ترجمة
د. خالد عوض بن مخاشن
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 23 .. ص 70
رابط العدد 23 : اضغط هنا
ترجمها من اللغة الألمانية إلى اللغة الإنجليزية كينث كيركنز ( Kenneth kirkness )
ترجمه من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية .. د. خالد عوض بن مخاشن
الفصل الرابع
طريق قوافل عتيقة عمرها ألف عام
توجد في الشحر ثلاثة قصور، اثنان منهما لأسرة الكاف، والثالث وهو الذي نزلنا فيه، يعود لحاكم الشحر – إنه قصر السلطان علي، وهو عبارة عن بناية طينية قديمة متناسقة غير أن أجزاءه تختلف من حيث الحجم، وفتحات نوافذها غير منتظمة. توجد أمام القصر مدافع عدَّة، محمَّلة على عربات، ويسكن الحراس – وهم خليط من العبيد السود وبعض أبناء القبائل البدوية المدجَّجين بالجنابي والسكاكين وبنادق المشاة – في رواق كبير عند مدخل ذلك القصر. رافقنا جزء كبير من هؤلاء المحاربين منذ اجتيازنا البوَّابة الأمامية وعبر السلالم الطينية الضيقة حتى أوصلونا إلى الشقق التي خُصِّصت لنا، وسرعان ما رفعوا الكلفة في التعامل، وأصبحوا على دراية تامة بما يدور في هذه الغرف، فلم يفارقونا ولو مرة واحدة خلال فترة وجودنا في الشحر.
عقب وصولنا مباشرة ولكي يخلق انطباع بالاعتياد على العيش الرغيد وحياة الترف، أرسل محمد في طلب خادمه الشخصي سيد.
الشيء الوحيد الذي رأيته يقوم به، وياليته لم يقم به، هو أخذه الأرجوحة الشبكية لصديقي، وقيامه بتثبيتها بين عتبة النافذة وإحدى العوارض الخشبية. فما أن استلقى صديقي بومورسكي على تلك الأرجوحة لينام، حتى وقع على الأرض مُحدِثًا صوت ارتطام كبير، لقد تحملت العارضة الثقل ولكن عتبة النافذة لم تتحمل لتتحطم وتهوي خارج المبنى مسببة خطرًا شديدًا لأي شخص قد يكون ماشيًا حينها تحت ذلك المبنى. أما أنا فنمت على سريري السفري، وعلى أي حال في المشرق لا يهتم أحد بسقوط منزل أو اندلاع حريق، فتراهم يردِّدون عباراتٍ، مثل: (لا عليك، لا تهتم سنعيد بناءه إن شاء الله).
أتى سيد وبدا بينه وبين محمد الجدال اليومي حول إحضار وجبات الطعام لنا من مطبخ السلطان. سيد عبد زنجباري يبلغ من العمر ستَّ عشرة سنة، وهو بالطبع ممتعظ من تحميله الأعمال كلها دون غيره، ولكنه بارع في الاحتفاظ بمصالحه، والدفع بمحمد إلى المنافسة وإظهار كل ما لديه من مواهب.
يبدو أن محمدًا لم يكن محظوظًا هذه المرة بما فيه الكفاية، ربما لأصابته أحد الأرواح الشرِّيرة. صحيح إن السلطان قد سمح له بمرافقتنا إلى الشحر ليقدِّم لنا المساعدة أثناء بقائنا هناك، غير أنه لم يسمح له بالسفر معنا إلى المناطق الداخلية، لابد وأن الجن هم من حال بينه وبين موافقة السلطان على ذلك، لذلك عقدنا صفقة مع سيد واستأجرناه مرافقًا لنا في رحلتنا.
