلقوا تسميات أخرى على الرسائل في التراث العربي؛ مثل التوقيعات والترسّل أو المكاتبات التي استخدمها كثير من النقاد القدامى عند دراستهم للرسائل وتصنيفها. والحضارم فضَّلوا في الغالب استخدام (مكاتبة ومكاتبات)، واستخدم بعضهم كذلك تسمية (الرسالة)، لكنهم في معظم الأحيان استخدموا هذه التسمية للتعبير عن النوع الأدبي أو العلمي من الرسائل الذي يدخل في باب التأليف لا في باب المراسلات، مثل (الرسالة القشيرية) في التصوّف، و(رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، وكثير من رسائل الجاحظ. وهناك حضارم ألَّفوا كتبًا أدبية أو علمية أطلقوا عليها (رسالة في…)، ومن أشهر تلك الرسائل الأدبية العلمية: (رسالة في الأنساب) لأحمد بن محمد باجمال، و(رسالة في الربع المجيب) لمحمد بن أحمد بافضل (ت903هـ)، و(رسالة المريد) لعبد الله بن علوي الحداد (ت1132هـ). وفي القرن الثالث عشر الهجري ألَّف عبد الله بن أحمد بن محمد باشميل (ت1301هـ) (رسالة في الحراثة).
ولا شك في أنَّ اهتمام الحضارم بكتابة الرسائل يرتبط بحاجتهم للتواصل في شؤون حياتهم مع أقربائهم وأصدقائهم ومحبيهم وقادتهم، لاسيما في الماضي حينما كانت وسائل النقل والاتصال الأخرى في غاية الصعوبة أو كانتْ معدومة. ومن المؤكد أن ظاهرة هجرة الحضارم قد زادت من اهتمامهم بكتابة الرسائل. وليس السؤال الأهم بالنسبة لنا: لماذا دأب الحضارم على كتابة الرسائل؟ بل لماذا بادر عدد كبير من الأدباء ورجال الدين الحضارم إلى نشر رسائلهم الخاصة والسياسية والدينية في مجلدات حتى وهم على قيد الحياة؟
من جهة، يبدو لنا أن تأثر عدد من الأدباء وعلماء الدين الحضارم بالأدباء ورجال الدين العرب الذين نشروا رسائلهم في العصر العباسي قد دفعهم إلى نشر رسائلهم الأدبية والوعظية. ومن جهة أخرى، رأى بعض الحضارم أنهم قد بلغوا درجة معينة من العلم والشهرة تمكنهم من نشر ما كتبوه إلى أقربائهم وتلامذتهم ومحبيهم؛ لينتفع به غيرهم، وهذا السبب جعلهم يحرصون عند كتابة رسائلهم على إعطائها صبغة أدبية.
ومن المعلوم أن الحضارم، بمختلف مستوياتهم، قد اعتادوا قبل وصول المطبعة إلى حضرموت على تحرير رسائلهم بأنفسهم، أو بمساعدة كاتب (راقم)، وفي الأقل في نسختين يحتفظ المرسل دائمًا بنسخة منهما لديه. وعادة ما يحتفظ المتسلِّم بالرسالة التي تسلَّمها، والتي يعدّها في بعض الأحيان بمثابة وثيقة شبه رسمية وذلك حينما تحتوي على التعبير عن تنازل أو تمليك أو وصية أو طلاق. وكثير من العائلات الحضرمية لديها صندوق خاص بـ(الخطوط)؛ والخطوط تشمل الوثائق والرسائل المرسلة والمستلمة. وقد سهلت هذه العادة جمع رسائل الحضارم ونشرها مستقلة أو ضمن مجموع.
