كتابات
د. سعيد الجريري
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 23 .. ص 82
رابط العدد 23 : اضغط هنا
سالم فرج مفلح باحث قلِق مسكون بالتساؤلات، مفتون بالمساءلات التاريخية، حد أن يراه بعضهم مستفزاً جارحاً صادماً. وهو جارح صادم، فعلاً، حد الهوس. لكنه يجرح بقدرما يؤلم الطبيب، ويصدم بحجم ما ساد من طمأنينة سلبية في كتابة التاريخ وأحداثه وقراءتها نقدياً، من دون افتئات كلما كان ذلك ممكناً. فهو من أولئك القلة في مجاله الذين غردوا خارج سربٍ أعمشَ، تائهٍ مُتيه، ولم تنقصهم الشجاعة الأدبية ولا الأداة المنهجية في مقاربة الحدث التاريخي وما يحف به من غموض حيناً أو مجهولية حيناً، أو ما طرأ عليه من محاولات تجيير أو إعلاء أو إخفاض، أو طمس لأسباب مختلفة، أحياناً أخرى، وهذا نهر جرت – وتجري – فيه مياه كثيرة.
اشتغل على رؤية في مقارباته تاريخ حضرموت، مدركًا كأي باحث جاد أهمية ضبط المفاهيم في سياق القراءة والاستدلال، فسمّى اشتغاله “مشروع رؤية”، وذاك وعي منه – وليس تواضعاً برجوازياً – بأن جهوده مهما تكن مخلصة، معمقة، متصلة، فإنها لن تعدو كونها مشروعاً، قد لا يسعفه الزمن والعمر والإمكان على استكماله، وسيأتي آخرون غيره ليمضوا به أكثر عمقًا وإحاطة. وتلك واحدة من الإشارات الضمنية التي ظل يرسلها في كتابيه المنجزَين: “حضرموت بين القرنين الرابع والحادي عشر الهجريين، بين الإباضية والمعتزلة” و “من التاريخ السري للاستعمار البريطاني التزوير واستلاب الهوية”.
في زمن قاسٍ شائهٍ أنجز مفلح كتابين مهمين من مشروعه في إعادة قراءة تاريخ حضرموت. وحقيق بنا وفاءً له أن نقبل على منجزه البحثي تأملاً وبحثًا ونقدًا أيضًا، فهو لا يرسل تعاليم نتلقاها باعتبارها مسلمات، وإنما يضعنا أمام مرآة ذاتنا التاريخية والجارية، كيما نعي الحاضر وننطلق باتجاه صناعة مستقبل مختلف، متخففين من أوزار ماضٍ يلقي بظلاله القاتمة الكاتمة على كل شيء.
لعل مفلحاً في ما تصدى له من جهد بحثي كان يدرك خطورة ما انتهجه من تصور، وما اتخذه من وسائل، وما اختاره من سياقات، وما مال إليه من مغايرة في التحليل والاستنتاج، تمثل هامشاً منهجياً على متون الكتابة عن التاريخ بنمطية سكونية، أو منهجية شكلية، تعيد إنتاج المتداول، ولا تقرؤه نقدياً في المجمل، وإن فعلت – نادراً – فعلى استحياء ووجل، كأنها تكتب تاريخ ما يطلبه المتلقون، أو فئات منهم.
حسب مفلح في كتابيه أن أثار جدلاً، مهمًا يكن شكله، لكنه ليس جدلاً للجدل أو للاستفزاز ، فهو أشبه برمي أحجار في بركة راكدة، حجراً بعد حجر، لتنداح الأفكار والتساؤلات والمساءلات دوائر دوائر، تعيد الوعي بالتاريخ إلى مساره، وتقترح، في السياق نفسه، ما يضيف إلى مشروع رؤية مفلح، ما يحيلها من مشروع رؤية باحث فرد، إلى رؤية تشتغل عليها جماعات، ومراكز، ومؤسسات علمية جادة لا تباعد بينها وبين المنهجية العلمية في مقاربة التاريخ وإعادة كتابته والوعي به، مباعدات أيديولوجية أو سياسية أو اجتماعية (أو تمويلية أحياناً)، أو سواها.
وبقدر ما أثار مفلح جدلاً ، سيظل كتاباه وكتاباته الأخرى تثير جدلاً متجدداً كلما قوربت تفاصيل ووقائع معينة. الأمر الذي ينبغي أن يُنظر إليه بتقدير ، كون مفلح ينشّط دودة الوعي بالأحداث كلما اطمأن باحث عابر أو مؤدلج إلى مسلّمات تفرد أقدام الكسل المعرفي وتمسدها على (وقاء) قديم طالما أفردت عليه أقدام كثيرة ومُسدت، ثم نام أصحابها لا تؤرقهم تساؤلات الليل ولا مساءلات النهار .
و لي هنا أن أقتبس من مقولاته ما يختزل تصوره العام، فقد كتب قبيل وفاته، ما يشبه الخلاصة المكثفة أن “الرؤية السائدة حول المسألة الحضرمية ثقافياً و اجتماعياً وسياسياً أشبه بالدودة المضيئة، تحتاج الى الظلام لكي تتألق؛ لهذا فهي تعيش على الجهل والتجهيل، وهي في معركتها من أجل بقائها وسيادتها سوف تظل تحارب العقل والمنطق والعلم”.