لأسرة الكاف ممثِّلون مقيمون بشكل دائم في الشحر، يشرفون على قوافل الجمال التي يقودها البدو التابعون لهم لنقل البضائع التي يستوردونها من سنغافورة إلى تريم، وسنرحل نحن إلى المناطق الداخلية من حضرموت برفقة إحدى تلك القوافل، لكن قبائل الحموم البدوية لم تكن على علاقة جيدة مع البدو التابعين لأسرة الكاف، وقبائل الحموم هذه تسيطر على أراضٍ واسعة تمتد ما بين الشحر وتريم، وقد كان لها رأي آخر، ورفضوا السماح لنا بمغادرة المدينة. أظهرت المباحثات معهم والتي استمرت طيلة عشرة أيام أن الطريقة الوحيدة لكسب وُدِّهم وتعاونهم معنا تكمن في إعطائهم مالًا. قبل أيام قلائل مضت قام أولئك البدو أنفسهم (الحموم) بهجوم على أفراد من أسرة الكاف، وهم في طريقهم إلى تريم، فأخذوهم أسرى، ولم يخلوا سبيلهم إلا بعد أن دُفعت لهم 600 دولار. وقد سألتهم مندهشًا “دولار”؟! علمت لاحقًا أنه دولار صاحبة الجلالة (ماريا تريسا)، وهو ذلك الدولار نفسه التي دفعته هذه الإمبراطورية كتعويض إلى (فريدريك العظيم)، وبعد مرور مئة وخمسين سنة من ذلك، فلا تزال هذه العملة المعدنية – وهي ضخمة الحجم – عملة قانونية في الجنوب العربي والحبشة، ورغم أن هذا الدولار قد سُحب من التعاملات والتداولات ولم يعد يستخدم حتى في النمسا، فإنه وعلى نحو يثير الغرابة والدهشة وجد طريقة إلى هذه البلدان البعيدة، ولم تستطع أي عملة أخرى استبداله. قامت بعض الدول الصغيرة بصكِّ عملة معدنية قليلة القيمة من النحاس والفضة، وكانت العملة الفضية تسبك من معدن الفضة الموجود في دولار ماريا تريسا بعد صهره، كما استخدم دولار ماريا تريسا أيضًا في الزينة وصناعة أغماد الخناجر ومقابضها بعد أن يتم صهره، وأدَّى هذا الأمر إلى نقص في إمدادات هذه العملة، وكان يتحتم تعويض هذا النقص، فقامت وكالة الفضة البريطانية التي نُقلت إلى فينَّا بصك دولار ماريا تريسا جديدًا مطابقًا للقديم وختم بالتاريخ 1780؛ ليتم شحنه عبر ميناء تريستا ( شمال شرق إيطاليا) إلى عدن، فيقوم البنك الوطني الهندي بإرساله برفقة قوة عسكرية إلى دول جنوب الجزيرة العربية.
تتكون القافلة، التي ارتحلنا معها عبر جبال الجنوب العربي الشاهقة، من عشرين جملًا، واثني عشر حمارًا، وعشرة من البدو، وكانت الإمارة لشخص يُدعَى السيد عبد الرحمن بن شيخ الحبشي، والذي ينتمي لإحدى الأسر النبيلة في سيئون، مشينا لأيام في أراضٍ صحراوية، ثم مررنا بسهول خالية من الأشجار، تثير في النفس شعورًا بالرتابة والملل، بها قُرًى معزولة وأبراج للمراقبة، ثم صعدنا من هذه السهول عبر طرق الجمال العتيقة، والتي تتعرَّج بنا في أودية وجبال شاهقة شديدة الانحدار لتصل بنا أخيرًا إلى قمة هضبة عظيمة، تمتد في الأفق لتنحدر مرة أخرى وتتصل بالصحراء العربية الوسطى الكبرى.
ولكي نتحاشى التعرض لحرارة الشمس الرهيبة، والتي تصل إلى 106 فهرنهايت، كنا نمشي ليلًا كلما سمحت ظروف المنطقة بذلك؛ إذ يبدأ البدو بتحميل جمالهم بعد منتصف النهار مباشرة حين تكون أشعة الشمس الحارقة هابطة عموديًا، ويكون أخذ قسط من الراحة أو النوم أمرًا مستحيلًا، وتحسَّن الجوُّ قليلًا عندما ارتفعنا عن مستوى سطح البحر، ولكن المشي ليلًا عبر طرق ضيقة جوانبها شديدة الانحدار أصبح يشكل خطرًا شديدًا، مما جعل البدو أن يقرِّروا عبورَها نهارًا.
لقد أثَّر صعود الجمال لأكثر من 600 قدم فوق مستوى سطح البحر تأثيرًا واضحًا فيها، مما جعلها تمشي بخطوات مترنِّحة، لكنها أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك خطأ وعدم صحة الانطباع السائد في أوربا بأن الجمال لا تستطيع المشي إلا على الأرض المستوية، فعلى العكس تمامًا تستطيع الجمال وهي مثقلة بالأحمال أن تتدبر أمرها في أصعب الطرق الجبلية بكل أريحية وثقة.