كما اعتاد كثير من الأدباء ورجال الدين أنْ يُمْلُوا رسائلهم الوعظية أو المتضمنة إجازات ووصايا في حضور بعض تلامذتهم ومحبيهم، مع السماحِ لهم بتدوينها. ويرى الباحث عبد الله محمد الحبشي في كتابه (أوليات يمانية) أن هذه العادة أصبحت سمة مميزة لسكان الجزيرة العربية، ويذكر: “عثرنا في تراث الحضارمة على مجاميع كثيرة من الرسائل الشخصية تصدَّى لجمعها جماعة من المحبين والمعجبين بأصحاب تلك الرسائل، وهذا نادرًا ما يتَّفق في تراث آخر غير تراث أهل الجزيرة العربية وعلى الخصوص أهل حضرموت؛ إذ غالبًا ما أهملت هذه الرسائل وتركت نهبًا للضياع، وربما كانت في أحسن الأحوال بطائن للكتب العلمية بعد أن يرص بعضها فوق بعض، وتغمر بالصمغ؛ لتصبح ورقة واحدة غليظة، وكان ذلك في وقت قلة الورق”. (أوليات يمانية) ص169
وعلى الرغم من تسليمنا بأنّ معظم مكاتبات أو مراسلات الحضارم لا تزال اليوم محفوظة في صناديق الأحفاد والأقرباء والأصدقاء والتلاميذ، فإنَّنا نلاحظ أنَّ عددًا من الأدباء ورجال الدين الحضارم بادروا إلى جمع رسائلهم بأنفسهم في مجاميع؛ بهدف توصيلها إلى أكبر عدد ممكن من القراء. من هؤلاء الحبيب عبد الله بن علوي الحداد، الذي برّر جمعه لرسائله قائلًا: “إني قصدت أن أجمع في هذه الأوراق أطرافًا مما فتح الله عليّ، وأنطقني من الكلام، الموافق لكلام الله ورسوله، وهدي السلف الصالح رضي الله عنهم؛ حملني على ذلك الخوف من الاندراس، الذي يستولي غالبًا على ما لم يكن مدوَّنًا ومجموعًا كما وقع لكثير من كلامنا… واقتصرت في هذه المدوَّنة من جملة ما فتح الله به على المكاتبات التي كتبناها إلى الإخوان، والوصايا التي أوصينا بها بعضهم، والكلمات المنثورة والقصائد المنظومة. فهي أربعة أقسام ونلحق إلى كل قسم ما يتجدد من نوعه إن شاء الله، وسميتها (جامع المكاتبات والوصايا والكلمات والقصائد المشتملة على الحكم والفوائد والمنافع والمراشد). ص5.
وفي القرن الثالث عشر الهجري انتشرت كثير من رسائل حسن بن صالح البحر وعلي بن محمد الحبشي في أثناء حياتهم بشكل مستقل وفي مجاميع، وانتشر كذلك عدد كبير من المكاتبات مخطوطةً في شكل مجاميع قام بجمعها التلاميذ والمحبون والأبناء والأحفاد. وهناك نسخ من بعض المجاميع تم إيداعها في المكتبات الخاصة والعامة. وقامتْ دار تريم للدراسات والنشر بنشر صور لبعض تلك المخطوطات، مثل (مكاتبات السيد العارف أحمد بن محمد العطاس)، و(مكاتبات الحبيب طاهر بن حسين بن طاهر والحبيب عبد الله بن حسين بن طاهر)، و(مكاتبات العلامة الفقيه الحبيب الإمام عبد الله بن الحسين بن عبد الله بلفقيه العلوي). كما نشرت دار تريم صورة لمخطوطة (مكاتبات الحبيب حسن بن صالح البحر)، وذلك بعد أن قامت دار التراث بتريم حضرموت بنشرها مطبوعةً ضمن (مجموع مناقب ومواعظ ووصايا الإمام الحسن بن صالح البحر الجفري -1193-1273هـ- ومعه مكاتباته وقصائده) سنة 2013.
