دراسات
وضاح عبد الباري طاهر
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 23 .. ص 55
رابط العدد 23 : اضغط هنا
لا شيء من العلم من حيث هو علم بضار، ولا شيء من الجهل من حيث هو جهل بنافع؛ لأن في كل علم منفعةً ما في أمر المعاد، أو المعاش، أو الكمال الإنساني، وإنما يتوهَّم في بعض العلوم أنه ضار أو غير نافع؛ لعدم اعتبار الشروط التي يجب مراعاتها في العلم والعلماء؛ فإنَّ لكل علم حدًّا لا يتجاوزه». حاجي خليفة.
كانت الحضارة الإسلامية في ذروة مجدها، وغاية قوتها تحمل في أحشائها جنين التدهور والانحطاط والسقوط. فالبذرة الأولى للانحطاط نبتت من الحاكم المستبدِّ، الذي ابتز الناس أمرها، وغلبها على رأيها. لقد تربَّع الحاكم على عرش الحكم عن طريق العسف والتغلب، ولم يأتِ للسلطة برضا الناس أو اختيارهم، بل جالدهم بالسيف مجالدة؛ حتى أذعن من أذعن تحت سلطان القسر والقهر.
أما البذرة الثانية، فهم رجال الدِّين المتعصبون الذين ساروا ضدًّا على الحياة، وجوهر الدين اليسر، والملة السمحة.
ليس هناك أضر على الحياة بأن تعطى الأشياء أكبر من حجمها؛ فيبالغ في تقديرها، ويُفرط في الإعلاء من شأنها؛ الأمر الذي يترتب عليه سوء الأحكام، واختلال الموازين، وفساد الحياة برُمَّتها؛ وهذا ما فعلتْه الدعاية الكبيرة التي جعلت من هذين الصنوين: الحاكم المتفرعن، والفقيه المتأله خطًّا أحمرَ، يصعب تجاوزه أو تخطيه.
لقد صار هذان الحليفان عبْئًا على الحياة، وثقلًا كبيرًا يحول دون تطورها، وأضحى المتعصبون من الفقهاء مع حُكَّام الغلبة هم أصحاب الكلمة الفصل في الإمساك بزمام شئون الحياة، والتحكم بمصائر الناس.
لما حسم الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) بأنَّ الفقه ليس إلا علمًا دنيويًا، وأن علوم الآخرة هي التقوى، ومخافة الله، والزهد، والورع والصدق – اجتمع فقهاء المغرب على تحريق كتابه.
جاء في (شذرات الذهب) في ترجمة القاضي عياض بن موسى اليحصبي المالكي أنه «كان شديد التعصب للسنة، والتمسك بها؛ حتى أمر بإحراق كتب الغزالي؛ لأمرٍ توهَّمه منها»([1]).
وجاء في تاريخ (مرآة الجنان)، عند ذكر وفاة صاحب المغرب علي بن يوسف بن تاشفين (537هـ): إنه هو الذي أمر بإحراق كتب الإمام حجة الإسلام الغزالي([2]). وبهذا يتظاهر الفقيه المتعصب والسلطان المستبدُّ على قمع الفكر.
لقد شهد الغزالي بأن تهافت الفقهاء على علم الفروع – الفقه -، وإهمالهم للطب ليس إلا بغرض تولي الأوقاف والوصايا، وحيازة مال الأيتام، وتقلُّد القضاء والحكومة، والتقدُّم على الأقران، والتسلُّط به على الأعداء، وهذا ما لاحظه قبله الشاعر والأديب ابن لنكك البصري؛ فقد صور حال الفقهاء، وذمهم في أبيات له يقول فيها:
أقولُ لعصبةٍ بالفقه صالتْ وقالت ما خلا ذا العلم باطلْ
أجل لا علمَ يوصلكم سواهُ إلـى مال اليتــــــامى والأرامـــلْ
أراكم تقلبـون الحكـم قلبًـــا إذا ما صُبَّ زيتٌ في القنادل ([3])
وذكر المراكشي في تاريخه (المعجب) عند الكلام على ولاية علي بن يوسف بن تاشفين أنه: اشتد إيثاره لأهل الفقه والدين، وكان لا يقطع أمرًا في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء، فكان إذا ولى أحدًا من قضاته كان فيما يعهد إليه ألا يقطع أمرًا، ولا يبتُّ حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء؛ فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغًا عظيمًا لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس، ولم يزل الفقهاء على ذلك، وأمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكامهم صغيرها وكبيرها موقوفة عليهم طول مدته؛ فعظم أمر الفقهاء كما ذكرنا، وانصرفت وجوه الناس إليهم؛ فكثرت لذلك أموالهم، واتسعت مكاسبهم، وفي ذلك يقول أبو جعفر أحمد بن محمد المعروف بابن البني من أهل مدينة جيان من جزيرة الأندلس:
أهل الرياء لبستمو ناموسكم كالذئب أدلج في الظلام العاتمِ
فملكتمو الدنيا بمذهب مالكٍ وقسمتمو الأموال بابن القاسم
وركبتمو شهب الدواب بأشهبٍ وبأصبغ ([4]) صبغت لكم في العالمِ ([5])
لم ينل التعصب – في التاريخ الإسلامي من قبل الفقهاء – الفلسفة فقط، ولم يطل الطب، أو الفلك، أو العلوم الرياضية والطبيعية، أو حتى مدرسة الرأي التي كان على رأسها أبو حنيفة، وعثمان البتي، وربيعة، أو الأقليَّات الدينية – بل لقد ضاقت الدائرة حتى صار التعصب ضدًّا على الذات نفسها من أبناء الطائفة الواحدة أو المذهب الواحد، فكانت الحال هذه كحال قطة لم تجد ما تأكله؛ فأكلت أولادها، وهذا ما جرى من فقهاء الشافعية بذي أشرق من تباغض وتحاسد وتكفير لفقهاء زبيد الذين يتحدون معهم في المذهب الشافعي، ويخالفونهم في المعتقد؛ إذ إنَّ فقهاء ذي أشرق كانوا على اعتقاد الحنابلة، بينما كان فقهاء زبيد على مذهب الأشعري ([6]).