لم يكن مشينا سريعًا ولكن خُطَى الإنسان الشرقي وخُطَى جماله مديدة مثابرة لا تكلُّ ولا تتعب، إنها تلك الخطى الواثقة المنتظمة للحضارات القديمة، والتي لا تشبه البتة خطانا القصيرة السريعة. بأقدام حافية، يمشي البدوي أيامًا متتالية مادام فيه رمق من حياة فوق رمال الصحاري الحارَّة وفوق حصى الطرق الجبلية، فتحمُّل البدوي وصلابته التي لا تُصَدَّق، هي من حافظ على تنقل البضائع بين مناطق الساحل والداخل عبر الهضبة الشاهقة رغم بدائية ذلك البدوي وخطورة البلاد.
للبدوي روحٌ مرحة على الدوام، فغالبًا ما تراه يحدو لجماله، وعند سماع الجمال ذلك الحداء تتحفَّز وتسرع في مشيتها، وفي إحدى المرات سمعْتُ بدويًّا شابًّا يحدو لجمله قائلًا:
يا بعيري ياعريض الظهر ممتلية شواك
ماشي من الجمال الثانية تحمل كماك
قدامك البير مليانه منها باتروي ظماك
لأسباب تتعلق بسلامتنا وأخرى تتعلق بإعطاء الحيوانات قسطًا من الراحة، مشينا يومين كاملين على الأقدام، وقد أرهقنا ذلك كثيرًا، أمَّا ثيابنا الخفيفة البسيطة فكانت سريعًا ما تتحوَّل الى خرق بالية. اصطاد أحد العرب ببندقيته غزالًا، ووضع جزءًا من جلد ذلك الغزال على عقب بندقيته التي بها من قبلُ شيءٌ من جلود الغزلان، وهذه عادةٌ منتشرة في الجنوب العربي، فعند اصطياد حيوان يضع من اصطاده جزءًا من جلد ذلك الحيوان على عقب بندقيته كميدالية تذكارية للصيد.
أخيرًا وصلنا إلى قمة الهضبة العظيمة، وتكشَّفتْ أبعادُها الجرداء أمام أعيننا. هذه الهضبة لا تثير الاهتمام أبدًا، بل في الواقع مُمِلَّةٌ ومُوحِشَةٌ، تثير في النفس الشعور بالحزن، وبدأت مشكلة الماء تبرز في هذا المكان الموحش، فكان علينا أن نبحث عنه، ونحمله في قرب من جلود الحيوانات، وسريعًا ما يتغير طعمة في تلك القرب التي بها من المواد الصلبة أكثر مما بها من ماء.
امتطى قائدنا السيد عبد الرحمن وبعض رجاله ظهور حميرهم، وبدأوا البحث عن آبار مياه، ومكان مناسب لنخيِّم فيه، وبعد ذلك أخذوا يَعُدُّونَ تلك الوجبة المألوفة (الأرز واللخم)، وكان قليلًا ما يحالفنا الحظ في الحصول على ظل شجرة أو ظل جرف صخري يقينا حرارة الشمس الرهيبة، وفي أوقات نكون محظوظين ونجد بدوًا رُعَاةَ غنمٍ فنشتري منهم خروفًا بخمسة أو ستة دولارات. إعداد الوليمة البدوية يستلزم مشاركة الجميع، فبينما البعض يذهب لإحضار الحطب، يتكفل البعض الآخر بتوفير الماء، بعد ذلك يُذبح الخروف ويُعلق بشجرة ويُسلخ جلده ويُفرش على الأرض ليوضع فوقه اللحم، ثم يقسم إلى أقسام متساوية حسب عدد الحاضرين، ثم تتم القرعة على هذه الأقسام المتساوية؛ ليأخذ كل رجل نصيبه من اللحم إلى النار الـمُـعَدَّة للشَّيِّ، وعادةً ما يؤكل اللحم وهو غير مكتمل النضج.
إن بدو الجنوب العربي، أو في الأقل أولئك الذين التقينا بهم في أسفارنا، يختلفون عن بدو العرب الذين صوَّرهم الأوربيون، فهم ليسوا طوالًا، وليس لهم تلك الأجسام المهيبة التي ترتدي الثياب الفضفاضة، فهم قصار القامة، ولكن لهم أجساد بديعة ورائعة، وغالبهم سُمْرُ البشرة، وينحدرون من قبائل، بعضها كبيرة وأخرى صغيرة ترفض بصرامة التزاوج البيني، وبما أنهم ينحدرون مباشرة من صحابة الرسول وأتباعهم المحاربين فإنهم يعدُّون أنفسهم من الطبقة الارستقراطية.
