نقد
د. محمد صالح الشنطي
الناقد العربي الدكتور محمد صالح الشنطي .. أستاذ الأدب والنقد بالجامعة الأردنية والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة،
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 23 .. ص 76
رابط العدد 23 : اضغط هنا
ديوان تحت ظل نخلة للشاعر أ.د. عمر علوي بن شهاب الدين يتضمن خمسًا و أربعين قصيدة، منها ما يقرب من اثنتي عشرة قصيدة في مناسبات مختلفة : بعضها في المديح، والإخوانيات، وفي الرثاء، والمناسبات الوطنية، والباقي قصائد ذاتية وجدانية .
يشير عنوان الديوان – أولى عتبات النص التي تقود إلى رؤية الشاعر وما يدور في مخيَّلته ويخفق به قلبه – إلى مفردتين رئيستين : ظل و نخلة (المضاف و المضاف إليه)، الأولى (ظل) توحي بالراحة والسكون والاحتماء من القيظ والإيواء والستر وإلى معان أخرى تتداعى عبر ما توحي به تداعيات اللفظ من دلالات متكاثرة. أما النخلة فأيقونة رمزية غزيرة بإيحاءاتها، سخية بدلالاتها، رمز للعطاء والخير والجمال والكرم، تستحضر فضاءات لا حدود لها من المعاني، و قد ارتبطت في الأذهان بالأرض العربية المعطاء، وبواحاتها الوارفة الظلال، وترمز إلى مقوّم أساس من مقومات الحياة، من هنا كانت إحدى مكوّنات الشعار الرسمي للمملكة العربية السعودية، فهي تتضمن لمحة وفاء للبلد الكريم الذي يحتضن العرب والمسلمين والوافدين طلبا لأداء مناسكهم و التماسًا لسبل العيش الكريم.
جاءت المفردتان منكّرتين، والتنكير- هنا – يفيد العموم من ناحية، والإفراد فيهما يعزز دلالتهما الرمزية من ناحية أخرى، حتى لا يلتبس المعنى المعجمي بالدلالة الرمزية، وأما اللفظة الثالثة المضافة إليهما وهي ظرف مكاني فله إيحاءات متعددة تفيد الانضواء ونشدان الراحة والأمان، من هنا كان هذا التركيب الثلاثي المتعاضد بعلائق الإضافة عبر سمة التنكير التي تنطوي على سمتين رئيستين : التعميم و التخصيص عتبة مهمة من عتبات الديوان تقودنا إلى رؤى الشاعر وأفكاره التي يمكن أن ننظر إليها من خلال مداخل ثلاثة :
الأول : المديح ، ومنذ البداية لا بد أن ننتبه إلى أن هذا الغرض التقليدي المألوف في شعرنا القديم والحديث يكتسي عند الشاعر بمعان بعيدة عن تلك التي ألفناها في تراثنا من تكسّب وطلب للعطاء؛ بل – شأنها شأن الإخوانيات – تحمل معاني الوفاء، فلا ترهيب و لا ترغيب يحدو صاحبها؛ بل تنبعث من دوافع نفسية جوّانية ذات خلفية قيمية إنسانية؛ فقصيدته (من أتى عصرنا) التي قالها في (صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز ولي العهد آنذاك) رحمه الله، تنبئ من العنوان عن رؤية الشاعر لحدث له أثره في نفسه، وإذا كان قد سلك طريقًا إحيائية عمودية تنهض على غنائية تقريرية تكرّس أفكارًا ورؤى، غير أنه حلّق بصوره مخترقًا جدار التقرير إلى التعبير، متوسِّلًا بلون من ألوان التشكي،ل تمثّل في هذا الشريط التصويري الحي: انتساب القصيد إلى الزائر الكريم توسّلا لشرف النسب.
