إبداع
سالم محمد بجود باراس
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 23 .. ص 104
رابط العدد 23 : اضغط هنا
شهارة تلك القرية الجميلة… تحيط بها الجبال كأنها تحتضنها بين ذراعيها، شهارة أرض وإنسان… شهارة تهب منها نسائم البشرى حينما تتفتح الأزهار وتسقط الأمطار، أحبَّ صالح قريته من الرأس حتى أخمص القدمين.
كان صالح فلَّاحًا يعيش معظم وقته في مزرعته الصغيرة… وغالبًا ما تأتي مريم تجتاز الساقية برجليها الرشيقتين وعلى وجهها ابتسامة الربيع… يكاد ثوبها الأحمر يعانق الأرض شوقًا ولهفة… تحمل على رأسها سلة مصنوعة من الخوص… وبداخلها كسرة خبز وقطعة بصل… فتجلس وتنادي.
تعال يا صالح فالفطور جاهز يكفيك عناء اليوم… ويأتي صالح والعرق يتصبب من جبينه… كان قصير القامة… معتدل الجسم… تجاوز الأربعين عامًا… بدأ الشيب في رأسه كأنها نجوم في ليلٍ دامس… جلس فأخذ رشفة ماء ليرطب عروقه، وقال : الأرض يا مريم تأخذ منا أكثر ما تعطينا، ولكن ماذا نقول، منها خلقنا وفيها نموت!
ابتسمت مريم ابتسامة أشرقت من خلالها عن أسنانٍ كأنها اللؤلؤ والمرجان، أحس صالح بنشوة السعادة، ونسي تعب هذا اليوم، ثمَّ قالت مريم: لا عليك يا صالح ما دامت السعادة تظلنا بظلالها، فنحن بأحسن حال، كُلْ بالهناء والشفاء.
فقال صالح: أنتِ زوجة صالحة، وتعرفين معنى العيش والملح.
ولكن دوام الحال محال… جاء ابنهم علي من السفر الذي دام خمس سنوات في طلب الرزق جاء ليقول لهما: إننا نعيش في جحيم… جاء علي وهو يرتدي ملابس أنيقة، تنمُّ عن شخص قد كسب مالًا وفيرًا… استقبله أهل البلد بفرحة لا توصف… ذهب أحدهم ليحمل البشرى لأبيه صالح وأمه… فما أن سمعا الخبر حتى رمى صالح كسرة الخبز من يديه وهو يقول : لقد جاء ابننا يا مريم، اللهم لك الحمد، وسجد على الأرض ليحمد الله على وصول فلذة الكبد وابنهم الوحيد علي.
جرى صالح من شدة الفرح وكان التراب لا زال في يديه… فلما رأى ابنَه عليًّا تساقطت الدموع من عينيه على الأرض فاتحًا ذراعيه ليحتضن ابنه عليًّا… ولكن يا لهول ما حصل !!
قال علي: وعلى مسمع ومشهدٍ من الناس: يا أبي اغسل يديك حتى لا تتسخ ملابسي ؟
وقف الأب متسمِّرًا في مكانه، ويداه ممدودتان كأنهما حمامة تلاعب أفراخها… كانت مريم خلفه عندما سمعت ما قال ابنها علي فلم تتكلم بكلمة واحدة، بل دخلت بيتها لتلطم خدها وتبكي، وعليه دموع الحسرة والندامة.
انفضَّ الناس وهم يقلِّبون كفًّا على كف… طوى صالح ذراعيه وهو يرتعش كريشة في مهب الريح صارخًا ينادي في أعماقه (أهذا علي الذي أنجبته من لحمي ودمي وربيته حتى استقام عوده، كلا إنه ليس ابني، ليس ابني، ولن يكون ابني، لقد مسح التراب بوجهي أمام القاصي والداني…).
دخل صالح غرفته وساد الصمت في أنحاء الجدران كأنّ مأتمًا حلّ بالدار… ظلّ علي واقفًا لا يعرف ماذا فعل ولماذا فعل هذا ؟ إنها جملة واحدة قالها كانت بقصد أو بغير قصد، غير أنها قلبت الموازين رأسًا على عقب… عاد علي أدراجه من حيث أتى بعد أن خلّف جرحًا داميًا لا تداويه السنون.