ومن أهم رسائل الحضارم الأخرى التي تمّ نشرها مطبوعةً: (مكاتبات الحبيب علي بن محمد الحبشي)، ومكاتبات (الحبيب أبي بكر بن عبد الله العطاس). وقام الباحث الدكتور محمد أبوبكر باذيب بنشر جزء من مكاتبات علوي بن محمد بن طاهر الحداد ضمن مجموع (بهجة الخاطر وسرور الفؤاد في مجموع مآثر الحبيب علوي بن محمد بن طاهر الحداد، سيرة حياته، ومجموع كلامه، وديوانه، ومجموع مكاتباته، وغير ذلك (في 3 مجلدات. (دار التراث، تريم، 1432هـ/ 2011م).
وهناك عدد كبير من مجاميع المكاتبات الحضرمية التي تم جمعها، لكنها لم تر بعد طريقها إلى النشر – على الأقل حسب علمنا -، مثل (رسائل عمر بن سقاف، ت1216) والمودعة في مكتبة الحبشي بالغرفة. ولا تزال مخطوطة كذلك (مكاتبات عبد الله بن عمر بن سميط ت1313هـ)، وهناك نسخة منها في شبام. ويحتفظ أحفاد عبد القادر بن محمد بن حسين بن زين الحبشي ت1250هـ بمخطوطة مكاتبات جدهم. ومن أهم المكاتبات الحضرمية في القرن الثالث عشر، التي جمعت ولم تنشر بعد: مكاتبات السيد محسن بن علوي السقاف، التي وظفها حفيده المؤرخ عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف في كتابه التاريخي (إدام القوت) وأصله (بضائع التابوت). وقد تصدَّى لجمعها سالم بن حفيظ تحت عنوان (رسائل ووصايا ومكاتبات علمية للسيد محسن بن علوي السقاف) سنة 1379هـ. ويبدو لنا أن الأسباب التي منعت (أو أخّرت) نشر (بضائع التابوت) هي التي أخَّرت نشر مكاتبات محسن السقاف.
كما تحتفظ بعض المراكز البحثية والمكتبات العامة والخاصة في حضرموت بنسخ من مكاتبات السلاطين ورجال السياسة التي لم تدرس حتى اليوم. فحسبَ عِلْمِنَا لم تحظ مكاتبات الحضارم إلا بتقديم موجز بعنوان (رسائل شخصية من القرن الثالث عشر) ضمَّنه الباحث عبد الله بن محمد الحبشي كتابه (أوليات يمانية ص168-174)، وكرسه لمكاتبات الحبيب طاهر بن الحسين بن طاهر، والدراسة التي قام بها الأستاذ الدكتور عبدالله الجعيدي لبعض الأبعاد التاريخية في مكاتبات الحبيب عبد الله بن علوي الحداد.
الجزء الثاني- الأبعاد الموضوعية في رسائل الحضارم في القرن الثالث عشر الهجري:
قسم المستعرب البريطاني أدريان غللي الرسائل في المجتمعات الإسلامية قبل العصر الحديث على نوعين فقط: الرسائل الرسمية، والرسائل غير الرسمية أو الإخوانية. وأكد في كتابه (ثقافة أدب الرسائل في المجتمع الإسلامي، قبل العصر الحديث، ترجمة وليد شحاته، العبيكان، الرياض 2011، ص17)، أن الرسائل الإخوانية ترصد التفاعل الشخصي والاجتماعي بين الأفراد، بينما تتضمن الرسائل الرسمية معلومات عامة ذات قيمة تاريخية كبيرة.
ومع أن معظم رسائل الحضارم التي تم نشرها، مخطوطةً أو مطبوعةً، تخص في الغالب رجال دين فهي ليست كلها إخوانية؛ إذ إنَّ جزءًا منها موجه للسلاطين والحكام والقادة. وإذا كانت الأبعاد الشخصية أو الخاصة تبرز بشكل لا بأس به في مكاتبات آل ابن طاهر فهي تتقلص كثيرًا في رسائل حسن البحر، التي تتضمن أبعادًا تاريخية وعامة دقيقة وفي غاية الأهمية.