وهذه صورة تتحول فيها المعاني إلى شخوص تستكمل مظاهر الحياة والحركة بإنطاق القصيدة بشرف الانتساب عبر علامة لغوية حسّية، واستجابة لتداعيات هذه الصورة في حواره مع القصيدة التي حفّزتها بواعث وجدانية حميمة متدفقة، فعمل على ترويضها وكبح جماح تدفقها، فجعل منها كالأنثى المبرقعة التي تستعصي على من يرغب في رؤيتها، فتماهت القصيدة مع المرأة، وجاءت الصور متوالدة في انسيابية رقيقة، انتظمت في تداعيات تنثال بلا توقّف، وكأن المعاني امرأة تتأبّى على الوصال، و لكنها لا تستطيع أن تصمد أمام هذا الحدث الجلل فأسفرت عن وجهها :
ومعان مبرقعات بدت لي حين أعنيكم تميط النقابا
وإذ تتناسل الصور من رحم المخيلة في هذا الاتجاه تأتي في انعطافة أخرى تبحر في عمق التاريخ عبر إشارة لغوية تاريخية تذكرنا بتقليد أصيل من تقاليد القصيدة وهو الوقوف على الأطلال ، وقد عمل على إرسالها إشارة موحية إلى جذور أصلها ثابت، مستكملًا إشارة أخرى إلى تقاليد القصيدة العربية من ذكر للأطلال وتشبيب بالحبيبة في قوله :
همت بالأعظمين قولًا و فعلا ما تعشّقت زينبًا و الربابا
ثم تأتي سلسلة من الصور الأخرى تراثيّة كونية تتصل بالنجوم والكواكب : الثريا والشموس، ثم غنائية تقريرية تتصل بالحكمة و الشجاعة، متّصلة بمذخور أدبي تراثي، ينتقل عبرها إلى الصور الطبيعية وثيقة العرى بالظواهر الكونية، التي ارتاد فضاءها، فاستحالت إلى مروج الخضراء بعد أن كانت قفرًا يبابًا وغيثًا مغيثًا و روضة غنّاء، ثم ينتقل في تداعٍ عفويٍّ في دفقة غنائية تقريريَّة، تتصل بتأصيل النسب اليعربي وصلة الرحم بين الأمة.
وينتقل الشاعر من خصوصية الموقف إلى عمومية الحالة، ومن ظرفية الزمن المحدود إلى رحاب المرحلة، فأتت أساليب الطلب لتستثير كوامن الشعور بالظلم التاريخي في حواريّة تخرج من التقرير المباشر إلى حركة مفصلية في متن النص، عبر ملكة تأملية نشطة من خلال أساليب ثلاثة:
- استفهام يزلزل معتقدًا زائفًا (أمن العدل و المساواة حقا)
- ونداء يعبر عن لهفة المتفجع (إيه يا قدس)
- واستفهام يقصد به تأكيد النفي (هل جعلناك)
إيه يا قدس هل جعلناك ظهرا بعد أن كنت قبلة محرابا
هكذا تتشكّل الصور الشعرية تجليات تختزل جيشان المشاعر وغليان المرجل، وتعكس عدسة الذات الشاعرة مختلف المشاهد لتصوغ عالمها الداخلي الذي تجوس في فضائها حيرة قلقة وقلقًا حائرًا، تتحول الألوان عن دوالِّها المألوفة لتصبح جملة من الإشارات، التي تعوم في بحر لجّيٍّ من المعاني، تضطرب في أمواجه قوارب حياة، أضاعت بوصلتها وسط مضطرب من العواصف، فتناسلت الصور الفنية في شريط تنهمر عبره الدوالّ؛ فمن السراب الذي يحسبه الشاعر الظمآن ماء إلى الصحو الممحل والضحى الذي تراءت في ضوئه يابسات المروج وتحولت الخضرة اليانعة إلى سواد مفارقة تجتمع على صعيدها نقائض تفترق لتجتمع في حزمة دلالية، تمثل جوهر الأداء الفني ولبابه، وانقلب السواد الذي ينطوي على إشارة إلى شباب ريّان، يصبح بياضًا يذكّر بالفناء وانقضاء الأجل، فقد استطاع الشاعر أن يستثمر التحولات اللونية في التعبير عن حقائق كونية تومئ إلى هزيمة وجودية أمام غزو شامل في قصيدته (اغتراب)؛ وتتبدّى البراعة في المفارقات الزمنية وانعكاساتها المكانية حيث تجتمع النقائض على صعيد واحد لتعبر عن إكراهات لحظة تاريخية تشكل مأزقًا إنسانيًّا يتجاوز التجربة الذاتية ليلامس سقف الهم الوطني، ولا يقف عند حد بناء المفارقة القائمة على هذه الثنائية يقوم ببناء صورة ذات سمات درامية تعكس صراعًا غلَّابًا للزمن مع الذات الشاعرة:
أنكرت عيناي صبحًا وضحى يبست في قاعها خضر الروابي
سود أيامي مضــت بي منهكا فتمسكــــــت بأذياـــــــــل شبــابي
ركلت أقدامها في مفرقي فغزا ه الشيـــب في كل الشعــــــاب
وهو إذ يستنفد المشهد التقليدي الذي أضحى فيه البرق الخلب دالًّا على الأمل الضائع بمقابلته بصورة نقيضة تتحول فيه السحب إلى قصور، ويمضي في توليد الدلالات عبر سلسلة من الصور.
