قصة قصيرة
وردة عوض بلسود
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 23 .. ص 112
رابط العدد 23 : اضغط هنا
عدتُ من المدرسة ظهرًا، كانت أصوات الشارع تعلو في هتافات الصغار، كأنهم يتسابقون في الصراخ لإظهار فرحتهم، يركضون ويتزاحمون في أزقة الحارة الضيقة، ضحكاتهم البريئة أدمعت قلب السماء لعل تلك القطرات قد تعمدت أن تبعد عنهم الحر وبعض السحب الخجولة قد تجرأت ووقفت كي تظللهم، كان الجو رائعًا، وثمة شاحنة كبيرة تقف أمام بيت كنت أحسبه لنا، تسمَّرتُ في مكاني، أراقب ما حولي، جاء والدي ورفعني بيديه عاليًا، أجلسني على قمة الأثاث المتراكم وقال لي: انتبه! احذر أن يسقط شيء من متاعنا.
تحركت الشاحنة وأنا عليها، سار أبي وأمي وإخوتي على الأقدام انتهت رحلتنا القصيرة في حي قريب من حيِّنا السابق، وأفرغنا عُدَّتنا في جوف بيت قديم سمعتُ السمسار يقول لأبي: هذا بيت بإيجار يناسب دخلك المحدود خذ المفتاح.. وإليّ بعمولتي يا أبا مالك
بعد عامَيْنِ تكرَّر المشهد نفسُه فإذا شاحنة تقف مجدَّدًا أمام بيتنا وتنقل متاعنا إلى مكان جديد، أبعد بكثير، لكنه بإيجار قليل، وفي الليلة الأولى في بيتنا الجديد السكون يتلبس المكان، إخوتي نائمون استوحشت المكان، كنتُ ملتصقًا بغطائي، أُخفي بيدي الصغيرتين معالم وجهي، أخدتُ في البكاء بصوتٍ مشوبٍ بالحزن، يرفض هذا الواقع وهذا المكان، فإذا والدتي تأتي إليّ تقترب مني وتمسح دموعي وتأخذني بين أحضانها الدافئة فتقول لي: أنا كنت في الغرفة المجاورة يا صغيري لِمَ لَمْ تنمْ مثل أخوتك.
فقلتُ لها: أمي لا أريد هذا البيت.
خاطبتها بحزن وحنق وألححْتُ عليها بالمغادرة، وشرعتُ أبكي، فما كان منها إلا أن سعتْ لتهدئتي فقالت: الحمد لله يا ولدي… غدًا سوف تألف المكان وتحبه، ثم تركتني وذهبت..، حاولتُ أن أبدِّد الخوف وأنام لكني لم استطع، لقد كنتُ فظًّا معها، أطبق على جفني وأفتحهما، فأراها أمامي فقررتُ أخيرًا أن أذهب وأعتذر إليها، فخرجتُ خِلسَةً كي لا يستيقظ إخوتي.
فسمعتُ أبي يقول لها: هل أولادي بخير؟ هل أعجبهم البيت الجديد؟
فتقول والدتي: نعم،… أتريد العشاء؟ فيقول لها والدي: لا، فالوقت متأخر وأنا أصابني التعب من العمل المتواصل. ضعيه في الثلاجة فالأطفال هم بحاجة له غدًا…
دخلت تلك الكلمات مسمعي فرجعتُ عند إخوتي وأخذت أبحث عن غطائي، إلى أن وجدته فاختباتُ تحته منتظرًا قدوم الصباح، وقررتُ أن أجتهد وأطيعهما في صمت.
تمر الأشهر والسنوات ينمو جسدي وتستطيل، قامتي، أصعد على متن الشاحنة بنفسي، أحرس أثاثنا الذي صار يتناقص شيئًا فشيئًا بعد كل ظعن وإقامة…
انطلقتُ أهيم، بوجهي في الشوارع مودِّعًا، أُلَملِمُ ذكرياتي ثم أنثرها على طرقات المدينة وأرصفتها، فهاهنا ولدت وهناك ترعرعت، وخلف هذه البنايات رسوم مضحكة ابتدعتها، وصديق أثق أنَّه لم يعد يتذكرني، واشتريتُ من هذا الدكان حلوى لصديق أحببته، وهذا طريق مدرستي.. وهنا تعثرتُ تحطم قلبي وبكيت.
تنهمر الدموع على خدِّي ساخنة والشاحنة لا تملُّ المسير، تنفث في غلٍ دُخَانَها الأسود ليخنق في داخلي حلمي ببيت صغير يؤويني يحميني نملكه ولا يرحل عنا أبدًا.