تُولِي هذه القبائل – وقد تعرفت على أربعين قبيلة منها – اهتمامًا بالغًا بالعادات والأعراف القديمة، ولكنها لا تمارس الطقوس الدينية كثيرًا، فهم نادرًا ما يُصَلُّون؛ لأن اكثرهم لم يذهبوا إلى المدارس، ولا يعرفون قراءة قرآنهم، كما أنهم لا يكترثون بالمفاهيم النبوية، ولا يصومون رمضان، والعهود التي يقطعونها على أنفسهم لا تأخذ قداستها من التزام أخلاقي وإنما من الخوف من أن تنبذ القبيلةُ مَنْ لم يفِ بعهده، ولهذا السبب فهم يُؤتمنون على نقل البضائع الثمينة إلى حضرموت الداخل، كما أنهم يُلزِمُون أنفسهم بحماية كل مسافر يرتحل معهم.
هناك تفاوت في المنزلة والأهمية لكل قبيلة من هذه القبائل فالسادة، أهم من يقطن المدن، هم رؤساء البدو وقد دخلوا في تحالفات مع بعض القبائل البدوية التي تقوم بمساعدتهم في أوقات الحروب وتدين لهم بالولاء المطلق وبدون أي مقابل مادي؛ إذ يتم قرع طبول الحرب الكبيرة، التي تسمع من مسافات بعيدة، لاستدعاء القبائل المسلحة للحرب. أهم تلك القبائل هي القبائل التي تتخذ من الشحر وما حولها من المناطق المجاورة معاقل لها، سلاح معظم أفراد هذه القبائل الخناجر المعقوفة أو الجنابي، والبعض منهم يحمل زيادة على هذه الجنابي سيوفًا معقوفة، تتدلَّى من أكتافهم. وتليها منزلة قبائل أخرى تسمى قبائل الجبال، وأفرادها يحملون البنادق وهي غالبًا بنادق الميازر الألمانية، غير أن البنادق الفرنسية القديمة (الهطف) لازال البعض يحملها. يُوضع الرصاص في أحزمة (مسابت)، تُربط في الخصر، وعادة ما يستخدمون الرصاص البريطاني المسمى (دمدم). بعد هؤلاء تأتي الطبقات الأقل مكانةً وهم الجعلى جمع جعيل والمزارعون، والذي يُقال عنهم بأنهم خدم للبدو، وإضافة إلى هؤلاء الخدم، يمتلك البدوُ عبيدًا، يقومون بتسليحهم بالخناجر والبنادق.
يلبس بدو الجنوب العربي من مختلف القبائل لبسًا بسيطًا، عبارة عن إزار فوق السرة (قطعة فماش صغيرة تسمى مقطب)، ويستثنى منهم جنود السلطان، الذين يرتدون الجاكيت أو السترة مع عمامة تُوضع على الرأس. يترك البدوي شعر رأسه الطويل يتدلى، والشباب منهم يحلقون شعر مقدمة الجمجمة، فيجعلهم هذ النمط من الحلاقة إضافة إلى أنوفهم المعقوفة يبدون وكأنهم هنود حمر.
على الرغم من شدة سواد بشرة البدو فإن ملامحهم ليست زنجية البتة، فلون أكُفِّ الزنوج وأقدامهم فاتح، في حين لون الكفين والقدمين عند بدو الجنوب العربي أسود، كما أن لون عيني البدوي أسود عمومًا وله حواجب لوزية الشكل، ويسود البدو جواف أعينهم بمسحوق أسود (كحل)، وهذه الظاهرة سائدة في أنحاء الجزيرة العربية جميعها. تورث الصحراء ساكنيها دماثة الخلق والقسوة والجلافة أيضًا، فتجعل منهم رجالًا حديديين، عند تعرض القافلة لعاصفة رملية أو لهجوم من قبيلة معادية أو تعرضها لأي نوع من المخاطر، لا يفكر بدو القافلة في سلامتهم الشخصية وإنما يفكرون في المصلحة العامة للقافلة وكيفية حمايتها، فهم مختلفون تمامًا عن الجماعات المتحضِّرة، فحين يداهم الخطر أفراد الجماعات المتحضرة ينتابهم الرعب والهلع، ويفكر كل واحد منهم فقط في كيفية إنقاذ نفسه، وهذا الأمر ليس من شيم بدو الصحراء؛ إذ ترى البدوي يومئ لرفيقه العطشان أن يشرب آخر قطرة مما لديه من ماء، غيرَ مُبَالٍ بأي شيء، والنهر على مرمى حجر منه، ولكن في الوقت نفسه تجعل الصحراء قاطنيها شرسين، سريعي الانفعال والغضب، فكلما طالت مدة السفر. تبدأ المشاجرات الصغيرة فيما بينهم وأحيانًا تنتهي هذه المشاجرات باشتباك بالجنابي.