وهذا ما حصل مع العلامة علاء الدين العطار، الذي وجدت له فتاوى تخالف إمامه الشافعي؛ فحُكِمَ بتكفيره، وكاد أن يراق دمه ([7])، لولا تدخل القاضي الحنفي الذي حكم بإسلامه وحقن دمه. ومن قبله أهدر الحنابلة دم ابن عقيل الحنبلي؛ لتردُّده على أهل الاعتزال، وتقديره للحلاج؛ فزندقوه لأجل ذلك؛ فظل مختفيًا سنين عددًا حتى أعلن توبته وتمكن من الظهور([8]).
وقد كفر الإمام عبد الله بن حمزة المطرفية، وقتل رجالها، وأباح التمثيل بجثثها، وسبى نساءها، واسترق أطفالها، وخَرَّبَ دورها، ودمَّر مساجدها، وهم جميعًا على مذهب الزيدية. وقد سئل عن حكم امرأة من المصانع – من ديار المطرفية – أو غيرها صادف وجودها في المنطقة عند السبي، وهي لا تعرف اعتقاد المطرفية، ولا تحبهم. فأجاب: إن المرأة من أهل المصانع حكمها حكم أهلها – أي أنها تستحق السبي –؛ فلا فرق بينها وبين امرأة أخرى في المنطقة. فالمرأة التي تكون من غير أهل المصانع، فإنها ما لم تكن مغصوبة في وجودها في المنطقة، فإنه يجب سبيها؛ لأنها كفرت بوصولها إلى ديارهم!!([9]).
فإذا جاز هذا في أهل المذهب الواحد، فكيف يكون الحال بالمخالفين له في المذهب كشافعية تهامة الذين حكم عليهم بالكفر بتهمة التشبيه والجبر، واستباح نساءهم وسباهم في المحالب والمهجم، فأم ولده سليمان من سبي المهجم، وفيه يقول:
سليمانُ بيتاك من هاشمٍ ومن آل قنطور بيتا شرف([10]).
ويستشف من هذا البيت أن سليمان كان يلقى تمييزًا ضده كون أمه سبيَّة، وإلا فما الحاجة للإثبات، إذا لم يكن ثمةَ نفي.
لقد تشدد الفقهاء في تحريم أمور لم يرد في حقيقة الشرع ما يحرمها، وتعاملوا مع الحياة والأشياء بثنائية قاتلة؛ فقابلوا الدنيا بالدين، والعقل بالنقل، وعلوم الشريعة بإزاء الفلسفة وعلوم الطبيعة، والقرآن بالغناء، والمسجد بالمدرسة، والجامع بالجامعة؛ وجعلوا هذه الأشياء المتقابلة في حالة تزاحم وتضاد؛ فلا يستقيم وجود أحدهما إلا بإزالة الآخر أو نفيه؛ ألم يقل حكيم المعرة قديمًا:
اثنانِ أهلُ الأرضِ ذو عقلٍ بلا دينٍ وآخرُ دَيِّنٌ لا عقلَ لهْ
وأكد الغزالي هذا، فقال في (إحياء علوم الدين): «والعلوم العقلية تنقسم إلى دنيوية، وأخروية:
فالدنيوية: كعلم الطب، والحساب، والهندسة، والنجوم، وسائر الحرف والصناعات.
والأخروية كعلم أحوال القلب، وآفات الأعمال، والعلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله، كما فصلناه في كتاب العلم.
وهما علمان متنافيان، أعني أن من صرف عنايته إلى أحدهما، حتى تعمق فيه؛ قصرت بصيرته عن الآخر على الأكثر؛ ولذلك ضرب علي – رضي الله عنه – للدنيا والآخرة ثلاثة أمثلة، فقال: هما ككفتَي الميزان، وكالمشرق والمغرب، وكالضرَّتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.
ولذلك ترى الأكياس في أمور الدنيا، وفي علم الطب والحساب والهندسة والفلسفة جُهَّالًا في أمور الآخرة، والأكياس في دقائق علوم الآخرة جُهَّالًا في أكثر علوم الدنيا؛ لأن قوة العقل لا تفي بالأمرين جميعًا في الغالب؛ فيكون أحدهما مانعًا من الكمال في الثاني؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: إن أكثر أهل الجنة البله!!» ([11]).
لذا لا يجتمع في قلب مؤمن – في نظر بعض الفقهاء – القرآن والغناء، حتى أن علَّامة حضرموت ومفتيها ابن عبيد الله السقاف لما حضر عرسًا في الشحر سنة (1322هـ)، وكان هناك مغنٍ يغني بالعود، لم يطمئن ابن عبيد الله للحضور والسماع إلا بعد إلحاح عمِّه عليه، وتأمينه سخط والده ومعتبته ([12]) .
وكان العلامة ابن دقيق العيد في صباه يلعب الشطرنج مع زوج أخته الشيخ تقي الدين ابن الشيخ ضياء الدين، فَأُذِنَ بالعشاء؛ فقاما فصلَّيا، ثم قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: أما تعود؟ فقال صهره:
إن عادت العقربُ عدنا لها وكانت النعلُ لها حاضرهْ
فأنف الشيخ تقي الدين من ذلك، فلم يعد يلعبها إلى أن مات([13]).