وهو إذ يشكل معادلًا وجدانيًّا من الصور التي ينحتها من ظواهر الطبيعة يلوذ بالكلمة الشاعرة مشحونة بالمجاز وارفة الإيحاء، وقد تبدَّت القصة بأكملها لوحة مشهدية، تقوم على الوصف والسرد والحوار يتمحور حول الذات في غنائية زاخرة، والصورة ليست مجرد لوحة بل ذات أبعاد ثلاثية عميقة، تنتقل فيها الحركة بين العالم الخارجي وأقبية الداخل، بل تتجاوز ذلك كله لتأخذ بعدا كونيًّا، فالاغتراب النفسي يقوم على التحوُّل المستمر، حتى لتتماهى الذات مع ظواهر الكون، ففي مقابل الذات التي تتجسد في ياء المتكلم، وتفترش فضاءات القصيدة، وتصنع عالمها الخاص، تنداح على مساحات شاسعة، وتبدو أقرب إلى التمازج مع تضاريس الوجود، فكأن ثمة صراعًا مدويًّا بين الشاعر وكينونته ووجوده، لقد لاذ بالهزيمة بعد أن أيقن أنه قد خسر المعركة، وهو إذ يلوذ بأكناف الخيبة يبدو ما حوله من كائنات، وقد أصيبت بما أصيب به زمانًا ومكانًا وكائنات، فالأيام سواء والصحو منطقي والكون موحش والآمال خلب والغصن ذاو والروض مستباح:
وكل ما حولي رخو زائف وقشور هشة دون لباب
والأشعار هاربة والنخيل شجو، ولكن المحطة الأخيرة واحة آمنة قدسية، فقد خرج من الظلمات إلى النور، فنحن أمام سلسلة من المحطات التي تمضي صعدًا في كرب، وتعيش في عالم أطبقت عليه الظلمات من أنحائه الأربعة، في قصة حظ عاثر وسردية سوداء، وإذا بها تنفرج فيزول الهم والغم وينفسح الأفق عن عالم جديد، وينزاح الاغتراب النفسي والوجداني، فالشاعر إذ يبحر بعيدًا في أغوار نفسه المرتابة في واقعها الأليم تعثر على المخرج والخلاص:
حيث ألقى واحة قدسية دوحها أهلي وقومي وصحابي
و بها أشهد أبهى عالم لمنارات ضياء و قباب
ولعل هذا النسيج اللغوي المتضافر الخيوط ممثلا في حلقات ثلاث :
- الجمل الفعلية الماضية التي تجسد التعاقب السردي وتستغرق غالب الأبيات.
- ثم الأساليب الاستفهامية الطلبية التي تتوسط القصيدة معبرة عن الحوار الداخلي الذي يعبر عن ذروة الأزمة التي يعيشها الشاعر.
- ثم سلسلة الجمل الاسمية ؛ تلك – إذن – أضلاع مثلث تعبيري : سردي، حواري، وصفي، ينتشر على مساحة زمنية شاسعة، وتنتهي إلى بقعة مكانية مصطفى، بناء معماري أقرب إلى البناء الهرمي الذي انتهى إلى ذروة عالية، بناء تراكمي كمي ينتهي إلى تحول كيفي مفاجئ يغلق بالمزلاج رتاجات التأويل ويدلف إلى جاهزية المعنى.