(أ) الأبعاد الشخصية في رسائل الحضارم:
من خلال قراءتنا لمكاتبات الأخوين طاهر وعبد الله ابنَيْ حسين بن طاهر، لاحظنا أنها تحتوي على أبعادٍ شخصية واسعة؛ فطاهر يحدّث أخاه في بعض الرسائل عن كل ما يتعلق بمزرعتهم ونخيلهم وتمرهم، ويحدِّثه عن صحة والدتهما، وما يتعلق بالحياة اليومية في المنزل وخارجه. مثلًا، في الرسالة التي بعثها طاهر بن حسين، بتاريخ 12 شوال 1235هـ، إلى أخيه عبد الله، يكتب: “صدرت والدعاء مبذول ومسئول، ونحن ومن لدينا من الخاصة والعامة كما تحبون، نرجو أنكم بأتم حال وأنعم بال. وأخبار الجهة كما عهدتم؛ التشويش والكثافة إلى غاية، والمراتب باقية، والحفظ والسلامة موجودة، والطمأنينة حاصلة. في هذه الأيام يظهر أن حال الأعداء بايتفرق، وأن شملهم بايتبدد، فالله يحقق الرجاء والحقايق. وهذا الخط معبّر إلى الأخ عبد الله جنيد، وأحوالنا حسبما عرفناكم في عدة خطوط، ما هناك مشوش إلا حوادث الزمان. والوالدة بأتم حال، والشريفة فاطمة كذلك، زالت الآثار كلها. والولد عبد الرحمن زالت عنه حمى الثلث، وبقي الدمل الذي في لحيه الأيمن، يخرّج مخروج سهل من غير مشقة، وإن شاء الله يضمحل. وكتبكم كلها وصلت من اليمن، ورجال الرقم منتظرون كتبكم من مكة وجدة مع أهل التدبيرة، حيث الخبر وصل أن أهل التدبيرة وصلوا إلى البنادر، والخطوط مبعاد وصلت، نرجو أن تظهر خطوطكم، وكذلك خطوط المحبين والسيد علي، لعل المحب سالم عوض خرج ووقعت بيده، متعطشون لأخباركم، وكيفية رحلتكم، فالله ييسر لكم الأمور والزيارة إن شاء تكون بعد رمضان مع الأصناء، وموافقة الوقت، مع إنا نرجو خروجكم بعد الحج. والوالدة لم تزل تكرر علينا: عرفوا عبد الله يبادر بالخروج، حيث التدبيرة بعيدة جم جم، والحاضر يرى ما لا يرى الغائب، ومثلكم لا يعرف. والخريف هذه السنة قليل، إنما هو في غاية الاحتكام، رطب من العجايب، حال التاريخ نجم البلدة والشارة على الرأس، غيث خفيف، فعسى الله يسلم الخريف من الغبار، ويغيث المسلمين بغيث نافع. والأسعار شاحية قليل، والزرايع موافقة، وكل شي موجود، والدعاء الدعاء في كل حين، كما هو مبذول. والخال محمد تزوج أخر شهر رمضان على بنت يحيى بن محسن مطهر مخلفة محمد بن حسين، هذا والخط بغاية العجل، ولا زلتم في حفظ الله وجميل رعايته”. ص167-169
وبالمقابل نلمس أن الأبعاد الشخصية تتقلص كثيرًا في مكاتبات الحبيب حسن بن صالح البحر، فهو لا يتحدَّث فيها أبدًا عن شؤون عائلته. وتعد الرسالة الأولى بعد المئة (بدون تاريخ)، الموجهة إلى السيد أبي بكر المشهور، من الرسائل النادرة التي يتطرق فيها حسن البحر لجانب من حياته الخاصة: صحته؛ فهو يذكر فيها ما يعانيه من ضعف في السمع والنظر، وكتب: “ونحن هذه الأيام معنا تكثيف من أثر العيون ومع الصمم، حتى إنا اعتذرنا لذلك عن كثرة اختلاف الناس، وقد أرسل لنا العام الأول فرج يسر كحال أبيض، ووافق معنا غاية، لكنه تمّ سريعا، وعرّفناه من طرفنا، وأرسل كحال، لكنه ليس كالأول، ولم تحصل منه جدوى، وأصل الأثر يقل في الدف، وحصل فيهن الغث خصوصا مع برود الوقت، والنزلة فيهن تخرج من الرأس، والصمم كذلك، فإن قدر الله شيء من الأدوية حسب التيسير اعتنوا بذلك، حماكم الله. والسلام”. ص716 (اعتمدنا النص المطبوع من مكتبات البحر لجميع الاقتباسات باستثناء ما يتعلق بالرسالة التي بعثها حسن البحر إلى علي ناجي بن بريك)