ويذكر ابن تيمية: أن جمهور الفقهاء يتنازعون في: هل يُسَّلَم على اللاعب بالشطرنج؟ وينقل عن أبي حنيفة وأحمد والمعافى بن عمران وغيرهم أنه لا يسلم عليه، ومذهب مالك وأبي يوسف ومحمد أنه يسلم عليه. ويروى أنَّ عليًّا – رضي الله عنه – مرَّ بقوم يلعبون الشطرنج، فقال لهم: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون). وقلب الرقعة ([14]).
لا حاجة لنا هنا بأن نشير بأنه عند إرادة فرض الآراء التي يراد تثبيتها يتم الاستشهاد بالأحاديث النبوية، أو بقصص عن الصحابة ذوي الفضل والعلم والمكانة؛ حتى تتسم المواضيع المتناولة بالموثوقية، وحتى تكون مقنعة وملزمة. لقد كانت الرواية مجالًا رحبًا للدس والكذب والاختلاق، ولعب الإغراق فيها – بدون تفعيل فن الدراية – في تكوين العقل العربي المسلم تكوينًا مشوَّهًا أودت به في هُوَّة التخلُّف والانحطاط.
لذا ستجد أحاديث مكذوبة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن تعلم النساء الخط، كالحديث الذي أخرجه الحاكم وصححه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عن النساء: «لا تنزلوهن الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن المغزل وسورة النور»([15]).
وكذلك الأثر الذي يروى عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، وينهى فيه عن تعلم النساء الخط([16]).
وكذلك الحديث الوارد في مسند أحمد بن حنبل عن أبي هريرة، يزدري فيه البربر، قال: «جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أين أنت؟ قال بربري. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم عنِّي. قال بمرفقه هكذا، فلما قام عنه، أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الإيمان لا يجاوز حناجرهم!!»([17]).
هذه الأحاديث شوَّهت محاسن الإسلام، وأساءت إليه، وصدت الناس عنه، وصورته دينًا عنصريًّا قاسيًا متخلِّـفًا. هذا مع أن ثلثي الجيش الداخل إلى الأندلس كان من البربر، وعلى رأسهم طارق بن زياد، وقد مر بك ما روي عن علي – رضي الله عنه – بشأن الشطرنج.
وحين يقارن ابن تيمية بين الشطرنج والنرد، يذهب إلى أن الشطرنج شرٌّ من النرد؛ ويرجّح قوله بأن الشطرنج على مذهب القدر – الاختيار -، والنرد على مذهب الجبر، واشتغال القلب بالتفكير في الشطرنج أكثر([18]).
ليس عليك إلا أن تمعن النظر في هذا القول، لتعلم أن اللعبة التي تقوم على حريَّة الاختيار، وعلى العقل وتقليب النظر والفكر شر – في نظر ابن تيمية – من اللعبة التي ليس فيها إلا الحظ والحتمية التي تفرض نفسها على مسار اللعبة، وليس للاعبين فيها من خيار أو تحكم في النتائج.
ولما بنيت المدارس ببغداد، وخصصت رواتب للمعلمين، وأجريت على المتعلمين جرايات حسنة تشجعهم على العلم، وهي – في الأخير- لا تدرس إلا تلك العلوم التي يدرسها الفقهاء – لم يرق ذلك لعلماء ما وراء النهر، وقالوا: «كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به؛ فيأتون علماء ينتفع بهم، وبعلمهم، ولكن العلم إذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل»([19]).
أما التعصب ضد المذاهب الأخرى، فالحديث عنه طويل لا تكاد تحيط بأطرافه وذيوله؛ فالشافعي قد قيل: إن سبب موته أنه ناظر رجلًا من أصحاب مالك اسمه فينان، فناظره في عتق المرهون، فقال: بنفوذ العتق، ومنع البيع، وقال الشافعي بعدم نفوذ العتق، وأنه يباع، كما هو أحد أقواله، فاستظهر عليه الشافعي بالحجاج؛ فأساء فينان عليه الأدب، ثم إن جماعة من السفهاء رصدوا حلقة الشافعي حتى خلت، فدخلوا عليه، فضربوه ضربًا شديدًا، فحمل إلى منزله حتى مات([20]).
أما أبو حنيفة صاحب مدرسة الرأي التي لم يسغها أهل الحديث ولا متعصبة الفقهاء؛ فقد ناله من الأذيَّة والتجريح والتكفير في كتب المحدِّثين وأهل الجرح والتعديل الشيء الكثير.
لم يكن التوجس من إعمال أبي حنيفة العقل والرأي في فهم الشرع فقط، وإنما بلغ بهم الطعن به أنه من بقايا السبي الإسلامي.
يروي الخطيب البغدادي عن سفيان أنه قال: «لم يزل أمر الناس معتدلًا حتى غَيَّرَ ذلك أبو حنيفة بالكوفة، وعثمان البتي بالبصرة، وربيعة بن أبي عبد الرحمن بالمدينة؛ فنظرنا، فوجدناهم من أبناء سبايا الأمم»([21]).
وكأنَّ هؤلاء لم تكفهم مصيبة السبي التي نالتهم، ونالت آباءهم وأمهاتهم من قبلهم، حتى صاروا يُعَيَّرون بسبب ذلك، وظلت وصمة تلازمهم طول حياتهم.
يُروَى أن نافع بن جبير بن مطعم قدَّم رجلًا من الموالي – من أبناء سبايا الأمم بحسب تعبيرهم – يصلِّي به، فقالوا له في ذلك، فقال: إنما أردت أن أتواضع لله بالصلاة خلفه!!([22]).
إنه لمن المؤسف أن رسائل علمية حضرت في الوطن العربي تناقش ظاهرة الشعوبية، فصنفت الشعوبية على أنها حركة حاقدة على العرب ([23])، ولم تقف على جذر المشكلة التي جعلت من العنصر غير العربي ينظر بكراهية للعرب، وما ذلك إلا رد فعل طبيعي إزاء العنصرية العربية تجاه هذه الشعوب التي انضوت تحت راية الإسلام طوعًا وكرهًا.
