قصة قصيرة
دعاء سعيد باصحيح
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 23 .. ص 110
رابط العدد 23 : اضغط هنا
انقطع عقدها الثمين، فتساقطت اللآلئ على الأرض، جعلت تبكي: انقطع عقدي المفضل يا أمي. هدأتها قليلًا: لا بأس، إننا نبدو أجمل بالأشياء التي نفقدها أكثر من الأشياء التي نمتلكها، بحلقت عينيها في كلامي غير المفهوم كما يبدو للأطفال الذين لا يعترفون بالرمادي، ومجبولون بفطرتهم على تصنيفٍ واحد إما الخير وإمَّا الشر: كيف نَسعدُ بالفقدان ونحن نلهث دائمًا للحصول على الأشياء؟ أجبتها: عندما نتيه في الطريق فإننا نكتشف أراضي جديدة، كل شيء نفقده يعود إلينا بطريقة أجمل لم نضعها بالحسبان، ولكن هناك من يخاف الخوض في هذه الأرض الجديدة، وهناك من يستمر بالسير حتى يصل.
أخذت التقط اللآلئ واحدة تلو الأخرى، هممتُ بإعادة تجميعها في الخيط فلم أستطع معرفة ترتيب اللآلئ السابق، تخبرني طفلتي: من يهتم للأمر؟ جميع اللآلئ لديها ذات الشكل واللون، فقط قومي بالأمر ببساطة، ولكن الصوت الآخر الذي يسكن بداخلي يخبرني أن لكل شيء سببًا، وأن عليّ ترتيبها بالشكل الصحيح، والشخص الوحيد الذي يعلم ترتيبها هو العِقد نفسه. هو من يعلم قيمة كل لؤلؤة، وكل طريق أدّى بها إلى هذا الموضع من خيط حياته.
هذه اللآلئ تذكّرني بسنوات عمري التي لا أملك منها شيئًا سوى الذكريات، وهذه اللحظة التي تمر عليّ الآن، جميع اللحظات التي أملكها من الماضي تقبع بمكان واحد وهو الذاكرة، لا فرق بين لحظات الأمس والسنة الماضية، بين لحظات الطفولة والمراهقة، أو بين الجمال والسوء، جميعها لديها القيمة ذاتها، وتسكن بمكانٍ واحد، وما أكسبها القيمة هو أنها لن تتكرر ولن تعود مجددًّا، عندما ندرك تلك الحقيقة جيِّدًا ينبعث منّا الخوف والحنين لأننا لا ندرك قيمة الشيء إلا بعد فقدانه.
أخذت أكمل تركيب اللآلئ فإذا لكل لؤلؤة بريق يختلف عن الأخرى، تفحّصت إحداهن فإذا بها تتحدّث بصوتٍ يملأه الحزن: لقد بذل كل ما يملك في سبيل إسعادها، وكنتُ أنا محاولته الأخيرة موضوعة في قلب خاتم لعلّه يأسر قلبها المادي ولكنها أبت أن أكون ذكرى جميلة له، لم أستطع احتمال صوت أنينه في كل ليلة فهربت علَّني أجد حكاية أخرى أحملها.
تقول لؤلؤة أخرى: بعد أعوام عدَّة من البحث وجدت الفتاة أباها، أخبرها بأنني هديتها من أمها المتوفاة، لم تكتمل فرحتها باللقاء حتى تُوُفِّيَ هو الآخر، كانت تنظر إليّ بحب شديد، وبعدها تفيض نظراتها بالحزن، لم أحتمل الصراع الذي وضعته بي بين مشاعر الفرح والحزن فهربتُ أيضًا.
تحدّثت اللؤلؤة التي بجانبها: لم أستطع تحمّل نظرات الأسى والشفقة، لقد ظلّ يكدح لسنين عدَّة في مزرعته الصغيرة إلى حين اكتشافه أنّ جوهرة واحدة فقط ستمتلك كل ذلك التعب.
بدأت اللؤلؤة الرابعة تتحدث ولكن طفلتي قطعت حديثها: كفى، لا تكملي إصلاح هذا العقد يا أمي لم أعد أريده، أظنه سيجلب لي التعاسة مثل أولئك الأشخاص قبلي.
أجبتها بعيدًا عن اللون الرمادي وتحوير الأحداث: هذه اللآلئ يا صغيرتي لا تجيد تفسير المواقف؛ إنها تفسر مواقفها بأبشع طريقة ممكنة؛ كي تتمكن من الهروب بحرية، لأنها تجد الأمان في الهروب ونكران الحقيقة، فذلك الفتى المحب لم يخسر المعركة ولكنه تخلّص من أسره في حب الفتاة، وكانت نظرات تلك الفتاة التي وجدت أباها مملوءة بالإنجاز بعد أن استطاعت أن تتحدى الوقت في إيجاد أبيها، وذلك الفتى الذي كان يحرث مزرعته لم يشفق على تعبه أو على ذاته، كانت عيناه متّقدة بالشغف، كيف به قد حافظ على مزرعته وفضّل الروح على الجسد والحياة على الكسب، لقد تاهَ هؤلاء الثلاثة في طرقهم ولم تكن لديهم خطة بديلة للمشوار ولكنهم اكتشفوا ذواتًا جديدة، نحن نندم على الأشياء التي فعلناها ثم ننسى، أما عن الأشياء التي لم نفعلها فإن لعنة الحيرة بعدها تظل ترافقنا دائمًا هذا العقد ليس ثمينًا ولكنه يمتلك لحظات ثمينة.