ليس هناك حديث في القرية وكل القرى المجاورة غير حديث علي، الذي استقبله أبوه صالح بالدموع والفرح، وكيف انقلب الأمر في لحظة واحدة إلى حزنٍ عميق غائر الجراح؟!
وبعد صمتٍ مميت نطق صالح وهو يتأوه ويئن من فلذة كبده قائلاً : يا مريم من اليوم إنسَي بأنك رضعتِ ابنًا اسمه علي، آه يا مريم لو ربَّيتِ كلباً لوجدت منه الوفاء والإخلاص، يا حسرتاه لقد سوّد وجهي أمام القاصي والداني!!. مسحت مريم دموعها وهي تقول: يا صالح هذا قدر، ومن كُتِبت عليه الأقدار مشاها، اصبر وسوف يأتي الله بغلام نشفي به جروحنا ويكون لنا نِعمَ الابنُ البار.
ولكن الأقدار أنشبت أظافرها من جديد… لقد أجدبت الأرض… وجف ضرع السماء، باع صالح كل ما يملك… وكانت الحياة قاسية لا ترحم ولا تشفق، وكان البقاء للقوي.
قرر صالح السفر ولا رجعة عن قراره، كانت وجهته مصر، أرض الحضارات، ومهبط الرسالات، قال لزوجته: يا مريم أنتِ حياتي، ونور قلبي، وهذا الجنين الذي تحملينه هو الروح التي تربطنا، ولهذا قرَّرْتُ السفر إلى مصر؛ لكي أوفر لقمة العيش، اذهبي عند أبيك مرزوق؛ فهو أيسر حالًا منِّي، وسوف يعتني بك.
يا مريم أنتِ لا زلتِ في سنِّ الصبا وريعان الشباب، فإن تأخرت على السنتين فتزوجي ؛ فإنك لا تعلمين ما فعلتْ بي الأقدار.
يا مريم تذكري (إن هذا قدر ومن كُتِبت عليه الأقدار مشاها).
وهكذا وبهذه الكلمات الحزينة ودَّع صالح زوجته مريم، ودموعهما تلامس الأرض التي طالما كان صالح يقول: الأرض يا مريم تأخذ منا أكثر ما تعطينا.
وفي مصر ظلّ صالح يعمل ويكد على نفسه ليل نهار حتى ضعفت قوته ووهنت عزيمته، فجلس في بيت صديقه أيوب الذي تعرّف عليه في المصنع… كان أيوب متزوجًا ولكن شاءت الأقدار أن يكون عقيمًا… كان دائمًا ما يأتي بجريدة الأهرام ليسمع آخر الأخبار، وفي إحدى الأيام عاد صالح على غير عادته إلى البيت، ففتحت له زوجة صديقه أيوب الباب وكانت تحمل الجريدة… فرأى صورة ابنه علي، فقال: يا بركة اقرئي هذا الموضوع عمَّ يتحدث؟ هذا موضوع يتحدث عن شخص اسمه علي صالح الدوش مهرِّب مخدرات قبض عليه في مطار القاهرة، فما أن سمع ما قرأت بركة حتى سقط على الأرض مغمًى عليه، فصرخت وهي لا تعلم ما جرى لصالح… في هذه اللحظة دخل أيوب وحمله إلى المستشفى وظلّ أيوب وزوجته عنده حتى استعاد عافيته، وقال :أسمعت يا أيوب ما فعل علي صالح الدوش؟ إنه مهرب مخدرات وأسلحة! آه يا أيوب.
فقال أيوب: أتعني هذا الشاب الذي يهرب السموم للمجتمع ويعيث فسادًا؟!
نعم ! يا أيوب إنه ابني.
ابنك يا صالح؟!!
أجل! أجل! وغارت عيناه بالدموع.
ثم حكا لهما ما حصل حتى سافر إلى مصر لكي يوفر لقمة العيش لزوجته والجنين المنتظر.