وللتحذير من الرأي، والدعوة للتمسك الشديد بالأثر يروي الخطيب البغدادي أيضًا عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه قال: «كان الأمر في بني إسرائيل مستقيمًا حتى نشأ فيهم أبناء سبايا الأمم؛ فقالوا بالرأي؛ فهلكوا وأهلكوا»([24]).
لقد تناسى هذا النص كل ما قد اقترفه بنو إسرائيل، وحمل أبناء السبايا وحدهم سبب ضلالهم وهلاكهم!
لا أظن أنه سيدور بخلد أحد أن إنسانًا قد يُهجَّر قسرًا من بلدته؛ لأجل عدم التزامه الإسرار بالبسملة في الصلاة، كما حصل مع الحسن بن خالد الحازمي الذي طرد العلامة محمد بن مهدي الضمدي الحماطي من قريته الشقيري لعدم التزامه بذلك([25]).
ولا فرق بين هذا الوزير([26]) الفقيه المحدِّث المتعصِّب، وبين الملك المستبدِّ المنصور عمر بن علي بن رسول حين سأل العلامة أبا بكر بن ناصر بيع كتبه، فامتنع، فقال له: فتخرج من بلادنا! فقال: نعم، وخرج من مجلسه، وكان الأمير شمس الدين علي بن يحيى العنسي موجودًا؛ فقال للسلطان: الله الله! رجل علامة عصره تأمره أن يخرج من بلدك، ومثله يطلب من أقاصي البلاد. قال: فما وجد لنا جوابًا إلا قول «لا». قال: يا مولانا إن أشق الأمور على الفقيه أخذ كتبه، فرأى أنك سألته أمراً عظيمًا؛ فأجاب بأشق جواب، فأمر السلطان برده([27]).
لقد وقفت هذه الطائفة المتعصبة ضد كل ما يعمر الحياة، ويسهم في تطورها وازدهارها. فقد وقفت ضد المرأة، وضد العلوم الطبيعية كالطب والرياضيات والهندسة والفلسفة، وتعصبت ضد الأعراق الأخرى.
يذكر الطبري في تفسيره (جامع البيان) عند قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) أنَّ عامة أهل التأويل يذهبون إلى أنهم النساء والأطفال؛ لضعف آرائهم، وقلة معرفتهم بمواضع المصالح والمضار التي تصرف إليها الأموال([28])، ونقل عن بعضهم أن المقصود بالآية النساء وحدهن، سواء كُنَّ أمهات أو زوجات أو بنات، ونقل عن الضحاك قوله: إن المرأة أسفه السفهاء([29])؛ أي أنها أسفه حتى من الطفل الصغير.
لكن الإمام ابن جرير خالف هذا الرأي فقال: والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه عم بقوله: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ)، فلم يخصص سفيهًا دون سفيه. فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيهًا ماله، صبيًا صغيرًا كان أو رجلًا كبيرًا، ذكرًا كان أو أنثى([30]).
أما علم الطب، فيذكر العلامة الجليل النووي – رحمه الله – أنه: خطر له الاشتغال بعلم الطب؛ فاشترى كتاب القانون لابن سينا، وعزم على الاشتغال به، فأظلم قلبه، وبقي أيامًا لا يقدر على الاشتغال بشيء، ثم فكر في أمره، ومن أين دخل عليه الداخل؟ فألهمه الله أن سببه اشتغاله بالطب، فباع القانون في الحال؛ فاستنار قلبه ([31]).
وهذا شبيه بما ذكره القاضي التنوخي في (نشوار المحاضرة)، عن القاضي أبي بكر محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن مروان، «قال: حدثني خالي محمد بن هارون، قال: قال لي بعض أصحابنا: كنت في بعض الليالي أنظر في كتاب التشريح لجالينوس، فغلبتني عيني، فرأيت هاتفاً يهتف بي، ويقرأ: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا). فاستيقظت، ومزقت الكتاب»([32]).
لقد أهمل المسلمون علم الطب بصرف الفقهاء الناس عنه؛ فبادر إلى درسه وتعلمه والتبريز فيه النصارى واليهود، ونالوا به مرتبة كبيرة في قصور الخلافة الأموية والعباسية والفاطمية. ومع ذلك فإن بعض المتعصبين يرى أنَّ هذا العلم صار مهانًا حين تعاطاه اليهود، فلم يشرفوا به، بل رذل العلم بهم! ([33]).
وهذا العلامة الكبير كمال الدين ابن يونس الشافعي يذكر ابن خلكان: إنه يدري أربعة وعشرين فنًّا دراية متقنة، فمن ذلك مذهب الشافعي، وكان جماعة من الطائفة الحنفية يشتغلون عليه بمذهبهم، وكان يتقن أصول الفقه وأصول الدين. وكان بارعًا في فن الحكمة: المنطق، والطبيعي، والإلهي، وكذلك الطب، ويعرف فنون الرياضة من اقليدس، والهيئة، والجبر والمقابلة، والموسيقى، والمساحة، وكان ماهرًا في العربية والتصريف، وكان له في التفسير، والحديث، وأسماء الرجال يدٌ جيدة، وكان يحفظ من التواريخ وأيام العرب ووقائعهم، والأشعار والمحاضرات شيئًا كثيرًا. وكان أهل الذمة يقرؤون عليه التوراة والإنجيل، ويشرح لهم هذين الكتابين، فيعترفون أنهم لا يجدون من يوضحهما لهم مثله.