ونلاحظ أن معظم رسائل الحبيب حسن البحر الإخوانية، التي يتضمَّنها مجموع مكاتباته، المخطوط أو المطبوع، عبارة عن ردود للمرسلة إليهم، ويتنوع محتواها بين التعزية والعظة والدعاء والتوصية والإرشاد. مثلًا، في الرسالة الثالثة من المخطوطة، التي وجهها البحر إلى الشيخ سعيد بن عامر بن عبد العزيز الكثيري، يبلغه باستلام رسالته ويوصيه بالالتزام بالفرائض الصلاة والزكاة ويطمئنه بالدعاء له. ويكتب فيها: “من حسن بن صالح البحر الجفري إلى المحب المبارك المسعود إن شاء الله سعيد بن عامر بن عبد العزيز بن محمد بن عمر الكثيري، سلمه الله وكان له عونا في دنياه وأخراه، وحفظه مما يحذره ويخشاه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. صدر هذا الكتاب وقد وصل كتابكم، فأوصيكم- كان الله في عونكم وزادكم من كل خير- بطاعة الله وتقواه، فإنهما موجبان السيادة والسعادة في الدنيا والآخرة، فمن ظفر بهما فاز بكل خير، وسلم من كل بؤس وضير، ومن حرمهما حُرِم من كل خير، وهمة المؤمن قالب التوفيق، ومن الإنسان الهمة والعزم، ومن المولى الإسعاد والتوفيق. ونوصيكم بالمحافظة على الصلاة، فإنها عماد الدين… ثم الزكاة فإنها ركن من أركان الإسلام… هذا وحفظكم الله، ومن اصطنع المعروف، وأجراه الله على يديه، فليبشر بالخير وحسن العاقبة، والدعاء مبذول لكم. والسلام عليكم”. ص511-512
ويعكس هذا النوع من الرسائل توجُّه الناس للحبيب حسن بن صالح البحر بغرض طلب الدعاء والعلاج أو تجاوز بعض الصعاب. ففي الرسالة الحادية والعشرين يرد البحر على طلب محبِّه الشيخ عوض بن أحمد طيب، قائلًا: “صدر هذا الكتاب بعد وصول كتابكم، وما ذكرتم صار لدينا معلوم، ونحن إن شاء الله متوجهين إلى المولى في تيسير ما تطلبون، ودفع ما تكرهون، وهو مليء بكل خير، وإن شاء الله ينفرج كربكم، وقد أوصينا الولد عبد الله بن زين بوصية وذكرنا فيها أذكارا تطلبونها، وزيدوا واستعملوا هذا الدعاء: اللهم كما لطفت بلطفك في عظمتك دون اللطفاء، وعلوت بعظمتك على العظماء، وعلمت ما تحت أرضك كعلمك بما فوق عرشك، وكانت وساوس الصدور كالعلانية في عندك، وعلانية القول كالسر في علمك، وذلّ كل شيء بعظمتك، وخضع كل ذي سلكان لعظمتك، وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك، اجعل لي من كل هم أمسيت أو أصبحت فيه فرجا ومخرجا، وارزقني من حيث لا أحتسب. هذا الدعاء لكم مبذول ومنكم مسئول”. ص553