عادوا إلى البيت والأسى يخيم عليهم كسحابة سوداء… وفي الصباح ذهب صالح وصديقه إلى المصنع ليعملا بجدٍ ونشاط.
ودارت الأيام والشهور حتى أكمل صالح سنتين… قرر العودة إلى قريته شهارة، ودَّع صديقه وزوجته وداعًا لا رجعة بعده.
استقل صالح سيارة أجرة إلى المطار ولكن؟
بدأت عيون السائق تراقبه عن كثب… كان صالح يغوص في ذكريات (شهارة) تلك القرية الجميلة بجبالها وسهولها وأشجارها الخضراء… كان يحن إلى زوجته مريم وطفلهما المنتظر… أغمض عينيه فالطريق طويلة إلى المطار.
وما شعر صالح إلا بضربة هوت على رأسه أفقدته الوعي… فما أحس إلا برجل يهزه ويقول له:
يا بيه جرى لك إيه! إيه إللِّي حصل ذا نافوخك بيسيل دم؟! فقال صالح: أين السائق، فلوسي سرقت يا ناس؟
لا حول ولا قوة إلا بالله يا أخانا ذا الحرامية ما خلوش لولاد الحلال حاجة، قم يا بيه نروح أقرب مركز شرطة ونبلغ النيابة بللِّي حصل في الناس الغلابة ده.
وبلَّغ صالح الشرطة، وعملت محضرًا، وسُجِلت الواقعة ضد مجهول… أخذ صالح يدور حول نفسه لا يدري لماذا جاء إلى مصر؟! لقد فقد الوعي جملةً وتفصيلاً.
فقال الفلاح له: يا بيه تعال معي واحكِ أيه إللِّي جرى لك من الأول إلى الآخر.
فقال صالح: أنت مين؟!
أنا الحاج عبدالمعطي، صعبت عليَّ قوي قوي، ولكن أنت مين وجآي ليه، باين عليك من بلاد بعيدة صُح والله أني غلطان يا بيه؟
أنا…أنا… أنا مين؟!
إيه أنت مين، يعني إيه، نافوخك ضربت الله يصيب ولاد الحرام.
وعاش صالح عند الفلاح المصري عشر سنوات، وأطلق عليه اسم محمود الغريب… وفي إحدى الأيام سقط وهو يحرث الأرض على حجرة… في إثرها استعاد صالح ذاكرته ووعيه فجلس على الأرض، ووضع كفَّيه على خدَّيه، وصار يستذكر كل شيءٍ، ثم قال في نفسه : ياه لقد تغيرت ملامحي! يا ترى كم جلست عند هذا الرجل الطيب؟ آه يا زمن كل المصائب على الغلابة؟! في هذه الأثناء ناداه الحاج عبد المعطي قائلًا: إيه تفكر في إيه يا محمود؟
محمود أنا محمود هه هه هه حتى اسمي تغير آه يا دنيا.
فقال عبدالمعطي: يعني رجعت لك الذاكرة، الحمد لله، ياه بعد عشر سنوات يا بيه.
عشر سنوات وأنا عندك يا حاج عبد المعطي، يا رجل يا طيب! الله يجزيك خير الجزاء.
ثم حكا لصديقه قصته، فقال: أنا لا أدري كيف أشكرك يا حاج عبدالمعطي، لقد أكرمتني كل هذه السنين، أنا فعلاً مدين لك بحياتي يا حاج.
فقال الحاج عبدالمعطي: ما تقولشي حاجة، البلاد ما زالت بخير، القدعان موجودين في كل حته، الله معاك يا بيه.
ببساطة الريف المصري ودّع الحاج عبد المعطي صديقه صالح ليعود إلى قريته شهارة.
عاد صالح كما ذهب أول مرة من بيته صفر اليدين… عاد بقلبٍ مهشم وأحزان لا تنقطع، أطلَّ على قريته (شهارة) وهو يُقبِّل الأرض وكل ذرة من رمالها… بدأ نظره يضعف ولكن لا زال هناك بصيص من النور في عينيه… ليرى من خلاله مزرعته الصغيرة وقد دبَّت الحياة فيها… يرى الطيور وهي تزقزق وتغرد وتغنيه أغنية الغائب عن شهارة.
