توقيع قلم
أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 23 .. ص 113
رابط العدد 23 : اضغط هنا
تقال هذه (الجملة) في مواقف خاصة، ورغم وضوحها، وجمال تركيبها، وربما شعريتها فقد وجدتُ صعوبة في تصنيفها؛ فهل هي مثل شعبي؟ أو قول مأثور؟ وظللت في حيرة من أمري إلى أن سمعتها ذات يوم بنبرة حزينة من أُم صبورة، آثرت أن يكون لها سكن مستقل مع ابنها الصغير، بعيدًا عن بيت أسرتها الكبير رغم ما يبدو من تماسك البيت، وبِر أبنائها الكبار بها. عندها أحسست أن لفظتَي (الشوق – المشقة) المتسللتَيْنِ بين شفتيها ما هما إلا واجهة من حروف متسقة لآهات خافتة، وتوجُّعات دفينة.
وسواء كانت هذه الجملة مثلًا أو قولًا مأثورًا، أو آهات، فإنها قريبة من الحكمة إن لم تكن هي الحكمة ذاتها. فمع ضغوطات الحياة وسرعة وتيرتها، وفجاءة تغيّراتها، يأتي التدافع بين الناس في داخل الأسرة النووية إلى ما هو أبعد من ذلك من مستويات اجتماعية، بل وعلاقات بين الدول. وفي قلب هذا المعترك والتداخل تبرز خيارات صعبة، منها الصدام المباشر، أو الفراق الذي لا عودة بعده، وهناك من يسلك الطريق الأقل خسارة وإن طالت، وهو اختيار لحظة الفراق وحبل الود قائمًا ومتينًا كحال تلك الأم العظيمة – وكل الأمهات عظيمات – التي قبضت على قلبها، وضحَّت بسعادتها في العيش وسط أبنائها درءًا لاحتمالات مواقف قد تعكِّر صفوها، وصفو أسرتها، “والقلوب مثل الزجاجة كسرها لا يجبر”.
في العلاقات الإنسانية البينية لا تخلو كل الأسر، والصداقات، والزمالات من القطيعة، والاختلافات، والفروق نجدها في الكيفية التي تدار بها الاختلافات والخلافات، وكلما شعر الطرفان بمصلحة مشتركة في التقارب قدموا بوعي تنازلات، ووضعوا مسافات محايدة، تحد أو تقلل من حدة القطيعة، والنتائج الوخيمة للخصومات والمنازعات تبرز عادة عندما يهرول المتدافعون دون مسافات محسوبة. وعلى أية حال فإن الحياة الإنسانية ما هي إلا كتلة واحدة، تتداخل فيها حركتا التداني والتنائي، وتتقاطع، وهذا يعطي للحياة حيويتها بأفراحها وأحزانها.
أما العلاقات الدولية فتحكمها المصالح، وقانون القوة، لا العواطف، إلا إذا كانت محققةً المصالح، لهذا عندما دخلت فرنسا وألمانيا – على سبيل المثال – في حربين عالميتين استعماريتين، وسقط من الجانبين ملايين الضحايا، ورغم ما بينهما من تاريخ من العداوة؛ فإنهما بعد أن سكتت المدافع وضعوا هذا العبء التاريخي في كفة، ومصالحهم المستقبلية المشتركة في كفة أخرى، فانحازوا لمصالحهم ومستقبلهم، بمعنى آخر: تغلَّب صوت العقل على رهافة العواطف، فصار لا مكان للشوق، ولا دواعي للمشقة.
أما حُكَّام العرب وما أدراك ما حكام العرب فالكتلة العاطفية عندهم تطغى على أعمال العقل، ولا سيما عندما يختلفون ويتنازعون فيما بينهم، بل تجد في كثير من الأحايين الفجور في الخصومة، فمثلًا عندما يزعل الحاكم العربي من أخيه العربي يتم قطع العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، والإنسانية، وتشتغل الأبواق الإعلامية للطرفين على التعبئة، مستخدمة كل الأساليب والألفاظ المسيئة، وفضح الأسرار. كما يتم طرد طلاب العلم، والعمالة، وتهتز علاقات التصاهر عندما يكون الزوج أو الزوجة من (الدولة المعادية)، وكأن الأمر سيستمر إلى يوم الدين، وبهذه المواقف العبثية تتحطم الأشواق، وتخيّم المشقة إلى أن تهدأ فورة الغضب، فيتغير الخطاب الإعلامي بنبرة لا تخلو من الرومانسية عن العروبة والأخُوَّة واللحمة، ووحدة المصير المشترك، “وما محبة إلا بعد عداوة” كما يقولون.
وبدافع هذه الحكمة (الشوق ولا المشقة) التي لا تكاد تفارق تفكيري، ولا سيما عندما تتجدد المشاحنات والصراعات العربية العربية رغم تعقيداتها أسائل نفسي – بمثالية المثقف، وحرقة المحب، المؤمن بوحدة مصير العرب، واستراتيجية مصالحهم – لماذا – نحن العرب الذين تجمعنا أواصر الدين والتاريخ المشترك والثقافة والجغرافيا – لا نقدِّم مصالح شعوبنا على مشاعر الغضب العابرة عند حُكَّامنا؟ لماذا الحاكم هو كل الشعب؟ لماذا تتخندق النخب المثقفة خلف المراسيم الرسمية؟ لماذا يغضبون بالعدوى؟
الإجابات معروفة، لكننا ندفع – نحن العرب إزاءها – أثمانًا باهظة، تتصاعد بمتوالية هندسية مع مستوى الغضب عند الحكام، مقابل انتصارات (دون شيكية) أو إعلامية، تفتح لأجلها خزائن الدول بمفاتيحها التي تنوء عن حملها العصبة أولو القوة في صفقات تكديس السلاح، وشراء رضا الدول الكبرى، وهم دائمًا الكتلة السعيدة في مشهد الغضب العربي التعيس.
إن التدافع بين الناس والدول حقيقة مؤكدة ومستمرة، وبما أن تبعات (الغضب) بالنسبة (للدول الشقيقة) أكبر وأمرُّ، فما أحوجَ العربَ إلى ميثاق شرف – من أجلهم – يضبطون به خلافاتهم، وانفعالاتهم الجامحة، (ويصنعون) مسافة زمنية محايدة، تتهيأ فيها فرص كبيرة، يكون فيها من الشوق رسول بينهم.