وفي الرسالة الثالثة بعد المئة، يكتب الحبيب حسن البحر إلى عبد الله وعبد الرحمن ابنَيْ أبي بكر المشهور يشرح لهما فيها كيفية العلاج باستخدام الماء المقروء عليه القرآن، وذلك على النحو الآتي: “صدر هذا الكتاب بعد وصول مشرفكم، وأشجانا ما ذكرتم من تأثر الأهل، وليس عندنا خبرة ولا دراية بهذا الشأن، لكن كتبنا لهم في إناء شيئا من القرآن الذي أنزله شفاء ونورا لأهل الإيمان، وصدر على حسن النية والرابطة، والله المستعان على نوائب الزمان، وطوارق الحدثان. هذا وحماكم الله. والسلام على من شئتم، منا والأولاد والمحب عمر شماخ. وإذا محيتم الماء ابقوا القليل وادهنوا به الرأس والبدن”. ص720
ويتضمن مجموع مكاتبات البحر كثيرًا من رسائل التعزية، منها الرسالة الرابعة التي بعثها المؤلف على محبه عثمان بامجبور، والرسالة الخامسة التي أرسلها إلى حسن بن حسين وحسن بن عبد الله الحداد، وكتب فيها: “من العبد الفقير حسن بن صالح البحر إلى حضرة سادتي الأجلاء الكرام، سلالة الأئمة بدور الدين والنفع العام، إن شاء الله لسائر المسلمين، حسن بن حسين وحسن بن عبد الله أبناء الحبيب الإمام أحمد بن الحبيب الشيخ حسن بن الإمام قطب الإرشاد عبد الله الحداد، حماهم الله، وهدى بهم إلى سبيل طاعته وتقواه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. صدر هذا الكتاب وقد وصل كتابكم المنبئ بخبر وفاة الحبيب الفاضل حسن بن سيدنا الشيخ عمر. أحسن الله عزاكم. وقد أحزننا ذلك الخبر، لكن ذلك سنة الله في خلقه، وقضاؤه في عباده. ومرجع الكل إليه، وهذه الدار دار التشتيت والافتراق، والاجتماع إن شاء الله في دار الخلود بلا ضغن ولا ارتحال، ولا موت ولا زوال، في جوار الكبير المتعال”. ص516
وإذا كان الحبيب حسن بن صالح البحر يتجنب الحديث عن الشؤون العائلية فهو لا يرى بأسًا في تضمين بعض رسائله الإخوانية بعض أخباره ذات الطابع الديني، فهو يذكر، مثلًا، أن سبب كتابته للرسالة الثانية، الموجهة للسيد حسن بن علوي بو فطيم: إبلاغه بعزمه على التوجه إلى الحرمين الشريفين، ويكتب فيها: “موجب الكتاب، بعد مسنون الدعاء والتحية، السؤال عن أحوالكم السنية، وشم أنفاسكم الزكية، وتجديد العهود، وتأكيد الوداد المعهود، إعلامكم بوجهة الفقير إلى الحرمين الشريفين، عن فرض حسين بن سيدنا الشيخ عمر بن سقاف، أدعوا لنا فإنكم منا في سويدا البال، وذكركم في الحل والترحال”. ص509
وفي الرسالة الثامنة والخمسين يبعث حسن البحر رسالة إلى محبه علي بن محمد شماخ يبلغه فيها باستلام رز للوليمة التي أقيمت يوم (المدرس) ويشكره قائلا: “وقد وصل الرز من المحب الشيخ، حفظه الله، وحصل به المنفعة والبركة يوم المدرس المبارك، شكر الله سعيه وعامله بكل خير في عاجل دنياه وآجل أخراه، والمدرس إلى زيادة، ومع الناس انتعاش الروح بذلك ومظاهر نور وحضور”. ص624 وكان الحبيب البحر في الرسالة السابقة، الموجهة إلى الشيخ علي بن عبود باسندوة قد كتب: “صدر هذا الكتاب بعد وصول ما أهديتموه، وكان الله في عونكم، وزادكم من فعل الخيرات ومتجر الباقيات الصالحات”. ص621