انتهى اليوم السادس من رحلتنا بمشكلة؛ فقد خيَّمْنا بالقرب من جانب وادٍ شديد الانحدار لنمضي الليلة هناك، يسمى ذلك الوادي غير المأهول وادي (حرو)، ويوجد به بعض الرعاة من البدو الرُّحَّل، ينتمون لقبيلة (بيت قرزات)، وكانت تلك الليلة باردة جدًا، جعلتْنا نرتعش تحت البطانيات، وجعلت البدو المرافقين لنا يتجمَّعون حول النار، لكن للبدو قدرة على تحمل البرد والحرارة أيضًا، فتراهم ينامون على الأرض بلا غطاء وعليهم من الثياب ما يستر عورتهم فقط، كما أنهم لا يستخدمون الخيام أو في الأقل لم أشاهد أي خيمة لهم.
في الصباح اكتشفنا أن بعض جمالنا التي تُرِكَتْ ترعى في الجوار خلال الليل لم تكن موجودة. أخَّر البحث الطويل عن تلك الجمال الضائعة موعد انطلاقنا، وقد ألقى أحد البدو من قبائل تميم، والذي تعود له الجمال، باللَّوم على أحد العبيد مُتَّهِمًا إيَّاه بالتسبب في ضياع الجمال، وفي نوبة غضب أوسع ذلك العبد ضربًا بعقب بندقيته وكاد يقتله. تُرك ذلك العبد البائس مُلقًى على الأرض مضرَّجًا في دمائه، محطَّمةً أسنانُه، وكنا نسمع بكاءَه وأنينه حتى بعد أن ابتعدنا عنه مواصلين رحلتنا. لم نستطع ولم نجرُؤْ على التدخُّل لإنقاذه، ولكنه استطاع اللحاق بنا بعد مضيِّ ساعات عدَّة.
أمَّا خادمنا (سيد) فقد عدَّ الرحلة مهمة بسيطة، فكونه خادمًا فيعني له أن عليه المشي على قدميه، وكونه عبدًا فيعني له أن عليه تحمل جلافة البدو وسوء معاملتهم له، فكان دائمًا ما يصل إلى المخيم متعبًا منهكًا مثلنا تمامًا، ورأفة منا به لا نطلب منه أن يخدمنا، وكنا نحتاط لأنفسنا بأنفسنا. قام سيد وعلى نحو منتظم بسرقة الرصاص من البدو حتى امتلأ جيبه من الرصاص، فأعطاه شخصٌ ما بندقيةً وملأ مخزن تلك البندقية بالرصاص، وبدا يتصرَّف وكأنه بدوي حقيقي، ثم أخذ يمشي بتبختر أمام الجمل الذي امتطاه، مُوجِّهًا فوهة البندقية نحوي. أمرْتُهُ مرارًا أن يسلِّم البندقية إلى البدو وإلا أخذْتُها منه بالقوة، ولكنه عدَّ تسليم البندقية إهانة بالغة له. وبعد أن شعر بأنه صار وحدَه المتحكِّم فينا لوجودنا في مؤخِّره القافلة ولا يوجد غيره معنا، قام بتصويب بندقيته تجاهي تمامًا، وأخذ يظهر حالة من الهيجان والغضب لا يستطيع إظهارها سوى العبد. لم أجرُؤْ على الحركة، لكن صديقي قفز من ظهر الجمل فانقضَّ عليه واستطاع أن يجرِّده من السلاح.
بعد ذلك فَقَدَ خادِمُنا السيطرة على نفسه تمامًا، فكان يرغي ويزبد، وكان سلوكه يذكِّرنا بالنمر المسعور، وقال لي بصوت عالٍ: إنه سوف يذهب إلى بعض البدو، وسوف يعطيهم نقودًا، ويطلب منهم قتلنا بدون رحمة ثم ذهب عنا.