وذكر أن ابن الصلاح – الفقيه الشافعي المعروف – سأله أن يقرأ عليه شيئًا من المنطق سرًّا، فأجابه إلى ذلك، وتردَّد إليه مُدَّة؛ فلم يُفتح عليه فيه بشيء، فقال له: يا فقيه، المصلحة عندي أن تترك الاشتغال بهذا الفن، فقال له: ولم ذاك يا مولانا؟! فقال: لأن الناس يعتقدون فيك الخير، وهم ينسبون كل من اشتغل بهذا الفن إلى فساد الاعتقاد، فكأنك تفسد عقائدهم فيك، ولا يحصل لك من هذا الفن شيء؛ فقبل إشارته وترك قراءته. ثم بعد ذلك نجد أن ابن الصلاح أفتى بحرمة الاشتغال بعلم المنطق، فما عدا مما بدا؟!
ويُذكر أنَّ ابن يونس- سامحه الله – بحسب تعبير ابن خلكان – كان يُتَّهم في دينه؛ بسبب غلبة العلوم العقلية عليه، حتى لقد قال العماد أبو علي عمر بن عبد النور في ذلك:
أجِدَّكَ أن قد جادَ بعد التعبُّسِ غزالٌ بوصلٍ لي وأصبح مؤنسي([34])
وعاطيته صهباءَ مِنْ فيه مزجها كرقة شعري أو كدينِ ابن يونسِ([35])
ولما قدم العلامة الأصولي المنطقي الزكي بن الحسن البيلقاني إلى عدن، وقد كان مبرِّزًا في الفقه والأصول والمنطق والمواريث والحساب؛ فقد كان قرأ على الإمام فخر الدين الرازي، وكان ممن درس على البيلقاني قاضي عدن محمد بن أسعد العنسي – درس عليه وجيز الغزالي، وعندما شرع البيلقاني تدريس الأصول والمنطق، أنكر عليه قاضي عدن ذلك؛ لأن الغالب على الفقهاء باليمن عدم الاشتغال بالمنطق خاصة، وقليلًا ما يشتغلون بالأصول، ولم يلبث أن تفاقم الشر بين الاثنين؛ فدسَّ القاضي من جهته من يحرج البيلقاني في مجلس الدرس، فكتب البيلقاني إلى السلطان المظفر يشكو قاضي عدن، فلما وصل كتابه ناوله المظفر القاضي بهاء الدين، وقال له: قف على هذا الكتاب. فلما وقف عليه، قال: يا مولانا هذا رجل جاء بشيء لا يحكمه أهل اليمن، ولا يعرفونه، ومتى سمعوه أنكروه، ونسبوا صاحبه إلى الخروج عن الدين ([36]).
وذكر الجندي في (السلوك) أن العلَّامتين المقدسي وابن البابه كانا يخوضان في علم الكلام؛ فأثارا سخط الفقهاء في تعز، وتمالأوا على قتلهما، ونسبا بذلك إلى الكفر والزندقة ([37]).
وذكر المراكشي في (المعجب) عن علي بن يوسف بن تاشفين أنه: لم يكن يقرب منه، ويحظى عنده إلا من علمَ علم الفروع (فروع مذهب مالك)؛ فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب، وعمل بمقتضاها، ونبذ ما سواها، وكثر ذلك؛ حتى نسي النظر في كتاب الله، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد من مشاهير أهل ذلك الزمان يعتني بهما كل الاعتناء، ودان أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شيء من علوم الكلام، وقرر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح علم الكلام، وكراهة السلف له، وهجرهم من ظهر عليه شيء منه، وأنه بدعة في الدين، وربما أدى أكثره إلى اختلال في العقائد؛ حتى استحكم في نفسه بغض علم الكلام وأهله، فكان يكتب عنه في كل وقت إلى البلاد بالتشديد في نبذ الخوض في شيء منه، وتوعد من وجد عنده شيء من كتبه، ولما دخلت كتب أبي حامد الغزالي- رحمه الله – المغرب أمر أمير المسلمين بإحراقها، وتقدم بالوعيد الشديد من سفك الدم، واستئصال المال إلى من وجد عنده شيء منها([38]).
أما الفلسفة فقد كُفِّر أصحابها ابتداءً من الفارابي وابن سينا الذين كفرهم الغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال)، مروراً بالكندي، وابن رشد الأندلسي الذي يقول فيه أحد الفقهاء:
لم تلزم الرشد يابن رشدٍ لما علا في الزمان جَدُّكْ
وكنت في الدين ذا رياءٍ ما هكذا كان فيه جَدُّكْ
لقد نظر الفقهاء وبعض المتكلمين للفلسفة بتعالٍ وازدراء، فنرى عالمًا متكلمًا كبيرًا كابن أبي الحديد يخاطب الفلاسفة فيقول:
فلتخسأ الحكماء عن حرم له الأفلاك سجدْ
من أنت يارسطو؟! ومن أفلاط قبلك يا مبلدْ؟!
ومن ابن سينا حين قر ر مابنيتَ له وشيدْ؟!
هل أنتمُ إلا الفرا ش رأى الشهاب وقد توقدْ
فدنا وأحرق نفسه ولو اهتدى رشداً لأبعدْ([39])
وعندما ترجم ابن خلكان لابن سينا نجده يتهمه أنه بعد معالجته للأمير نوح بن نصر صاحب خراسان، واطلاعه على مكتبته عديمة النظير، قام بحرقها، بعد أن حصل نخب فوائدها، واطلع على أكثر علومها؛ لينفرد بمعرفة ما حصله منها، وينسبها إلى نفسه([40]).
