كتابات
عمار باطويل
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 23 .. ص 81
رابط العدد 23 : اضغط هنا
كل من يسألني عن ميلادي يكون جوابي إنه لا ميلاد لي، فميلادي يبدأ في كل لحظة تجلٍّ وإبداع. فالإنسان يولد مرات وليس مرة واحدة. فمكان ميلادي هو قلب أمي ومنه انطلقت وفيه أعيش. وقد حدَّثتني أمي أنني قد وجدت في الحياة قبل الغروب بلحظات، أي عندما أصبحت شمس وادي دوعن على رؤوس الحيود، تتوارى خلف الجبال مودِّعة الوادي والنخيل، وكان ذلك الحدث بتاريخ 14-2-1981م في منطقة خيلة في وادي عمر بدوعن. وها أنذا أحلق مجدَّدًا تعيدني الذكرى إلى تلك اللحظة التي وجدتها في وطني الأول، والآن أصبحت لي خارطة جغرافية تسكني وأسكنها، ولي وجوه تعرفني وأعرفها، ولي بحار بيني وبينها مسافات مد وجزر. أنا الآن أتربع على أرقام من عمري، هذه الأرقام تعيد لي أصواتًا عشت بداخلها وأجسادًا تنبض بداخلي، ويكون لهذه الأرقام نغمة وإيقاع بالحياة التي تنمو كأغصان مثمرة في جسدي. وما زلت كما أنا أمضي لأرى الله وأدنو إلى ذاتي المتجلية والناظرة إلى المستقبل ليس إلى مستقبلي بل إلى مستقبل الإنسانية التي أنتمي إليها وتجمعني مع البشر من كل رقعة من جغرافية هذه الأرض. فمنذ طفولتي وأنا أملك حاسة الخيال بطريقة غريبة، فكنت أجلس بين النخيل في وادي دوعن، وتحيط بي الجبال من جهتَي الشرق والغرب، وأحيانًا يسرح بي الخيال إلى أبعد الحدود، فمرة أعتقد أن العصافير تغني وأن أصواتها التي تأتيني كسرب تدل على نشيد غنائي خاص بها لا أدرك معناه، وفي بعض الأوقات يسرح بي الخيال وأرى خيالة وفرسانًا على أحصنتهم ينبثقون من صدوع الجبال شاهري سيوفهم علينا وكأننا غزاة في هذا الوادي وهم أهل الأرض الأصليون وقد بعثوا من زمن بعيد، وخروجهم بهذا الشكل وهذه الهيئة لا يدل إلا على قرب القيامة. أما المطر كنت أتخيله أنه الفرح الأبدي الذي يأتي من الجنة كي يسعد أهل الأرض البؤساء. كنت أمضي في أزقة قريتنا وعندما أقترب من البيوت المهجورة أشعر بأنها تتنفس، وأن هناك أعينًا تترصدني من نوافذ هذه البيوت، فأشعر بخوف، وأمضي في طريقي وكأن صوتًا يأتيني من تلك البيوت، يرجو مني أن أعود لكي نستأنس معًا. فكنت أسأل نفسي وأحدثها، لماذا هذه البيوت مهجورة؟ وأين ذهب أهلها؟ وهل سوف يأتي إليها أهلُها بعد الغياب الطويل؟ وأثناء الحيرة أسمع صوت نباح الكلاب يأتيني من بعيد، وأشعر بأصوات الحياة تتداخل مع أصوات البيوت ومع صوتي الداخلي الذي لا يسمعه غيري، وأجدني أتجدد مرة أخرى لكي أرى الحياة، وهي تتشكل بأطياف الجمال الداخلي في نفسي لأرى الوجود جميلًا.