وقصائد الديوان الوجدانية تبدو ذات مناخات تعبيرية خاصة، يستثمر فيها الشاعر ألوانًا من الجماليات الإيقاعية حيث الخفة والرشاقة والتنغيم، وتتكاثر حروف المد لتنتهي إلى سكون على نحو ما نلمس في قصيدة (حبيب)، فمن العنوان الذي يتكون من مفردة واحدة تبدأ بالحركة وتنتهي إلى سكون، وهذه المفردة المنكرة مطلقة الدلالة، فهي لا تشير إلى حبيب بعينه، لكن مجرد نسبتها إلى ياء المتكلم بطفء لهيب قلبه، هذه الصورة كعبّرة حقًّا، وتأتي في إطار ما يعرف في الفنون الدرامية بالمونولوج الذي يفيض بأقصى درجات الانفعال الوجداني والعاطفة الجياشة.
يعمد الشاعر إلى تجسيد الحركة الداخلية من خلال الحركة اللغوية النشطة عبر المراوحة المنتظمة إلى حد كبير بين التقرير والطلب، فالتقرير سكون والطلب حركة وما بينهما مضطرب وجداني يؤجج الغنائية الشعرية ويصل بها إلى الذروة، وهذه التشكيلة الأسلوبية ما بين أسلوب الشرط والوصف والسرد والنفي والإثبات والاستفهام والأمر، كل ذلك يصور لونًا من ألوان الجيشان العاطفي فضًلا عن استثمار أسلوب التكرار الذي يغذِّي هذا الجيشان؛ كذلك فإن التداعي الذي ينساب متحدّرًا بألوان شتى من الصيغ التعبيرية، تتناسل في اتساق نصيٍّ مدهشك:
أنا كفؤك الفرد الوحيد الشاعر اللسن النسيب
وبغصن قلبي إذ تحط مغردا كالعندليب
في غير حضنك لا هناء ولا حياة أرى تطيب
هذه الثنائية التي هي عصب النص: العاشق والمعشوق تتجاذبها في حيوية دافقة مشاعر العشق، وتلوذ بأكناف مكابدة حارقة، تتجسد في ظواهر أسلوبية، قائمة على البوح الوجداني المباشر حينًا تارة والتصوير المجازي تارة أخرى: الكلام والصمت والرجاء والإحباط والإقبال والإدبار والهناء والكآبة والخيال والواقع والإرادة والعجز، هذه الثنائية الضِّدِّيَّة يعقبها التشاكل بين ثنائيات الشهد والزبيب والأمل والرجاء والرشف والارتواء والحظ والنصيب، شعرية متسقة منسجمة متسقة.
ويطول بي المقام وأنا أتلمس الظواهر الجمالية والفنية في هذا الديوان، فما أشرت إليه فيض من غيض؛ فالديوان حافل بالنماذج المتميزة الذي تبلغ ما يقرب من ثلاثة وأربعين نصًّا شعريًّا، اختار لها عناوين دالَّة تتمثل في مفردة واحدة أحيانًا أو جملة أو شبه جملة، وهي عناوين لافتة بعيدة عن التقليد، يغلب عليها الطابع الوجداني بمفهومه الواسع، وقد استمتعت بقراءته، وسعدت بمذخور رؤاه وجماله مضامينه.
ولا تفوتني إشارة عجلى لقصيدة (عيونك)؛ فهي طراز فريد من فنون القول، ينساب متحدِّرًا من ينبوع الإبداع، فالصورة المألوفة تحوَّلت إلى دراما وجدانية عبر الحوار الحاذق والمشهد الرائق، حيث الوداعة والحنو والرقة في التأتِّي في نسق صياغي مدهش، تمازجت الكائنات وانفسخت الأكوان والتفَّت الأغصان بالأغصان، وتعانقت النظرات في لقاء حميم، وتماهت الظنون بالوقائع، وتنازعت فضاءات العشق آفاق الوجود. لله دره، فهذا التشكيل الذي تنداح فيه أساليب الطلب ما بين أمر واستفهام يعزف على أوتار الوصل والصد والقرب، والبعد والدنو والنأي توقًا وشوقًا ولهفة. إنها لغة الشعر في ذروة فورانها وندي بكارتها.