ويقول اليافعي: إنه طالع كتاب الشفاء، فلم يره إلا جديرًا بقلب الفاء قافًا – أي الشقاء -، وأنه رأى كثيره مشتملًا على فلسفة لا ينشرح لها صدر متدين. وذكر عن الشيخ شهاب الدين السهروردي – رحمه الله – أنه غسل كتابه الموسوم بالشفاء بإشارة قدسية نبوية! ([41]).
وينقل عن كمال الدين بن يونس أن ابن سينا مات في سجن مخدومه، وإنشاده عنه هذين البيتين([42]):
رأيت ابن سينا يعادي الرجالْ وفي السجن مات أخس المماتْ
فلم يشف ما نابه بالشفاء ولم ينج من موته بالنجاةْ
ومع أن من المفترض أن المصائب تجمع المصابين، ورغم أن ابن يونس رمي بقلة الدين؛ لاشتغاله بالعلوم العقلية، فإنَّه لم يسلم منه ابن سينا، ورحم الله ابن شهاب حين قال:
في البرايا وخلقهم أطوارا حكمةٌ تتركُ العقولَ حيارى([43]).
وفي ترجمة الإخوة محمد، وأحمد، والحسن أبناء موسى يذكر اليافعي أن لهم هممًا عالية في تحصيل العلوم القديمة وكتب الأوائل، وأنهم أتعبوا أنفسهم في شأنها([44]).
ويذكر المؤرخون اليمنيون أنه لما قدم البيلقاني الأنصاري إلى عدن، وكان عالمًا متفنِّـنًا، علم السلطان الملك المظفر بقدومه؛ فأمر بتجهيزه إلى حضرته، فلما حضر أراد السلطان أن يقرأ عليه شيئًا من المنطق، فاستشار ابن دعاس، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: البلاء موكل بالمنطق؛ فتطير السلطان من قوله، وقال: لقد حلت بيننا وبين الانتفاع به يا شيطان([45]).
وفي أبيات للعلامة الشاعر أبي بكر بن قسوم ينصح أحد خلفاء الأندلس:
قد قلت قولاً للخليفة ناصحاً قول المحقق والنصيح المشفقِ
لا تصحبنْ ما عشتَ قارئ منطقٍ إن البلاء موكل بالمنطقِ([46]).
وذكر السبكي أن السلطان علي بن يوسف بن تاشفين خُيِّل إليه لما دخلت مصنفات الغزالي إلى المغرب أنها مشتملة على الفلسفة المحضة، وكان المذكور يكره هذه العلوم؛ فأمر بإحراق كتب الغزالي، وتوعَّد بالقتل من وجد عنده شيء منها([47]).
وقال في طبقاته: «وفى كتب المتقدمين جرح جماعة بالفلسفة ظنـًّـا منهم أن علم الكلام فلسفة. إلى أمثال ذلك مما يطول عده. فقد قيل في أحمد بن صالح الذي نحن في ترجمته: إنه يتفلسف. والذي قال هذا لا يعرف الفلسفة، وكذلك قيل في أبى حاتم الرازي، وإنما كان رجلا متكلمًا»([48]).
ويخطئ القاضي جعفر بن عبد السلام المطرفية الذين ذهبوا إلى أن المطر هو بخار مياه البحار تحمله الرياح إلى السماء، فتنزله السحاب على الأرض مطرًا، ويذهب إلى أنه قول مخالف لصريح القرآن، ولما وردت به الأخبار عن النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام، ولما تقرَّر من مذهب الأئمة الكرام، ولما عليه أهل التحصيل من علماء الإسلام. ثم يختم هذا الاستنكار بقوله: «ولا شك أن من خالف ذلك كله؛ فقد خسر خسرانًا مبينًا!»([49]).
ويستشهد القاضي جعفر بآيات من القرآن، ويقول إن هناك بضعًا وعشرين آية تقول: إن المطر ينزل من السماء، وليس من السحاب، وأنه لا يجوز لمسلم مخالفة ذلك؛ لأنه عناد بصريح القرآن!([50]).
وليس في ظاهر الآيات، ولا قواعد اللغة ما يمنع من إطلاق السماء على السحاب مجازًا عقليًّا؛ لأن السحاب كائن في السماء، وهذا كقولك: ازدحمت طرقات المدينة، وإنما يزدحم الناس الذين فيها.
هذا إذا سلم له كلامه، وأنَّى له ذلك، وفي القرآن تصريح بإنزال المطر من السحب،
قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ). [الواقعة: 69]. والمزن هو السحاب، واحدتها مزنة.
وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ)؛ أي الثقال بالمطر.
وقال تعالى: (فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا)، وهي السحاب تحمل المطر. قال البغوي في تفسير هذه الآية: “يعني السحاب تحمل ثقلًا من الماء”([51]).
وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ). [الروم: 42].
وقال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ). [النور: 43].
قال البغوي في تفسيره: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي)؛ يعني: يسوق بأمره، (سَحَابًا) إلى حيث يريد، (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ)؛ أي: بجمع بين قطع السحاب المتفرقة بعضها إلى بعض، (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا)؛ متراكمًا بعضه فوق بعض، (فَتَرَى الْوَدْقَ)؛ يعني المطر، (يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ)؛ وسطه، وهو جمع الخلل، كالجبال جمع الجبل([52]).
لقد جعل القاضي جعفر القرآن، والنبي عليه الصلاة والسلام، والأئمة الكرام في جهة مضادة يضرب بها وجه الحقائق التي أثبتها وأكدها العلم، وأخبر بها القرآن.
أما الشوكاني في كتابه (أدب الطلب)، فيتحسر أنه لم يتمكن من إنفاذ أحكامه بإراقة دماء من اختلف معهم، فحكم بكفرهم وزندقتهم، ويتأسف على عدم اعتياد اليمن على سفك دماء من يصفهم بالمتزندقين كما كان شائعاً في البلاد الشامية والرومية والمصرية والمغربية([53]). ولا شك في أن رد فعل الشوكاني تجاه من تعصبوا ضده كان له الأثر الكبير في تكوين هذه الرؤية الحادة والمتشددة.