وفي الرسالة الرابعة والسبعين ينصح الحبيب حسن البحر الحبيب أحمد بن محمد المحضار ألاّ يقدم على عمارة أحد المساجد إلا عند تيسُّر الأموال اللازمة لذلك وكتب له: “وما ذكرتم من خبر المسجد وعمارته، إذا تيسرت من غير تكلف ولا تقشف، فذلك المقصود، وإن لم يتيسر فلا تجعلوا عِلقِتكم بغير ربكم، ولا تذلوا أنفسكم لمن دونه، لأن الذل لغير الله والطمع في غير الله خسران وندامة، وغبن وملامة”. ص659
وإذا كان الحبيب حسن بن صالح البحر لا يميل كثيرًا إلى الحديث عن حياته الشخصية في رسائله الإخوانية، وهو يتجنب كذلك الخوض في الشؤون الخاصة بالآخرين، ومع ذلك يحتوي مجموع مكاتباته على قليل من الرسائل التي تتعلق بالحياة الخاصة لبعض محبيه ومراسليه. وفي الغالب تم حذف أسماء هؤلاء الأشخاص في النصين المخطوط والمطبوع من الرسائل، أو استعيض بكلمة (فلان)، أو يترك فراغ في مكان الاسم، مثلما نجد ذلك في رسالة العتاب (الرابعة والعشرين)، التي بعثها حسن البحر لأحد محبيه بعد أن طلب منه أخوه التدخل لإنهاء خصام حدث بين الأخ وأهله، وقال فيها: “صدر هذا الكتاب بيد أخيك، الموجب لذلك أن أهلك حصلت معهم بعض وحشة من قلة المواصلة، وجفوتهم وعدم الإرسال إليهم، وأنتم أهل مروءة وديانة، والمصافاة والأخذ بالخواطر ألْيَق بكم، وكل من له حق ما يطرد منه، و[عليكم] صيانة العرض والمروءة من نصيب أهل الزمان، والحاسدين المدخلين الإحن والفتن بين الأصحاب والقرابات، لأن أخلاقهم قد صارت أخلاق الشياطين… ونرجو أن لا يسمع بينكم بغيض ولا حاسد، والتطاول على الجميل الذي بذره يحصّل السيادة والسعادة في الدنيا والآخرة، فتصافوا بطيب قلوب، وتسابقوا إلى فعل الحسنات، وفعل الجميل، بارك الله فيكم، وكان الله في عونكم، واحذروا من المخاصمة والمشاحنة، الله يؤلف بين قلوبكم، ويوفقكم لما يحبه ويرضاه، والسلام”. ص557
ومع ذلك يبرز اسم المرسل إليه في الرسالة الحادية والثمانين من المجموع، وفيها يتوسط الحبيب حسن البحر عند المغترب الشيخ عوض عمر عبد الكبير باحميد، ويطلب منه زيارة أهله أو مساعدتهم، مبرِّرًا ذلك بالظروف الصعبة التي تشهدها في حضرموت حينذاك، وكتب فيها: “من حسن بن صالح البحر، إلى الشيخ عوض بن عمر بن عبد الكبير باحميد، سلك الله به المسلك الحميد، وحلى ظواهره وسرائره بما يرضى به الرب المجيد. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصل كتاب الشيخ سالم وأرانا إياه، وفقكم الله لما فيه رضاه، وسلك بكم مسالك أحبابه وأولياه، وكونوا حسب الظن في صلة أخيكم سالم ووالدتكم، وتفريج كربتهم وإدخال السرور على قلوبهم بمخرجكم، وإذا لم يكن ذلك فبالصلات الجميلة، وقد بلغكم ما حلّ بحضرموت، وما وقع فيها من الأزمنة الشديدة، والمتاعب في معاشهم، وهم أحق بصلتكم، وصلتهم متعيّنة عليكم، ولازمة في معسوركم فضلا عن ميسوركم. هذا والدعاء لكم مبذول”. ص673