مرَّ ربع الساعة ثم نصف الساعة ولم يظهر، فبدأنا نتناسى الحادثة، فنحن الآن نمشي على أرض قفرة لا يوجد بها سوى شجيرات شوكية وبعض الأشجار على حافة أحد الأودية، وطريق القوافل القديم الذي نسلكه الآن يلتفُّ حول جبل كبير، وما أن دخلْنا ذلك المنعطف، فإذا سيد واقفٌ أمامي جامدٌ وكأنه تمثال، وكانت عيناه تقدحان بالشرر ومصوِّبًا نحوي بندقيته التي قد يكون أخذها أو استعارها أو سرقها من أحد البدو.
نهرْتُه بصوتٍ عالٍ ولكنه لم يُعِرْنِي أيَّ اهتمام، حاولتُ تهدئته تارة وتهديده تارة أخرى لكنْ دون جدوى، تقدَّم نحوي ببطءٍ مُمْسِكًا بندقيته في وضعٍ قتالي، أمَّا البدو فقد وقفوا يشاهدون هذا المشهد مستمتعين به، حينها نفد صبرنا فترجَّلْنا أنا وصديقي عن ظهرِ جملَيْنا بسرعة وفي الوقت نفسِه اندفعنا تجاه ذلك اللئيم، فأطلق رصاصة ولكنها أخطأتْ هدفَها ليهرب بعد ذلك باتجاه الصحراء. انطلقْنا خلفَه وأمسكْنا به، وبعد أن ثبَّتْنَا ذراعيه تمامًا، أخذنا ذلك العبد نسحبه ونحمله في آنٍ واحد – وهو يصرخ ويُوسِعُنا عضًّا – إلى قائد القافلة الذي بدوره أمر بربطه وجعله يجري خلف حماره لمسافة طويلة حتى وصولنا إلى المكان الذي سنخيِّم فيه للنوم. وفي المساء عقدت جلسة محاكمة عسكرية لذلك العبد، فقد عدَّ قائد القافلة ذلك التصرف أمرًا خطيرًا، وبناءً على تلك المحاكمة تم جلد ذلك الزنجي العنيد بشدة، وتم الحكم بنبذه، حتى الخدم والعبيد لم يُسمح لهم بالتحدث معه، وتقرَّر التخلص منه وطرده حال وصولنا إلى مدينة تريم.
مشينا طيلة أربعة أيام في أرض مجدبة مترامية الأطراف ولا زلنا في الهضبة. الأودية التي كانت ضيقة قد أخذت الآن في الاتساع، أما الطريق الوحيدة والتي علينا أن نسلكها الآن فهي طريق ضيقة جدًا، وبدت لنا كشريط رمادي رفيع يتعرج على حافة جبل شاهق، فإذا التقينا بقافلة أخرى في ذلك المكان، ستحصل كارثة لا محالة، ليس بالإمكان مرور قافلتين في آن واحد، وليس بالإمكان الاستدارة؛ فالطريق ضيقة جدًا لدرجة أن أحمال الجمال تكون ناتئة وتتدلَّى فوق الهاوية. وفي مساء اليوم العاشر من رحلتنا دخلنا وادٍ صغير شديد الانحدار، ونزلنا عبر طريق وعرة مليئة بالحجارة جعلت الجمال تترنَّح لنجدَ أنفسنا فجأة أمام مياه جارية صافية، وعلى أطرافها تنتشر أشجار النخيل، إننا الآن في وادي حضرموت، وعلى مسافة بعيدة ظهر لنا وادٍ كبير جدًا، تُرى جوانبه شديدةَ الانحدار في ضباب الليل، في ذلك الوادي تقع المدينة الأسطورية العظيمة، مدينة تريم، عاصمة إقليم حضرموت.
أسوارها القديمة والشرفات الحربية في تلك الأسوار ومناراتها البيضاء وبساتين النخيل جعلتنا نشعر بأننا داخلون إلى عالم من الخيال. مررْنا من البوابة الكبيرة للمدينة دون أن يسألنا أحد كوننا أتينا ضيوفًا على البلد، ضيوف أسرة الكاف، تلك الأسرة التي مكَّنتْنا من زيارة هذه الأرض المحرَّمة على الأجانب، لقد زوَّدُونا بأفضل جوازات سفر لزيارة هذا الجزء من الأرض الذي يحكمونه ويحميه البدو من القبائل التي تدين لهم بالولاء.