وإذا كان الشوكاني معذورًا في الأولى، فما عذره في الثانية؟!؛ إذ إنه يرى أن العلم لا يصلح في مَنْ يصفهم بـ«سقط المتاع، وسفاسف أهل المهن، كأهل الحياكة، والعصارة، والقضابة، ونحو ذلك من المهن الدنية والحرف الوضيعة» بحسب تعبيره([54])، ويشبه تعليم أبناء هذه الفئات الاجتماعية من أصحاب الحرف والمهن التقليدية بتقليد الخنزير الجوهر([55]).
وهنا يستشهد الشوكاني بحديث ينسب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لتعلم كيف أثَّرَ النقل على العقل، ووجه مساره في كافة شئون الحياة.
ويذكر الجندي عن الفقيه أبو بكر ابن الإمام جعفر بن عبد الرحيم المحابي أنه متى وصله طالب سأله عن حسبه ونسبه؛ فإن وجده ذا أصل لائق أقرأه وأمره بالاجتهاد، وإن لم يكن ذا أصل صرفه عن الطلب ولم يقرئه ([56])، وهذا بخلافِ ما يروى عن العلامة زيد بن عبد الله اليفاعي الذي كان يقرئ كل من أراد القراءة، ولا يسأل عن نسبه وحسبه ومنصبه([57]).
أما الفقيه طاوس بن كيسان اليماني، فكان لا يأكل من ذبيحة الزنجي، ويقول: إنه عبد مشوَّه الخلقة، وكذلك كان الملك العباسي الراضي بالله ابن المقتدر بالله لا يتناول شيئًا من أسود، ويقول: إنه عبد مشوَّه الخِلقة([58]). فتأمل توافق الفقيه، والسلطان في هذه الأهواء.
أما التعصب ضد الأقليات الدينية، فيذكر الخزرجي في (العقود اللؤلؤية) أن الفقيه أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الماربي بعد خروجه من صلاة الجمعة بذي جبلة صادف في طريقه رجلًا راكبًا بغلة حسنة، ومعه عدَّة غلمان؛ فظنه وزيرًا أو قاضيًا أو بعض الكبراء من غلمان الدولة. فسأل الفقيه عن صاحب البغلة حين قابله، فقيل له: هذا طبيب يهودي يخدم السلطان في هذه الوظيفة؛ فانقضَّ عليه الفقيه، واجتذبه من البغلة التي هو عليها، وألقاه على الأرض، وخلع نعله، وضربه ضربًا موجعًا شديدًا، وجعل يقول: يا عدو الله وعدو رسوله لقد تعدَّيتَ طورَك، وخرجتَ عن واجب الشرع؛ فينبغي إهانتك، ثم تركه وقد بلغ منه مبلغًا؛ فقام اليهودي ورجع إلى باب السلطان، وهو يستغيث، فقيل له: من خصمك؟ فقال: الفقيه محمد الماربي، فأرسل السلطان نور الدين عمر بن علي بن رسول رسولًا يسأله عن القصة، فلما جاء الرسول، قال له الفقيه: سلم على مولانا السلطان، وعرفه أنه لا يحل له أن يترك اليهود يركبون البغال بالسروج، ولا يحل لهم أن يترأسوا على المسلمين، ومتى فعلوا هذا؛ فقد خرجوا عن ذمة الإسلام. فرجع الرسول بالجواب إلى السلطان؛ فلما سمع السلطان ذلك قال لليهودي: تقدم مع الرسول إلى الفقيه؛ ليعرفك ما يجب عليك من الشرع فتفعله، ثم قال للرسول: قل للفقيه: يسلم عليك السلطان، ويجب أن تعرف هذا اليهودي ما يجب عليه في الشرع، ومتى جاوزه؛ فقد برئ من الذمَّة. فقال له الفقيه: يجب عليك كذا وكذا، ولا تفعل إلا ما هو كذا وكذا، ومتى تعديت وجب عليك النكال، وحل دمك؛ فانصرف اليهودي، ورجع الرسول إلى السلطان، فأخبره بما كان من الأمر، فقال له: إياك أن تتعدى ما أمرك به الفقيه؛ فتقتل، ولا ينفعك أحد؛ فإن هذا حكم الله، وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم([59]).
أما القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال، فله مؤلف بعنوان (النصوص الزاهرة في إخراج اليهود الفاجرة)([60])، وللشوكاني رسالة بعنوان (حل الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال) ([61]).
ولا ندري، أي دين يقبل بمثل هذه القسوة، والأفعال المشينة التي يندى لها جبين الإنسانية، ويخجل منها أهل الفطر السليمة، والعقول المستقيمة؟!
لقد ذكر العلامة ابن خلدون في مقدمته: أن العلماء – من بين البشر – أبعد عن السياسة ومذاهبها، لكن يبدو أن عدداً غير قليل منهم بعيدون أيضاً عن أشياء كثيرة – عن حقيقة الدين، والإنسانية، بل عن الحياة بأسرها.
([1]) شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي: 4/139
([2]) مرآة الجنان وعبرة اليقظان، لليافعي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة:3/268.
([3]) القنادل والقناديل بمعنى واحد، وصب الزيت فيها كناية عن الرشوة.
([4]) ابن القاسم، وأشهب، وأصبغ من أعلام الفقه المالكي.
([5]) المعجب في تلخيص أخبار المغرب من لدن فتح الأندلس إلى آخر عصر الموحدين، لعبد الواحد المراكشي:1/171، تحقيق: محمد سعيد العريان، ومحمد العربي العلمي، ط1، مطبعة الاستقامة – القاهرة، 1368هـ.