لا زال يسمع حفيف الأوراق وهي تتساقط كسنوات عمره التي ذهبت ولم تعد… ويسمع خرير الماء كأنه لحن عذب حزين… لم يتمالك نفسه الحزينة فتساقطت دموعه كحبات اللؤلؤ لتحكي مرارة غربة ذاق منها المُرَّ والعلقم… تذكر صالح زوجته مريم تلك الزوجة الوفية التي بذل لها عمره حتى يسعدها ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، وقال في نفسه: بعد هذه السنين لا أظن ولا يعقل أنها تنتظرني، لقد تزوجت بالطبع، وأصبحت تحب أولادها، فلن أُعكر صفو حياتها مع زوجها، يكفي ما عانت من الأقدار ومن حظي التعيس، سأذهب إلى أخي أحمد في القرية المجاورة لكي أعيش عنده بقيَّة عمري.
وذهب صالح إلى أخيه أحمد فاستقبله بالأحضان، لقد كان أحمد يصغره بعشر سنوات، وهو متزوج وله خمسة أبناء.
وبعد أن قص عليه صالح قصته قال: ولهذا يا أخي لا أريد أن أعكر صفو حياتها، لهذا يا أحمد سأعيش معكم حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
قال أحمد: أنت يا أخي وأنا من دم واحد، وهؤلاء الأولاد أولادك وسوف أعتني بك … وامسح في هذه الأرض همومك وأحزانك.
وذهب أحمد إلى شهارة وصالح لا يدري ثم أحضر له بشرى لا تساويها جبال من الذهب والفضة، جلس أحمد وأمامه رجل وسيم لم يبلغ مبلغ الرجال بعد، ولكنه يحمل صفات الرجل، وكان قوي البنية… مُشرق الوجه… يبلغ الثانية عشر عامًا… لا تعرف مريم ما يريد أحمد منهما، دخلت هي عند زوجته إيمان ولم تكلِّمها بشيء عمَّ يخطط له زوجها أحمد.
أخذ أحمد يوسف إلى المجلس الذي يجلس فيه أخوه صالح، وقال: يا صالح هذا يوسف زميل عبد الله ابني في الدراسة، جاء اليوم عندنا لكي يراك بعد طول غياب.
فقال صالح: أهلًا يا يوسف يبدو عليك الوقار يا بني، إنك تذكرني بابني علي، فيك ملامح منه غير أنه لص يا بني.
فقال يوسف: احكِ يا عمي قصة ابنك هذا فأنا متشوق لسماعها؟
ثم أخذ صالح يحكي والدموع تتساقط من عينيه على لحيته البيضاء، فانتهزها أحمد فرصة ودخل إلى زوجته مريم وأخبرها بالبشرى وخرجت مريم وصالح يحكي قصته والدموع لم تنقطع بعد، وقالت بصوت حزين والدموع تسبقها: يا صالح أنا على العهد ما حييت يا صالح (هذا قدر ومن كُتِبت عليه الأقدار مشاها).
انتفض صالح كالطائر، وقام وهو يقول: مريم مريم، لا أصدق ما ترى عيني أنا في حلم أو في علم.
فقالت مريم: بل أنت في علم، وهذا ابننا يوسف.
فصاح يوسف: أبي أبي… أنا لست يتيمًا معي أب وهو يبكي ويصرخ، ويحتضن أباه بكلتا يديه، ودموعه كالسيل من الفرح، فاللقاء بعد يأس وطول انتظار بشرى لا تساويها كنوز الأرض… فأبكى بصوته الحزين كل من كان في البيت، وتعانقا عناق لا فراق بعده أبدًا، عناق الروح للجسد، وعناق الأرض لتربة شهارة. وقال: لقد عدت يا مريم عدت لشهارة وعدت لابني وزوجتي، آه يا مريم كم أنا ممتن لكِ، لا زلتِ على الوفاء والإخلاص يا مريم.
لا زالت هذه العبارة تترآى لي كالروح تعانق الجسد وتلتصق به (هذا قدر ومن كُتِبت عليه الأقدار مشاها).