([6]) طبقات فقهاء اليمن، لعمر بن علي بن سمرة الجعدي، تحقيق فؤاد سيد، ص179.
([7]) الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، لابن حجر العسقلاني: 3/74.
([8]) الرد على ابن عقيل الحنبلي، لابن قدامة المقدسي، ص17؛ والأعلام، لخير الدين الزركلي: 4/313.
([9]) تيارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري، د. علي محمد زيد، ص188.
([10]) تاريخ اليمن الفكري في العصر العباسي، لأحمد بن محمد الشامي:3/144. لكن المؤرخ المطهر الجرموزي في سيرة المتوكل على الله: 1/ 284: يقول أن السبية من المحالب، وهي أم ولده الحسن. ولعلها حادثتان مختلفتان؛ فقد كان للرجل غزوات كثيرة ليس غزوتا المحالب والمهجم إلا بعضًا منها.
([12]) بلابل التغريد فيما أفدناه أيام التجريد، لابن عبيد الله السقاف: جزء أول، ورقة144.
([13]) حياة الحيوان الكبرى، لكمال الدين الدميري: 2/ 143-144.
([14])انظر مجموع فتاوى ابن تيمية: 25/92.
([15]) أخرج الحاكم في المستدرك: 2/430،
([16]) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية: 25/171.
([17]) المسند، لأحمد بن حنبل: 2/367.
([18]) مجموع فتاوى ابن تيمية (مصدر سبق ذكره): 32/220.
([19]) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة: 1/ 22.
([20]) تحفة الزمن في تاريخ سادات اليمن، لحسين بن عبد الرحمن الأهدل، تحقيق عبد الله محمد الحبشي: 1/113.
([21]) تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي: 13/414.
([22]) العقد الفريد، لابن عبد ربه: 3/377.
([23]) انظر على سبيل المثال أطروحة دكتوراه بعنوان الشعوبية والأدب: أبعاد ومضمونات، د. خليل جفال، دار النضال، بيروت، ط1، 1986، ص409.
([25]) نيل الوطر، لزبارة: 2/318-320.
([26]) كان الحسن بن خالد وزيراً للشريف حمود بن محمد، وكان الشريف حمود لا يصدر ولا يورد إلا برأيه. وقد آل أمره إلى القتل برصاص الأتراك بعد مواجهات معهم في السراة في العام 1234هـ. لقد جمع الحسن بن خالد في يديه السلطتين: الدينية؛ فهو فقيه ومحدث، والسياسية؛ وهي الوزارة؛ وهو بهذا يكون قد جمع الشر كله.
([27]) السلوك في طبقات العلماء والملوك، لبهاء الدين الجندي، تحقيق محمد بن علي الأكوع:1/ 466.
([28]) جامع البيان في تفسير القرآن، لمحمد بن جرير الطبري: 1/128.
([31]) طبقات الشافعية، لأبي بكر بن أحمد ابن قاضي شهبة، تحقيق د. الحافظ عبد الحليم خان:2/154.
([32]) نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة، للقاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي، تحقيق عبود الشالجي: 3/10.
([33]) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة:1/22.
([34]) أَجِدَّكَ وأَجَدَّكَ معناهما ما لَكَ؟ أَجِدّاً منك؟! ونصبهما على المصدر. قال الجوهري معناهما واحد، ولا يُتكلم به إِلا مضافاً. وقال الأَصمعي: أَجِدَّكَ: معناه أَبِجِدّ هذا منك. انظر: لسان العرب، لابن منظور:3/113.
([35]) وفيات الأعيان، لشمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت: 5/ 311
([36]) السلوك في طبقات العلماء والملوك، لبهاء الدين الجندي، تحقيق محمد بن علي الأكوع:2/432.
([38]) المعجب (مصدر سبق ذكره)، لعبد الواحد المراكشي :1/172.
([39]) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان: 3/197.
([41]) مرآة الجنان (مصدر سبق ذكره):3/51.
([42]) المصدر السابق:3/50؛ ووفيات الأعيان:2/158.
([43]) مطلع قصيدة رائعة للعلامة ابن شهاب رحمه الله.
([45]) العسجد المسبوك فيمن ولي من الملوك، للخزرجي، تحقيق د. مقبل التام، ص465.
([46]) تاريخ الأدب العربي، لعمر فروخ:5/724.
([49]) مقاود الإنصاف في مسائل الخلاف، تحقيق إمام حنفي عبد الله، دار الآفاق العربية، ص53-54.
([51]) معالم التنزيل، (مصدر سبق ذكره)، 7/ 388.
([52]) معالم التنزيل، لأبي محمد الحسين بن مسعود البغوي، حققه وخرج أحاديثه محمد عبد الله النمر، عثمان جمعة ضميرية، سليمان مسلم الحرش، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط4، 1417هـ- 1997م 6/ 53.
([53]) أدب الطلب، لمحمد بن علي الشوكاني، تحقيق عبد الله السريحي، ص170-171.
([55]) المصدر السابق، نفس الصفحة.
([56]) السلوك في طبقات العلماء والملوك، للجندي (مصدر سبق ذكره)، تحقيق محمد بن علي الأكوع: 1/ 282- 283.
([57]) طبقات فقهاء اليمن (مصدر سبق ذكره)، ص120.
([58]) مروج الذهب ومعادن الجوهر، للمسعودي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد: 1/ 62.
([59]) العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية، للخزرجي، عنى بتصحيحه وتنقيحه الشيخ محمد بسيوني عسل:1/66-67.
([60]) مصادر الفكر الإسلامي في اليمن، لعبد الله الحبشي:2/684.
([61]) المصدر السابق:2/884. هذا وقد رد بعض العلماء على هاتين الرسالتين في حينه.